الأحد 22 / جمادى الأولى / 1446 - 24 / نوفمبر 2024
[3] من قوله تعالى: {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ} الآية:6 إلى قوله تعالى: {وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَّهِيلًا} الآية:14
تاريخ النشر: ١٦ / رجب / ١٤٣٥
التحميل: 5665
مرات الإستماع: 5931

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا.

وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي: حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري حدثنا أبو أسامة حدثنا الأعمش أن  أنس بن مالك قرأ هذه الآية: إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَصْوَبُ قِيلًا [سورة المزمل:6] فقال له رجل: إنما نقرؤها "وأقوم قيلًا"، فقال له: إن أصوب وأقوم وأهيأ وأشباه هذا واحد.

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فهذا النص الذي سمعتم يعبر هكذا، ما هي الإشكالات؟ ما في خلاف، فما هو وجهه؟ الرواية ما هي؟

"وأصوب قيلًا" هكذا الرواية، فلهذا يقول الرجل: إنما نقرؤها "وأقوم قيلًا"، وليست "وأصوب"، فقال له: إن أصوب وأقوم وأهيأ وأشباه هذا واحد.

ما استوقفكم هذا؟ كيف تقرءون مثل هذه الأشياء؟ كيف تمر عليكم؟ ما تقفون عندها؟ أصوب وأقوم وأهيأ واحد، هي فوضى؟ هل كل من أراد أن يقرأ شيئًا يقرأ على مزاجه؟ هذا قرآن لا يجوز زيادة حرف ولا نقص حرف منه فيبدل كلمة مكان كلمة إذا اعتقد أن المعنى واحد، يجوز لك هذا؟ والْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ۝ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [سورة الفاتحة:2، 3] تقول: الثناء والشكر مثلًا على تفسير الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ هل هذا صحيح؟ ما يصح هذا أبدًا، ولا يجوز بحال من الأحوال، هذه الرواية لا تصح، وهي منكرة متنًا وضعيفة إسنادًا، رواية الأعمش عن أنس، ولم يسمع منه، والمتن منكر، لا يجوز لأحد أن يبدل كلمة مكان كلمة، والقراءة سنة متبعة ليس لأحد أن يتصرف فيها.

ولهذا قال تعالى: إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا [سورة المزمل:7] قال ابن عباس وعكرمة وعطاء بن أبي مسلم: الفراغ والنوم.

وقال أبو العالية ومجاهد وأبو مالك والضحاك والحسن وقتادة والربيع بن أنس وسفيان الثوري: فراغًا طويلًا.

وقال قتادة: فراغًا وبغية ومتقلبًا، وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله تعالى: إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا قال: لحوائجك فأفرِغْ لدينك الليل.

الآن أمره الله بقيام الليل ثم قال له: إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا وهذا السبح فُسر بالفراغ والنوم، لك في النهار فراغ ونوم، وبعضهم يفسر السبح بالنوم، ويقول: السبح التمدد، سبح: تمدد، فالسبح هو النوم، هكذا قال بعض أئمة اللغة، إن لك فراغًا ونومًا، ما المقصود إذاً على هذا القول؟ يقول: اشتغل بالليل أحي الليل قراءة وصلاة، ولك في النهار مجال واسع تنام فيه وتستريح، هذا قاله بعض أهل العلم من السلف.

فراغًا طويلًا، فراغًا وبغية ومتقلباً، أو قول من قال: تصرفًا في حوائجك وإقبالًا وإدبارًا في تصريف شئونك وتدبير مصالحك الدنيوية، كل هذه الأقاويل هل بينها تعارض؟

الجواب: لا، إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا السبح أصله في اللغة يطلق على الدوران والحركة والمضي، وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [سورة يس:40]، ومنه السباحة فالإنسان الذي يسبح يمضي في الماء ويتحرك فيه، يحرك فيه يديه ورجليه، فالسباحة تعتمد على الحركة، فهذا السبح الطويل المقصود به التصرف في الشئون، وهذا التصرف في الشئون لا شك أنه يتطلب تفرغًا، كيف يتصرف في شئونه وهو مشغول؟

فقول من قال بأن المراد به الفراغ لا يعارض قول من فسره بالتصرف والتقلب في مصالحه وشئونه؛ لأنه إذا انشغل عن ذلك لا يستطيع، كما قال الله عن فقراء المهاجرين واصفاً إياهم: لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ [سورة البقرة:273] بمعنى حصروا أنفسهم على الراجح من المشهور من معناها، وهو اختيار كبير المفسرين ابن جرير الطبري -رحمه الله، حصروا أنفسهم فشغلوا بالجهاد فلم يعد لهم وقت للاشتغال بالتجارة، فصاروا بهذه الحالة من الفقر، وقد تركوا كل شيء وراء ظهورهم في مكة ليس للواحد إلا إزار فقط، وليس له رداء، جاهز للجهاد ينتظر متى ينادي المنادي فيخرج يقاتل أعداء الله ، فهذا شُغل عن التجارة.

إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا: فراغًا طويلًا تتقلب فيه في شئونك ومصالحك وتدبير حوائجك، هذا هو المعنى -والله تعالى أعلم، وبعضهم ارتقى فوق ذلك درجة -والناس مقامات- ففسرها بشيء آخر قال: إنْ فاتك شيء من ورد الليل فلك وقت في النهار يمكن أن تعوضه فيه، هم يدورون بالعبادة، لك سبحًا طويلًا في النهار تعوض ما فات من ورد الليل، هؤلاء مثل الذين فسروا قوله -تبارك وتعالى: فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ[سورة الجمعة:10]، المشهور أن وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ يعني في التجارة، ولهذا ابن حزم ذهب إلى وجوب الخروج من المسجد بعد صلاة الجمعة أخذًا من هذه الآية، لكن بعضهم ذهب إلى أبعد من هذا، فقال: فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ بعيادة المريض واتباع الجنائز وما أشبه ذلك من ألوان العبوديات.

قال: وهذا حين كانت صلاة الليل فريضة، ثم إن الله -تبارك وتعالى- منّ على عباده فخففها ووضعها، وقرأ: قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا [سورة المزمل:2] إلى آخر الآية، ثم قرأ: إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ [سورة المزمل:20].

هذه الرواية عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وهو يصرح فيها أن الذي نسخ قيام الليل المأمور به في صدرها قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا هو قوله: إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ؛ لأن العلماء -رحمهم الله- مختلفون ما الذي نسخها هل هي الفروض الخمسة حينما فرضت على الناس؟ أو أن الذي نسخها آيات من آخرها؟ وما هو الجزء الذي نُسخت به؟

القول الأول: إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وهذا هو المشهور، من هنا نُسخ صدر هذه السورة، ولا يُعلم في القرآن أن سورة نُسخ أولها بآخرها سوى هذه.

يبقى الخلاف ما هو الموضع من آخرها الذي نسخ أولها، وهذا لا يؤثر ولا يفترق به الحكم، قال: حتى بلغ فاقرءوا ما تيسر منه.

وقال تعالى: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا [سورة الإسراء:79] وهذا الذي قاله كما قاله.

وبعضهم يقول: إن الذي نسخها هو الفروض الخمسة، وبعضهم يقول: إن القدر الناسخ أو الشاهد هو قوله: عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ [سورة المزمل:20] يعني تحصوا الليل -وسيأتي معناها- قالوا: هذا هو الناسخ.

والدليل عليه ما رواه الإمام أحمد في مسنده عن سعيد بن هشام: "أنه طلق امرأته ثم ارتحل إلى المدينة ليبيع عقارًا له بها، ويجعله في الكراع والسلاح.

يعني هذا الرجل سعيد بن هشام بن عامر طلق الدنيا، وأراد أن يلتحق بالجهاد، فيجاهد الروم حتى يقتل ويموت شهيدًا في سبيل الله، فأول ما بدأ به أن طلق امرأته، ثم ارتحل ليبيع عقارًا في المدينة؛ ليتزود به للجهاد.

والكراع يعني المراكب، يشتري بعيراً، يشتري راحلة، دابة، هذا الكراع.

ثم يجاهد الروم حتى يموت، فلقي رهطًا من قومه فحدثوه أن رهطًا من قومه ستة أرادوا ذلك على عهد رسول الله ﷺ فقال: أليس لكم فيّ أسوة حسنة؟[1]، فنهاهم عن ذلك، فأشهدهم على رجعتها.

أي لما أُخبر بهذا أن النبي ﷺ كان يجاهد، ومع ذلك له تسع زوجات أو مات عن تسع زوجات، وكان ﷺ له مساكن لأزواجه، ولم يُعرض إعراض هذا عن الدنيا فيذهب ليقاتل حتى يموت، فالرجل عندما سمع هذا الكلام راجع امرأته بعد أن طلقها.

ثم رجع إلينا فأخبرنا أنه أتى ابن عباس فسأله عن الوتر فقال: ألا أنبئك بأعلم أهل الأرض بوتر رسول الله ﷺ؟ قال: نعم، قال: ائتِ عائشة فسلها ثم ارجع إليّ فأخبرني بردها عليك، قال: فأتيت على حكيم بن أفلح فاستلحقته إليها.

يعني قال: امشِ معي إلى عائشة، رافقني إلى عائشة.

فقال: ما أنا بقاربها إني نهيتها أن تقول في هاتين الشيعتين شيئًا.

يعني أهل الشام وعلياً ومن معه ، يقول لها: لا تدخلي في هذا الموضوع.

