بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ومصطفاه.
يقول المؤلف -رحمه الله تعالى:
تهديد من قال: إن القرآن سحر:
يقول تعالى متوعداً لهذا الخبيث الذي أنعم الله عليه بنعم الدنيا فكفر بأنعم الله وبدلها كفراً، وقابلها بالجحود بآيات الله والافتراء عليه، وجعلها من قول البشر، وقد عدد الله عليه نعمه حيث قال تعالى: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا [سورة المدثر:11] أي: خرج من بطن أمه وحده لا مال له ولا ولد، ثم رزقه الله تعالى، مَالًا مَّمْدُودًا [سورة المدثر:12].
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فيقول الله : ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله: أي: خرج من بطن أمه وحده لا مال له ولا ولد، ثم رزقه الله، وعلى تفسير ابن كثير أي: خرج من بطن أمه منفرداً ليس له ولد وليس له مال، ليس له سلطان، ليس له تجارة، ليس له جاه، خرج من بطن أمه لوحده حتى من غير ثياب، هذا المتحدَّث عنه الوليد بن المغيرة مثلاً خلقته وحده، ذرني ومن خلقت وحيداً أي: خرج من بطن أمه وحيداً، دعني ومن خلقته لوحده ليس معه أحد من أعوانه وأنصاره وأولاده وغير ذلك.
وقد يكون المعنى ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ، أي: خلقته لوحدي لا يشاركني أحد، ويحتمل أن يكون المراد: ذرني وحدي معه، أي: يكون "وحيداً" يرجع إلى الياء، يعني: ذرني وحدي معه أتكفل به وأؤدبه، اتركني معه، لا شأن لك به، أنا أتولى عذابه، فيكون المعنى: ذرني وحدي معه فأنا أكفيكه، فإذا كانت "وحيداً" عائدة إلى الياء تغير المعنى، أما إذا كانت عائدة للضمير المستتر-الهاء: ذرني ومن خلقته وحيداً فيكون المعنى: خرج من بطن أمه لا مال ولا ولد، المعنى الثاني: ذرني وحدي، خلّني معه، لا تدخل بيننا، أنا أتولاه، هذا يقال في التهديد، فالآية تحتمل المعنيين.
وما ذكره ابن كثير -رحمه الله- هو الأقرب للسياق وظاهر القرآن، -والله تعالى أعلم، وعليه يكون المعنى هكذا: ذرني ومن خلقته منفرداً وحده، حيث خرج من بطن أمه لا مال ولا ولد، ثم أعطيته وأوليته، وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَّمْدُودًا وَبَنِينَ شُهُودًا [سورة المدثر:12، 13]، خرج من بطن أمه ما معه شيء، ثم تتابعت عليه النعم والعطايا والإفضال وهكذا، والله تعالى أعلم، والذي يدل على هذا ظاهر السياق، فرجحنا بالسياق أحد القولين على الآخر، أحد الاحتمالين.
خرج من بطن أمه ما معه شيء، ثم تتابعت عليه النعم والعطايا والإفضال وهكذا، والله تعالى أعلم، والذي يدل على هذا ظاهر السياق، فرجحنا بالسياق أحد القولين على الآخر، أحد الاحتمالين.
وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَّمْدُودًا واسعاً كثيراً، ويحتمل أيضاً أن يكون مالاً ممدوداً أي: ممتداً واسعاً، مالاً ممتداً، هذا تحتمله الآية، ويحتمل أن يكون المعنى مَالًا مَّمْدُودًا أي: تأتيه الزيادة شيئاً فشيئاً، ممدوداً: تقول: أعطِنا المدد، مثل ما يقول الصوفية: مدد، يعني: يطلبون المدد، وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَّمْدُودًا أي: يُمد شيئاً بعد شيء، يأتيه الإمداد –الزيادة، ما هو بالمال المتوقف، أُعطِي شيئاً من المال ثم انتهى، لا، وإنما يزداد هذا المال، يمد شيئاً بعد شيء، فهو في زيادة دائمة، جعلت له مالاً ممدوداً.
لكن أيهما أقرب إلى الظاهر المتبادر؟ جعلت له مالاً يأتيه المدد شيئاً فشيئاً، أو جعلت له مالاً ممدوداً أي: ممتداً واسعاً، فكان له من الأموال من الأرقّاء والبهائم -إبل وغيرها، والتجارات الأخرى الشيء الكثير، له مال كثير ممتد واسع، وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَّمْدُودًا الآية تحتمل المعنيين، وهذا هو الأقرب، وهو لا يعارض القول الأول أيضاً، فهذا المال الواسع هو يتكاثر ويزداد.
وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَّمْدُودًا وَبَنِينَ شُهُودًا الحافظ ابن كثير هنا حملها على أحسن المحامل، وأقربها وهو وَبَنِينَ شُهُودًا أي: أنهم حضور عنده، وهذه من نعم الله على الإنسان؛ لأنه لا يكتمل نعيمه وأنسه وراحته وسعادته إلا بحال الاجتماع بأحبته لاسيما الأولاد؛ لأنه يتقوى بهم ويعتز بهم، وإنما يذل الإنسان ويشعر بالأسى والعجز والضعف -لاسيما قديماً حينما كان الناس يعتمدون على العشيرة- إذا كان لا ولد له، كان الرجل يفتخر بكثرة الأولاد.
