الأحد 22 / جمادى الأولى / 1446 - 24 / نوفمبر 2024
[4] من قوله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ} الآية:15 إلى آخر السورة.
تاريخ النشر: ١٦ / رجب / ١٤٣٥
التحميل: 6088
مرات الإستماع: 6744

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:

قال المؤلف:

ثم قال تعالى مخاطبًا لكفار قريش -والمراد سائر الناس: إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ [سورة المزمل:15].

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

 فيقول المؤلف -رحمه الله: ثم قال تعالى مخاطبًا لكفار قريش، وذلك أنْه أخَذَه من قوله: إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ، وحينما نزلت هذه السورة نزلت في مكة في أوائل ما نزل، وكان النبي ﷺ يخاطب قريشًا، فبهذا الاعتبار قال من قال من المفسرين ومنهم الحافظ ابن كثير -رحمه الله: إن هذا الخطاب موجه لقريش.

وبعضهم قال: هو موجه للعرب باعتبار أن النبي ﷺ حين بعث كان في جزيرة العرب، فكان الذين سمعوا دعوته في أول الأمر هم العرب، فيكون المعنى إنا أرسلنا إليكم أيها العرب بعد الجهالة والانقطاع من الوحي والرسالة رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ، ولما كانت بعثة النبي ﷺ عامة للأحمر والأسود قال الحافظ ابن كثير وغيره: والمراد سائر الناس، أي: أنه وجه الخطاب بهذه الصيغة التي يخاطب بها قريشًا أو العرب باعتبار أن النبي ﷺ بين أظهرهم، ولما كانت دعوته عامة فالخطاب يشمل الجميع، جميع الناس؛ لأن النبي ﷺ أرسل إليهم جميعًا، فالعرب والعجم كلهم داخلون في أمة الدعوة من أمة محمد ﷺ، والأدلة على ذلك كثيرة: ما من يهودي ولا نصراني يسمع بي من هذه الأمة ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار[1]، فهذا وجه قول ابن كثير إنه خاطب قريشًا.

ومن قالوا: الخطاب للعرب قالوا: لأن النبي ﷺ بعث من العرب فكان بين أظهرهم، كما قالوا في قريش، وبعضهم قال: إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ أي: إلى الناس عامة، ولا منافاة بين هذه الأقاويل الثلاثة، فكلهم متفقون على أن الخطاب يشمل جميع الناس؛ لأن النبي ﷺ شاهدٌ عليهم وأرسل إليهم إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ فكل ذلك متحقق في سائر الناس من العرب والعجم.

رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْأي: بأعمالكم،كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا [سورة المزمل:15].

كما قال الله : إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ [سورة الفتح:8] يعني يا محمد -عليه الصلاة والسلام- شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا، وقال في حق هذه الأمة: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا عدولًا خيارًا؛ لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [سورة البقرة:143] فالنبي ﷺ شهيد على هذه الأمة، يشهد عليها بالبلاغ، أنه بلغ، فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ ۝ فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ [سورة الأعراف:6، 7].

وهو شاهد عليهم -عليه الصلاة والسلام- بأعمالهم، كما أن هذه الأمة تشهد على سائر الأمم بما بلغها بطريق الوحي عن بعث الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- وما قالوا لقومهم، وما أجابوهم، فهذا طريق ثابت محقق لا شك فيه، ومن ثَمّ فإنهم يشهدون وإن لم يكونوا عاصروا تلك الأمة.

كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا ۝ فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا [سورة المزمل:15، 16]، قال ابن عباس ومجاهد وقتادة والسدي والثوري: أَخْذًا وَبِيلًا [سورة المزمل:16] أي: شديدًا.

قوله: كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا يمكن أن يكون المراد بذلك التشبيه، من كاف التشبيه وهي بمعنى مثل، ويمكن أن تكون دالة على التحقيق أرسلنا إليكم رسولًا كما أرسلنا إلى فرعون رسولًا، فأرسله إرسالًا محققًا، كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا، وهنا سؤال وهو أن الله أرسل إلى سائر الأمم الأنبياء والمرسلين، فلماذا خص فرعون؟ لماذا لم يقل: كما أرسلنا إلى الأمم رسلًا؟

يمكن أن يقال: لأن ذلك مشتهر عند المخاطبين، ما أتاهم برسول لم يسمعوا خبره، وإنما جاءهم برسول قد عرفوا خبره وما وقع له مع فرعون، فخطابهم بما يعرفون، وهذا كثير في القرآن؛ ولهذا لما خاطبهم الله عن دلائل القدرة والتوحيد قال: أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ ۝ وَإِلَى السَّمَاء كَيْفَ رُفِعَتْ [سورة الغاشية:17، 18] إلخ، ولم يخاطبهم بأمور قد تكون أعظم من الإبل كالفيل مثلًا، خلْق الفيل أضخم وأكبر من خلق البعير، ولكن الذي ذكره العلماء أن هؤلاء إنما عرفوا البعير ولم يعرفوا الفيل، والقرآن قد خاطب قوماً من الأميين فخطابهم بما يعهدون.