فأبت فيهما إلا مضيًا، فأقسمتُ عليه فجاء معي فدخلنا عليها، فقالت: حكيم؟ وعرفته، قالت: من هذا الذي معك؟ قال: سعيد بن هشام، قالت: من هشام؟ قال: ابن عامر، قال: فترحمت عليه، وقالت: نعم المرء كان عامرًا، قلت: يا أم المؤمنين أنبئيني عن خُلق رسول الله ﷺ، قالت: ألست تقرأ القرآن؟ قلت: بلى، قالت: فإن خلق رسول الله ﷺ كان القرآن، فهممت أن أقوم ثم بدا لي قيام رسول الله ﷺ، قلت: يا أم المؤمنين، أنبئيني عن قيام رسول الله ﷺ، قالت: ألست تقرأ هذه السورة: يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ؟ قلت: بلى، قالت: فإن الله افترض قيام الليل في أول هذه السورة فقام رسول الله ﷺ وأصحابه حولًا حتى انتفخت أقدامهم، وأمسك الله خاتمتها في السماء اثني عشر شهرًا، ثم أنزل الله التخفيف في آخر هذه السورة، فصار قيام الليل تطوعًا من بعد فريضة.

وأمسك الله خاتمتها في السماء اثني عشر شهرًا، ثم أنزل الله التخفيف في آخر هذه السورة، فصار قيامالليل تطوعًا، يعني الآن هذه الرواية من عائشة -رضي الله عنها، ومصرحة بأنها نسخت بآخرها، وهذا لا يعارض القول الذي قبله.

ثم أنزل الله التخفيف في آخر هذه السورة.

هذه تفيد أنهم قاموا سنة، والفروض الخمسة متى فرضت؟ سورة المزمل من أول ما نزل، متى كان الإسراء؟ لم يكن في أوائل البعثة بل كان في أواخر المدة المكية أُسري برسول الله ﷺ، وبعضهم يقول: قبل الهجرة بسنة، وبعضهم يقول غير ذلك، لكن لا شك أن الإسراء والمعراج في أول البعثة، فكيف يقال: إن الذي نسخ قيام الليل هو الفروض الخمسة؟ هذا بعيد، بقيت سنة واحدة فنسخت بآخرها، وفيها تصريح بأن هذه السورة لم تنزل جملة واحدة، وإنما نزل أولها ثم نزل آخرها، وبعض سور القرآن قد ينعكس فيها هذا الأمر -على الأقل على بعض الأقوال- ينزل آخر السورة ثم ينزل أولها.

الآن في قوله -تبارك وتعالى- في سورة الممتحنة: فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ [سورة الممتحنة:10] هذا في آخر السورة، في النصف الثاني من السورة، نزل هذا بعد صلح الحديبية مباشرة بفترة يسيرة، وصلح الحديبية كان في السنة السادسة للهجرة، وأول السورة نزل في قصة حاطب، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء [سورة الممتحنة:1]، قصة حاطب كانت والنبي ﷺ يتهيأ لفتح مكة في السنة الثامنة، هذا على الأشهر، فعلى هذا القول يكون النصف الثاني من السورة نزل قبل النصف الأول، وهناك قول غير هذا لبعض أهل العلم ويستدلون عليه بأدلة يقولون: أول السورة وقصة حاطب لم تكن في فتح مكة، وإنما حينما كان ﷺ يتهيأ للذهاب إلى مكة في السنة السادسة التي وقع فيها الصلح، لكن هذا فيه إشكالات.

وأمسك الله خاتمتها في السماء اثني عشر شهرًا، ثم أنزل الله التخفيف في آخر هذه السورة، فصار قيام الليل تطوعًا من بعد فريضة، فهممت أن أقوم ثم بدا لي وتر رسول الله ﷺ فقلت: يا أم المؤمنين، أنبئيني عن وتر رسول الله ﷺ قالت: كنا نعد له سواكه وطهوره فيبعثه الله لما شاء أن يبعثه من الليل فيتسوك ثم يتوضأ ثم يصلي ثماني ركعات ولا يجلس فيهن إلا عند الثامنة، فيجلس ويذكر ربه تعالى ويدعو ثم ينهض وما يسلم، ثم يقوم ليصلي التاسعة، ثم يقعد فيذكر الله وحده ثم يدعوه ثم يسلم تسليمًا يُسمعنا، ثم يصلي ركعتين وهو جالس بعدما يسلم، فتلك إحدى عشرة ركعة يا بني، فلما سنّ رسول الله ﷺ وأخذه اللحم أوتر بسبع ثم صلى ركعتين وهو جالس بعدما يسلم، فتلك تسع يا بني، وكان رسول الله ﷺ إذا صلى صلاة أحب أن يداوم عليها، وكان إذا شغله عن قيام الليل نوم أو وجع أو مرض صلى من النهار ثنتي عشرة ركعة.

