الأحد 22 / جمادى الأولى / 1446 - 24 / نوفمبر 2024
[1] سورة المزمل من أولها إلى قوله: {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا}.
تاريخ النشر: ١٦ / رجب / ١٤٣٥
التحميل: 7009
مرات الإستماع: 8496

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فحياكم الله وبياكم في مطلع هذه الدورة في أواخر هذا الصيف، وأسأل الله أن يجعل أوقاتنا وأوقاتكم عامرة بذكره وشكره وحسن عبادته.

وفي هذه المرة سندرس التفسير بطريقة مغايرة لما درسناه به في أول هذا الصيف، ففي أول الصيف قصدنا أن يكون درس التفسير من غير كتاب، وكان الهدف هو أن يُعرض التفسير بطريقة يُربط فيها مع حياة الناس وتُبيَّن معاني القرآن الكلية والتفصيلية مع ذكر هدايته وأحكامه وما إلى ذلك مما يحتاج إليه العامة والخاصة.

سندرس التفسير بطريقة مغايرة لما درسناه به في أول هذا الصيف، ففي أول الصيف قصدنا أن يكون درس التفسير من غير كتاب، وكان الهدف هو أن يُعرض التفسير بطريقة يُربط فيها مع حياة الناس وتُبيَّن معاني القرآن الكلية والتفصيلية مع ذكر هدايته وأحكامه وما إلى ذلك مما يحتاج إليه العامة والخاصة.

فهو درس يصلح لطلاب العلم ولغيرهم، ولكن لما رأيت من صدود الناس عن درس التفسير وقلة الحضور الذين حضروا فيه مع أن الشيخ الذي قدمه بذل جهداً كبيراً واضحاً في جمع مادته والعناية به، -كنتُ أحضّر الدروس- فكنت أتمنى أن يحضره جميع الشباب؛ لكثرة ما فيه من الفوائد واللطائف والتوجيهات، ووضعناه بعد العصر؛ ليستطيع الحضور فيه الطلاب من المراكز وغيرها، ويستطيع الحضور فيه الموظفون حيث يكون الواحد قد خرج من عمله، فلما كان الأمر بتلك الصفة رأيت أن نجعل درس التفسير بعد الفجر، وأن يكون من كتاب، وأعلم أن بعض الإخوان قد لا يناسبهم هذا الوقت لاسيما ما اعتاد عليه الناس من السهر، ولكن طالب العلم الحريص يروض نفسه بحسب مصالحه.

لماذا هذا الكتاب؟

نحن في مثل هذه الدروس نحتاج إلى كتاب مختصر ولابدّ، والمختصرات في التفسير كثيرة جدًا، منها: ما هو مختصر يحوي كثيرًا من العلم، إلا أنه لا يخلو من إشكالات من جهة الاعتقاد، وبالتالي لسنا بحاجة إن وجدنا البديل أن نشغل الإخوان بدراسة كتاب نتوقف معه كثيراً لبيان العقيدة الصحيحة والرد على العقائد الأخرى.

وهناك مختصرات أخرى قد تكون أقل بكثير من هذه الناحية التي تقع فيها هذه الإشكالات إلا أنه يحتاج إلى فك، فكانت الفكرة في البداية أن أدرس لكم كتاب "التسهيل" لابن جُزَي الكلبي -رحمه الله، وعزمت على هذا، ولربما وصلت بعض الرسائل في الجوال من الإخوان القائمين على الدورة، ولكن لما تفكرت طلبت من الإخوان أن يحضروا لنا سبورة لأني أحتاج أن أشرح كثيراً من عبارات المؤلف وألفاظه بطريقة ربما تستغرق الوقت أو كثيراً من الوقت، فالكتاب مع عظمته ودقته وما احتواه من العلم الغزير بعبارة قصيرة فهو متن مختصر غاية الاختصار، ولربما تبقى بعض العبارات غامضة ومبهمة، فرأيت أن هذا الاختصار الشديد سيحتاج إلى شرح طويل لعبارة المؤلف ونحن بحاجة إلى فهم نص القرآن أولًا.

فعند ذلك رأيت أن نقرأ في هذا المختصر المبارك وهو "المصباح المنير"، في عباراته بعض الطول فهو ليس على طريقة ابن جُزَي يزن الحرف، أااا ولكن الوقت الذي نحتاج فيه إلى شرح كلام ابن جزي لا نحتاجه إطلاقاً في هذا الكتاب، فلن نتعب في حل العبارات وتفكيكها وبيان المصطلحات، ولكن الذي سيكون بإذن الله وهو المهم في نظري أننا سنناقش في هذا الدرس التفسير بطريقة أرجو بإذن الله أن تنمي الملكة، وهذا مهم جداً في دروس التفسير.

دروس التفسير قد تكون كلاماً أشبه بالكلام الخطابي يوجه إلى الناس ويبين هداية القرآن فتتربى نفوسهم عليه، وهذا لا شك أنه عمل نافع، ويكفي أن الناس يشتغلون بكتاب الله -تبارك وتعالى- تفهماً وتدبرًا وتفسيرًا، ولكن طلاب العلم يحتاجون إلى أمر زائد على هذا القدر؛ لأن ذلك الكلام غالباً ما يُنسى ويذهب ويتلاشى لو سألتك عما درسته من التفسير أثناء الجامعة، أو في كلامٍ يقال من غير كتاب تدون عليه الفوائد والملحوظات لربما نسيته بعد شهر أو سنة أو سنوات، لكن هذه الطريقة هي تغرس في النفس معانيَ ليست هي معاني التفسير فقط بل طريقة فهم التفسير.

