بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
قال المؤلف -رحمه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فهذه سورة المدثر، والتدثر معناه: أن يجعل على جسده الدِّثار، والدِّثار هو ما يكون فوق الشِّعار، والفرق بين الدِّثار والشِّعار أن الشعار هو الذي يلي الجسد من الملابس، والدثار هو الذي يكون فوقه، فمثل البشت يقال له -على هذا: دِثار، والملحفة يقال لها: دِثار، فما يلي الجسد يقال له: شِعار، وما فوقه يقال له: دثار، يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ [سورة المدثر:1] أي: يا أيها المتدثر، فسميت السورة بما ذكر من هذه اللفظة في صدرها، كما سميت سورة المزمل بالمزمل؛ لأجل هذا الأمر: يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ [سورة المزمل:1]، والسورة تارة تسمى بأولها مثل الحمد –الفاتحة، وتارة تسمى بلفظة وردت فيها مثل المزمل، البقرة، وتارة تسمى السورة بمعنى تحدثت عنه مثل سورة الإخلاص مع أن لفظة الإخلاص لم ترد فيها، لكن لمّا كان الموضوع هو موضوع الإخلاص وتتحدث السورة –"قل هو الله أحد"- عن قضية الإخلاص سميت بذلك.
الموضوع الذي تدور حوله سورة المدثر يمكن أن يقال: هو الإنذار، من جهة أمْر النبي ﷺ به، ومن جهة ما فيها من الآيات التي تنذر الكافرين والمكذبين بالنار والعذاب، هذا موضوع السورة الأساسي، وهذه السورة من السور النازلة بمكة، حتى إن بعض أهل العلم نقل عليه الإجماع، ومن العجائب أن بعض من نقل الإجماع قال: هي مكية بالإجماع.
وقال مقاتل: إلا قوله -تبارك وتعالى: وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً [سورة المدثر:31]، وهنا سؤالان تعرف الجواب عنهما بما سبق -فيما مر علينا، حينما يقول: بالإجماع وفي السطر الذي يليه يقول: وقال مقاتل، هل هذه غفلة من قائله؟، وهل هذا بالنسبة إليك أمر يوجب الإنكار، ولربما الاستعجال في الحكم على المؤلف أنه غير دقيق أو أنه لا يتفطن لما كتب في السطر قبله، مع أن الإجماع هو اتفاق علماء الأمة بعد النبي ﷺ على أمر ديني أو على أي أمر كان؟، فبعض أهل العلم ومنهم كبير المفسرين ابن جرير الطبري يعبر بالإجماع ويقصد به قول الأكثر، وكثير من العلماء الذين ينقلون الإجماع في تفاسيرهم ينقلونه عن ابن جرير، فلا يُستغرب، يقول: بالإجماع، ويقصد قول الأكثر، ثم يقول: وقال مقاتل كذا، لا غرابة، كما يفعل ابن جرير -رحمه الله.
السؤال الثاني: مقاتل يقول: إلا قوله تعالى: وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً إلى أن قال: وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إلى آخره، ترى ما هو الأمر الذي دعاه لأن يقول: إنها مدنية؟.
الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ إذا فسر بالمنافقين كما فسره بعض السلف فالنفاق ما وجد إلا في المدينة، ثم فيها حديث عن أهل الكتاب: لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ، فبعض العلماء إذا لاح له شيء من ذلك مما كان في المدينة بادر فحكم بأن هذه الآية تستثنى من عموم السورة، والأصل أن السورة المكية جميع الآيات فيها مكية، والسورة المدنية جميع الآيات مدنية إلا لدليل يجب الرجوع إليه، أما الاستثناءات بناء على هذه الأمور التي تلوح من جهة المعنى فهذا فيه نظر.
أول آيات نزلت بعد "اقرأ":
ثبت في صحيح البخاري ومسلم عن أبي سلمة قال: أخبرني جابر بن عبد الله أنه سمع رسول الله ﷺ يحدث عن فترة الوحي فقال في حديثه...
حديث جابر هذا المخرج في الصحيحين فيه إشكال معروف؛ لأن جابر بن عبد الله سئل: "أي القرآن نزل أولاً؟ فقال: يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ، فقيل له: أو "اقرأ"؟" فذكر هذا الحديث، فهذا الحديث بسياقه التام يتضمن الجواب عن الإشكال الوارد في أن المشهور كما ورد في حديث عائشة -رضي الله عنها: "أن أول ما نزل هو "اقرأ".
نزل ثم حصل انقطاع بعد ذلك، هذه فترة الوحي، إذن لم يكن هذا أول ما نزل، هناك شيء نزل قبله ثم حصل الانقطاع، هذه أول واحدة.
الجواب الثاني من نفس الحديث، فإذا الملك الذي جاءني بحراء إذن سبق له نزول قبل هذا، نزل بـ "اقرأ".