ولهذا لما ذكر نعيم الجنة ما ذكر لهم ألوانًا من الفواكه المستلذة الموجودة في غير بلادهم، هناك فواكه جيدة للغاية في مشارق الأرض ومغاربها، لكن ذكر الله لهم النخيل والأعناب؛ لأنها الموجودة في بيئتهم، وذكر لهم الطلح المنضود، فعلى التفسير المشهور للطلح هو شجر الطلح المعروف في بلاد الحجاز وفي السراة وغيرها، هذا الشجر المليء بالشوك الذي لا يكاد ينتفع به، فذكره الله في نعيم الجنة، ووجّهه بعض أهل العلم بأن بلاد العرب لما كانت حارة حرارة تصلي الطير لما كانت بهذه المثابة فهم أحوج ما يكونون إلى الظل، ويعرفون قيمته وقدره ذكر لهم الطلح؛ لأنه الشجر الذي كانوا يستظلون به، ولا يستطيع الإنسان أن يجلس تحته حتى يقوم بعملية تنظيف المكان من الشوك ولن يسلم، فذكر لهم طلحًا غير معهود لديهم، فهو منضود قد قطع شوكه، وهذا لا يعهدوه، وإذا سمعوا هذا حركوا أنفسهم، مثلما أن العطشان إذا رأى الماء ولو في الدعاية تحركت نفسه، وإذا رأى الطعامَ الجائعُ تحركت نفسه، وهكذا.

أو أن الطلح هو الموز، منضود أي أنه مركوم بعضه على بعض، فالمقصود أن القرآن خاطبهم بما يعهدون، وهذه القضية تراعى في التفسير، لا تُحمل معاني القرآن على أشياء غير معهودة للعرب، ففي قوله: فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ [سورة الزلزلة:7] لا تحمل الذرة على الذرة التي في اصطلاح المعاصرين، إنما صغار النمل فقط.

كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا يعني يمكن أن يكون ذكر لهم مثالًا، وهذا جواب آخر لسؤال: لماذا خص فرعون؟ فيمكن أن يذكر لهم مثالًا بارزًا لأعلى درجات العتو والجبروت والكبرياء والظلم والعدوان حتى ادعى الربوبية، ذكر لهم أبرز صورة في الطغيان على الله وعلى الخلق.

جواب ثالث: يمكن أن يقال: وذرني والمكذبين المترفين أولي النعمة، وفرعون يعتبر رأساً في هؤلاء من أولي النعمة من المتنعمين المترفين، ماذا كان يقول عن موسى ﷺ؟ يحتقره أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ [سورة الزخرف:52]، وكان يقول لهم: وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي [سورة الزخرف:51] تحت قصوره، فبناها في مواضع لا يحتاج معها إلى نقل الماء ثم يكون حولها من الجمال والمناظر والبهاء، تجري الأنهار من تحت قصوره فلا شك أن هذا يتنافس عليه الناس إلى اليوم.

فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا [سورة المزمل:16] قال ابن عباس ومجاهد وقتادة والسدي والثوري: أَخْذًا وَبِيلًا أي: شديدًا.

الوبيل: الشديد الغليظ الثقيل، على هذا تدور معاني هذه الكلمة، وربما تكاد تنحصر فيها أو ترجع إليها، أَخْذًا وَبِيلًا أي: شديدًا، ومنه الوابل أَصَابَهَا وَابِلٌ [سورة البقرة:265]، والوابل هو المطر الشديد، فهذه الأرض من جودتها أنها يكفيها الطلّ، فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ يسير جدًا من المطر أو الرطوبة أو الرذاذ أو نحو هذا يكفيها فتخرج ألوان الثمار، فهذا هو الوابل المطر الشديد، وكذلك أيضًا يقال: المرعى الوبيل هو المرعى المستلذ الذي تستلذه الماشية والدواب، ولكنه مرعى وخيم فتهلك، مرعى وبيل يعني يحتوي على نباتات سامة فيهلك الدواب.

أي فاحذروا أنتم أن تكذبوا هذا الرسول فيصيبكم ما أصاب فرعون حيث أخذه الله أخذ عزيز مقتدر، كما قال تعالى: فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى [سورة النازعات:25]، وأنتم أولى بالهلاك والدمار إن كذبتم رسولكم؛ لأن رسولكم أشرف وأعظم من موسى بن عمران، ويُروى عن ابن عباس ومجاهد، وقوله تعالى: فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا [سورة المزمل:17]يحتمل أن يكون "يومًا" معمولًا لـ "تتقون" كما حكاه ابن جرير عن قراءة ابن مسعود.

