الجمعة 20 / جمادى الأولى / 1446 - 22 / نوفمبر 2024
[10] من قول الله تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَآئِيلَ} الآية 12 إلى قوله تعالى: {وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللّهُ} الآية 14
تاريخ النشر: ٢٨ / محرّم / ١٤٢٧
التحميل: 3083
مرات الإستماع: 2163

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المفسر -رحمه الله تعالى- في تفسير سورة المائدة:

وَلَقَدْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَآئِيلَ وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاَةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنتُم بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَّأُكَفِّرَنَّ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ ۝ فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىَ خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلًا مِّنْهُمُ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ۝ وَمِنَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللّهُ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ [سورة المائدة:12-14].

لما أمر تعالى عباده المؤمنين بالوفاء بعهده وميثاقه الذي أخذه عليهم على لسان عبده ورسوله محمد ﷺ وأمرهم بالقيام بالحق والشهادة بالعدل، وذكَّرهم نعَمَه عليهم الظاهرة والباطنة فيما هداهم له من الحق والهدى، شرع يبين لهم كيف أخذ العهود والمواثيق على من كان قبلهم من أهل الكتابين -اليهود والنصارى، فلما نقضوا عهوده ومواثيقه أعقبهم ذلك لعنًا منه لهم وطردًا عن بابه وجنابه، وحجابًا لقلوبهم عن الوصول إلى الهدى ودين الحق، وهو العلم النافع والعمل الصالح، فقال تعالى: وَلَقَدْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَآئِيلَ وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا [سورة المائدة:12] يعني عُرَفاء على قبائلهم بالمبايعة والسمع والطاعة لله ولرسوله ولكتابه.

وقد ذكر محمد بن إسحاق وابن عباس -ا- وغير واحد أن هذا كان لما توجه موسى لقتال الجبابرة فأُمر بأن يقيم نقباء، من كل سبط نقيب.

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله -تبارك وتعالى: وَلَقَدْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَآئِيلَ الميثاق هو العهد المؤكد.

وقوله: وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا [سورة المائدة:12] النقيب أعلى مرتبة من العريف، وأصله لعله مأخوذ من النقب وهو الطريق والمدخل بين الجبلين، فكأن هذا النقيب سمي بهذا لأنه الطريق إلى التعرف على أحوال القوم وأمورهم وقضاياهم، والمراد به كبير القوم.

وهؤلاء النقباء لعل أحسن ما يفسروا به -والله تعالى أعلم- هو ما ذكره الحافظ ابن كثير -رحمه الله- هنا، أي: أنهم جُعلوا على قبائل بني إسرائيل أي على الأسباط، وعدد هذه القبائل أو الأسباط اثنا عشر، وكل قبيلة عليها نقيب يتفقد أمورهم ويرعى أحوالهم، ويطلع على شئونهم.

وقد أخذ عليهم الميثاق وجعل عليهم هؤلاء النقباء لأجل أن يسمعوا ويطيعوا، هذا هو المعنى الذي مشى عليه الحافظ ابن كثير -رحمه الله- وهو اختيار ابن جرير وهو أحسن الأقوال.

ثم ذكر بعده قولًا آخر وهو أن هؤلاء اختارهم موسى ﷺ حينما ساروا إلى الجبارين، يقول: "هذا كان لما توجه موسى لقتال الجبابرة فأُمر بأن يقيم نقباء، من كل سبط نقيب" قيل: هذا من أجل أن يأتوا بخبر الجبارين، وهذا فيه بعد؛ لأن الله يتحدث عن بني إسرائيل عمومًا وعن بعث النقباء عليهم، وقول الله لهم: إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاَةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ [سورة المائدة:12] إلى آخره، فكأنه شيء عام في بني إسرائيل لا يختص بقضية الجبارين والتعرف على أحوالهم وأخبارهم وعددهم وقوتهم وما أشبه هذا، والله تعالى أعلم.

وهكذا لما بايع رسول الله ﷺ الأنصار ليلة العقبة كان فيهم اثنا عشر نقيبًا، ثلاثة من الأوس وهم: أسيد بن الحضير وسعد بن خيثمة ورفاعة بن عبد المنذر ويقال بدله: أبو الهيثم بن التيهان وتسعة من الخزرج، وهم أبو أمامة أسعد بن زرارة، وسعد بن الربيع، وعبد الله بن رواحة، ورافع بن مالك بن العَجْلان، والبراء بن معرور، وعبادة بن الصامت، وسعد بن عبادة، وعبد الله بن عمرو بن حرام، والمنذر بن عمر بن خنيس وقد ذكرهم كعب بن مالك في شعر له كما أورده ابن إسحاق -رحمه الله.