فالله يمتن عليه بأن هؤلاء الأولاد لم يتشتتوا في البلاد، في كل بلد واحد وهو جالس لوحده يترقب مجيئهم أو سماع أخبارهم، أبداً، وإنما هم حضور عنده، وإنما يحصل هذا عادة لأهل الغنى والسعة، لا يحتاج أولادهم أن يتفرقوا في الأرض من أجل البحث عن لقمة العيش، فهذا لا شك أنه يكون من المنغصات، وهذا الرجل الله قد أعطاه وأولاه حتى صار أولاده لا يحتاجون إلى السفر والتنقل من أجل طلب الرزق، فهم حضور عنده، وبهذا يكتمل سروره وبهجته وراحته ولذته وأنسه.
وتحتمل الآية معانيَ أُخر ذكرها بعض السلف وَبَنِينَ شُهُودًا يعني: إذا ذُكر ذُكروا معه، ولكن الأول أجود من هذا، إذا ذُكر ذُكروا معه هذا لا يتبادر إلى الذهن من الآية، أو المعنى الثالث الذي ذكره بعضهم وتحتمله الآية: وَبَنِينَ شُهُودًا أي: يباشرون ما يباشره ويحضرون معه ويقومون بما يقوم به من الأعمال، هذه المعاني وغيرها مما ذكر أجودها وأقواها وأقربها إلى ظاهر القرآن: وَبَنِينَ شُهُودًا أي: أنهم حضور عنده ليسوا بُعداء قد فرقتهم الأسفار من أجل طلب لقمة العيش.
أشدُُّ الغمِّ عندي في سُرورٍ | تَيقّنَ عنهُ صاحِبُهُ انْتِقالا |
ولهذا قيل في الموت:
لا أرى الموتَ يَسبقُ الموتَ شيءٌ | نغّص الموتُ ذا الغِنى والفقيرا |
فالحاصل أن الناس إذا اجتمعوا اكتمل أنسهم وراحتهم ولذتهم، وإذا حصل لهم الافتراق بعد ذلك حصل لهم التنغيص، سواء كان هذا الافتراق بسبب الموت يفرقهم، أو كان بسبب عوارض الدنيا وأشغالها وما أشبه ذلك، وبهذا نعرف أن كون أولاد الإنسان عنده بين يديه من النعم التي تستوجب الشكر.
كانوا عشرة، وقيل: كانوا خمسة ولدوا في الطائف وسبعة ولدوا في مكة، فيكون المجموع اثني عشر، أسلم منهم ثلاثة، قيل: هشام وعمارة وخالد، وقيل غير ذلك.
وهذا أبلغ في النعمة، وهو إقامتهم عنده.
وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيدًا [سورة المدثر:14]، أي: مكنته من صنوف المال والأثاث وغير ذلك.
التمهيد أصله التوطئة؛ ولذلك يقال في مقدمة الكتاب في أوله يقال: تمهيد أو يقال: توطئة، يعني: أنه يجعل كالمدخل إلى الكتاب يمهد له ببيان بعض ما يحتاج إلى بيانه في أوله.
وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيدًا أي: أن الله وطأ له ما يحتاج إليه من المال والرياش، وما يحتاج إليه من ألوان النعيم، وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيدًا، وبعض أهل العلم يذكر لها معنى آخر -لكن هذا أولى منه- يقول: وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيدًا التمهيد هو أن يكون المال متراكماً عنده بعضه فوق بعض، يقول: مثل مهاد الصبي يوضع له طبقات، فهذا هو التمهيد، لكن الأقرب أنه وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيدًا يعني: هيأت له ما يحتاج إليه ليكتمل نعيمه ولذته، وهذا الوليد بن المغيرة قد كان يقال له: "الوحيد" في مكة، كما كان يقال ذلك لأبيه، ويقال له: ريحانة قريش، فهو من أكثرهم مالاً وشرفاً، ولم يكن يدانيه في ذلك أحد في العز والشرف والغنى والمال.
العنيد من العند وهو المخالفة، فهو مخالف لآيات الله ، مخالف لنبيه ﷺ، مخالف لشرع الله -تبارك وتعالى، فهذا هو العنيد.
سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا [سورة المدثر:17] قال قتادة عن ابن عباس: "صعوداً" صخرة في جهنم يسحب عليها الكافر على وجهه.
وقال السدي: "صعوداً" صخرة ملساء في جهنم يكلف أن يصعدها.
وقال مجاهد: سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا أي: مشقة من العذاب.
وقال قتادة: عذاباً لا راحة فيه.
حينما يقول بعضهم: إن صعوداً فسروها بالصعود، سواء قيل صخرة ملساء، يصعد على صخرة ملساء يعذب وما جاء في هذا من روايات لا يصح بعضها، مثل أنه إذا وضع يده عليها ذابت يده، وما أشبه ذلك، المهم يصعد صخرة ملساء يكلف بصعود جبل في النار ويعذب بذلك.
أو من قال: سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا أي: مشقة بالغة، من أين قالوا هذا، كيف قالوا: مشقة بالغة؟ وأولائك قالوا: يصعد يكلف بالصعود، يعذب بالصعود على أمر يشق الصعود عليه غاية المشقة، مثل الذي يكلف بالعقد بين شعيرتين وهو من ادعى رؤية لم ترها عينه فيعذب، وأصحاب التصاوير يعذبون بالصور يقال: أحيوا ما خلقتم، وهكذا، فأناس يعذبون بهذا التكليف.