إذا قلنا: إنه يكون معمولًا لـ "تتقون" -إذا سمعت هذا مثلًا أو قرأته في التفسير- فإن هذا يعني أن يركب الكلام هكذا: فكيف تتقون يومًا يجعل الولدان شيبًا؟ وجملة إِن كَفَرْتُمْ صارت جملة اعتراضية، فيكون تركيب الكلام: فكيف تتقون يومًا؟ واليوم لا يُتقى؛ لأنه ظرف زمان، وإنما يُتقى ما فيه من الأهوال والأوجال، كيف تتقون أهوال يوم يجعل الولدان شيبًا؟ هذا إذا قلنا: إنه معمول لـ "تتقون"، وإذا قلنا: إنه يرجع إلى "كفرتم" يصير المعنى: فكيف تتقون إن كفرتم يومًا، كفروا ذلك اليوم، كيف تتقون العذاب؟ كيف تكونون محققين للتقوى إن كفرتم يومًا، إن كفرتم الآخرة، إن كفرتم يوم القيامة؟ لكن هذا التقدير الثاني بعيد، وليس هو المتبادر من الآية، فيمكن أن يكون المعنى هكذا -والله أعلم: فكيف تتقون يومًا إن كفرتم يجعل الولدان شيبًا؟ فتكون إن كفرتم جملة معترضة.

كما حكاه ابن جرير عن قراءة ابن مسعود: فكيف تخافون أيها الناس يومًا يجعل الولدان شيبًا.

كيف تتقون يومًا هذا التفسير هو الأجود، ويدل عليه قراءة ابن مسعود فكيف تخافون؛ لأن كلمة تتقون أصلها أن تجعل بينك وبين الشيء وقاية، والسلف كما قلنا لكم يفسرون بالمقارب، وهو فسره بالخوف، بمعنى أن الخوف ليس هو حقيقة معنى التقوى، فقال: فكيف تخافون أيها الناس يومًا، والقراءة الأحادية كقراءة ابن مسعود هذه لا يُقرأ بها، ليست متواترة، وإنما القراءة الأحادية يستفاد منها ثلاث فوائد:

- تفسر بها القراءة المتواترة كما هنا.

- ويعمل بها في اللغة.

- ويحتج بها في الأحكام تنزيلًا منزلة الحديث النبوي إذا صح الإسناد، فهذه القراءة الأحادية ترجح أحد القولين، والآية -هذه قاعدة أخرى- قد تحتمل معنيين فأكثر ويكون في الآية أو في خارجها قرينة تدل على رجحان أحدهما فتحمل الآية عليه كما هنا، الآن هذا مرجح من الخارج ليس من الآية، قراءة ابن مسعود: فكيف تخافون أيها الناس إن كفرتم يومًا.

ويحتمل أن يكون معمولًا لكفرتم، فعلى الأول: كيف يحصل لكم الأمان أو كيف يحصل لكم أمان من يوم هذا الفزع العظيم إن كفرتم؟

هذا لأن أهل الإيمان هم من فزع يومئذ آمنون لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ [سورة الأنبياء:103]، وأما الكفار فإنهم يكونون في غاية الخوف والهلع والذلّ والمهانة.

وعلى الثاني: كيف يحصل لكم تقوى إن كفرتم يوم القيامة وجحدتموه؟ وكلاهما معنى حسن، ولكن الأول أولى، والله أعلم.

كيف تكونون محققين للتقوى وأنتم تكفرون بيوم القيامة؟ كيف تتقون إن كفرتم يومًا، إن كفرتم يوم القيامة؟ هذا بعيد.

بعض أهل العلم يرى أن المحمل الثاني قبيح، ولا يليق حمل الآية عليه؛ لأنه مستنكر بعيد، لكن عبارة ابن كثير لطيفة يقول: والمعنى الأول أولى.

ومعنى قوله: يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا أي: من شدة أهواله وزلازله وبلابله، وذلك حين يقول الله تعالى لآدم: ابعث بعث النار.

الوليد هو حديث العهد بالولادة، من كان حديث العهد بالولادة يقال له: وليد، يعني الصغير جدًا، والصغير جدًا أبعد ما يكون عن الشيب، فإن الشيب لا يحصل عادة إلا بعد التقدم في العمر، وعلى أحد الوجهين في التفسير وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ [سورة فاطر:37]، يعني الشيب، فإذا لاح الشيب في مفرق الإنسان فمعنى ذلك أنه ينبغي عليه أن يحسب حساباته؛ لأنه بدأ في العد التنازلي، وذلك أن الشيب إنما يحصل لضعف الحرارة الغريزية، وإنما يحصل ذلك بعد ضعف الإنسان، فهذه التحولات التي تحصل في باطن الإنسان يحصل من جرائها العجز والضعف، فتتغير أحواله، فيبدأ لون الجلد يتغير، تذهب النضارة، ويذهب رونق الشباب، ويبدأ يضعف سمعه، وربما بصره، وتضعف قواه، ومداركه حتى لربما صار لا يعقل، يرجع إلى أرذل العمر، وإذا اكتمل الإنسان واستوى في الأربعين بعد ذلك تبدأ القضية تنعكس، هو في طور نمو منذ أن ولد إلى الأربعين، ثم بعد ذلك يبدأ طور النزول بحسب ما يمتد به العمر، هكذا هذه الحياة.