والمقصود أن هؤلاء كانوا عرفاء على قومهم ليلتئذٍ عن أمر النبي ﷺ لهم بذلك، وهم الذين ولوا المعاقدة والمبايعة عن قومهم للنبي ﷺ على السمع والطاعة.

وقوله تعالى: وَقَالَ اللّهُ إِنِّي مَعَكُمْ أي: بحفظي وكَلاءتي ونصري.

هذا الخطاب متوجه إلى بني إسرائيل المحدَّث عنهم أصلًا بأنهم الذين أخذ الله عليهم الميثاق وبعث منهم النقباء، فقال الله لهم: إِنِّي مَعَكُمْ أو أن ذلك يرجع إلى النقباء خاصة، وهذا يمكن أن يكون باعتبار المعنى الآخر، أي لما بعثهم موسى -عليه الصلاة والسلام- واختارهم ليكونوا أمناء ليأتوا بخبر الجبارين، فالله قال لهم: إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاَةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنتُم بِرُسُلِي إلى آخره.

والأقرب والله تعالى أعلم هو الأول، أي أن ذلك يرجع إلى بني إسرائيل فالله يذكر ما وقع لبني إسرائيل من أخذ الميثاق ومن معيته لهم إنْ هم وفوا له بعهوده فلما نكثوا لعنهم وطردهم وأبعدهم، فيكون قوله: إِنِّي مَعَكُمْ يرجع إلى أهل الكتاب من بني إسرائيل ولا يختص ذلك بالنقباء.

وقوله: وَقَالَ اللّهُ إِنِّي مَعَكُمْ أي: بحفظي وكَلاءتي ونصري، يعني المعية الخاصة بالنصر والتأييد

لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاَةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنتُم بِرُسُلِي [سورة المائدة:12] أي: صدقتموهم فيما يجيئونكم به من الوحي.

وَعَزَّرْتُمُوهُمْ [سورة المائدة:12] أي: نصرتموهم وآزرتموهم على الحق.

يلاحظ أن هذا الكلام أحرى أن يرجع إلى بني إسرائيل ولا يختص بالنقباء؛ لأن هذا مما طولب به الإسرائيليون جميعًا ومما أخذ عليهم به الميثاق.

وقوله: وَعَزَّرْتُمُوهُمْ أي: نصرتموهم وآزرتموهم على الحق" التعزير يأتي لمعنيين: يأتي بمعنى التعظيم ويأتي بمعنى التأديب، تقول: فلان يجب أن يعزر، ويقال: فلان حُكِم عليه بالجلد تعزيرًا يعني تأديبًا، ويأتي بمعنى التعظيم كما في قوله تعالى: لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ [سورة الفتح:9] يعني تعظموه، وتنصروه وما أشبه ذلك.

فإذا قلنا بالمعنى الأول الذي هو النصر أو التعظيم فالمعنى ظاهر، وإذا فسر بالمعنى الثاني الذي هو التأديب يمكن أن يوجه باعتبار منع الأعداء من الوصول إليهم بجهادهم وصد عاديتهم لكنه بهذا الاعتبار لا يخلو من تكلف، والمعنى الأقرب المتبادر هو الأول، أي وعزرتموهم بمعنى عظمتموهم ونصرتموهم والله تعالى أعلم.

وَأَقْرَضْتُمُ اللّهَ قَرْضًا حَسَنًا [سورة المائدة:12] وهو الإنفاق في سبيله وابتغاء مرضاته.

كل هذه المعاني في القرض الحسن، أو قول من قال: ما طابت به النفس، أو قول من قال: إنه الحلال الطيب، أو قول من قال: إأنه ما أريد به وجه الله ، فهذا كله من أوصاف القرض الحسن؛ لأنه لا يكون من القرض الحسن إذا كان فيه منَّة، أو كان على عوض يرجوه الإنسان عاجلًا في الدنيا، كالذي يريد الرياء بذلك أو السمعة أو نحو هذا، فهذا لا يكون قرضًا حسنًا. 