بناء على أنه كان يصلي إحدى عشرة ركعة لكنه لا يوتر في النهار.

ولا أعلمُ نبيَّ الله ﷺ قرأ القرآن كله في ليلة حتى أصبح، ولا صام شهرًا كاملًا غير رمضان، فأتيت ابن عباس فحدثته بحديثها فقال: صدقتْ، أما لو كنت أدخل عليها لأتيتها حتى تشافهني مشافهة[2]، هكذا رواه الإمام أحمد بتمامه، وقد أخرجه مسلم في صحيحه بنحوه.

هذا الحديث فيه فوائد كثيرة، والشاهد مضى وهو في فريضة قيام الليل ثم نسخت في آخرها، هذا هو الشاهد، وإلا فحتى قضية المشافهة مسألة تتعلق بعلوم الحديث، بالرواية، وطلب العلو في الإسناد.

وروى ابن جرير عن أبي عبد الرحمن قال: لما نزلت يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قاموا حولًا حتى وَرِمتْ أقدامهم وسُوقهم حتى نزلت: فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ قال: فاستراح الناس، وكذا قال الحسن البصري والسدي.

يمر كثيرًا في التفسير عن أبي عبد الرحمن، فمن هو؟ هو السلمي قال: لما نزلت يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قاموا حولًا، هذا يوافق رواية عائشة -رضي الله عنها: حتى نزلت: فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وعلى هذا يكون الناسخ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ ولا إشكال، هذا جزء من آخرها.

الحسن وابن سيرين يقولان: إن قيام الليل واجب، وعلى قولهما ما الذي نُسخ؟ هو المقدار، قم الليل إلا قليلًا نصفه أو انقص منه قليلًا أو زد عليه، فالله قال: عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ يعني الليل كما سيأتي، وضبط المواقيت على هذا التفسير، فالحسن وابن سيرين يقولان بوجوب قيام الليل بناء على ماذا؟

يتفقان مع غيرهما في قضية النسخ، لكن قولهما يختلف، ومعناه أن النسخ وقع فقط في تحديد مقدار القيام فصار مفتوحًا، قالوا: لم ينسخ إلى الترك مطلقًا أو إلى غير بدل، وإنما نسخ بهذا القيد فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ فقالوا: يجزئه في قيام الليل قدر حلب شاة، وقت يسير، فمعنى ذلك أنه لو صلى وأوتر بعد العشاء فإن ذلك يجزئه على قول الحسن وابن سيرين أخذًا من قوله: فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ، فالنسخ عندهما في المقدار فقط، أي تحديد الذي كان في أول السورة، وهذا خلاف قول الجمهور، ومما يقوي قول الجمهور ما جاء من الروايات، كيف استراح الناس؟ وكيف خفف عنهم؟ معنى ذلك أنه لم يعد واجبًا.

وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى: قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا ۝ نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا [سورة المزمل:2، 3] فشق ذلك على المؤمنين، ثم خفف الله تعالى عنهم ورحمهم، فأنزل بعد هذا: عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ [سورة المزمل:20]، إلى قوله تعالى: فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ فوسع الله تعالى وله الحمد، ولم يضيق.

فهذه الآن رواية رابعة تفيد أن الناسخ هو قوله: عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرْضَى.

وقوله تعالى: وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا [سورة المزمل:8] أي أكثِرْ من ذكره، وانقطع إليه، وتفرغ لعبادته إذا فرغت من أشغالك.

قال: وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا هنا ما فسر هذا القدر تحديدًا "واذكر اسم ربك" قال: أكثِرْ من ذكره، وهذا أقرب ما يكون إلى طريقة السلف في التفسير، حيث إنه لا يراعي كل لفظة فيأتي بما هو على وزانها، ويحلل هذه اللفظة، ويشققها، ثم بعد ذلك يقع في إشكالات، "واذكر اسم ربك"، الله يقول: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ [سورة الأعلى:1] يعني سبح ربك ذاكرًا اسمه، أو نزه اسمه، هذا المقصود، هل المقصود تنزيه الله أو تنزيه الاسم؟ "سبح اسم ربك"، وهنا: "واذكر اسم ربك".

بعضهم يقول: هذا في ابتداء الصلاة المقصود وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ أي في ابتداء صلاتك، وبعضهم يقول: وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ هو أمر بدعائه بأسمائه الحسنى وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا [سورة الأعراف:180]، "واذكر اسم ربك": أي إذا أردت أن تدعو فادع ربك ذاكرًا اسمه، قل: يا رب، يا الله، يا رحمن، و"اسم" هنا مفرد مضاف، "اسم ربك"، والمفرد إذا أضيف فإن الإضافة تكسبه العموم، كأنه قال: واذكر أسماء ربك في استفتاح الصلاة عند الدعاء والإنسان يدعو أو غير ذلك من المعاني، كقول بعضهم: دُم على ذكره ليلًا ونهارًا، مثل قول  ابن كثير هنا: أكثِرْ من ذكره.