قاعد على كرسي بين السماء والأرض، فجَئِثتُ منه حتى هَوَيتُ إلى الأرض، فجئت إلى أهلي، فقلت: زملوني زملوني، فزملوني، فأنزل الله: يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ إلى: فَاهْجُرْ [سورة المدثر:1-5]، قال أبو سلمة: "والرُّجز الأوثان، ثم حَمِيَ الوحيُ وتَتَابع"[1].
هذا لفظ البخاري، وهذا السياق يقتضي أنه قد نزل الوحي قبل هذا، لقوله: فإذا الملك الذي جاءني بحراء، وهو جبريل حين أتاه بقوله: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الإنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الإنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ [سورة العلق:1-5]، ثم إنه حصل بعد هذا فترة، ثم نزل الملك بعد هذا.
هو هذا؛ لأن أقوى الأقوال أن أول ما نزل سورة اقرأ، ويليه المدثر لهذا الحديث المخرج في الصحيحين، ولكن هذا الحديث يتضمن الجواب عن هذا الإشكال في ثلاثة مواضع منه.
ويزاد في الجواب على هذا أن يقال: مهما يكن من أمر فيمكن أن يقال: إن رأي جابر هذا اجتهاد إن كان يقصد أنها أول ما نزل مطلقاً، ويمكن أن يكون المراد أول ما نزل من السور الكاملة، أول سورة كاملة نزلت، لكن لا شك أن أول ما طرق سمع النبي ﷺ من القرآن "اقرأ" إلى قوله: عَلَّمَ الإنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ.
يعني: بعض العلماء أخذ من: زملوني زملوني أنه سبب لنزول سورة المزمل، وهذا فيه نظر، وإنما هو سبب لنزول سورة المدثر، ثم تأملوا في هذه الرواية والتي قبلها قال فيها: فأنزل الله تعالى.. إذن فسبب النزول هو أن النبي ﷺ أصابه خوف وفزع لما رأى الملك ثانية، ثم بعد ذلك قال لأهله: زملوني، دثروني، فنزلت: يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ.
ويمكن أن يقال -والله أعلم: لا يبعد أن تكون سورة المزمل نزلت لمثل هذا، وهو أن النبي ﷺ لربما أصابه فزع أيضاً قبل أن يأنس بالملك، فإن هذه المرة الثانية التي ينزل فيها ومع ذلك النبي ﷺ يصيبه هذا الخوف الشديد.
وهذه العبارة في سبب النزول -من حضر في مقدمة أصول التفسير- تعد من الصيغ الصريحة في هذا ؛ لأن أسباب النزول على قسمين: قسم صريح كأن يقول: فأنزل الله، يذكر واقعة ويقول: فأنزل الله، أو سؤال ثم يقول: فنزلت الآية، فأنزل الله كذا، أو سبب نزول الآية كذا، هذا يسمى الصريح ويُحتاج إليه في الجمع بين الروايات الواردة في أسباب النزول، يُحتاج إليه جداً، لربما يمر بنا -إن شاء الله- فيما بعد بعض السور ونطبق عملياً كيف نجمع الروايات المتعددة في أسباب النزول، ما الذي يستبعد، وما الذي يبقى، وكيف يجمع بينها، هذه الصيغة: فأنزل الله، أو سبب نزول هذه الآية، هذه تعد من الصيغ الصريحة.
أما الثانية: نزلت هذه الآية في كذا، فهذا قد يكون تفسيراً فقط، مثلما قال ابن عمر لما كان في السوق فرأى الناس يغلقون حوانيتهم لما أذن ويذهبون إلى المسجد، قال: في هؤلاء نزلت: رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ [سورة النور:37]، يقصد أنهم ممن يدخل في معناها وتصدق عليهم هذه الآية، وإلا لا شك أنها لم تنزل فيهم، لم يكونوا سبب النزول، أولائك الذين أشار إليهم ابن عمر ليسوا هم سبب النزول.
خرجاه من حديث الزهري به.
وروى الطبراني عن ابن عباس قال: إن الوليد بن المغيرة صنع لقريش طعاماً، فلما أكلوا منه قال: ما تقولون في هذا الرجل؟ فقال بعضهم: ساحر، وقال بعضهم: ليس بساحر، وقال بعضهم: كاهن، وقال بعضهم: ليس بكاهن، وقال بعضهم: شاعر، وقال بعضهم: ليس بشاعر، وقال بعضهم: بل سحر يُؤثر، فأجمع رأيهم على أنه سحر يؤثر، فبلغ ذلك النبي ﷺ فحزنَ وقَنعَ رأسه وتَدَثَّر، فأنزل الله تعالى: يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ [سورة المدثر:1-7].
عندنا روايتان في سبب نزول سورة المدثر:
الأولى: أنها نزلت بسبب فزع النبي ﷺ لما رأى الملك ثانية.