نحن نُدرّس أصول التفسير ولكن هذه الأصول، أو قواعد التفسير، أو علوم القرآن تبقى قضايا نظرية، فإذا قرأنا في التفسير يمر علينا الغث والسمين، لكن حينما نوظف هذه الطريقة بدراسة كتاب من الكتب ونناقش ما نقرأ، ونذكر الأصول والقواعد التي بُني عليها هذا القول، أو القول المختار، أو نرجح بين قولين ونبين لماذا رجحنا هذا القول، ولماذا رددنا ذلك القول، وما أشبه ذلك، بهذه الطريقة تتربى الملكة، وهذا هو المهم لطالب العلم، فلا تبقى دروس التفسير كلاماً يقال ثم ينسى.

ونحن لربما كثيرًا ندرس القضايا النظرية من قواعد وأصول التفسير، ولكن طريقة تدريس التفسير فيها خلل كبير بالنسبة لما يطرح ويقدم لطلاب العلم، المفروض إذا دُرّس العلم أن يُبيَّن مأخذ هذا القول، والدليل الذي بني عليه، ولماذا قاله المؤلف -وإن كان قولًا ضعيفًا، من أجل أن يفهم الطالب، ويستطيع أن يناقش كلام أهل العلم، ويفهم قولهم، ومرادهم، وما إلى ذلك.

وقبل أن أختم هذا التقديم أريد أن أذكّر بأمر، وهو: أن الاشتغال بكتاب الله كلنا يعلم أنه أعظم ما تقضى به الأوقات، وتعرفون كلام أهل العلم في التفسير كلام ابن جرير الطبري: عجبت لمن يقرأ القرآن ولا يفهم معانيه كيف يلتذ بقراءته؟ ونحن نشاهد أن طلاب العلم يشتطون في البحث عمن يدرسهم أصول الفقه، ومصطلح الحديث وما إلى ذلك من علوم الآلة، ولربما ارتقوا درجة فطلبوا علم الفقه والعقيدة والحديث، وإذا نظرت إلى التفسير وجدت أن العناية به هي الأقل، وإذا نظرت إلى دروس التفسير في أي بلد تذهب إليها تجد أنها الأقل، ولربما كانت معدومة، ولا تكاد تجد أحداً من هؤلاء الطلاب -طلاب العلم- يبحث عمن يقرأ عليه التفسير من أوله إلى آخره،  فضلًا عن أن يتدرج فيه، أو يفكر في هذا، بينما نسمع دائمًا التدرج في الأصول، في النحو، في المصطلح، في البلاغة، في الفقه، وغير ذلك.

فهذه العلوم جميعًا شريفة إلا أن علم التفسير لا شك أنه أشرف؛ لأنه يتعلق بالقرآن، وشرف العلم بشرف المعلوم كما لا يخفى.

فليس عندي شيء أفسر به هذه الظاهرة إلا أن هذا من عمل الشيطان، ليس هناك شيء آخر، هذا ما يبدو لي -والله أعلم- ولربما يكون معه أمر آخر وهو أن ما اعتاده الناس في دراسة التفسير لربما لا يشجع كثيرًا من طلاب العلم على دراسته، والكتاب الذي يُختار للدراسة له أثر، ولعلنا ندرس تفسير ابن جزي -إن شاء الله تعالى- من أوله إلى آخره بإذن الله، فهذه هي النية -إن شاء الله- بعدما ننتهي من هذا المختصر في المسجد أول هذا العام -إن شاء الله تعالى، فبعدما ننتهي من هذا كاملًا نبدأ بتفسير ابن جزي، فإذا درسنا تفسير ابن جزي أو قرأنا كتابًا قد بُني على أصول وضوابط ودقق فيه المؤلف، أو يذكر فيه الأقوال كفتح القدير مثلًا أو نحو هذا فيكون أمامنا مجال واسع جدًا لتطبيق أصول التفسير بشكل واضح جدًا على ما نقرؤه من كلام المؤلف.

هذا الكتاب المصباح المنير هو أحد المختصرات لهذا التفسير المبارك تفسير الحافظ ابن كثير -رحمه الله، وهذا الكتاب -أعني تفسير ابن كثير- هو من أعظم كتب التفسير من جهة المنفعة والبركة أيضاً، وقد لا يدرك هذا الكلام إلا من فتش في كتب التفسير، فاقرأ فيما شئت من كتب التفسير الكبار والصغار، ثم اجعل هذا آخراً -أعني تفسير ابن كثير، فإذا قرأت به عرفت لماذا كُتِبَ لهذا التفسير الاشتهار والانتشار وصار في كل بيت، هذه قضية لا تصل إليها إلا إذا قرأت.