أو يكون المقصود: "واذكر اسم ربك" المراد الذكر بمعنى الاستحضار الذي ينافي الغفلة في مقامات الوعد والوعيد، أي يكون القلب حاضرًا ذاكرًا لله غير غافل، فهو في مقامات يرجو ما عند الله، ويحتسب في أعماله الصالحة، وفي مقامات يتذكر عذاب الله فيرعوي ويكف عما لا يليق، وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ فالله لم يحدد لونًا من ألوان الذكر، وإنما قال: وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ فيدخل فيه الإكثار من اللهج بذكر اسمه ، وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ.

وقد يدخل فيه أيضاً تنزيه هذا الاسم، وتنزيه المسمى به ، ودعاؤه، فيكون ذكر الله جاريًا على لسانه: سبحان الله، لا إله إلا الله، الحمد لله، لا حول ولا قوة إلا بالله، هذا كله من ذكر اسم الرب .

وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا تبتل تبتُّلًا أو تبتيلًا؟ إذا أردت أن تذكر المصدر فإنك تقول: تبتل تبتُّلًا، لكنه عدل عنه هنا، قال: "وتبتل إليه تبتيلًا"، وأصل التبتُّل الانقطاع، ومنه مريم البتول -رحمها الله- إما لأنها منقطعة عن نظائرها من نساء العالمين، ليس لها نظير، وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ [سورة آل عمران:42]، أو لأنها منقطعة عن الأزواج، أو لأنها منقطعة لعبادة الله ، كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً [سورة آل عمران:37]، والمقصود بالمحراب مكان العبادة، فالتبتُّل معناه الانقطاع، نهى النبي ﷺ مثلًا عن التبتل، يعني الانقطاع عن الدنيا بترك التزوج، وما أشبه ذلك.

وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا كلمة "تبتيلًا" على وزن تفعيلا تدل على الكثرة، فذكر الفعل "تبتل" ليدل على التعمل والتدرج، وربما التكلف، و"تبتيلًا" يدل على المبالغة، فعبر بهذا وهذا، بالفعل وبهذه الصيغة من المصادر "تبتيلًا" الدالة على الكثرة.

قال تعالى: فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ [سورة الشرح:7] أي: إذا فرغت من أشغالك فانصب في طاعته وعبادته؛ لتكون فارغ البال، قاله ابن زيد بمعناه أو قريب منه، قال ابن عباس ومجاهد وأبو صالح وعطية والضحاك والسدي: وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا أي أخلص له العبادة.

فسر التبتيل هنا بمعنى الإخلاص، وهذا لا إشكال فيه؛ لأنه إذا كان مخلصًا فمعناه أنه لا يلتفت لغير الله ، وإنما ينحصر قصده ووجهته في طلب مرضاة الله فينقطع عن غيره، هذا وجه تفسيره بالإخلاص، فلا إشكال فيه، تبتيل إليه تبتيلًا: انقطع لعبادته.

وقال الحسن: اجتهد وأبْتِلْ إليه نفسك.

وأبتلْ إليه نفسك يعني انقطع لعبادته، حينما نقول: التبتل والبتل وما أشبه ذلك يدل على الانقطاع لا نقصد الانقطاع بمعنى الإبانة والبتر، إنما الانقطاع معناه أنه يداوم على هذا ويستمر، ولا يلتفت إلى شيء آخر، أي يعتكف على تحقيق هذا المعنى، هذا معنى الانقطاع، وليس معناه ما قد يتوهم، ولا زال الناس يستعملون مثل هذا المعنى إلى اليوم، أنت إذا أردت أن تصف للإنسان طريقًا وأن يستمر عليه تقول له: بَتِّل، أي لا تلتفت ولا تتوقف ولا تنحرف يمنة ولا يسرة، وإذا أراد الدوام قال: بَتْلة يعني دائمًا، هذا مستعمل، فهذا المقصود بالانقطاع، يقولون: انقطعَ لهذا العمل بمعنى أنه كرس جهده فيه، فلان منقطع لعبادة الله أي مشمر فيها ومستمر.

ومنه الحديث المروي: نهي عن التبتُّل يعني الانقطاع إلى العبادة وترك التزوج، وقوله تعالى: رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا أي: هو المالك المتصرف في المشارق والمغارب الذي لا إله إلا هو.

هذه فيها قراءتان متواترتان: وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا ۝ رَبِّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ "ربِّ" بالكسر فتكون عائدة إلى "ربِّك"، أي واذكر اسم ربِّك ربِّ المشرق والمغرب، تكون "ربِّ" عائدة إلى "ربِّك"، وقراءة الرفع "ربُّ المشرق والمغرب" أي واذكر اسم ربِّك وتبتل إليه تبتيلًا هو ربُّ المشرق والمغرب، أو ربُّ المشرق والمغرب وخبره لا إله إلا هو، إذاً فيها قراءتان متواترتان بالرفع والجر، وهناك قراءة غير متواترة مروية عن ابن عباس وابن مسعود: رب المشارق والمغارب فاتخذه وكيلًا.