والثانية: أنها نزلت بسبب ما بلغ النبي ﷺ من قول المشركين فيه، فما هو سبب النزول؟
كثير من الناس في مثل هذه المقامات يقول: سبب النزول فيه قولان، فيه روايتان، ويذكرهما ويمضي، ويبقى الناس في تساؤل وحيرة: ما هو سبب النزول الحقيقي؟
إذا تعددت عندنا الروايات أول ما ننظر في الصحة والثبوت، فنستبعد الضعيف، فإذا أبقينا الروايات الصحيحة النظر الثاني ننظر إلى الصيغة، فنبعد الروايات غير الصريحة من جهة صيغة سبب النزول، يعني التي فيها: نزلت هذه الآية في كذا، هذه نبعدها لأنها غالباً ما تكون من قبيل التفسير، ما هي سبب نزول، فنبعدها، فالروايات الصريحة هذا مثال عليها روايات صحيحة صريحة، فهذا النظر الثاني، الصحة ثم الصيغة.
ثم ننظر ثالثاً إلى وقت النزول، فإن رأينا أن الوقت متقارب حكمنا بأن الآية نزلت بعد هذه الوقائع جميعاً، ولا إشكال، حصل كذا وفي نفس الوقت حصل كذا فنزلت، وإذا كان هناك تباعد بيّن في الوقت حكمنا بأن السورة نزلت مرتين أو الآية نزلت مرتين، وبعض أهل العلم في مثل هذا يلجأ إلى الترجيح، فهنا ماذا نقول؟ عندنا نقول: إن هذه السورة لا مانع بأن تكون نزلت بعد السببين، رأى النبي ﷺ الملك فتدثر، وفي تلك الأثناء أيضاً بلغه ما قاله المشركون عنه، يمكن أن يقال هذا، مع أنه لا يخلو من إشكال قوي، قد يلجئنا إلى الترجيح.
نُبئ النبي ﷺ بـ "اقرأ"، وأرسل بالمدثر -أول ما نزل، وهذا أحد الأجوبة على قول من قال واحتج برواية جابر: إن أول سورة نزلت هي سورة المدثر، أحد الأجوبة أن يقال: إن أول ما نزل في الرسالة المدثر، وأول ما نزل في النبوة "اقرأ".
فالمقصود هنا أن النبي ﷺ أُمر بالإنذار، فهذا أول ما نزل عليه في الرسالة، والإنذار حقيقته الإعلام المقترن بالتهديد، الإعلام وحده لا يقال له: إنذار، لما تقول: جاء زيد، ليس هذا بإنذار إلا إذا كان يتضمن شيئاً على أن زيداً هذا جاء ليعاقبهم، فتقول: جاء زيد، يعني: أنت تهددهم تقول: يا ويلكم جاءكم ما تخافون، فالإنذار الإعلام المقترن بالتهديد، وبهذا يكون كل إنذار إعلاماً وليس كل إعلام إنذاراً.
وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ أي: عظم.
وقال العوفي عن ابن عباس: وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ يعني لا تكن ثيابك التي تلبس من مكسب غير طائب، ويقال: لا تلبس ثيابك على معصية.
وقال محمد بن سيرين: وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ أي: اغسلها بالماء.
وقال ابن زيد: وكان المشركون لا يتطهرون، فأمره الله أن يتطهر، وأن يطهر ثيابه، وهذا القول اختاره ابن جرير.
وقال سعيد بن جبير: وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ وقلبك ونيتك فطهر.
وقال محمد بن كعب القرظي، والحسن البصري: وخُلُقَك فَحسّن.
هذه الروايات التي بين أيديكم، وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ لا تكن ثيابكالتي تلبس من مكسبغير طائب، جعلها في المكسب، وآخر يقول: لا تلبسها على معصية، وآخر يقول: اغسلها بالماء، وآخر يقول: طهر قلبك ونيتك، وآخر يقول: طهر أخلاقك، فكل هذه المعاني معروفة عن السلف ومعروفة في اللغة، أما في اللغة فكثير، الآن الجمهور يقولون: إن ذلك يحمل على تطهير القلب والعمل والنفس والنية والأخلاق والأعمال والسلوك، هذا قول الجمهور، والمعنى: أصْلِح النية والعمل والخلق وطهر نفسك؛ لأن أخلاق الإنسان تشتمل على أحواله اشتمال الثياب على النفس، كما قال بعضهم:
ويحيى لا يُلام بسوءِ خُلقٍ | ويحيى طاهرُ الأثوابِ حُرُّ |
ومجانبة الأصنام والأوثان وما عليه أهل الجاهلية من الشرك والعمل الفاسد بجميع صوره وأشكاله هو داخل في هذا المعنى، ومن ذلك مجانبة الأعمال والأخلاق السيئة كالغدر والخيانة، فالغادر دنِسُ النفس، وكذلك يكون قد لبس ثيابه على معصية وفجور، كما قال غيلان بن سلمة:
وإنِّي بحمدِ اللهِ لا ثوبَ غادرٍ | لبستُ ولا مِن خزيةٍ أتقنَّعُ |
وآخر يقول حينما شرع في الإحرام:
لا هُمَّ إنّ عامرَ بنَ جَهمِ | أوْذَمَ حجًّا في ثيابٍ دُسْمِ |
أي: أوجب على نفسه حجا وهو متلطخ بالخطايا، فالعرب تكني بالثياب عن النفس، ومنه قول الشماخ:
رموْها بأثوابٍ خفافٍ فلا تَرى | لها شَبهاً إلا النعامَ المُنفَّرا |
هذه يقصد بها الإبل ركبوا عليها فلسرعتها في السير رموها بثياب: يعني بنفوس أو بأبدان، خفاف: خفيفة.