اقرأ اجمع كل كتب التفسير التي تستطيع الوصول إليها من مخطوط ومطبوع ثم اقرأ بعدها في تفسير ابن كثير ستجد صدق ما ذكرتُ، وقد جربت ذلك بنفسي حتى إني لربما أقرأ في تفسير الآية أو السورة الكثير لربما لم يبق تفسير مطبوع إلا قرأته فيها، فإذا وصلت إلى تفسير ابن كثير قلت في نفسي: ماذا بقي له؟ فإذا قرأته وجدتُ أنه أكثر الكتب التي قرأت أحتاج أن أدون منها بعض المعلومات، وهو من آخر ما أقرأ، وبهذا أدركت عملياً لماذا ارتفع هذا الكتاب، فحق له هذه المرتبة في نفوس المسلمين، وهذا يدل -والله أعلم- على إخلاص مؤلفه، وتحققه في باب العلم.

أقول: اعتنوا بكتاب الله  يفتح عليكم من العلوم والكنوز والبركات ما لا يقادر قدره، وقد قال بعض أهل العلم: اشتغلنا بكتاب الله فغمرتنا البركات، والله قد وصف كتابه بأنه مبارك كما وصفه بأنه عزيز، ومن عزته أنه لا يدخل في القلوب المعرضة عنه، لا تفتح معانيه وكنوزه للقلوب المعرضة عنه، ولهذا قيل: إذا كانت القلوب تحمل أخلاق الكلاب فإن الملائكة لا تدخلها بالمعاني الطيبة، إنّ الملائكة لا تدخل بيتًا فيه كلب أو صورة.

وأقترح عليكم أن تحضروا معكم كتب التفسير، منكم من يحضر تفسير ابن كثير، ومنكم من يحضر شيئًا آخر من المختصرات، وبهذا تستطيعون المقارنة بين هذا المختصر وبين الأصل، وبين هذا المختصر وبين غيره من المختصرات الأخرى، فهذا المختصر أنفع هذه المختصرات، وأدقها، وأحسنها، مختصرات ابن كثير متعددة منها ما لا يصلح للاقتناء، ومنها ما هو بهذه المثابة، ومنها ما بين ذلك، هذا المختصر من قرأه في ظني يكفيه عن قراءة تفسير ابن كثير، أقولها بكل اطمئنان، وقد قارنت أجزاء من هذا المختصر مع تفسير ابن كثير حرفاً حرفاً فوجدت أنه يحافظ على التفسير، يحافظ على عبارة ابن كثير، ويحاول أن يختار الروايات الصحيحة، ويحذف من الروايات الصحيحة المكررات، بالتالي ساغ أن يدرّس في الكليات وفي المساجد، وفي السابق كان تفسير ابن كثير فيه روايات كثيرة جدًا لربما تجعل السامع لا يستطيع المتابعة كثيرًا، والآن حُلت هذه المشكلة، وهو مع اختصار الشيخ أحمد شاكر -رحمه الله- "عمدة التفسير" في غاية التقارب إلا أن هذا يمتاز ببعض الأمور:

منها: أن الأحاديث أخذت من الأصول وضبطت بالشكل.

ومنها: أن هذا الكتاب يحذف الروايات الصحيحة المكررة فلا يطول الكتاب بذكرها.

ومنها: أن بعض الروايات لربما الشيخ أحمد شاكر -رحمه الله- يرى صحتها فيوردها في كتابه وقد لا تكون كذلك.

فالمقصود أن هذا الكتاب فيما أظن من أنفع المختصرات، سنقرأ فيه ونتعرض لبعض القضايا مما لا يخرجنا عن منهج ابن كثير، فنحافظ على منهجه وأيضًا فيما يسع له الوقت.

ومثل هذه الدورات والدروس التي تقدم فيها ليست هي كل شيء، درستَ الآن كتاباً في التفسير أو في غيره، ليس هذا هو المجلس الأول والأخير لك في هذا العلم، ستدرس كتباً أخرى -إن شاء الله- أوسع من هذا، وستعرض لك من المسائل ما لا تجده في هذا الكتاب أو ذاك.

بسم الله الرحمن الرحيم

يقول المختصِر، ولو قلنا: يقول المؤلف فلا إشكال؛ لأنها عبارات ابن كثير، لو قلنا: يقول المؤلف، أو: يقول ابن كثير فلا إشكال.

يقول: تفسير سورة المزمل وهي مكية.

سورة المزمل ، من هو المزمل؟ هو النبي ﷺ.

وهي مكية، يعني: أنها نزلت قبل الهجرة في مكة، وهذا لا شك فيه, وهي من أوائل ما نزل في مكة، أما في الترتيب فروي أنها نزلت بعد سورة القلم، وهذا لا نقطع به؛ لأنه في حد ما أعلم لا تصح رواية من الروايات التي ذكرت سور القرآن في طريقة ترتيبها.

هناك روايتان تقريباً تذكر سور القرآن مرتبة حسب النزول، وقد نظم ذلك بعض أهل العلم، ولكن الروايات فيه لا تصح، ولكن لا شك أن سورة المزمل كانت من أوائل ما نزل في مكة، وحينما نقول كما هنا يقول: إن السورة مكية فيبقى هذا هو الأصل، قد يختلف في السورة هل هي مكية أو مدنية، لكن حينما يقرر أن السورة مكية مثلًا فيبقى هذا هو الأصل فيها وفيما دخل تحتها من الآيات جميعًا.