وكذلك لا يكون قرضًا حسنًا إذا كانت نفس الإنسان تتحرق على هذا المال، كما ورد في سورة براءة عن بعض الأعراب حيث قال الله : وَمِنَ الأَعْرَابِ مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَمًا [سورة التوبة:98] أي يجد أن هذا الإنفاق من الغرم وأنه قد قطع من قلبه، وأنه غير مخلوف عليه، فهو يدفعه مرغمًا كارهًا ليدفع التهمة عن نفسه مثلًا، وما أشبه ذلك من المعاني الفاسدة التي يريد أن يصل إليها. 

فهذه المعاني التي ذكرناها للقرض الحسن سواء أنه من الحلال أو غير ذاك من المعاني لا تحتاج إلى ترجيح، وإنما نقول: كلها أوصاف للقرض الحسن؛ لأنه لا يكون حسنًا إلا بأن يكون من الكسب الطيب الحلال ويراد به وجه الله ولا يلحقه ما يبطله كالمنة كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء النَّاسِ [سورة البقرة:264] وما شابه ذلك.

لَّأُكَفِّرَنَّ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ [سورة المائدة:12] أي: ذنوبكم أمحوها وأسترها ولا أؤاخذكم بها وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ [سورة المائدة:12] أي: أدفع عنكم المحذور وأحصل لكم المقصود.

وقوله: فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ [سورة المائدة:12] أي: فمن خالف هذا الميثاق بعد عَقْده وتوكيده وشدِّه، وجحَدَه وعامله معاملة من لا يعرفه فقد أخطأ الطريق الواضح وعدل عن الهدى إلى الضلال.

ثم أخبر تعالى عما أحل بهم من العقوبة عند مخالفتهم ميثاقه ونقضهم عهده فقال: فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ [سورة المائدة:13] أي: فبسبب نقضهم الميثاقَ الذي أخذ عليهم لعناهم أي: أبعدناهم عن الحق وطردناهم.

قوله: فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ يقول ابن كثير هنا: "أي: بسبب نقضهم الميثاقَ" يعني أن الباء سببية، والمعربون يقولون: إن "ما" زائدة، ويقصدون زائدة إعرابًا وليست زائدة في المعنى؛ لأنها هنا تؤكد المعنى وتقويه؛ ولأنه لا يصح أن يقال: إن في القرآن شيئًا زائدًا، فالوحي منزه عن هذه الزيادة. 

وعلى كل حال كل ما جاء به الوحي فهو لمعنى لكنهم يقصدون بذلك أنه زائد إعرابًا أي لا محل له من الإعراب، حتى إن بعضهم يتأدب في العبارة فيقول: إنها صلة، وإذا قالوا: صلة فإنهم يقصدون زائدة إعرابًا، لكنهم تلطفوا في التعبير مع أنه لا مانع أن يقال: زائد إعرابًا أي بهذا القيد أو يقال: صلة لكن لا تطلق الزيادة عند التفسير فيقال مثلًا: "ما" زائدة هكذا بدون قيد، لكن إذا فهم المعنى وقيد بما ذكر فالأمر في هذا سهل -إن شاء الله.

فالمقصود أن معنى قوله: فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ أي فبسبب نقضهم ميثاقهم حصل لهم اللعن، وهذه الآية تفسر قوله تعالى: وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي [سورة البقرة:40]، حيث إنه أبهم عهده في آية البقرة، وفي آية المائدة بين ذلك العهد بقوله: لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاَةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنتُم بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللّهَ قَرْضًا حَسَنًا [سورة المائدة:12]، وعهدهم الذي ذكره في البقرة بقوله: أُوفِ بِعَهْدِكُمْ بينه هنا أيضًا بقوله: لَّأُكَفِّرَنَّ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ [سورة المائدة:12] لكنهم نقضوا وما وفوا بالعهد فلعنهم وأبعدهم وطردهم، وقطعهم في الأرض أممًاَ وأحل بهم النقم.

أي: فبسبب نقضهم الميثاقَ الذي أُخذ عليهم لعناهم أي: أبعدناهم عن الحق وطردناهم عن الهدى.

وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً أي: فلا يتعظون بموعظة لغلظها وقساوتها.

قوله: وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً في قراءة حمزة -وهي قراءة متواترة: (وجعلنا قلوبهم قسيَّة) يعني قاسية.

يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ [سورة المائدة:13] أي فسدت فهومهم وساء تصرفهم في آيات الله وتأولوا كتابه على غير ما أنزله، وحملوه على غير مراده، وقالوا عليه ما لم يقل، عياذًا بالله من ذلك.