فالشيب إنما ينتج عادة ويحصل بسبب ما ذكرتُ، ومن ثَمّ ما الذي يحصل لهذا الصغير الوليد بسبب شدة الخوف إذا قلنا: إن هذا على ظاهره وهو الذي ينبغي أن يحمل عليه، يتحول الوليد إلى ما ذكر الله من الوصف، يكون شائبًا، رأسه أبيض من شدة الفزع، وذلك أن الإنسان في حالة الفزع الشديد، والخوف الشديد تخور قواه فلا تحمله أقدامه، تخونه فلا يستطيع المشي والحركة، والذهاب والانطلاق من شدة الخوف، هذا معروف، يجثو الإنسان في مكانه إذا اشتد الخوف وعظم، ويحصل له أيضًا من الأمور الباطنة أشياء كثيرة جدًا، فتنطفئ حرارته الغريزية، فينعكس أثر ذلك فيعود الشعر الأسود إلى حال من البياض، والعلماء يشرحون كيف يتحول الشعر الأسود إلى أبيض، ويربطون ذلك بالضعف الذي يحصل في داخل الإنسان؛ ولذلك يقولون: من كثرت همومه وأحزانه كان الشيب إليه أسرع؛ لأن الشيب يحصل بسبب هذا الضعف الذي يكون في باطنه، إذا وجدت عنده الهموم والآلام الكثيرة أو الفزع، وهذا مشهور عند العامة إلى اليوم، يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا [سورة المزمل:17] وكما قيل:

 والهمُّ يَخترمُ الجسيمَ نحافةً  ويُشيب ناصيةَ الصبيِّ ويُهرمُ

يعني البدين يصبح نحيفًا، أيًّا كان هذا سبب هذا الهم، وكما قيل في الحبّ:

وللحبِّ آياتٌ تَبِين في الفتى شحوبٌ وتَعْرَى من يديه الأصابعُ

تبدو عظام الأصابع في اليد بعدما كانت ممتلئة، وللحب آيات تَبِين في وجه الفتى، وجهه شاحب، وتعرى من يديه الأصابع، فلا يكون عليها اللحم، ولا تكون ممتلئة، فيكون شاحبًا نحيلًا، وكذلك الهموم والآلام

والهمُّ يَخترمُ الجسيمَ نحافةً ويُشيب ناصيةَ الصبيِّ ويُهرمُ

 هذا هو الشاهد، كما قال الآخر:

دهتنا أمورٌ تُشيب الوليدَ

ويَخذل فيها الصديقَ الصديقُ

وسمعت أو قرأت في الحرب التي كانت في البوسنة أشياء عجيبة تشبه هذا، كان الصرب يأخذون الإنسان وهو حي ويضعونه في رافعة ثم يضعون قدرًا كبيرًا مليئًا بالزيت المغلي يغلي على النار ثم يدخلونه فيه، ثم يخرجونه تلوح عظامه، ليس فيه إلا العظام تلوح، ليس فيه جلد ولا لحم ولا عصب، يدخلونه حيًا فيخرج عظاماً، فبعض من شاهد هذا أو بعض من أُخرج أيضًا من الأنقاض ومن الأطفال الصغار شوهد أن أحدهم كان قد تحول رأسه إلى بياض من شدة الهول.

وذلك حين يقول الله تعالى لآدم: ابعث بعث النار، فيقول: من كم؟ فيقول: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار وواحد إلى الجنة[2].

النبي ﷺ أخبرنا أن الله يقول لآدم: يا آدم أخرِجْ بعث النار، وهذا العدد من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون معناه أنه ما ينجو إلا واحد فعند ذلك يشيب الوليد، وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا [سورة الحج:2] في ذلك الموقف.

السَّمَاء مُنفَطِرٌ بِهِ [سورة المزمل:18] قال الحسن وقتادة: أي بسببه من شدته وهوله.