ومثل من قتل نفسه بحديدة، ومن قتل نفسه بسم، صاحب الحديدة يَجَأُ بها نفسه في النار، وصاحب السم يتحسّاه في نار جهنم، وهكذا، صاحب الغنم والإبل الذي لم يؤدِّ زكاتها تكون أوفر ما كانت ثم تطؤه، يقول: تفسير باللازم إذا قلنا: إنه مشقة؛ لأن الصعود يحصل منه المشقة، وفيه غير هذا من التوجيه لهذا القول، يقولون: يقال: إنه مشقة وعناء كبير لا طاقة له فيه، يقولون: من شدة التعذيب إذا عذب عذاباً شديداً فإن نفسه تصعد حتى يشم رائحة الموت، ولكنه لا يموت، فيتمنى الموت ولا يجده.
كفى بك داءً أن تَرى الموتَ شافياً | وحسْبُ المنايا أنْ يَكنّ أمانيا |
فهذا غاية المشقة والعذاب، يقولون: تصعد روحه، تصعد نفسه للخروج من شدة التعذيب، ولكنها لا تخرج، سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا أي: أنه يعذب حتى تكاد نفسه تخرج ولكنها لا تخرج، وظاهر القرآن يدل على أنه يكلف مشقة بالغة وعناء بصعود شيء لم يحدده الله هنا، ولم يرد دليل صحيح عن النبي ﷺ فيما أعلم- يدل على تحديده، لكن الذي يفهم من لغة العرب وبه قال بعض السلف أنه يكلف بالصعود، حتى تلحقه مشقة بالغة من جراء ذلك، يعذب بهذا التعذيب، وأهل النار يعذبون بألوان العذاب، فهذا الرجل توعده الله بهذه العقوبة: سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا لماذا؟ إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ [سورة المدثر:18] فـ"إنْ" هنا تدل على التعليل والتوكيد في آن واحد، كأنه يقول: سأفعل به هذا؛ لأنه فكر وقدر.
فكّر أي: أعمل ذهنه؛ لأن حقيقة التفكير هي حركة الذهن في المعقولات، وحركته في المحسوسات يقال لها: تخيل وتصور، أنت الآن إذا جلست تجيل الذهن في المحسوسات، تجيل الذهن فيمن رأيتهم وقابلتهم، وتعرض صورة فلان في ذهنك وكذا، هذا يقال له: تخيل وتصور، وإجالته في المعقولات يقال له: تفكير، هذا طبعاً عند أهل المنطق، إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ أي: أعمل ذهنه، أجال ذهنه ماذا يقول في القرآن؟ وقدر، أي: قدر قولاً يحكم به على القرآن، ويضيفه إليه، ففكر بوصف –بحكم- يلصقه بالقرآن هل هو سحر، كهانة، شعر؟ ثم قدر ما يقوله، فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ [سورة المدثر:24].
تأملوا هذه الجملة قال: دعاء عليه؛ لأن قُتل تأتي بمعنى لعن، واللعن دعاء، لا إشكال، يعني: من فسرها بأنها لعْن أو من قال: دعاء عليه فإن ذلك المعنى لا إشكال فيه، ليس هناك منافاة، والعرب تقول: قُتل فلان، ولربما قالت: قاتله الله ما أجلده وما أصبره!، تارة لا يعنون المعنى وإنما يقصدون التعجب منه، ولا شك أن هذا السياق هنا فيه معنى التعجب، فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ.
فَقُتِلَ لعن، دعاء عليه، كَيْفَ قَدَّرَ كيف هذه تعليلية، يعني: هل المعنى قُتل ثم يكون الاستفهام: كيف قدر هذا التقدير؟ كيف تجرأ عليه؟
كن كما شئت فكما تدين تدان، كن كما شئت يعني: كن على أي حال شئت فستلقى جزاءك، كما تدين تدان، فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ مثل ما تقول: سأعاقبه بذلك كيف كان، يعني: لا شأن لي بعذره، عنده عذر ما عنده عذر، عذر يتصل به عذر يتصل بغيره، عذر قاهر عذر غير قاهر، مقبول غير مقبول، سائغ غير سائغ، سأعاقبه كيفما اتفق له من العذر، أو سأعاقبه كيف كان عذره، فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ أي: قتل على أي تقدير أوقعه، سواء قال: ساحر، كاهن، شاعر، مجنون، أو قتل كيف قدر فيكون المعنى على أي حال قدر، كأنك تقول: قتل كيفما قدر، حتى أقرب لكم المعنى، فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ يعني: على أي حال، على أي تقدير قدر، لا شأن لنا به، فهو يدعو عليه بجميع أحواله.
فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ يعني: لُعن وعُذب كيف قدر، على أي حال قدر ما قدر من الكلام، على أي حال كانت منه، على أي حال صنع ما صنع، سواء كان مقتنعاً بهذا أو غير مقتنع -متردد، سواء قال: ساحر أو كاهن أو شاعر، فهو دعاء عليه على كل أحواله.
لاحظ هذا تصوير دقيق له، جلس يفكر أولاً، ثم قدر ما يقول ويلمز به القرآن ويضيف إليه، اختار بعناية الوصف الذي قصده؛ لهذا قال: سِحْرٌ يُؤْثَرُ [سورة المدثر:24] سحر يأخذه عن غيره؛ لأن النبي ﷺ ما عُرف أنه ساحر، ما هو بساحر لكن أخذ ذلك عن غيره، لو قال: مجنون ما قبلوا منه، كاهن ما يعرف بالكهانة، ولكن سحر يأخذه عن غيره، ففكر وقدر، ثم دعا عليه: فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ على أي حال كانت منه، ثم أكمل وصفه بعد ذلك.