ويدخل في هذا نوعا التحريف اللذان سبق ذكرهما في سورة البقرة، أي أن هؤلاء وقعوا في تحريف ألفاظه ووقعوا في تحريف معانيه، وهذا هو الراجح من أقوال أهل العلم، حيث إن من أهل العلم من يقول: إن التوراة لم تحرف بل هي لا زالت موجودة ومحفوظة وإنما الذي حرف فيها هي القراطيس التي كانوا يبدونها، يعني أن الكتاب موجود لكن الذي يخرجونه إلى الناس هي القراطيس التي يوجد فيها التحريف، ولذلك لما دعا النبي ﷺ بالتوراة في قصة الزانيين حيث قرأ الحبر منها وترك آية الرجم ووضع عليها أصبعه فقال عبد الله بن سلام : "مره يا رسول الله فليرفع أصبعه" فلما رفعها فإذا فيه آية الرجم تلوح[1].

فالمقصود أن هذا قاله بعض أهل العلم، والواقع أن هذا من تحريفهم وإلا فقد حرفوا الكتاب الأصلي، ولا أدلَّ على ذلك من وجود هذه النسخ الكثيرة التي بين أيديهم فهم يقتاتون عليها وهي مليئة بالتناقضات والتحريف، فليس التحريف مقصورًا على القراطيس التي يبدونها فقط بل هم مختلفون في الكتاب المقدس اختلافًا كبيرًا، والله أعلم.

كما وقعوا أيضًا في النوع الثاني من التحريف الذي هو تحريف المعاني كما قال تعالى: يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ [سورة المائدة:13] وهذا النوع من التحريف –تحريف المعاني- وقع في هذه الأمة، حيث يوجد من هذه الأمة من يبدل المعاني ويغيرها ويلوي أعناق النصوص، وهذا وقعت فيه طوائف أهل البدع الذين تمسكوا بالقرآن للدلالة على بدعهم، أو لدفع ما يدل على نقضها. 

وقل مثل ذلك في التلاعب الذي حصل من كثير من الناس، ومنهم قصة ذلك الملك الباطني في المغرب حيث كان له وزيران أحدهما لقبه بنصر الله، والآخر لقبه بالفتح، ثم يقول: إن المراد بقوله تعالى: إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ [سورة النصر:1] أنتما.

وهناك رجل آخر اسمه بيان -صاحب الفرقة البيانية، كان يقول في قوله تعالى: هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ [سورة آل عمران:138]، المراد به أنا، ومثل هؤلاء الرجل الملقب بالكِسف صاحب الفرقة المنصورية كان يقول: أنا المراد بقوله تعالى: وَإِن يَرَوْا كِسْفًا مِّنَ السَّمَاء سَاقِطًا [سورة الطور:44] ومن ذلك قول الرافضة -قبحهم الله- في قوله تعالى: يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ [سورة النساء:51] قالوا: الجبت والطاغوت أبو بكر وعمر، فهذا كله من تحريف المعاني للقرآن.

وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ [سورة المائدة:13] أي وتركوا العمل به رغبة عنه، وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىَ خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ [سورة المائدة:13] يعني: مكرهم وغَدْرهم لك ولأصحابك.

وقال مجاهد وغيره: يعني بذلك تمالؤهم على الفتك برسول الله ﷺ.

فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ [سورة المائدة:13] وهذا هو عين النصر والظفر، كما قال بعض السلف: ما عاملتَ من عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه، وبهذا يحصل لهم تأليف وجمع على الحق، ولعل الله أن يهديهم؛ ولهذا قال تعالى: إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [سورة المائدة:13] يعني به الصفح عمن أساء إليك.

وقال قتادة: هذه الآية فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ [سورة المائدة:13] منسوخة بقوله: قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ [سورة التوبة:29] الآية.

هذا فيه بعد؛ لأن هذه الآيات التي يأمر الله بها بالعفو تكون في الحال المناسبة لها بحيث يكون العفو في محله، فهي ليست منسوخة، خاصة وأن سورة المائدة -كما هو معروف- آخر ما نزل في الأحكام، ولهذا كانوا إذا عبروا بقولهم: هذا مما نزل في المائدة، فإنهم يقصدون بهذا أنه لم ينسخها شيء، فليست هذه السورة من أوائل ما نزل، وإنما أول ما نزل بالمدينة من السور التي يتعلق بها كثير من الأحكام هي سورة البقرة، بل يقال: إنها أول سورة نزلت في المدينة، أما سورة المائدة فليست كذلك.