وما يذكره المفسرون عادة تفاجأ أنهم يقولون: السورة مكية ثم يستثنون عدة آيات كما هنا، بعضهم يقول: سوى آيتين وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا [سورة المزمل:10] يقولون هذه، أو إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ ... [سورة المزمل:20]، من أين هذا الاستثناء؟ من أين؟

فيقال: لابدّ من دليلٍ يخرج هذا القدر من عمومِ السورة التي نزلت في مكة، لابدّ من دليل، والمفسرون -رحمهم الله- يتساهلون في ذلك كثيرًا، فتجدون أن المفسر كثيرًا ما يقول: هذه السورة مكية ثم يقول: إلا الآية الفلانية، أو إذا وصل إلى تفسير آيتين قال: هذه نزلت في المدينة، لماذا؟ أحيانًا يكون ذلك بناء على أمر لاح له من جهة المعنى، مثلًا: السورة فيها وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَُ، ومعروف أن هذه كما سيأتي نزلت بعد أول السورة باثني عشر شهرًا يعني كم؟ يعني سنة، وهي من أوائل ما نزل في مكة، والنبي ﷺ بقي سنين في مكة، قيل: بقي عشر سنوات، وقيل: ثلاث عشرة سنة وهو المشهور، فهذه نزل آخرها بعد أولها بسنة، فكيف قيل: إنها نزلت في المدينة؟

وَآتُوا الزَّكَاةَُ، قالوا: الزكاة أين فرضت؟ في المدينة، هكذا قالوا، فإذاً هذه السورة نازلة في المدينة، فكيف نجيب عن هذا؟

أصل فرض الزكاة كان بمكة، والأنصبة والتفاصيل وأنواع الأموال التي تخرج منها الزكاة فرضت في المدينة بعد ذلك، وأوضح ما يدل على ذلك ما جاء في سورة الأنعام، ماذا قال الله في سورة الأنعام وهي نازلة جملة في ليلة واحدة كما دلت على ذلك كثير من الروايات؟ قال: وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ [سورة الأنعام:141] فبعض العلماء لجأ إلى القول بأن هذه الآية من سورة الأنعام نازلة في المدينة؛ لهذا السبب، مع أن سورة الأنعام تضافرت الأدلة على أنها نزلت في مكة في ليلة واحدة، فاستثنوا هذا بناء على هذا المعنى، وَآتُواْ حَقَّهُ ونحن نجيب عن هذا من عدة وجوه:

الأول: أن أصل الزكاة فرض بمكة والتفاصيل فرضت في المدينة، فكان يجب في مكة أن يخرج قدراً غير محدد، فهذا جواب.

الجواب الثاني: وهو أن من القرآن ما ينزل قبل شرع الحكم، كما سيأتي، وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [سورة المزمل:20]، وماذا قال الله لأمهات المؤمنين في سورة الأحزاب؟ لمّا قال لهن: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ [سورة الأحزاب:33] إلى آخره قال: وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ زوجات النبي ﷺ كن قد اجتمعن عليه يطالبنه بالتوسعة في النفقة لما فتح الله عليه الفتوح ووسع عليه بفتح قريظة والنضير، وكان النبي ﷺ في شظف من العيش، فأي زكاة عندهن؟ فهذا يشير إلى أمر في المستقبل، كما قال الله : سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ [سورة القمر:45]، هذه في مكة، أيّ جمع؟ وأي تولية للدبر؟ كما كان عمر يتساءل عنها، يقول: حتى رأيت رسول الله ﷺ يوم بدر يثب في الدرع وهو يقرأ: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ.

فمن الآيات ما ينزل قبل شرع الحكم، وحينما نقول: الحكم لا نقصد به الحلال والحرام، هذا أصل في التفسير، وإنما المقصود به ما تحدثت الآية عنه، الموضوع الذي تحدثت عنه الآية، ولهذا هنا وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ [سورة البقرة:43] قال بعض أهل العلم: وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ أي صلاة العيد، وَآتُواْ الزَّكَاةَ أي: زكاة الفطر، ليتخلص من الإشكال الذي ذكرناه قبل قليل، يتخلص من هذا الإشكال.

فالجواب الثاني إذاً أن من الآيات ما ينزل قبل شرع الحكم.

وهناك جواب ثالث: وهو ما ذكرتُ -الجواب العام- أن الأصل في السورة المكية أن جميع الآيات فيها نازلة في مكة، والسورة المدنية جميع الآيات نازلة فيها بالمدينة إلا لدليل يجب الرجوع إليه، فهذا الأصل تحتاج إليه في جميع سور القرآن تقريباً، أو عامة سور القرآن، كلما تقرأ في التفسير.

سور القرآن أحيانًا تتحدث عن موضوع واحد، وأحيانا تتحدث عن موضوعين، وأحيانا أكثر، فسورة البقرة تتحدث عن موضوعات كثيرة جدًا، وسورة الإخلاص تتحدث عن قضية، عن صفة الله أنه إله واحد، لا ندّ له، ولا نظير، تصمد له جميع الخلائق، لم يلد ولم يولد، فهذه السورة سورة المزمل تتحدث عن المزمل ﷺ، ولفظ المزمل يُشعر بأمر يتعلق بالنوم، وهو مطالب بأمر آخر يقوم به، تتحدث عن المزمل ﷺ وما شرع الله له من قيام الليل، وأثر هذا القيام المشروع، وتتحدث عما حصل من التخفيف بعد ذلك للمشقة التي اعترتهم بسبب هذا القيام وسبب هذا التخفيف، هذا الموضوع الأساس الذي تتحدث عنه هذه السورة.