وآخر يقول لمحبوبته:
فسُلِّي ثيابي من ثيابك تَنسُلِ |
يعني: نفسي من نفسك، ومنه قول عنترة:
فشككتُ بالرمحِ الأصمِّ ثيابَه | ليس الكريمُ على القَنا بمُحرَّمِ |
يعنى: شككت ثيابه بالرمح، يعني: شككت نفسه، قتلته، وليس المقصود هو ما يلبسه من الثوب، والناس يقولون لمن كان صالحاً تقياً نقياً موصوفاً بالصدق والوفاء: إنه طاهر الثياب، ومنه قول امرئ القيس:
ثيابُ بني عوفٍ طَهارَى نقيةٌ |
يعني: لا يغدرون.
ومنهم من حمل ذلك على النساء، والنساء يكنّى عنهن بالثياب وبالأُزُر، ومنه قول البراء بن معروف للنبي ﷺ في بيعة العقبة قال له: نمنعك مما نمنع منه أُزُرَنا، يعني نساءنا، ومن ذلك قول الشاعر:
ألَا أبلغْ أبا حفصٍ رسولاً | فدًى لكَ مِن أخي ثقةٍ إزاري |
يعني: أفديك بأهلي، والله يقول عن النساء: هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ [سورة البقرة:187] فيكنى عنهن باللباس، ومنهم من فسر اللباس باللباس فقال: ليكن من مكسب طيب، أو قصِّر ثيابك، أو اغسل ثيابك بالماء ونقها من النجاسات، وما إلى ذلك من العبارات التي عبروا بها، وقد أتيت على عامتها، وما لم أذكره فهو عائد إليها، فهذا العرض لمثل هذه العبارات التي يذكرونها نريد الآن أن نخرج بنتيجة فنقول: وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ طهر نفسك، طهر أخلاقك، لا تلبس ثيابك على معصية، لا تلبس ثيابك على غدرة، فهذه الأقوال حينما ننظر إليها -حينما نختبرها- نجد أنها ترجع إلى معنيين اثنين:
الأول: الحمل على الظاهر.
والثاني: حمل اللفظ أو الكلام على غير ظاهره، فالظاهر المتبادر الثياب، ما يلبسه الإنسان، هذا حمل له على الظاهر، انظر الآن نريد أن نفرع جميع الأقوال على هذا ونبين ما كان تفسيراً باللازم وما كان تفسيراً بالمطابق، حتى نعرف كيف ترجع الأقوال إلى هذين القولين.
فصار عندنا مما يرجع إلى الظاهر -مِن حمْلِ الثياب على المعنى الظاهر المتبادر- الثياب التي يلبسها الإنسان: وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ، فمنهم من حمل ذلك على الطهارة المعروفة مباشرة بمعنى: اغسلها بالماء.
ومنهم من قال: قصِّر ثيابك، فتقصير الثياب لا يسمى في اللغة تطهير الثياب، فهذا يرجع إلى التفسير باللازم، قلنا: إن السلف يفسرون تارة بالمطابق وتارة باللازم وتارة بالإشارة وغير ذلك، فهذا يقال له: تفسير باللازم؛ لأن ذلك يقتضي أن ترتفع عن النجاسات، الثوب إذا كان يخط الأرض فهو مظنة أن تعلق به النجاسة، فإذا أردنا أن نطهره فهذا يقتضي رفع الثوب، أن يكون الثوب قصيراً، فهو تفسير ليس بالمطابق وإنما باللازم، والتفسير بالمطابق وباللازم وما إلى ذلك كله من قبيل المنطوق.
اجعلها من كسب طيب: حملها على الثياب لكن قضية الكسب في الثياب هي قضية معنوية وليست حسية، اجعلها من كسب طيب، فحمل الثياب على ظاهرها ولكنه حمل الطهارة على أمر معنوي، وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ اجعلها من كسب طيب، هذا مَن حملَه على الظاهر.