وقوله تعالى: وَمِنَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ [سورة المائدة:14] أي ومن الذين ادعوا لأنفسهم أنهم نصارى متابعون المسيح بن مريم وليسوا كذلك، أخذنا عليهم العهود والمواثيق على متابعة الرسول ﷺ ومناصرته ومؤازرته واقتفاء آثاره، وعلى الإيمان بكل نبي يرسله الله إلى أهل الأرض ففعلوا كما فعل اليهود، خالفوا المواثيق ونقضوا العهود؛ ولهذا قال تعالى: فَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ [سورة المائدة:14].

هذا المعنى الذي ذكره الحافظ ابن كثير معناه أن قوله: أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ يعني أخذنا عليهم العهد والميثاق المختص بهم، ومن أهل العلم من يقول: إن الضمير –الهاء من ميثاقهم- يرجع إلى بني إسرائيل، فيكون المعنى ومن الذين قالوا: إنَّا نصارى أخذنا ميثاق بني إسرائيل السابق عليهم –أي على النصارى- فالميثاق الذي أُخذ على اليهود أخذ مثله على النصارى، فهذا قال به بعض أهل العلم باعتبار أن الضمير يرجع إلى بني إسرائيل المذكورين أولًا وهم اليهود، وهذا فيه بعد، والأقرب -والله تعالى أعلم- أن قوله: مِيثَاقَهُمْ يرجع إلى النصارى، فالقاعدة أن الضمير يرجع إلى أقرب مذكور، والله أعلم.

ولهذا قال تعالى: فَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ [سورة المائدة:14] أي: فألقينا بينهم العداوة والبغضاء لبعضهم بعضًا ولا يزالون كذلك إلى قيام الساعة، وكذلك طوائف النصارى على اختلاف أجناسهم لا يزالون متباغضين متعادين يكفِّر بعضهم بعضًا ويلعن بعضهم بعضًا، فكل فرقة تحرم الأخرى.

يقول: "ففعلوا كما فعل اليهود، خالفوا المواثيق ونقضوا العهود؛ ولهذا قال تعالى: فَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ [سورة المائدة:14] إلى أن قال: فَأَغْرَيْنَا [سورة المائدة:14] قال: "أي فألقينا بينهم العداوة والبغضاء لبعضهم بعضًا ولا يزالون كذلك إلى قيام الساعة" يعني اليهود والنصارى نقضوا العهود والمواثيق وذلك أنهم أمة واحدة أصلًا، وعيسى -عليه الصلاة والسلام- بعث إلى بني إسرائيل قائلًا لهم: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ [سورة الصف:6] فنقضوا العهود والمواثيق كما فعل اليهود، فألقى الله بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة، فبينهم من البغضاء والشر ما لا يخفى، فكل طائفة تكفِّر الأخرى وتضللها، وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَىَ [سورة البقرة:111] فـ "أو" هنا للتقسيم، وقد سبق ذكر ذلك في تفسير سورة البقرة. 

فالمعنى أن اليهود قالت: لن يدخل الجنة إلا من كان يهوديًا، وقالت النصارى لن يدخل الجنة إلا من كان نصرانيًا، وسبق الكلام على الأمانة الكبرى وأنه لشدة عداوة النصارى لليهود تركوا العمل بالتوراة فبقوا من غير قانون ولا شريعة فاخترعوا كتابًا وضعوا فيه القوانين وسموه بالأمانة الكبرى.

ويحتمل أن يكون المراد أن العداوة والبغضاء كانت بين طوائف النصارى نفسها، والحافظ ابن كثير -رحمه الله- جمع المعنيين فقال: "فألقينا بينهم العداوة والبغضاء لبعضهم بعضًا ولا يزالون كذلك إلى قيام الساعة" أي اليهود والنصارى، ثم قال: "وكذلك طوائف النصارى على اختلاف أجناسهم لا يزالون متباغضين متعادين يكفِّر بعضهم بعضًا ويلعن بعضهم بعضًا" وهذا شيء مشاهد.

وقوله تعالى: فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء [سورة المائدة:14] معناه ألصقنا ذلك بهم فهو لاصق ملازم لهم غاية الملازمة كما يقال في المادة المعروفة التي يلصق بها "الغِراء" فهذه المادة تمسك الشيء بحيث إنه يلتصق بما ألحق به، ويقال: غري بهذا الشيء غريًا بمعنى أنه صار مولعًا به مفتونًا به ملازمًا له لا يفارقه ولا ينفك عنه بحال من الأحوال حتى صار كأنه ملتصق به، ويقال: أغريت الكلب يعني أولعته بالصيد، فاليهود والنصارى ألصقت بهم هذه الصفة الذميمة القبيحة -العداوة والبغضاء- وأولعوا بها.