سؤال: هل بين القراءتين فرق؟ أعني المشارق والمشرق؟

بعض القراءات من حيث المعنى يكون بينها فروق، وأحيانًا لا يوجد فرق، فهنا من جهة المعنى لا يوجد فرق؛ لأن المشرق جنس والجنس يعبر به عن القليل والكثير، فرب المشرق يمكن أن يُأخذ منه "رب المشارق"؛ ولهذا في بعض المواضع في القرآن رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ كما هنا، وفي بعضها يذكر المشارق والمغارب، وفي بعضها يقول بالتثنية رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ [سورة الرحمن:17] فذَكَرَ المفرد والمثنى والجمع، فالآن يأتي السؤال لماذا يعبر تارة بالجمع وتارة بالمفرد أو المثنى؟ ما الفرق بين المشرقين والمشرق والمشارق؟ بماذا توجه هذه الصيغ؟

يمكن أن يقال: مشرق الشمس ومغربها مثلًا، أو الجهة جهة المشرق وجهة المغرب، و"رب المشرقين ورب المغربين" المشرقان: يمكن أن يقال: الشمس والقمر، والمغربان: مغرب الشمس والقمر، ويمكن أن يقال: الشمس لها أقصى جهة في المشرق في الشتاء، وأقصى جهة في الصيف درجة الانحراف، ومعلوم أن الشمس لا تنطلق دائماً من نقطة واحدة من الشرق إلى الغرب، وإنما تتحرك في الشتاء والصيف؛ لتعمّ أكبر قدر من مساحة الأرض، فأقصى نقطة في الصيف وأقصى نقطة في الشتاء فهذان مشرقان، وكذلك في الغروب، فهذا وجه "رب المشرقين ورب المغربين"، ورب المشارق والمغارب يمكن أن يقال: مشارق الكواكب والنجوم، ومغاربها، فيدخل فيها الشمس والقمر وغير ذلك، ويمكن أن يقال باعتبار التعدد، فهي تنتقل درجة درجة من الشتاء إلى الصيف، فهذه المتعددة على الأيام والليالي هي مشارق، وكذلك في الغروب، رب المشارق والمغارب.

وكما أفردتَه بالعبادة فأفرده بالتوكل، فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا [سورة المزمل:9]، كما قال تعالى في الآية الأخرى: فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ [سورة هود:123]، وكقوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [سورة الفاتحة:5]، وآيات كثيرة في هذا المعنى فيها الأمر بإفراد العبادة والطاعة لله، وتخصيصه بالتوكل عليه.

قوله: فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا [سورة المزمل:9] أي معتمَدًا وملاذًا وملجأ تفوض إليه أمورك، فتركن إليه وحده لا لأحد سواه، وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ [سورة المائدة:23]، وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ [سورة الفرقان:58].

الأمر بالصبر على أذى الكفار، وبيان ما لهم عليه:

وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا [سورة المزمل:10] يقول تعالى آمرًا رسوله ﷺ بالصبر على ما يقوله مَنْ كذّبه من سفهاء قومه، وأن يهجرهم هجرًا جميلًا، وهو الذي لا عتاب معه.

الآن وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ يعني مما تكره كقولهم: كاهن، مجنون، ساحر، كذاب، وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا اهجرهم: الهجر هو الترك والمباعدة، والهجر الجميل هو الذي لا أذى معه ولا عتاب فيه.

وبعض أهل العلم يقول: إن هذه الآية منسوخة بآية السيف، على عادتهم يقولون: إن آية السيف وهي الآية رقم خمسة من سورة التوبة فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ [سورة التوبة:5] يقولون: هذه الآية نسخت مائة وأربعاً وعشرين آية، كل آية تُشعر بالصفح والعفو والمغفرة والإعراض منسوخة بآية السيف، ليس لهم إلا السيف، هذا قال به طوائف من أهل العلم من السلف ولكنه قول مرجوح، وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا هم قالوا: إنه لا مجال لتركهم وهجرهم والإعراض عنهم.

والأقرب -والله أعلم- أنها مراحل، فيُعمل بها في أوقات الضعف، وأزمنة الفترة، وفي وقت القوة يعمل بآية السيف، ولم يُنسخ شيء من ذلك، والله تعالى أعلم، وقد بالغوا في دعوى النسخ حتى إن بعضهم قال: إن آية السيف نسخت قوله تعالى: أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ [سورة التين:8] قالوا: هذه منسوخة بآية السيف، لماذا منسوخة؟ قالوا: إن معنى أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ: دعهم لحكم الله يحكم فيهم ليس عليك إلا بلاغ الدعوة فقط والله يتولاهم، وهذه الدعوى غير صحيحة.