يعني: فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ جملة اعتراضية ويكون سياق الكلام هكذا: إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ، ثُمَّ نَظَرَ، قدر ثم نظر ثُمَّ عَبَسَ قطّب، والعبوس معروف.
ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ [سورة المدثر:22] بسر: كثير من السلف يقولون: معناها -وهو قول معروف في اللغة: اسود وكلح، يعني: ازداد في العبوس، في البداية عبس ثم بسر: ازداد عبوساً وكلح واسود وجهه، فهو بعد هذا التفكير والتقدير والنظر اعترته حالة فقال بعد ذلك ما قال، عَبَسَ وَبَسَرَ.
وبعض أهل العلم يفسرون البسور بظهور الأسنان، وهذا من شدة العبوس، يكون من شدة العبوس أو الألم أو نحو هذا، وهو أحد التفسيرات المشهورة في قوله: وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ [سورة القيامة:24] بمعنى: أنه إذا احترق وعرض على النار ينشدّ لحم الوجه فينجلي ذلك عن الأسنان فتظهر أسنانه، مثل رأس البهيمة إذا عرض على النار، كانت أسنانها مغطاة حينما ذبحت هذه البهيمة، فإذا عرض الرأس على النار ينشدّ الوجه ثم الأسنان تكون ظاهرة بادية، فهذا فسر به قوله -تبارك وتعالى: وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ أحد التفسيرات المشهورة أنه يقلب على النار -والعياذ بالله- وتظهر أسنانه من احتراق الوجه.
وقوله:ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ [سورة المدثر:23] أي: صُرف عن الحق، ورجع القهقرى مستكبراً عن الانقياد للقرآن.
فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ يُؤْثَرُ [سورة المدثر:24] أي: هذا سحر ينقله محمد عن غيره ممن قبله ويحكيه عنهم؛ ولهذا قال: إِنْ هَذَا إِلا قَوْلُ الْبَشَرِ [سورة المدثر:25] أي: ليس بكلام الله.
وهذا المذكور في هذا السياق هو: الوليد بن المغيرة المخزومي، أحد رؤساء قريش -لعنه الله، وكان من خبره في هذا ما رواه العوفي عن ابن عباس قال: دخل الوليد بن المغيرة على أبي بكر بن أبي قحافة فسأله عن القرآن، فلما أخبره خرج على قريش فقال: يا عجباً لما يقول ابن أبي كبشة، فوالله ما هو بشعر ولا بسحر ولا بهذْي من الجنون، وإن قوله لمن كلام الله، فلما سمع بذلك النفرُ من قريش ائتمروا وقالوا: والله لئن صبأ الوليد لتصْبُوَ قريش، فلما سمع بذلك أبو جهل بن هشام قال: أنا والله أكفيكم شأنه، فانطلق حتى دخل عليه بيته فقال للوليد: ألم تر قومك قد جمعوا لك الصدقة؟ فقال: ألستُ أكثرهم مالاً وولداً؟ فقال له أبو جهل: يتحدثون أنك إنما تدخل على ابن أبي قحافة لتصيب من طعامه، فقال الوليد: أقَدْ تحدَّث به عشيرتي؟! فلا والله لا أقرب ابن أبي قحافة، ولا عمر، ولا ابن أبي كبشة، وما قوله: إِلا سِحْرٌ يُؤْثَرُ، فأنزل الله على رسوله: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا [سورة المدثر:11] إلى قوله: لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ [سورة المدثر:28].
وقال قتادة: زعموا أنه قال: والله لقد نظرت فيما قال الرجل فإذا هو ليس بشعر، وإن له لحلاوة...
يعني عرف أحقيته في البداية؛ لهذا قال الله : ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ بعدما عرف، كما قال الله : ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ [سورة الأنبياء:65] لما حاجّهم إبراهيم ﷺ وقال لهم: كيف تعبدون هذه الأصنام؟ في البداية وقفوا فَرَجَعُوا إِلَى أنْفُسِهِم فَقَالُوا إنَّكُمْ أنْتُمُ الظَّالِمُونَ ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاء يَنطِقُونَ.
وهكذا هؤلاء الكفرة في كل زمان، موسى ﷺ لما قال لهم في ذلك الموقف الكبير لما اجتمع السحرة، وفي أقل تقدير رأيته في كتب التفسير أنهم بلغوا اثني عشر ألف ساحر من مهرة السحرة، دعنا من الذين قالوا وعددوا أعداداً رهيبة أكثر من هذا، أقل تقدير رأيته اثنا عشر ألف ساحر الذين اجتمعوا؛ لأنه قال: ائْتُونِي بِكُلِّ [سورة يونس:79] بلد ينتشر فيها السحر، بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ فاجتمعوا.
فقال لهم موسى -عليه الصلاة والسلام- كلمة حق: وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى [سورة طه:61، 62] بدأ التخلّى، فككتهم هذه الكلمة، فأسروا النجوى؛ لئلا يظهر للطرف الآخر أن هناك شرخاً في الصف، وبدأت الآراء ووجهات النظر تختلف، دب الخلاف فأسروا ذلك؛ لئلا يتقوى به الخصم، كما يفعل أعداء الله في كل مكان في أحلافهم فيكون بينهم من الشر والخلاف والنزاع ما يسرون به ولا يظهر إلا إذا ظهرت رائحته، وزكمت الأنوف فعرفه الطرف الآخر، لكن يحاولون دائماً دفنه، فيظهرون بصف واحد قوي متماسك وأنه حلف في غاية القوة والالتئام.