ومن حمله على غير الظاهر يقول: النفس والقلب والعمل والخلق وما إلى ذلك من المعاني، وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ أي: طهر قلبك وعملك وخلقك وسلوكك، ولا تلبس ثيابك على معصية الله ، ولا تشتمل على شيء من ذلك، ولا تغدر، ولا يقع منك ما لا يليق، فكن على أحسن الأحوال في عملك الظاهر والباطن، تجنب معصية الله ظاهراً وباطناً، وهذا الذي عليه عامة أهل العلم، وإن تفرقت عباراتهم من قائل: النفس، ومن قائل: القلب، وما إلى ذلك، فهذا تفسير بغير الظاهر.
ومن قال: إن الثياب المقصود بها الأهل فهو تفسير بغير الظاهر، والله قال: إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ [سورة الأحزاب:33]، الرجز والرجس بمعنى الدنس، وهو كل قذر يتنزه منه الإنسان، يقال له: رجز ورجس، ثم قال: وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا، فهذا التطهير بحيث إن شرفهم يكون محفوظاً، وتكون أعراضهم محفوظة، فلا يلحقهم دنس من هذه الجهة، ولا يقعون في ريبة، ولا يدخلون مداخل الريب.
الآن صار عندنا مجموع هذه الأقوال عائد إلى هذين القولين، فيقال: يعبر بالقرآن بالألفاظ القليلة الدالة على المعاني الكثيرة، وبالتالي قوله: وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ يدخل فيه ما دلت عليه الآية دلالة أولية بظاهرها، وهو اختيار كبير المفسرين ابن جرير الطبري -رحمه الله، فهو أمر بتطهير الثياب من النجاسات، وهذا الأمر متوجه أيضاً إلى المطالبة بما لا يحصل ذلك إلا به كالتقصير -تقصير الثوب؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، أو ما لا يتم الوجوب إلا به فهو واجب، ويدخل في معنى الآية تطهير النفس، والعمل، والأخلاق، فلا يشتمل الإنسان على معصية، ولا يقارف ما لا يليق، ولا يكون خائناً أو غادراً أو نحو ذلك.
وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ طهر نفسك وطهر عملك وطهر خلقك، ويمكن أن يقال: وطهر بيتك وأهلك فلا يقعون في مواقع الريب، فيكون كل هذه المعاني، وهذا هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- أنها محمولة على النفس والخلق والعمل وما أشبه ذلك، والحافظ ابن القيم قال: تحمل على أعم معانيها، وبهذه الطريقة لسنا بحاجة إلى الترجيح في مثل هذه الآية.
وقوله تعالى: وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: وَالرُّجْزَ وهو الأصنام فاهجر، وكذا قال مجاهد، وعكرمة، وقتادة، والزهري، وابن زيد: إنها الأوثان، وقال إبراهيم، والضحاك: وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ أي: اترك المعصية.
وعلى كل تقدير فلا يلزم تلبسه بشيء من ذلك، كقوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ [سورة الأحزاب:1]، وَقَالَ مُوسَى لأخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ المُفْسِدِينَ [سورة الأعراف:142].
الفرق بين الأوثان والأصنام بعض أهل العلم يقول: الأصنام والأوثان معناها واحد، ومن فرّق قال: إن الصنم يكون مصوراً بصورة إنسان مثلاً، والوثن ما عبد من حجر وشجر وقماش أو أي شيء.
وقوله: وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ، الرُّجز ويقال: الرِّجز: يدخل فيه الأصنام والأوثان، ومعصية الله وأعمال الجاهلية، كل عمل من أعمالهم يدخل في ذلك، وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ ولذلك لا يوافقهم في شيء من أعيادهم ولا أعمالهم ولا تلبيتهم، ولا ما كانوا يتعاطونه من المنكرات والفجور التي تدخل فيما يتعلق بعبادتهم وما يتعلق بأخلاقهم وأعمالهم وفجورهم وانحرافاتهم، كل هذا أُمر بمجانبته بالكلية، يعني: هذه حقيقة الهجر، لا يكون بينه وبين هذه الأعمال المشينة صلة بوجه من الوجوه، مقاطع لها، وإلا ما يكون هجرها.
وقوله تعالى: وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ قال ابن عباس: لا تُعطِ العطية تلتمس أكثر منها.
وقال خصيف عن مجاهد في قوله تعالى: وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ قال: لا تَضْعف أن تستكثر من الخير، قال: تمنن في كلام العرب: تضعف.
تمنن: تضعف، لا تمنن يمكن أن يفسر بالمن، والمن معروف، الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُواُ مَنًّا وَلاَ أَذًى [سورة البقرة:262]، فالمن بالعطية هو لون من إيذاء المُعطَى، فيذكر ذلك عنده أو عند غيره ويؤذيه به ويذكّره، أو يطالبه بأمور في مقابل ذلك، هذا كله من المن، فهنا الله يقول: وَلا تَمْنُنْ فيمكن أن يفسر بهذا المعنى المتبادر الظاهر، لكن يحمل على معنى لا تمنن أي: لا تُعطِِ العطية تنتظر أكثر منها، كما قال ابن عباس، يعطي إنساناً هدية، يرسل إليه طعاماً ثم هو ينتظر الجزاء من هذا الإنسان بأفضل مما أعطاه، وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ فتكون بهذا تطلب أكثر مما أعطيت، فلا يكون عطاؤك لله وإنما لأجل المكافأة على هذه العطية، فهذا معنى، وهذا التفسير لا ينافي ظاهر الآية.