يقول: سبب نزول سورتي المزمل والمدثر، السورة أحيانًا يكون لها سبب نزول نزلت جميعًا بسببه، والمقصود بسبب النزول هو ما نزلت الآية أو الآيات متحدثة عنه أيام وقوعه، يعني الآن سورة أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ [سورة الفيل:1] تتحدث عن قصة معينة، قصة أبرهة، أليس كذلك؟ لو قلنا لكم: ما سبب نزول سورة الفيل؟ الأخ يقول: سبب النزول هو مجيء أبرهة بالفيل، وأنه قصد مكة فنزلت السورة، الضابط الذي ذكرناه قبل قليل: ما نزلت السورة أو الآية أو الآيات متحدثة عنه أيام وقوعه، فهل هذا يصلح سبب نزول؟ قصة موسى ﷺ مع السحرة، ما سبب النزول؟ هل نقول: إن فرعون جاء بالسحرة فنزلت الآيات؟ لا، وإنما هذا يقال له: قصص القرآن، هو نوع آخر، فن، باب من أبواب القرآن يقال له: قصص القرآن.

لكن إذا كانت الآية تتحدث عن واقعة معينة كما في قوله تعالى: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ [سورة المجادلة:1]، فالسبب هو الواقعة المشهورة، يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ لِلّهِ وَالرَّسُولِ [سورة الأنفال:1]، ما نزلت الآية أو الآيات متحدثة عنه أيام وقوعه من واقعة، أو سؤال، أو حادثة صارت فنزلت الآيات تبين الموقف، أو السؤال سئل النبي ﷺ عن شيء فنزلت، هذا هو سبب النزول وبهذا نفرق بين قصص القرآن وبين أسباب النزول، انظروا ماذا يقول، يقول: سبب نزول سورتي المزمل والمدثر، لماذا قرن بينهما؟ نقول: من حيث المبدأ لا إشكال أن يتعدد النازل مع اتحاد السبب، والعكس صحيح، أحيانًا تقع أكثر من واقعة ويكون النازل واحداً.

مثال عليه: الآن وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ [سورة النور:6] في سورة النور آية اللعان ما سبب النزول؟ جاء هلال بن أمية إلى النبي ﷺ وسأله عن الرجل يجد رجلًا مع امرأته، فقال النبي ﷺ: البينة أو حدٌّ في ظهرك[1]، وجاء أيضًا عويمر العجلاني وسأل النبي ﷺ عن أمر وقع له من هذا، فنزلت الآيات.

كذلك: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ [سورة التحريم:1] صحت الروايات في أن ذلك كان بسبب الجارية، النبي ﷺ كان له جارية فوقع عليها فغضبت بعض زوجاته، وحصل ما حصل في القصة المشهورة، فنزلت الآيات، وصح أيضاً أن ذلك بسبب العسل الذي كان يشربه عند زينب بنت جحش، فتآمرت عليه حفصة وعائشة -رضي الله عنهما- فنزلت الآية: "لم تحرِّم"، فيقال: لا مانع من اجتماع هذا وهذا، إذا تقارب الزمان حكم بأن الآية أو السورة أو الآيات نزلت بعد الواقعتين، لكن الإشكال إذا كان هناك تباعد، مثل: صفْ لنا ربك، قاله المشركون في مكة، فأنزل الله: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [سورة الإخلاص:1]، وقاله اليهود في المدينة فأنزل الله: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ هنا نحكم بتعدد النزول، نقول: السورة أو الآية نزلت مرتين، هذا لا إشكال فيه.

وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ [سورة النحل:126]، جاءت روايات كثيرة جدًا أنها نزلت في يوم أحد بعدما قتل حمزة بن عبد المطلب ، مُثل به، فأراد النبي ﷺ أن ينتقم منهم، وأن يفعل بهم كما فعلوا، فنزلت الآية، وأيضًا ثبت أنها نزلت عام الفتح، فهناك في أُحُد، وفي الرواية الأخرى نزلت عام الفتح -فتح مكة، لما قال سعد بن عبادة وكانت معه راية الخزرج قال: الآن  -أو اليوم- ذهبت قريش، وهم متوجهون إلى مكة، فسمعها بعض أصحاب النبي ﷺ فعرفوا أن الرجل كان يريد قتلهم وإفناءهم وإراقة دمائهم، فأخذ النبي ﷺ الراية منه وأعطاها لابنه قيس، وأنزل الله : وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ [سورة النحل:126]، لاحظْ سنوات بين يوم أحد وفتح مكة.

يقول: سبب نزول سورتي المزمل والمدثر روى الحافظ أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار، صاحب المسند، عن جابر قال: اجتمعت قريش في دار الندوة فقالوا: سموا هذا الرجل اسمًا يصد الناس عنه، فقالوا: كاهن، قالوا: ليس بكاهن، قالوا: مجنون، قالوا: ليس بمجنون، قالوا: ساحر، قالوا: ليس بساحر، فتفرق المشركون على ذلك، فبلغ ذلك النبي ﷺ.