وَأَسَرُّوا النَّجْوَى ثم حث بعضهم بعضاً على المضي والإقدام، وأن يأتوا صفاً: فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا [سورة طه:64] هذا في فرعون ومن معه، من جمعهم من السحرة.
وإن عليه لطلاوة، وإنه ليعلو وما يعلى، وما أشك أنه سحر، فأنزل الله: فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ الآية، ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ قبض ما بين عينيه وكلح.
قال الله تعالى: سَأُصْلِيهِ سَقَرَ [سورة المدثر:26] أي: سأغمره فيها من جميع جهاته.
كلمة: سَأُصْلِيهِ تدل على معنيين -والله تعالى أعلم، تدل على الدخول وتدل على مقاساة حرها -الاحتراق، مثلما تقول: صليت اللحم، صليت الشاة في النار، شاة مصلية، يعني: مشوية بالنار، فصَلْيُ النار أي: دخولها ومقاساة حرها، ولا شك أن المعنيين متلازمان، فهم يدخلونها ويقاسون حرها، يعرضون عليها فيصيبهم من لهيبها وإحراقها سَأُصْلِيهِ سَقَرَ أُحرِقه بالنار، معنى الصلي هو الإحراق بالنار، وهذا إنما يكون بدخولها.
سقر اسم من أسماء النار، وبعضهم يقول: هي الطبقة السادسة، وبعضهم يقول غير ذلك، لكن سَأُصْلِيهِ سَقَرَ سأدخله وأحرقه بسقر وهي النار.
وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ هذا الأسلوب: الاستفهام الذي يدل على الإبهام يدل في مقامات الوعيد على شدة الهول وشناعته، مثل قوله: الْقَارِعَةُ {مَا الْقَارِعَةُ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ [سورة القارعة:1-3]، والْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ [سورة الحاقة:1-3].
وهنا: وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ، فهذا الإبهام بصيغة الاستفهام يدل على تهويل الأمر وعظمه، وفظاعته في مقامات الوعيد، هذه قاعدة، ولهذا قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله- هنا: وهذا تهويل لأمرها وتفخيم، ثم فسر ذلك بوصف النار.
لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ معروف أن أهل النار لا يموتون فيها، فـ لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ لا يفهم منها أنهم يصيرون إلى العدم وأن النار تفنيهم، الله أخبر أنه: كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا [سورة النساء:56] فكلام الحافظ ابن كثير في غاية الدقة، هذا الموطن موطن إشكال عند بعض المفسرين، سؤال يطرح، لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ معناها أنها تفنيهم، لا يبقى منهم شيء، ومعلوم أنهم في النار يعذبون أبداً فكيف يجاب عن هذا السؤال؟
عبارة الحافظ ابن كثير فيها الجواب: لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ أي: أنها تحرقهم، تحرق العصب والعظم واللحم ولا تبقي من ذلك شيئاً، لكنه يجدد، كلما أحرقت شيئاً وأتلفته جُدد ذلك لصاحبه، فيعذب هكذا دائماً، وإلا فهي تحطم كل شيء، حُطَمة وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ [سورة الهمزة:5-8] تتوقد عليهم، فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةٍ [سورة الهمزة:9] فقوله: لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ الجواب عنه: أن النار تحطمهم وتحرقهم ثم بعد ذلك يحصل لهم تجدد في الجلود وغيرها، لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ.
مثلما يقال: لا يترك له شاردة ولا واردة، فكثير من أهل العلم يقولون: هذا للتوكيد لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ، وبعضهم يقول: لا تبقي شيئاً من أبشارهم أو جلودهم أو كذا، ولا تذر شيئاً من أبعاضهم وأجزائهم إلا أحرقته.
فهذا أسلوب عربي معروف يراد به أنها تأتي عليهم بحيث لا يَبقى لهم شيء إلا أحرقته، هذا المراد لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ.
وهم في ذلك لا يموتون ولا يحيَوْن، قاله ابن بريدة وأبو سنان وغيرهما.
وقوله: لَوَّاحَةٌ لِّلْبَشَرِ [سورة المدثر:29] قال مجاهد: أي للجلد، وقال قتادة: لَوَّاحَةٌ لِّلْبَشَرِ أي: حرّاقة للجلد، وقال ابن عباس: تحرق بشرة الإنسان.
هذه العبارات: "لوَّاحة"، ولفظة "البشر"، كل هذه العبارات التي ذكرها ترجع إلى معنى واحد: أن لوَّاحة يعني: أنها تغير الجلد، تحرقه فيتغير، هذا معنى لوَّاحة على هذا التفسير، كما قال الشاعر:
وتَعجبُ هندٌ أنْ رأتني شاحباً | تقول: لَشَيءٌ لوّحتْهُ السمائمُ |
يعني: الهواء الحار السموم، فإذا لفح الإنسان وتعرض للهواء الحار فإنه يتغير لونه، فهذه لوَّاحة بمعنى أنها مغيرة للبشرة، البشر ليس الناس على هذا التفسير، وإنما المقصود به الأبشار ظاهر الجلد، يلوح لها ظاهر الجلد، أي: يضرب إلى السواد، يتغير، يسود، ويتنفط وينتفخ، لوَّاحة تغير ظاهر الجلد بسبب الإحراق، وهذا شيء مشاهد في نار الدنيا فما بال نار الآخرة؟! فتكون إذن لواحة معناها: مغيرة تسود بسببها البشر أي: الأبشار وليس البشر يعني الناس على هذا التفسير.