ويمكن أن يكون المعنى أيضاً وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ أي: لا تستعظم عملك، لا تستكثر عملك أن تعمل بطاعة الله وتتزود منها، وهذا عائد إلى معنى تَضْعف؛ لأنه بذلك يضعف ويقعد عن العمل، فكثير من الناس يقول: أنا أحسن من غيري، أنا أعمل كذا وأعمل كذا وأنا على الأقل أفعل كذا وأفعل كذا، فهذا الشعور عنده والاعتداد بالعمل بهذه الطريقة يؤدي به إلى الزهد في الازدياد من طاعة الله والمبادرة إلى الخيرات فيقعد عنها ويتثبط ويسلي نفسه أنه يعمل، وعنده أعمال صالحة، وعلى الأقل هو يقوم بخيرات وطاعات وبر وما أشبه ذلك، فيُقعد نفسه عن العمل الصالح، وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ يعظم في عينه عمله فيزهده ذلك في المزيد.
ويمكن أيضاً أن يكون ذلك من جهة الإدلاء على الله ، يدلي على ربه بعمله -والعياذ بالله، ويرى أنه قدّم، كأن الله ينتفع بعمل العبد، فيدلي بهذا العمل على ربه، ولا شك أن هذا من أسباب حبوط الأعمال، فكأنه يمن على الله بالعمل الصالح، كما جاء أولائك الأعراب وقالوا: آمنا بك وكذبك الناس، آمنا من غير قتال، كأنهم يقولون: احمد ربك يا محمد، الناس قاتلوك ونحن ما قاتلناك، نحن استجبنا لك، وهم المستفيدون، فيمنون على النبي ﷺ، فقال الله : يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ [سورة الحجرات:17].
فهذا من المن، فيكون ذلك باعثاً على الزهد عن الازدياد في الخير والطاعة والعمل الصالح، وفي نفس الوقت هو لون من استكثار العمل، فكل هذه المعاني متوافقة إما من جهة التلازم، وإما من جهة أن العبارات مختلفة، ولكن المؤدى واحد، وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ، فإذا فسر بتضعف فهذا أشبه ما يكون بالتفسير باللازم وإن قيل في اللغة: إن تمنن بمعنى تضعف، والعلم عند الله .
وهكذا تفسير من فسرها بأن المراد وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ يعني: لا تمنن على الناس بالنبوة والرسالة، والعلم وما أعطاك الله وحباك من الوحي تطلب الكثرة في الدنيا من العَرَض بحيث إنك تطلب من الناس مقابلاً على ذلك، وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ يعني: تكون طالباً للكثرة، وهذا أبعد هذه المعاني، ولكن لا شك أن النبي ﷺ منهي عن هذا، والله أمره أن يقول: قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ [سورة ص:86]، فالدعوة مجاناً، لا يؤخذ عليها مقابل.
والكلمة إذا أُخذ عليها مقابل انطفأ نورها، وذهب رونقها وتأثيرها، وصارت الكلمات تخرج من فم قائلها ميتة لا ينتفع بها، وليس لها تأثير، ولا تصل إلى القلوب، فالدعوة تبذل مجاناً، ولا يصح للدعاة أن يضعوا أنفسهم في مواضع التهم والمواضع غير اللائقة فيتّجر بدعوته، هذا موجود في بعض بلاد العجم، ربما نُبتلى بشيء من هذا.
في بعض البلادِ في كل مسجد صندوق، هذا الصندوق للمسجد صندوق تبرعات تقوم عليه إدارة، فإذا أرادوا أن يستضيفوا أحداً من هؤلاء الوعاظ يعطونه مقابلاً على ذلك –مبالغ، أحياناً إذا كان هذا الشخص مشهوراً -وهم بلاد فقيرة- لربما أعطوه على الكلمة في المسجد أكثر من ألفي دولار، على كلمة في المسجد وهم فقراء، أكبر رأس في البلد ما يأخذ ربع هذا المبلغ في الشهر، فهذه تجارة بالدعوة.