الآن هؤلاء الخصوم والأعداء للنبي ﷺ اجتمعوا من أجل أن يتوحد الموقف، وأن يعبِّروا بعبارة تنفر الناس تُنتقى بعناية، ويكون لها وقع في أسماعهم للتنفير من النبي ﷺ كما هو واقع في كل زمان ومكان، الأعداء يعتنون باختيار الوصف الذي يصفون به أهل الحق، فكانوا يقولون للنبي ﷺ كانوا يقولون: ابن أبي كبشة، وهو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم، وهم يعلمون أنه من أوسطهم نسباً، أي أشرفهم، من أين جاء ابن أبي كبشة هذا؟

 لا يوجد في نسب النبي ﷺ شيء من ذلك، ولم يكن ذلك لقباً للنبي ﷺ، لكن هذه اللفظة اختيرت بعناية، رجل له دعاوى عريضة يعرف الناس أنه مبطل، وإذا ذُكر ضحكوا يقال له: ابن أبي كبشة، فلما قال النبي ﷺ ما قال وقال: إنه يوحى إليه، وأنه أرسل إلى الناس، ألصقوا به هذا اللقب الذي له وقع في أسماعهم، فإذا ذُكر تذكروا الكذب والتقول والادعاء.

ثم هذا اللقب لا شك أنه بحروفه التي اختيرت لا شك أنه يؤثر تأثيرًا سلبياً وليس تأثيرًا إيجابيًا، ابن أبي كبشة، لاحظْ ما يقولون: محمد بن عبد الله، لا، ابن أبي كبشة، مثل ما يقول الكوثري عن ابن القيم، وابن القيم معروف، يسميه ابن زفيل، ما هذا اللقب؟ فيختارون ألفاظاً بمجرد السماع تنبو الأسماع عنها، وتنقبض النفوس، كما يوصف الإسلام اليوم من قبل أعدائه من الغرب بأنه دين الإرهاب، ورددوا هذا كثيرًا حتى صار يجري على بعض الألسن تنفيرًا من دين الله .

فالمقصود أنهم أرادوا أن يتفقوا على تعبير واحد يعبرون به جميعًا فبلغ ذلك النبي ﷺ فتزمل في ثيابه وتدثر فيها، ما معنى تزمل في ثيابه؟ التزمُّل والتدثُّر متقاربان، تزمَّلَ بمعنى التف في ثيابه، تزمل في ثيابه وتدثر فيها، وغالبًا ما يلجأ المغموم إلى النوم، مع أن الأطباء المعاصرين ممن يشتغلون بالطب النفسي يقولون: إن هذا يضر، النوم في حال الغم، ولا أظن هذا يصح، ومعلوم لدى الناس قديماً وحديثاً أن الإنسان إذا اغتم أطفأ ذلك الغم بالنوم، هذا معروف، وما ضر الناس، بل إن ذلك يؤثر في تخفيف الغم ونسيان المصيبة والذهول عنها، فيغيب فترة تستريح أعضاؤه وتعمل الخلايا التي تعمل في حال النوم في جسمه فيجد شيئاً من الراحة، لكن المشكلة حينما لا يجد الإنسان النوم بسبب المصيبة، هنا تكون القضية أشد وأصعب، فيبدو عليه أثر ذلك من الشحوب والإعياء فيتضاعف ذلك العناء عليه، والعامة معروف من أمثالهم أنهم يقولون: "إذا كثرت همومك فخذ من الأرض طولك"، يعني إذا كان طولك 160 سم، فمعناها إذا أخذت 160 سم من الأرض فأنت نائم، يعني تمدد على الأرض ونم.

فتزمَّلَ في ثيابه وتدثر فيها، فأتاه جبريل فقال: "يا أيها المزمل، يا أيها المدثر"، ثم قال البزار: مُعَلَّى بن عبدالرحمن قد حدث عنه جماعة من أهل العلم وتحملوا حديثه، لكنه تفرد بأحاديث لا يتابع عليها

لكن معلى بن عبد الرحمن هذا اتهمه بعضهم بالكذب، وهذه الرواية لو أن المؤلف أعرض عنها لكان ذلك أفضل، وهو قصَدَ ترْك الروايات الضعيفة ومشى على هذا في هذا الكتاب، لكنه لربما استأنس بهذا التعليق، وإلا فإن معلى بن عبد الرحمن قد اتهمه بعض الأئمة بالكذب، فالرواية إذن غير صحيحة، وبالتالي ما بنى عليها من الحكم من أنها نزلت بعد هذه القضية يكون غير مقبول.

هو يقول: إن المشركين اجتمعوا فحصل كذا وكذا، وبالتالي نزلت هذه السورة، أو صدر هذه السورة، ولابدّ من البحث عن سبب آخر، فإن وُجدَ وإلا تكون كعامة القرآن حيث إنه نزل من غير سبب؛ لأن آيات القرآن وسور القرآن على قسمين: منها ما نزل بسبب، ومنها ما نزل ابتداء من غير سبب، فإن لم نجد سببًا صحيحًا -رواية صحيحة- فإننا نحكم بأن هذا مما نزل ابتداءً.