وتحتمل الآية معنى آخر: لَوَّاحَةٌ من معنى لاح يلوح أي ظهر، أي: أنها تلوح للبشر ليس الأبشار وإنما للناس إِذَا رَأَتْهُم مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا [سورة الفرقان:12]، وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ [سورة الشعراء:91]، أو وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَن يَرَى [سورة النازعات:36] فصاروا يشاهدونها، تلوح لهم من بعيد فيرونها، يراها البشر والجن، لكن الخطاب يتوجه غالباً إلى البشر إما لأنهم الأشرف أو لأن الأنبياء منهم فالجن تبع لهم.
لَوَّاحَةٌ لِّلْبَشَرِ عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ، فصار عندنا معنيان: إما لوَّاحة أي: مغيرة للأبشار -ظاهر الجلد، أو لواحة من لاح أي: ظهر، تظهر لهم فيرونها، وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَن يَرَى [سورة النازعات:36]، والله تعالى أعلم.
وأقرب هذين المعنيين هو المعنى الأول: أنها مغيرة، والمعنى الثاني ليس ببعيد، وكل ذلك واقع؛ لأن النار تحرقهم وتغير أبشارهم وهم يرونها، كما قال الله : وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَن يَرَى، لَوَّاحَةٌ لِّلْبَشَرِ ولكن المعنى الأول أبلغ وأكثر في الوعيد، هو يصف النار وإحراقها: سَأُصْلِيهِ سَقَرَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ لَوَّاحَةٌ لِّلْبَشَرِ [سورة المدثر:26-29]، فهل قصد أنهم يرونها وتلوح لهم أو قصد أنها تحرقهم وتغير أبشارهم؟ الثاني هو الأقرب، والله تعالى أعلم.
وقوله تعالى: عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ [سورة المدثر:30] أي: من مقدَّمي الزبانية، عظيم خلْقهم، غليظ خلُقهم.
وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ كَلَّا وَالْقَمَرِ وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ نَذِيرًا لِلْبَشَرِ لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ [سورة المدثر:31- 37]
عدد خزنة جهنم وما قاله الكفار حول ذلك:
عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ من مقدَّمي الزبانية، عظيم خلْقهم، غليظ خلُقهم، عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ تسعة عشر على ظاهره: تسعة عشر ملكاً، وهذا هو الذي أوقع الاشتباه والإشكال عند المشركين، فقالوا: مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا [سورة المدثر:31] لماذا تسعة عشر؟ ما كمّل على الأقل الرقم إلى العقود كأن يقول: عشرون، ثلاثون، مائة، فهذه ناحية في الاشتباه، لماذا تسعة عشر بالذات؟ لماذا نقص من العدد الكامل واحداً؟
والاشتباه الثاني: أن تسعة عشر عدد قليل، الجن والإنس منذ آدم ﷺ إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها تسعة عشر!؛ ولهذا قال من قال كأبي الأشد وهو كان من أقوى قريش، كان يقف على جلد البقرة ويأتي عشرة رجال يجرونه من تحته فيتمزق الجلد وهو لا يتحرك من مكانه، صخرة، فكان يتبجح ويقول: تسعة عشر عشرة أضربهم بمنكبي الأيمن، وتسعة بمنكبي الأيسر -باعتبار الأيسر أضعف- وينتهي الأمر، وربما قال غير ذلك، فكان ذلك فتنة لهم وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ الملائكة هؤلاء إِلَّا فِتْنَةً يعني هذا العدد، من جهة القلة ومن جهة اختيار الرقم تسعة عشر، لماذا اختارهم؟
نقول: الله لا يسأل عما يفعل، ولا حاجة لقول من قال: إن هؤلاء هم النقباء، وكل واحد معه جماعة لا يحصيهم إلا الله من الأعوان، كما أن ملك الموت واحد ومعه أعوان قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ [سورة السجدة:11]، حَتَّى إِذَا جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ [سورة الأعراف:37] جمع رسل، كيف تجمع بين قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ وبين جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ؟ يقال: ملك الموت له أعوان.
بعض العلماء هنا قال: الأمر كذلك، هؤلاء هم النقباء، وكل واحد معه مجموعة لا يعلمها إلا الله ، يقال: هذا لا حاجة إليه ولا دليل عليه، وإلا كيف يكون فتنة؟ وبعضهم يقول: عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ أي: تسعة عشر صفاً من الملائكة، وهذا بعيد جداً في غاية البعد، وهؤلاء الذين قالوا بهذه الأقوال كأنهم تقالّوا هذا العدد تسعة عشر، والله أخبر أن هذا فتنة للكفار، فالمؤمن يستيقن أن هذا حق وثابت، وأن الملائكة لا يقاسون بالبشر، وأن جنود الله لا يعلمها ويحصيها إلا هو، ومع ذلك اختار هذا العدد، فملَك واحد يأخذ قرى قوم لوط، ذُكر أن جبريل ﷺ بريشة من جناحه حمل القرى -التراب والأرض وما عليها من البشر والحيوانات والحجارة وكل شيء- ورفعها فوق، ثم قلبها، وأتبعهم بالحجارة، ملك واحد، الملائكة ليس كالبشر، بعضهم يقول: تِسْعَةَ عَشَرَ تسعة عشر صنفاً من الملائكة كل صنف عددهم لا يحصيه إلا الله، هذا تكلف لا حاجة إليه، يعني الذي حملهم هو استغراب العدد، ولا يليق هذا بالمؤمن.