كما قال الله : إِذَا السَّمَاء انفَطَرَتْ [سورة الإنفطار:1] تنفطر السماء وتنكدر النجوم، وتتفتت الجبال ثم بعد ذلك تكون هباء منبثًا، وتسير الجبال، وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ [سورة التكوير:3]، كل هذه الأمور، السَّمَاء مُنفَطِرٌ بِهِ أي: بسبب هوله، فالسماء على قوتها ومتانتها تنفطر وتتشقق لشدة هول ذلك اليوم، فالسماء منفطر به، ويمكن أن تكون "الباء" هنا بمعنى "في" أي السماء منفطر فيه، أي في ذلك اليوم، وهذا الذي يسميه أهل اللغة بالتضمين، حروف الجر هذه تتناوب، فرعون يقول: وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ [سورة طه:71] يدخلهم في وسط الجذع؟ يحفر الجذع ويدخلهم فيه؟ أو على جذوع النخل؟ على جذوع النخل، لأصلبنكم على جذوع النخل، فـ "في" تأتي بمعنى "على" فتتناوب، ولا شك أن هذا يدل على أنه من شدة ربطهم في الجذع كأنهم يُدخَلون فيه، وهكذا في أمثلة كثيرة تقول مثلًا: نحن نمشي في الأرض، وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ [سورة الأنعام:38] يعني على الأرض، نحن نمشي في الأرض يعني نمشي على الأرض.

وقوله تعالى: كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا [سورة المزمل:18] أي: كان وعد هذا اليوم مفعولًا أي واقعًا لا محالة وكائنًا لا محيد عنه.

هذا يحتمل ما ذُكر، ويحتمل معنى آخر، "كان وعده" "الهاء" هذه يمكن أن تكون عائدة إلى اليوم فكيف تتقون يومًا؛ لأنه هو المحدث عنه، والأصل أن الضمير يرجع إلى أقرب مذكور، فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا ۝ السَّمَاء مُنفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا وعد ذلك اليوم كان مفعولًا، فتكون "الهاء" هنا عائدة إلى اليوم، فيكون من باب إضافة المصدر -وعد يعد وعدًا- إلى المفعول "الهاء".

ويحتمل أن يكون المعنى كان وعده أي الله، من الذي وعد بهذا اليوم؟ الله، فيكون من باب إضافة المصدر "وعْد" إلى الفاعل "الهاء"، قد يقال: الله ما له ذكر قبلها، والأصل أن الضمير يعود إلى أقرب مذكور، فيقال: هذا لا إشكال فيه؛ لأنه يمكن أن يعود الضمير إلى غير مذكور اكتفاء بالعلم به، السامع يعلم أن الذي وعد باليوم الآخر هو الله كَانَ وَعْدُهُ أي: وَعَدَ اللهُ بمجيئ ذلك اليوم، أَتَى أَمْرُ اللّهِ [سورة النحل:1]، بمعنى سيأتي أمر الله لكنه عبر بالماضي لتحقق الوقوع أَتَى أَمْرُ اللّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ، إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ [سورة غافر:59] فالله وعد به، "كان وعده" أي وعد الله وقوع ذلك.

هذه السورة تذكرة لأولي الألباب:

يقول تعالى: إِنَّ هَذِهِ [سورة المزمل:19] أي السورة، تَذْكِرَةٌ أي يتذكر بها أولو الألباب، ولهذا قال تعالى: فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا أي: ممن شاء الله تعالى هدايته كما قيده...

قوله: إِنَّ هَذِهِ يمكن أن يرجع إلى السورة، فتكون الإشارة المقصود بها السورة، إن هذه السورة، ويمكن أن يعود إلى ما مضى من آيات السورة، ويمكن أن يعود إلى جميع آيات القرآن أي إن هذه الآيات تذكرة، ويمكن أن يكون ذلك عائدًا إلى الوعيد الذي ذكره قبله من قوله -تبارك وتعالى: إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالًا وَجَحِيمًا ۝ وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا ۝ يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَّهِيلًا [سورة المزمل:12-14] إلى هنا، يقول: هذه تذكرة أي أهوال ذلك اليوم وما يحصل فيه من الأوجال.

ولهذا قال تعالى: فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًاأي: ممن شاء الله تعالى هدايته كما قيده في السورة الأخرى: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا [سورة الإنسان:30].

فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا يقول: نحن وعظناكم وحذرناكم فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا، فمن شاء طلب سبيل النجاة، وذلك بسلوك طريق العبودية لله ، من شاء أن ينجو فعليه أن يبحث عن المخرج، ويسلك الطريق الموصلة إلى النجاة، فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا طبعًا هذه المشيئة مقيدة كما في الآية الأخرى: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ وهي تدل على إثبات المشيئة للعبد، ونحن لا نتوسع في الفوائد، وإلا ففي هذه الآيات من العبر والمواعظ والفوائد الشيء الكثير.

نسخ وجوب قيام الليل وذكر أعذاره:

ثم قال تعالى: إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ [سورة المزمل:20] أي: تارة هكذا وتارة هكذا، وذلك كله من غير قصد منكم ولكن لا تقدرون على المواظبة على ما أمركم به من قيام الليل؛ لأنه يشق عليكم.

إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وفي قراءة أخرى متواترة أدنى من ثلثي الليل ونصفِهِ وثلثِهِ فعلى القراءة الأولى "أدنى من ثلثي الليل ونصفَهُ وثلثَهُ" كيف يكون المعنى؟ يكون المعنى هكذا: أن الله يعلم أن نبيه ﷺ يقوم أدنى أي أقل من ثلثي الليل ويقوم نصفَه، فنصفه مفعول به منصوب، أدنى من ثلثي الليل، ويقوم نصفَه، ويقوم ثلثَه، هذا على قراءة النصب، يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل، وتقوم نصفَه، وتقوم ثلثَه، وعلى قراءة الجر: يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفِهِ وثلثِهِ، فيكون المعنى: تقوم أقل من ثلثي الليل، وأقل من نصفه، وأقل من ثلثه، لماذا يحصل ذلك؟

لأنه يصعب أن يضبط مقادير الليل؛ لهذا قال: عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ وليس عندهم ساعات، ويختلف هذا من الشتاء إلى الصيف، وكون الإنسان يرقب ساعات الليل بالنظر إلى علامات في السماء مثلًا أمر يصعب على الإنسان خاصة من يصلي في داخل بيته، تصور بين كل مدة وأخرى يخرج وينظر، في الشتاء وفي الصيف تارة يكون الليل طويلاً، وتارة يكون الليل قصيراً، فينكشف الأمر عن أن الإنسان قد لا يقوم إلى حد الثلث، بل يقوم أقل من الثلث، لا يضبط التقدير، وتارة يزيد إلى النصف، وتارة يبلغ الثلثين، وتارة أقل، وكذلك بحسب ما يعتور الإنسان من الأمور العارضة كالسفر، والمرض، والتعب، وغلبة النوم وما أشبه ذلك مما يعتري الإنسان مع ثقل قيام الليل أصلًا، فأنزل الله في هذه الآيات التخفيف أي تارة هكذا، وتارة هكذا.

والقراءتان إذا كان لكل واحدة معنى، وهنا كل قراءة لها معنى أو المعنى واحد؟ فماذا نقول هنا؟ ما هي القاعدة؟ إذا كان في الآية أكثر من قراءة، وكل قراءة لها معنى فالقراءتان تنزل منزلة الآيتين، فصارت المعاني: أنه يقوم أدنى -أقل- من ثلثي الليل، ويقوم نصفه ويقوم ثلثه، والقراءة الأخرى: يقوم أقل من ثلثي الليل، وأقل من النصف، وأقل من الثلث، وكل ذلك واقع فلا إشكال.

ولهذا قال: وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ أي تارة يعتدلان، وتارة يأخذ هذا من هذا وهذا من هذا، عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ أي: الفرض الذي أوجبه عليكم، فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ أي: من غير تحديد بوقت أي ولكن قوموا من الليل ما تيسر.

في قوله: وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ يوجد احتمال غير ما ذُكر، يعني هنا قال: يقدر الليل والنهار أي تارة يعتدلان، وتارة يأخذ هذا من هذا وهذا من هذا، يعني أن الله يجعل ذلك متفاوتًا يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ [سورة الزمر:5] على أحد التفسيرات فيها، فالحاصل أن ذلك يتفاوت في الشتاء والصيف وما إلى ذلك، وتحتمل معنى آخر وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ بمعنى أنه يعلم مقاديرها على الحقيقة، علم أن لن تحصوه أي أنتم لا تطيقون هذا على وجه الدقة في صيفكم وشتائكم وكل أحوالكم في الثلث والنصف وكذا، فيقع منكم مثل هذا النقص والزيادة.

فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ أي: من غير تحديد بوقت أي ولكن قوموا من الليل ما تيسر، وعبر عن الصلاة بالقراءة كما قال في سورة سبحان...

التوبة أصلها الرجوع، تاب عن كذا أي رجع عنه، فَتَابَ عَلَيْكُمْ أي: عاد عليكم بالتخفيف، أو عاد عليكم بالعفو والمسامحة ولم يؤاخذكم بسبب هذا التفاوت في قيامكم، وما يحصل فيه من النقص في بعض الحالات أو الأحيان فَتَابَ عَلَيْكُمْ.

وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ [سورة الإسراء:110]، أي بقراءتك، وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا.