ثم قال له متهددًا لكفار قومه ومتوعدًا -وهو العظيم الذي لا يقوم لغضبه شيء: وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ [سورة المزمل:11] أي دعني والمكذبين المترفين أصحاب الأموال، فإنهم على الطاعة أقدر من غيرهم، وهم يطالبون من الحقوق ما ليس عند غيرهم.

"وذرني والمكذبين أولي النعمة" ذرني بمعني اتركني ودعني، وهذا يقال للتهديد، دعني معهم أعاقبهم وأحلّ بهم نقمتي، فلا تكترث بهم، وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ خلِّ بيني وبينهم فأنا أكفيك أمرهم، وأتولى عقابهم، أُولِي النَّعْمَةِ بفتح النون، من هم أولي النعمة؟

بعضهم يقول: هم المطعِمون من المشركين في غزوة بدر، وفي سير المشركين من مكة حتى وصلوا إلى المدينة، فالذين تولوا إطعام الجيش يذبحون تسعاً أو عشراً من الإبل في كل يوم، عشرة أشخاص هؤلاء من كبار قريش، ومن وجهائهم ومن أغنيائهم، وكان آخر الأيام على العباس بن عبد المطلب فأُسر ومعه الدراهم التي كان يريد أن ينحر بها الإبل، وأخذت معه، وانشغلوا عن النحر في ذلك اليوم حيث نُحِروا فلم يأكلوا في ذلك اليوم، فأكلوا في تسعة أيام.

فبعض أهل العلم يقول: أُولِي النَّعْمَةِ هم هؤلاء المطعِمون في بدر، وهذا ليس عليه دليل، ولا حاجة إلى تخصيصه بهم، وإنما المقصود وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ يعني المترفين المتنعمين من هؤلاء المكذبين الكفار، وخصهم بالذكر؛ لأنهم الكبراء والسادة والناس تبع لهم، فتوعد هؤلاء الذين كانوا بهذه المثابة، وبعضهم يقول: أُولِي النَّعْمَةِ هنا هم أبناء المغيرة، الوليد بن المغيرة وإخوته، وهذا لا دليل عليه، فلا يخص به، وإنما يشمل هؤلاء وغيرهم.

سؤال: ما الفرق بين النَّعمة والنِّعمة وإن شئت أن تقول أيضًا: والنُّعمة؟

هنا قال: أُولِي النِّعْمَةِ فما الفرق بين هذه الأشياء الثلاثة؟

النِّعمة بالكسر هي الحالة الحسنة، كالثياب نعمة، والمراكب نعمة، والمال نعمة، وما يتنعم به الإنسان من ألوان المطعومات والمشروبات يقال له: نعمة.

والنَّعمة بالفتح هي التنعم، أولي النعمة أي أصحاب التنعم.

والنُّعمة: السرور، والسرور متى يكون؟ يكون مع النِّعمة.

وقوله تعالى: نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ [سورة لقمان:24] ولهذا قال هاهنا:إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالًا [سورة المزمل:12] وهي القيود، قاله ابن عباس وعكرمة وطاوس ومحمد بن كعب.

بعضهم يقول: مهلهم قليلًا فأعاجلهم بالعقوبة، فوقع لهم ذلك يوم بدر، ولا يختص بهذا؛ لأن الله قال بعده: إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالًا وَجَحِيمًافيكون مهلهم قليلًا أي أن الدنيا هي مدة يسيرة بالنسبة للآخرة، متاع قليل وبعد ذلك يرتحلون إلى دار الآخرة، مهلهم قليلًا فتأتي الآخرة فيعذبون بهذا العذاب إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالًا وَجَحِيمًا هذا التفسير أحسن من تفسير من قال بأنه في يوم بدر، والله أعلم.

إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالًا قال: وهي القيود، والأنكال جمع نِكل بكسر النون، وهي القيود التي توضع بالأيدي والأرجل، فهؤلاء يقيدون في النار، وهذا التقييد حينما يقيدون لا يقيدون خشية الهرب، فهم لا يستطيعون الهرب، وإنما يكون ذلك من جهة الإذلال والإهانة لهؤلاء، فإن وضع القيد باليد والرجل لا شك أن فيه من الإذلال والإهانة والأذى النفسي ما فيه، وهو شيء مشاهد، تجد الرجل المتنعم المترف الذي يأمر وينهى بعد مدة يوضع الحديد في يده فهذا لا شك أنه إهانة وإذلال مع أن الذي فعل ذلك له يعلم أنه لن يفر، ومثل هذا لن يفر، فلم يعتد على الهرب وطرق التخلص وما أشبه ذلك.