عدد خزنة جهنم وما قاله الكفار حول ذلك:
يقول تعالى: وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ [سورة المدثر:31] أي: خُزّانها، إِلَّا مَلَائِكَةً زبانية غلاظاً شداداً، وذلك رد على مشركي قريش حين ذكر عدد الخزنة، فقال أبو جهل: يا معشر قريش أما يستطيع كل عشرة منكم لواحد منهم فتغلبونهم؟ فقال الله تعالى: وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلا مَلائِكَةً أي: شديدي الخَلْق لا يقاومون ولا يغالبون، وقد قيل: إن أبا الأشدين...
المعروف الذي يذكر في عامة الكتب أبو الأشد.
واسمه: كَلَدَة بن أسيد بن خلف قال: يا معشر قريش، اكفوني منهم اثنين وأنا أكفيكم منهم سبعة عشر، إعجاباً منه بنفسه، وكان قد بلغ من القوة فيما يزعمون أنه كان يقف على جلد البقرة ويجاذبه عشرة لينزعوه من تحت قدميه، فيتمزق الجلد ولا يتزحزح عنه.
وقوله تعالى: وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا أي: إنما ذكرنا عدتهم أنهم تسعةَ عشرَ اختبارًا منا للناس.
أصل الفتنة هي الفَتْن وهو عرض الشيء على النار، المعدن الذهب أو غيره، ليخرج بذلك الذهب الخالص ويتميز عن شوائبه، هذا هو أصل الفتْن، وهكذا الاختبار تتجلى فيه حقائق الناس فيتبين به من كان منهم صادقاً ومن كان كاذباً، ومن كان ثابتاً ومن كان متردداً، فهذا أصل الفتْن هو العرض على النار إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ [سورة البروج:10] أي: أحرقوهم بالنار على أحد التفسيرات، أو فتنوهم في دينهم، ولا معارضة ومنافاة؛ لأنهم عرضوهم على النار -أحرقوهم- في قصة الأخدود: فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، إِلا فِتْنَةً وتطلق الفتنة على نتيجة الاختبار، ومنه: ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ [سورة الذاريات:14]، أيكم المفتون؟ إِلا فِتْنَةً بعضهم يقول: إلا ضلالة أو محنة أو عذاباً، بمعنى المحنة: الاختبار، والضلالة هي نتيجة أنه إذا اختُبر ضل، فهذا من باب التفسير باللازم، ومن قال عذاباً فكما قلت لكم: الفتْن أصله الإحراق، إِلا فِتْنَةً إلا عذاباً، والله أعلم.
لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ أي: يحصل لهم اليقين؛ لأنهم وجدوا قوله موافقاً ومطابقاً لما في كتبهم، فيعلمون أن ما جاء به ﷺ حق.
وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا إيماناً إلى إيمانهم، أي: بما يشهدون.
وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا يزدادون إيماناً إما من جهة الكمية أو من جهة الكيفية، ويمكن أن يجتمع الأمران، من جهة الكمية فهم كلما آمنوا بحقيقة من حقائق الدين كان ذلك زيادة في الإيمان، فالإيمان يزيد وينقص، فإذا أخبرهم أن أصحاب النار ملائكة وأنهم تسعة عشر فآمنوا بهذه الحقيقة كان ذلك زيادة في الإيمان، كما في أثر ابن عباس أن الله حينما بعث نبيه ﷺ بعثه بشهادة أن لا إله إلا الله، فآمن من آمن، ثم افترض عليهم الصلاة فزادهم إيماناً، الصلاة صارت زيادة في الإيمان، ثم فرض عليهم الزكاة فكان ذلك زيادة في إيمانهم، ثم فرض عليهم الصيام وهكذا، فهذا كله من باب الزيادة، ومن جهة الكيفية: وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا من جهة الكيفية بمعنى: أنهم إذا رأوا أهل الكتاب عندهم في كتبهم مثل هذا -وهم أهل علم- فوافق الذي ذكر وهو رقم تسعة عشر من الملائكة هذا فيكون إيمان أهل الإيمان أوثق، وبعض أهل العلم يقول: وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا أي: المؤمنون من أهل الكتاب، والمعنى أعم من هذا، أهل الكتاب يحصل لهم اليقين، وأهل الإيمان يزدادون من جهة الكمية والكيفية.
وَلا يَرْتَابَ الَّذِينَ الآن لاحظ ماذا قال؟ لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ، وبشأن المؤمنين قال: وَيَزْدَادَ، ثم قال: وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ أثبت اليقين لهؤلاء وزيادة الإيمان ثم قال: وَلا يَرْتَابَ فيقال: إثبات اليقين وزيادة الإيمان، ونفي الريب هنا إن رجعا إلى شيء واحد وفسر المعنى به يكون من قبيل التوكيد أنه يقين، يكون ذلك مقرِّراً لهذا اليقين ومؤكداً له، فهو يقين لا يداخله ريب، يقين ثابت راسخ لا يداخله الريب وَلا يَرْتَابَ؛ لأن العلم إذا رسخ وثبت وكان محققاً فإن صاحبه لا يحصل له التشكيك، إنما يحصل ذلك لمن كان إيمانه ضعيفاً لجهل، أو بطريق الوراثة فقط من غير علم، والله تعالى أعلم.