الآن فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ سبق أن بعض أهل العلم يقول: هذا هو الناسخ، ومن قالوا: إنه يجب قيام قدر من الليل ولو أن يوتر الإنسان أخذوه من هذا، قالوا: أولاً قال: قُمِ اللَّيْلَ [سورة المزمل:2]، ثم لما خفف قال: فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ فما صار النسخ بالكلية لوجوب قيام الليل بل إلى المقدار السابق، والأرجح أنه نسخ الوجوب عمومًا وبقي مستحبًا، والخلاف معروف في حق النبي ﷺ هل هو واجب في حقه أو أن ذلك أيضًا نسخ؟

فهم بعض أهل العلم من قوله: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ [سورة الإسراء:79] أنه ليس بواجب، ليس بفريضة عليه -عليه الصلاة والسلام، وبعضهم قال: هو فرض على النبي ﷺ وليس بواجب على الأمة، ولكن الخلاف هل هو واجب على النبي ﷺ أو لا؟ لكن هل يترتب عليه شيء بالنسبة إلينا نحن؟ هل ينبني عليه عمل؟ لا، ولذلك تضييع الوقت به والانشغال به ليس من صلب العلم، والمسائل التي لا ينبني عليها عمل بالنسبة إلينا لسنا مطالبين بالاشتغال بها، وإضاعة الأوقات بمناقشتها وبحثها وما أشبه ذلك؛ لأننا مطالبون بالعمل، فهذه تعتبر بحسبها، تارة تكون من مُلَح العلم كما يقول الشاطبي -رحمه الله، وتارة تكون من فضول العلم، ما لها فائدة، ولا يترتب على هذا بالنسبة إلينا شيء.

وعبر عن الصلاة بالقراءة كما قال في سورة سبحان: وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ [سورة الإسراء:110] أي بقراءتك وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا.

الصلاة تارة يعبر عنها بالقراءة كما قال الله وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا [سورة الإسراء:78] المراد بقرآن الفجر القراءة في الصلاة قطعًا، أي في صلاة الفجر، "مشهودًا" أي تشهده الملائكة، هذا معنى قرآن الفجر وليس التلاوة بالمصحف، أو في غير المصحف، وهنا قاعدة وهي أنه إذا عبر عن العبادة بجزء منها فإن ذلك يدل على آكديّته، وأنه ركن فيها، والقراءة في الصلاة ركن، والقدر المجزئ من ذلك هو قراءة سورة الفاتحة.

وقوله تعالى: عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ أي: علم أن سيكون من هذه الأمة ذوو أعذار في ترك قيام الليل من مرضى لا يستطيعون ذلك، ومسافرين في الأرض يبتغون من فضل الله في المكاسب والمتاجر، وآخرين مشغولين بما هو الأهم في حقهم من الغزو في سبيل الله.

وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ الضرب في الأرض بمعنى المشي فيها والتقلب للتجارات وطلب الرزق، هذا معنى الضرب في الأرض، لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ [سورة البقرة:273] أي: لا يستطيعون تقلبًا فيها وانتقالًا ومشيًا وسفرًا من أجل التجارة، هذا الضرب في الأرض.

هذه الآيات نزلت قبل فرض الجهاد، بل قبل شرع الجهاد، الجهاد شرع على مراحل، كان ذلك في المدينة فكان هذا قبله، ومع ذلك ذكره الله : عَلِمَ أَن سَيَكُونُ كانوا في مكة في وقت استضعاف، وفقراء.

وهذه الآية بل السورة كلها مكية، ولم يكن القتال شرع بعد فهي من أكبر دلائل النبوة؛ لأنه من باب الإخبار بالمغيبات المستقبلة، ولهذا قال تعالى: فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ أي: فقوموا بما تيسر عليكم منه.

وقوله تعالى: وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ أي: أقيموا صلاتكم الواجبة عليكم، وآتوا الزكاة المفروضة، وهذا يدل لمن قال: إن فرض الزكاة نزل بمكة لكن مقادير النُّصب والمَخْرج لم تبين إلا بالمدينة، والله أعلم.

وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ السورة مكية فهذا يدل على أن الزكاة كانت واجبة في مكة، وهذا هو الأقرب لكن من غير تقدير، ومن غير تحديد للأموال التي تجب فيها الزكاة، فكان الإنسان يخرج في وقت الحصاد مثلًا شيئًا غير مقدر يعطيه الفقراء، وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ [سورة الأنعام:141] فهذا هو الأقرب ولا داعي لحمله على محامل بعيدة وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ كأن يقال: هذه مدنية، أو أن هذه تتحدث عن أمر لم يقع، مما نزل قبل شرع الحكم، أو أن الزكاة تفسر بمعنى آخر، هذا كله لا حاجة إليه، الزكاة فرض أصلها في مكة، وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ هنا سؤال وهو: لماذا أمر بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وكثيرًا ما يقرن بين الصلاة والزكاة في الأمر بهما أو وعيد من تركهما أو الثناء على أهلهما أو نحو ذلك، وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاَةَ وَالمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ [سورة النساء:162]؟ العبادات مالية وبدنية، ورأس العبادات المالية هو الزكاة، ورأس العبادات البدنية هو الصلاة، هذا جواب.

والجواب الثاني: أن سعادة العبد دائرة بين أمرين: حسن الصلة بالله ورأس ذلك الصلاة، والإحسان إلى الخلق ورأس ذلك يكون بالزكاة.