وقوله تعالى: وَجَحِيمًا وهي السعير المضطرمة، وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ [سورة المزمل:13] قال ابن عباس: يَنشَب في الحلق فلا يدخل ولا يخرج.

"وطعامًا ذا غصة" يدخل فيه ما قاله السلف: الزقوم وما إلى ذلك، ذا غصة بمعنى أنه يغص به آكله فيتوقف فلا ينزل ولا يخرج أو يرتفع، يتوقف فيكون شجناً في حلوقهم.

والأنكال بعضهم فسرها بألوان العذاب، قال: إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالًا أي: أنواعًا من العذاب ننكل بهم.

والجحيم قال: هي السعير المضطرمة، وبعضهم يقول: كل نار في مَهْواة فهي جحيم، وعلى كلٍّ الجحيم اسم من أسماء النار، أعاذنا الله وإياكم منها.

وَعَذَابًا أَلِيمًا ۝ يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ [سورة المزمل:13، 14] أي: تزلزل، وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَّهِيلًا.

يقول: وَعَذَابًا أَلِيمًا ۝ يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ "يوم" تتعلق بماذا مما ذكر من الألفاظ قبلها؟

يمكن أن تعود إلى ذرني، أي ذرني يوم ترجف الأرض والجبال، وهذا فيه بُعد وإن قال به بعض المفسرين، ويمكن أن تكون متعلقة بالاستقرار المفهوم من قوله: إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالًا وَجَحِيمًا إن لدينا في الدنيا أو يوم ترجف الأرض والجبال؟ يوم ترجف الأرض والجبال وهذا بعد النفخة الثانية، متى ترجف الأرض والجبال؟ في النفخة الثانية على المشهور من أقوال المفسرين والراجح، وهناك من قال: إنها النفخة الأولى، ولكن هذا قول بعيد.

وبعضهم يقول غير هذا.

ويمكن أن يكون التقدير: إن لدينا عذابًا واقعًا يوم ترجف الأرض والجبال، والمقصود من هذا كله هل قوله: يَوْمَ تَرْجُفُ متعلق بما قبله أي ذرني يوم ترجف، لدينا عذابًا أليمًا واقعًا يوم ترجف، أو أنه جملة جديدة يخبر الله فيها عن أهوال يوم القيامة ابتدأ بكلام جديد يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ أي: واذكر يوم ترجف الأرض مثلًا؟ هذا هو المقصود.

يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ هنا سؤال: ترجف الأرض تضطرب وتتحرك بقوة والجبال أليست ملتصقة بالأرض؟ فإذا رجفت الأرض اقتضى ذلك أن كل ما عليها يضطرب ويتحرك، كالخاتم في الأصبع إذا حركت الأصبع ما الذي يحصل للخاتم؟ يتحرك فإذا رجفت الأرض رجفت الجبال فلماذا خص الجبال؟

يمكن أن يقال: خصّ الجبال؛ لأن الاضطراب في الأجسام العلوية المشاهدة أعظم أو أكثر وقعًا أو وضوحًا من حركة الأرض، الجبال هذه الرواسي الضخمة المرتفعة تتحرك أمام الناس، ترجف الأرض والجبال وهذا يكون في النفخة الثانية.

وقوله تعالى: وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَّهِيلًا أي: تصير ككثبان الرمل بعدما كانت حجارة صماء.

الكثيب معروف، وهو كثيب الرمل فتكون الجبال بدلاً من كونها صخوراً قوية صلبة تكون كثيبًا مهيلًا، رملًا مجتمعًا يقال له: الكثيب الكثير.

عرفتُ ديارَ زينبَ بالكثيبِ .....

مهيلًا يعني إذا حركت أسفله انهال أعلاه، بمعنى أنه رمل سائل، السائل ليس معناه السائل الذي فيه رطوبة، وإنما رمل يتهايل، إذا حركت بدأ بالنزول، يتهاوى، غير متلبد وثابت، فهذا هو الكثيب المهيل، تتفتت.

ثم إنها تُنسف نسفًا فلا يبقى منها شيء إلا ذهب حتى تصير الأرض قَاعًا صَفْصَفًا ۝ لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا [سورة طه:106، 107] أي واديًا، وَلَا أَمْتًا أي: رابية، ومعناه لا شيء ينخفض ولا شيء يرتفع.
  1. رواه أحمد في المسند، برقم (24269)، وقال محققوه: "إسناده صحيح على شرط الشيخين، ويحيى- وهو ابن سعيد القطان- سمع من سعيد بن أبي عروبة قبل الاختلاط".
  2. رواه أحمد في المسند، برقم (24269)، وقال محققوه: "إسناده صحيح على شرط الشيخين، ويحيى -وهو ابن سعيد القطان- سمع من سعيد بن أبي عروبة قبل الاختلاط".

مواد ذات صلة