ويمكن أن يكون ذلك يرجع إلى شيئين: وَلا يَرْتَابَ تكون راجعة إلى غير ما يرجع إليه قوله: لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ فالخبر عن عدد الملائكة يكون لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا، وعدم الريب: وَلا يَرْتَابَ نفْىُ الريب عن أهل الكتاب بعد ذلك وعن المؤمنين يكون إلى عموم ما أخبر به النبي ﷺ، يعني: حينما ذكر لهم العدد تسعة عشر يحصل اليقين لأهل الكتاب لأنه يوافق العدد الذي عندهم، وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا من جهة الكمية والكيفية، آمنوا بحقيقة جديدة ورأوا ما ذكره النبي ﷺ موافقاً لما عند أهل الكتاب، أهل الكتاب يقرون به فازدادوا إيماناً، وَلا يَرْتَابَلا يحصل الريب في صدق ما جاء به محمد ﷺ وأنه مخبر عن الله فيما يقوله ويبلغه من حقائق الدين عموماً، فهذا نموذج حصل لهم بسببه اليقين فانتفى عنهم الريب فيما جاء به محمد -عليه الصلاة والسلام- بشكل عام، والله أعلم.
المثل يطلق بإطلاقات متعددة، فلا تفهمْ منه المثل المتبادر اليوم في أذهان السامعين، وهو الجملة المحكية التي لها مورد ومضرب، قيلت في مناسبة، ثم تقال بعد ذلك في أشباهها، مثل قولك: الصيفَ ضيّعتِ اللبنَ، رجل أراد أن يتزوج امرأة، رجل كبير وعنده مال وغنم وإبل وأراد أن يتزوج امرأة شابة فأبت، فأصابتها حاجة وفقر فجاءت إليه في الشتاء، الشتاء عادة هو وقت القحط والجفاف والفقر والحاجة والجوع، فجاءت إليه وقالت: أعطنا منها، خطبها في الصيف فأبت، فقال: الصيفَ ضيعتِ اللبنَ، الآن آتية تريدين اللبن!، يعني: يوم خطبتك أبيتِ الآن ما عندي شيء، الصيف ضيعت اللبن، فهذا هو المثل المتبادر.
لكن هذا نوع مما يطلق عليه المثل، مثَل يأتي بمعنى الصفة: مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ [سورة الرعد:35] يعني: صفة الجنة التي وعد المتقون، وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ [سورة العنكبوت:43]، مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً [سورة البقرة:17] ليس معناه المثل الذي له مورد، هذا ما له وجود في القرآن أصلاً، هذا المثل المعروف عند الأدباء لا وجود له في القرآن، لا يوجد في القرآن هذه الأمثال، إنما يوجد في أشياء سارت سير الأمثال، مثل بعض العبارات التي استعملت استعمال الأمثال في القرآن استعملها الناس بعد ذلك، وَلَوْ تَوَاعَدتَّمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ [سورة الأنفال:42] ممكن أن بعض الناس يستعمل هذا، وما أشبه ذلك مما تستعمل به العبارة نفسها.
أو ما يكون متضمناً لمعنى المثل، مثل: كما تدين تدان، يوافقها من القرآن وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مثْلُهَا [سورة الشورى:40]، وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ [سورة فاطر:43]، هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ [سورة الرحمن:60]، جَزَاء وِفَاقًا [سورة النبأ:26]، وما أشبه ذلك.
فهناك أشياء معنى المثل فيها موجود في القرآن، وأشياء وألفاظ استعملت استعمال المثل بعد ذلك، لكن الأمثال التي في القرآن لها مورد وكذا والله يتمثل بها هذا لا يوجد في القرآن، المثل يأتي أحياناً بمعنى التشبيه وبمعنى الصفة وبمعنى الحال، مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً، وهنا: مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا أي: بهذا العدد المستغرَب استغراب المثل؟ والله تعالى أعلم، وفي ذكر هذا واستغراب مستغرِب من استغراب المثل قال تعالى: كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاء كذلك أي: كهذا الإضلال الذي أضل به الكفار.
هنا ذكر خمس حِكَم واضحة في هذه القضية، قال: فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ، الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ هذه الآية مكية، السورة مكية، وكما سبق أن بعض العلماء قال: هي مدنية بناء على أن المنافقين كانوا في المدينة وأهل الكتاب، وهذا لا يحملنا على القول بأنها مدنية، بناء على القاعدة السابقة.
فالذين في قلوبهم مرض: يأتي المرض بمعنى النفاق، فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً [سورة البقرة:10] مرض النفاق، ويأتي بمعنى ضعف الإيمان والتردد مثل: وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا [سورة الأحزاب:12]، الذين في قلوبهم مرض بعض العلماء يقول: هذا من عطف الأوصاف: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى [سورة الأعلى:1-4] الموصوف واحد، فالمنافقون والذين في قلوبهم مرض شيء واحد ذكر لهم صفتين.
وبعضهم يقول: لا، هم المنافقون المعروفون، والذين في قلوبهم مرض المتشككون المترددون من ضعفاء الإيمان، ويطلق المرض الإطلاق الثالث -في موضع واحد في القرآن- على الميل المحرم للنساء: فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ [سورة الأحزاب:32].
فالحاصل هنا يقول: وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يعني سواء أهل النفاق أو ضعفاء الإيمان أو غير ذلك.