وقد قال ابن عباس وعكرمة ومجاهد والحسن وقتادة وغير واحد من السلف: إن هذه الآية نسخت الذي كان الله قد أوجبه على المسلمين أولًا من قيام الليل، وقد ثبت في الصحيحين أن رسول الله ﷺ قال لذلك الرجل: خمس صلوات في اليوم والليلة قال: هل عليّ غيرها؟ قال: لا، إلا أن تطوع[3].

هذا يدل على أن قيام الليل غير واجب، فالذي سأل النبيَّ ﷺ عما افترض الله عليه أجابه دون أن يذكر له قيام الليل، والعلماء يحتجون كثيرًا بهذا الحديث على أشياء كثيرة، فمما يقولون: إنه لا تجب تحية المسجد مع أن النبي ﷺ قال: فلا يجلس حتى يصلي ركعتين[4]، ومع ذلك الجمهور يقولون: إنها غير واجبة، والنبي ﷺ قال للرجل أيضًا في يوم الجمعة وهو يخطب: أصليت ركعتين؟[5]، قال: لا، فأمره أن يقوم ويصلي مع أهمية الاستماع والإنصات للخطبة، فالجمهور يقولون: إنها غير واجبة لماذا؟ أوضح حديث يستدلون به هو هذا: هل عليّ غيرها؟ قال: لا، إلا أن تطوع.

كذلك صلاة العيدين، والخسوف، والكسوف، والاستسقاء، يقول كثير من أهل العلم: غير واجبة، ولكن الذين يقولون بوجوب بعض ذلك يقولون: ذكر له النبي ﷺ الذي يتكرر في اليوم والليلة، والمقصود أن الاستدلال بهذا أوضحَ بأن قيام الليل غير واجب؛ لأنه كل ليلة، إذا قالوا: إن العيد يحصل في السنة مرة، وإنما قصد له ما يتكرر فهذا لا يقال في قيام الليل، فهذا من أوضح الأدلة على عدم وجوب قيام الليل.

ليس المقصود بقيام الليل أن ينام الإنسان ثم يقوم، لا، المقصود أن يصلي في الليل في أوله أو في أوسطه أو في آخره، وأدنى ذلك أن يوتر، وكلام أهل العلم معروف في هذا، والحنفية يسمون الوتر واجباً، والإمام أحمد يقول عمن واظب على ترك الوتر: إنه رجل سوء ترد شهادته.

الأمر بالتصدق وعمل الخير:

وقوله تعالى: وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يعني من الصدقات فإن الله يجازي على ذلك أحسن الجزاء وأوفره كما قال تعالى: مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً [سورة البقرة:245]، وقوله تعالى: وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا أي: جميع ما تقدموه بين أيديكم فهو لكم حاصل، وهو خير مما أبقيتموه لأنفسكم في الدنيا، وروى الحافظ أبو يعلى الموصلي عن الحارث بن سويد قال: قال عبد الله: قال رسول الله ﷺ: أيكم ماله أحب إليه من مال وارثه؟ قالوا: يا رسول الله ما منا من أحد إلا ماله أحب إليه من مال وارثه، قال: اعلموا ما تقولون، قالوا: ما نعلم إلا ذلك يا رسول الله، قال: إنما مال أحدكم ما قدم، ومال وارثه ما أخر[6]، ورواه البخاري، ثم قال تعالى: وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌأي: أكثروا من ذكره واستغفاره في أموركم كلها فإنه غفور رحيم لمن استغفره.

آخر تفسير سورة المزمل، ولله الحمد والمنة.

  1. رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد ﷺ إلى جميع الناس ونسخ الملل بملة، برقم (153).
  2. رواه الترمذي، كتاب تفسير القرآن عن رسول الله ﷺ، باب ومن سورة الحج، برقم (3168)، وقال: "هذا حديث حسن صحيح قد روي من غير وجه عن عمران بن حصين عن النبي ﷺ".
  3. رواه البخاري، كتاب الإيمان، باب الزكاة من الإسلام، برقم (46)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان الصلوات التي هي أحد أركان الإسلام، برقم (11).
  4. رواه البخاري، كتاب التهجد، باب ما جاء في التطوع مثنى مثنى، برقم (1167)، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب استحباب تحية المسجد بركعتين وكراهة الجلوس قبل صلاتهما وأنها مشروعة في جميع الأوقات، برقم (714).
  5. رواه البخاري بلفظ: أصليت يا فلان؟ قال: لا، قال: قم فاركع ركعتين، كتاب الجمعة، باب إذا رأى الإمام رجلا جاء وهو يخطب أمره أن يصلي ركعتين، برقم (930).
  6. رواه البخاري، كتاب الرقائق، باب ما قدم من ماله فهو له، برقم (6442)، وابن حبان في صحيحه، برقم (3330)، وقال محققه الأرنؤوط: "إسناده صحيح على شرط الشيخين".

مواد ذات صلة