فالمقصود وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ هذا يفيد أن الإنسان ينبغي عليه أن لا يستكثر من عمله، وأن ينظر إلى هذا العمل أنه لا شيء بالنسبة إلى عظمة الله وإنعامه وإفضاله عليه، فهو لا يقوم بالعبودية على الوجه المطلوب، فهو دائماً في ازدياد وتشمير واتهام للنفس بالتقصير، أما الذي ينظر بتلك النظرة ويرى أنه قد عمل أفضل من غيره، وأن له أعمالاً، وله مآثر، وله خدمات، وله برامج دعوية، ويقدم، وكذا وكذا، فهذا مظنة أن يقعد عن الازدياد في العمل الصالح، ويزهد في الخير، وكلما عرض عليه مجال من مجالات الخير صدقة، أو أمر بمعروف أو غير هذا قال: الحمد لله أنا عندي ما يكفيني، لكن أهل الدنيا لا يقولون هذا إذا عُرض عليهم شيء من الطمع في دنياهم.
وقول ابن عباس الأول الذي ذكره الحافظ ابن كثير هنا: وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ لا تعطِ العطية تلتمس أكثر منها، بعض أهل العلم يقول: هذا مختص بالنبي ﷺ، على هذا التفسير، أي: أنه ليس له ذلك لمقامه ورفيع درجته -عليه الصلاة والسلام، لكن غيره هل يجوز له أو ما يجوز من جهة الجواز والتحريم؟ يجوز أن تهدي إنساناً هدية وأن تنتظر منه أن يقابلك بأكثر منها، وهذا يفعله بعض ضعاف النفوس، ففعلهم ليس بحرام، لا يقال: إنه حرام، يهديه هدية، يقدم له سيارة هدية، يقدم له ساعة هدية، وهو يعلم أنه سيقابله بالملايين مقابل هذه الهدية، فهذا لا يقال: إنه حرام لكنه ليس لائقاً لأهل الكمالات، والنبي ﷺ هو أكمل البشر، فلا يصلح له مثل ذلك.
ولهذا قال من قال من أهل العلم: إن ذلك مختص بالنبي ﷺ، ولا مانع أن يكون هذا الخطاب موجهاً إلى الجميع من جهة التأديب والتربية وحمل الناس على مكارم الأخلاق، حتى إن بعضهم عُرف أنه إن صنع له أحد وليمة كافأه بالمال، فكان بعضهم يتلاعب، وهذا معروف، فكان بعضهم إذا دعاه أكثَرَ من الرءوس، يعني: إذا كان قد ذبح له مثلاً عشرة من الغنم يضع ثلاثين رأساً؛ لأن مَن مع ذاك يعدون الرءوس، فيعطيه مقابل هذا، فهذا لا يليق، ومثل هذا لا يستحق أن تجاب دعوته.
وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ عام يدخل فيه ما يتعلق بما قبله وبغيره، وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ أي ترتجي الثواب منه، وتصبر على طاعته، ولا تزهد في شيء من ذلك، هذا من جهة المناسبة، وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ المناسبة أي: وجه الارتباط بين الآية والتي بعدها، وإذا أردنا أن نربط بين قوله تعالى: وَلَا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ، وقوله بعدها: وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ نقول: فروِّض نفسك على طلب الثواب من الله وانتظار عائدته عليك بالأجر والعوض، واصبر على طاعته ولا تزهد في شيء من ذلك بحيث تتثبط عنها اعتداداً ببعض العمل الذي عملته، فهذا وجه الارتباط.
التذكير بيوم القيامة:
هنا قضية الإنذار، أمره بالإنذار ينذر من الآخرة ومن عذاب الله ، ثم بدأ يصف شيئاً من ذلك.
وقوله تعالى: فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ [سورة المدثر:8-10] قال ابن عباس، ومجاهد، والشعبي، وزيد بن أسلم، والحسن، وقتادة، والضحاك، والربيع بن أنس، والسدي، وابن زيد: النَّاقُورِ الصور، قال مجاهد: هو كهيئة القرن.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا أسباط بن محمد، عن مُطَرِّف، عن عطية العوفي، عن ابن عباس: فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ فقال: قال رسول الله ﷺ: كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم القرن وحنى جبهته، ينتظر متى يؤمر فينفخ، فقال أصحاب رسول الله ﷺ: فما تأمرنا يا رسول الله؟ قال: قولوا: حسبنا الله ونعم الوكيل، على الله توكلنا[[3].
وهكذا رواه الإمام أحمد عن أسباط به.
يعني أصل النقر هو الصوت، فهذه الآلة التي يصدر منها هذا الصوت العظيم المفزع الهائل: فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ قيل لها ناقور، وهي القرن أو على هيئة القرن، كما جاء في هذا الحديث، فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ والمقصود بذلك النفخة، فإذاً نفخة الصعق تكون للأحياء فقط، الأموات قد ماتوا، تكون للأحياء فيموت الجميع إلا ما شاء الله، فنفخة البعث هي التي يرون فيها الأهوال والأوجال والفزع، يبعثر من في القبور.
وقوله تعالى: فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ أي: شديد.
عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ أي: غير سهل عليهم.