سورة المدثر نزلت بسببٍ وهو ما كان يلقاه النبي ﷺ حينما فاجأه الوحي جبريل -عليه الصلاة والسلام- فخاف خوفًا شديدًا فجاء إلى أهله وقال: دثروني، دثروني، أو زملوني، فأنزل الله: يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ ۝ قُمْ فَأَنذِرْ [سورة المدثر:1، 2] فكانت أول سورة نزلت في النبوة صدر اقرأ، ثم نزلت سورة المدثر قبل تمام اقرأ، وذلك بعد أن رجع النبي ﷺ ترعد فرائصه من الخوف، فنُبئ النبي ﷺ باقرأ، وأرسل بالمدثر.

فلا يبعد أن يكون ذلك نزل يعني يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ [سورة المزمل:1] في ابتداء الوحي، حيث كان النبي ﷺ يلقى ما يلقى حتى حصل له الأنس بجبريل -عليه الصلاة والسلام، ربما تكون نزلت لهذا السبب، ولكن ليس عندنا رواية قاطعة أو صحيحة ثابتة نستطيع أن نعتمد عليها، غاية ما عندنا أن هذه السورة من أوائل السور، النبي ﷺ كان يلقى ما يلقى حينما رأى الملَك وما اعتاد عليه، فربما كان لهذا السبب، وربما نزلت ابتداء، يا أيها المزمل.

في قوله: يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ ۝ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا ۝ نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا [سورة المزمل:1-3]، قال: يأمر تعالى رسوله ﷺ أن يترك التزمل وهو التغطي في الليل

تحديده بالليل خاصة هل عليه دليل؟ من حيث اللغة: لا، يتزمّل أي يلتحف، يتدثر بغطاء ليلًا أو نهارًا، وخصه الحافظ ابن كثير هنا بالليل؛ لأنه قال: قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا، فمعنى ذلك أنه قال له: يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ ۝ قُمِ اللَّيْلَ معناه أنه كان متزملًا في الليل.

 أن يترك التزمل وهو التغطي في الليل، وينهض إلى القيام لربه كما قال تعالى: تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ [سورة السجدة:16]، وكذلك كان ﷺ ممتثلاً ما أمره الله به من قيام الليل، وقد كان واجباً عليه وحده، كما قال تعالى: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا [سورة الإسراء:79]

هذا سيأتي الكلام عليه، هل نسخ؟ هل كان واجبًا على الأمة جميعًا مع النبي ﷺ كما سيأتي في بعض الروايات أنهم قاموا حولًا كاملًا حتى تورمت أقدامهم، فخفف الله عنهم في آخر السورة كما سيأتي.

فمن أهل العلم من يقول: كان واجباً على النبي ﷺ وعلى الأمة، أما النبي ﷺ فقوله: قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا الأصل أن الأمر للوجوب إلا لصارف، والصحابة الروايات دلت على أنهم قاموا معه حتى تورمت أقدامهم فخفف عنهم، ثم إنه علّل التخفيف بـ عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرْضَى وَآخَرُونَ [سورة المزمل:20] فدل على أنهم كانوا مشتركين معه ﷺ في الحكم، فبيّن علة التخفيف: فيهم المريض، وفيهم الذي سيجاهد، وبالمناسبة هذا مما له تعلق بما نزل قبل شرع الحكم، وإن كانت هنا في المستقبل، ما كان هناك جهاد في مكة، لكنه يخبر عن أمر الغيوب.

وبعض أهل العلم يقول: كان واجباً على النبي ﷺ وعلى الأمة، فنسخ الوجوب على الأمة، وبقي على النبي ﷺ بما ذكر، نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا ۝ أَوْ زِدْ عَلَيْهِ [سورة المزمل:4] ثم بعد ذلك جاء التخفيف.

وبعض أهل العلم يقول: نسخ في حق النبي ﷺ وفي حق الأمة، ويستدلون بنفس الآية التي ذكرها ابن كثير هنا، وهي قوله: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ [سورة الإسراء:79]، فعلى أحد التفسيرات المشهورة للآية: فتهجد به نافلة أي غير فريضة؛ لأن النبي ﷺ غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وبيّن ذلك علة هذا التعبد بقيام الليل بالنسبة للنبي ﷺ: عَسَى أَن يَبْعَثَكَ [سورة الإسراء:79] وعسى من الله واجبة، يقولون: الكبير العظيم قد لا يقول: سأفعل لك كذا، يقول: عسى أن أحقق مطلوبك، لو قالها معناها أنه سيحقق لك ما أردت، عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا وهو الشفاعة العظمى.

والنبي ﷺ كان يقوم الليل حتى تتفطر قدماه، فلما سألته عائشة عن ذلك قال: أفلا أكون عبدًا شكورًا؟[2]، فقد يقال: إن جواب النبي ﷺ: أفلا أكون عبدًا شكورًا عن قيامه الليل، وقد يكون الجواب ليس عن قيامه الليل وإنما عن هذا الاجتهاد العظيم حتى تتفطر قدماه، سألته كيف يفعل ذلك وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟ قال: أفلا أكون عبدًا شكورًا؟ أما غيره فإنه كما قال الله وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ [سورة هود:114]، فنحن نقوم الليل لأننا بحاجة إلى رفع الدرجات وزيادة الحسنات، وبحاجة إلى غفران الذنوب.