ولو تأملت في النصارى لوجدتهم قد فرقوا الكنيسة الشرقية والغربية وتجد طوائف الكاثوليك والبروتستنت والأرثوذكس الضالة كل واحدة تضلل الأخرى، فهؤلاء لهم كنائسهم وهؤلاء لهم كنائسهم، وهؤلاء لا يعترفون بالفاتيكان ولا بمرجعيته، ولو قرأت في كتب النصارى وفِرق النصارى فلن تنتهي، ولو أخذت بلدًا صغيرًا مثل لبنان وفتشت في الطوائف النصرانية ستجد أسماء لم تسمع بها، وتجدهم يظهرون في بعض المناسبات أحيانًا فيقولون: الفرقة الفلانية، والطائفة الفلانية، وممثل الطائفة الفلانية، وهكذا تسمع بطوائف عجيبة غريبة.

لا يزالون متباغضين متعادين يكفِّر بعضهم بعضًا، ويلعن بعضهم بعضًا، فكل فرقة تحرم الأخرى ولا تدعها تَلِجُ معبدها، فالملكية تكفر اليعقوبية، وكذلك الآخرون، وكذلك النسطورية والآريوسية كل طائفة تكفر الأخرى في هذه الدنيا ويوم يقوم الأشهاد.

وهم الآن يستغلون التفرق الموجود بين المسلمين فيضربون بعضهم ببعض مع أن التفرق الذي بين النصارى أكثر من التفرق الموجود بين المسلمين فهم أحرى بأن يُشرذَموا بمثل هذه النزاعات الموجودة بينهم، لكن للأسف نحن ننظر إليهم باعتبار أنهم كتلة واحدة لا فرق بينهم، وعلى قلب رجل واحد، وهذا الكلام غير صحيح.

وابن كثير ذكر هنا بعض الطوائف مثل: اليعقوبية وهم طائفة من النصارى ينتسبون إلى يعقوب البردعاني، كان راهبًا بالقسطنطينية، وهذه الطائفة قالت بالأقانيم الثلاثة، وبالنسبة لمعنى الأقانيم هم يختلفون فيها هل هي الصفات أو غير ذلك، فالمقصود أنهم قالوا بالأقانيم الثلاثة إلا أنهم قالوا: انقلبت الكلمة لحمًا ودمًا فصار الإله هو المسيح، وهذه لا يمكن أن تتصور أصلًا، إذ كيف يقولون بالأقانيم الثلاثة ثم يقولون: إن الكلمة انقلبت لحمًا ودمًا وصارت هي عين المسيح، أي صار الله هو المسيح، أو صار المسيح إلهًا؟! تعالى الله عما يقولون علوًا كبيرًا.  

وذكر من الطوائف النسطورية، وهؤلاء هم أصحاب نسطور الحكيم، وهكذا نجد أن كل مسمىً له من اسمه نصيب، إما على الضد أو المطابقة، ونسطور هذا ظهر في زمن المأمون وتصرف في الأناجيل برأيه، وقال: إن الله واحد ذو أقانيم ثلاثة الوجود والعلم والحياة، وليست الأقانيم زائدة على الذات.

كما ذكر ابن كثير رحمه الله طائفة الملكانية، وهم أصحاب ملكى الذي ظهر بأرض الروم واستولى عليها، ومعظم الروم ملكانية، وهؤلاء قالوا: إن الكلمة اتحدت بجسد المسيح، والكلمة أقنوم العلم وليست الثلاثة وهذا من الخلاف بينهم.

ثم قال تعالى: وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللّهُ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ [سورة المائدة:14] وهذا تهديد ووعيد أكيد للنصارى على ما ارتكبوه من الكذب على الله وعلى رسوله، وما نسبوه إلى الرب - وتعالى وتقدس عن قولهم علوًا كبيرًا- من جعلهم له صاحبة وولدا تعالى الواحد الأحد الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كُفوًا أحد.
  1. أخرجه البخاري في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة – باب ما يجوز من تفسير التوراة وغيرها من كتب الله بالعربية وغيرها (7104) (ج 6 / ص 2742) ومسلم في كتاب الحدود - باب رجم اليهود أهل الذمة في الزنى (1699) (ج 3 / 1326).

مواد ذات صلة