يعني هنا سؤال وهو أنه قال: فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ كان يكفي أن يقال: فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ عسير معناها غير يسير، فما وجه ذلك؟
الوجه أن ذلك اليوم يخفف على أهل الإيمان، ويهون عليهم، ويقصر وقته بالنسبة إليهم، مع أنه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، فهو يوم عسير على الكافرين؛ لأن الله قال عن أهل الإيمان: وَهُم مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ [سورة النمل:89]، فهذا العسر بيّنه بما بعده، قال: عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ ولو لم يقل ذلك لفهم منه أنه عسير على الجميع.
وهكذا إذا تأملت المواضع التي يتوهم أنها مكررة في القرآن تجد أنه لا تكرار، والقاعدة: أن التأسيس مقدم على التوكيد، فمهما أمكن حمل الآية الثانية على معنى صحيح جديد فهو أولى من دعوى أنها تأكيد، كما قال هنا بعض المفسرين: فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ هذا تأكيد لما قبله، فكل حرف ولفظة في القرآن إنما جاءت لتقرير معنى، وليس في القرآن تطويل لا حاجة إليه؛ ولذلك انظر إلى الأمثلة التي قد تشكل على كثير من الناس: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ [سورة الكافرون:1-4] أربع آيات، فهذا ليس من التكرار في شيء.
قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ لست مقيماً على دينكم وعبادتكم، وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ أنتم على غير ديني، لستم على الدين الذي أنا عليه، وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ في المستقبل لن أتحول إلى دينكم، وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ لن تتحولوا إلى ديني، فـ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ [سورة الكافرون:6] ما فيها تكرار، كل آية لها معنى، ولو الإنسان نظر إليها بهذا الاعتبار وفهمها لما أشكلت عليه، بعض الناس يستشكلون هذا، ولربما يصعب عليهم الحفظ.
وأوضح من هذا: فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ [سورة الرحمن:13] تتكرر كثيراً، وليس هذا من التكرار في شيء، كل آية منها تتعلق بالتي قبلها، فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ، ثم يقول: فَبِأَيِّ آلَاء يعني مما ذكر، فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ فَبِأَيِّ آلَاء [سورة الرحمن:68، 69] عائدة للتي قبلها، وهكذا، بل حتى قوله -تبارك وتعالى: هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ [سورة الرحمن:43، 44] قال بعد ذلك: فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ يتبين نعيم الجنة بذكر ضده، وبضدها تتبين الأشياء.
وقل مثل ذلك في قوله: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ [سورة المرسلات:15]، وقول الجن المتكرر: ما من شيء بآلائك ربنا نكذب فلك الحمد، يقصدون كل ما ذكر، كلما قُرئ عليهم شيء قالوا مثل هذا الكلام، لا يقصدون تكرار هذه الجملة تكراراً مجرداً، فهذا يقال في تكرار الآيات.
وأما تكرار القصص قصة موسى ﷺ تكررت في مواضع كثيرة جداً، وهكذا قصة شعيب وصالح ولوط وهود -عليهم الصلاة والسلام، تكررت، فليس ذلك من التكرار في شيء، وذلك أنه يورد من القصة في كل مناسبة ما يصلح لهذه المناسبة، إذا كان في مقام بيان تأييد الرسل جاء من ذلك بما يصلح لهذا المعنى، وإذا كان في مقام بيان عاقبة الظالمين مثلاً، أو الصبر، أو العلو في الأرض، أو نحو هذا جاء من القصة بما يناسب ذلك؛ ولذلك تجدها متفاوتة في هذه المواضع، فهذا هو السبب، فليس ذلك من تكرار القصص المحض، فإذا عرفت هذا الجواب صرت لست بحاجة إلى الجواب الذي يذكره بعض أهل العلم: أن القرآن نزل في مدد -في ثلاث وعشرين سنة- والوفود تأتي والناس يسمعون، ويذهب هذا بهذه القصة، فيكون هؤلاء وقع لهم قصة موسى في السورة الفلانية وحفظوها وذهبوا بها إلى بلادهم، وهؤلاء وقعت لهم في الآية الفلانية، وهؤلاء وقعت لهم في الآية الفلانية، فكلٌّ حصل له طرف من ذلك.
- رواه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب إذا قال أحدكم: آمين والملائكة في السماء: آمين فوافقت إحداهما الأخرى غفر له ما تقدم من ذنبه، برقم (3238).
- رواه البخاري، كتاب بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله ﷺ، برقم (4)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بدء الوحي إلى رسول الله ﷺ، برقم (161)، وأحمد في مسنده، برقم (14483).
- رواه الترمذي، كتاب صفة القيامة والرقائق والورع عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء في شأن الصور، برقم (2431)، وأحمد في المسند، برقم (3008)، وقال محققوه: "حسن لغيره، وهذا إسناد ضعيف لضعف عطية وهو ابن سعد بن جُنادة العَوْفي"، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة، برقم (2079).