يقول: وهاهنا بيّن له مقدار ما يقوم فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ ۝ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا، قال ابن عباس والضحاك والسدي: يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ يعني يا أيها النائم.

يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُيعني يا أيها النائم، هذا تفسير باللازم، وليس تفسيراً بالمطابق، وعلى توسع في استعمال لفظة اللازم، يعني المطابق أنّ معنى كلمة المزمل يساوي في لغة العرب النائم، هل هذا التفسير في اللغة؟ كل نائم نسميه مزملاً؟ لا، وإنما هو المدثر بثيابه، الملتف بالثياب، المقصود بالثياب ما هو هذا، الغطاء يقال له: ثوب، فإن من يفعل ذلك عادة النائم، لاسيما أنه في الليل، فالله يقول له: قُمِ اللَّيْلَ، الإنسان متلفف بثيابه وملتحف وفي الليل معناها أنه نائم غالباً، قال: يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ يعني يا أيها النائم.

وقال قتادة: المزمل في ثيابه.

هنا فسرها بالمطابق، المزمل هو الملتف بثيابه، وهكذا المفسرون -رحمهم الله تعالى- من السلف، حيث إنهم يفسرون الآيات تارة بالمطابق، وتارة باللازم كما في التفسير الذي قبله، وتارة بالمثال، وتارة يفسرونها بما يقرب المعنى فقط، وإذا فتشت في أقاويلهم ونظرت فيها تستطيع بإذن الله  أن تتخلص مما يقرب من النصف مما يدخل في هذا الباب، العبارات التي فسروا فيها بالمثال أو بالمطابق أو باللازم مرة، ومرة بعبارة تقرب المعنى، نتخلص من كثير من الخلاف.

وإذا نظرنا إلى النصف الثاني من الخلاف في التفسير وهو الخلاف الحقيقي نستطيع أن نجمع نصفه تقريبًا بطريقة أو بأخرى تلتئم فيها الأقوال، وتجتمع تحت الآية، فلا يبقى عندنا من الخلاف الحقيقي إلا القليل، بدلاً من أن يكون الاشتغال بـ قال فلان، وقال فلان.

الآن هذه الأشياء التي نقرأ فيها لو تنظرون في أقوال المفسرين التي يُعنى بها من يشقق الأقوال كتفسير زاد المسير مثلًا، وأمثال هذا الكتاب من الكتب التي تُعنى بتكثير الأقوال ربما يتحير القارئ ما هو القول؟ فالتفسير يحتاج إلى ذوق، ويحتاج إلى نفَس، ويحتاج إلى روية وتأنٍّ، ينظر فيها الإنسان لهذه الأقاويل ويلائم بينها، وينظر المفترق والمتفق، ويحاول أن ينزل الآية على المعاني الصحيحة.

يقول: المزمل هو المزمل في ثيابه، هذا تفسير، الحاصل أنه قيل: إن النبي ﷺ كان يفعل ذلك في أول الوحي -في ابتداء الوحي- بسبب الفرَق والخوف حينما كان يأتيه الملك، وذُكرت أقوالٌ أخرى نشير إليها فقط من أجل لفت النظر للفرق.

بعضهم يقول: يا أيها المزمل بالنبوة، وبعضهم يقول: يا أيها المزمل بالقرآن، يا أيها المزمل بالوحي، وهذه الأقوال كقول بعضهم: يا أيها المزمل بالرسالة، هذه أقوال لا يدلّ عليها ظاهر الكلام، والقرآن يجب حمله على ظاهره المتبادر دون معنى خفي بعيد إلا لدليل يجب الرجوع إليه، وما الذي ألجأ هؤلاء إلى مثل هذا التكلف في الأقوال؟

الذي ألجأهم هو: العجمة تارة، وتارة ما يتوهمونه من النقص في المعاني السابقة، "تدثر"، والله يقول له: قُمِ اللَّيْلَ فيقولون: النبي ﷺ ليس بحاجة إلى هذا، إذاً ما هو المزمل؟ قالوا: المزمل بالرسالة، المزمل بالنبوة، ما كان نائماً -عليه الصلاة والسلام، قلنا: لا نقص في تلك المعاني، النبي ﷺ بُعث حديثًا، والله  يوجهه إلى أمر يعينه على تحمل أعباء الرسالة إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا [سورة المزمل:5] فلا غرابة في هذا، ولا إشكال، فأحيانًا يذهب وهم المفسر إلى معنى يرى أنه غير لائق بالنبي ﷺ فيتكلف بحمل الآية على غير ما تحتمله.

  1. رواه البخاري، كتاب الشهادات، باب إذا ادعى أو قذف فله أن يلتمس البينة، وينطلق لطلب البينة، برقم (2671).
  2. رواه البخاري، كتاب التهجد، باب: قيام النبي ﷺ الليل حتى ترِم قدماه، برقم (1130)، ومسلم، كتاب صفات المنافقين وأحكامهم، باب إكثار الأعمال والاجتهاد في العبادة، برقم (2820).

مواد ذات صلة