الخميس 09 / شوّال / 1445 - 18 / أبريل 2024
[3] من قوله تعالى: {وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ} الآية:20 إلى قوله تعالى: {فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} الآية:28
تاريخ النشر: ٠٢ / ربيع الأوّل / ١٤٣٥
التحميل: 5689
مرات الإستماع: 4065

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، وبعد.

قال ابن كثير -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى: وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ ۝ طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ ۝ فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ ۝ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ [سورة محمد:20-23]

يقول تعالى مخبرًا عن المؤمنين أنهم تمنوا شرعية الجهاد، فلما فرضه الله ، وأمر به نكل عنه كثير من الناس، كقوله -تبارك وتعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدَّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً [سورة النساء:77].

وقال هاهنا: وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ أي: مشتملة على حكم القتال، ولهذا قال: فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ أي: من فزعهم ورعبهم، وجبنهم من لقاء الأعداء.

ثم قال مشجعًا لهم: فَأَوْلَى لَهُمْ ۝ طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ أي: وكان الأولى بهم أن يسمعوا ويطيعوا، أي: في الحالة الراهنة.

فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ أي: جد الحال، وحضر القتال فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ أي: أخلصوا له النية لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ.

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله -تبارك وتعالى: وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ يعني مشتملة على حكم القتال، وهذا كما أنهم سألوا عن أحب الأعمال إلى الله، وتمنوا أن يعرفوه من أجل أن يفعلوه كما سبق في الكلام على قوله -تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ [سورة الصف:2] وأن ذلك نزل بسبب أنهم تمنوا أن يعرفوا أحب الأعمال إلى الله، فلما أخبروا أنه الجهاد تباطئوا وتثاقلوا عنه.

فهنا تمنِّي نزول سورة، سور القرآن تنزل، وإنما قصدوا سورة يكون فيها فرض الجهاد فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ"المحكمة" هنا من الإحكام، والإحكام -كما هو معروف- يأتي بمعنى: الإتقان، والقرآن كله محكم، بهذا الاعتبار كما هو معلوم كتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ [سورة هود:1] فهي لا يتطرق إليها خلل، ولا خطل في ألفاظها ومضامينها، الألفاظ والمعاني، وهذا معنى معروف في الإحكام، عام في القرآن، ويأتي الإحكام فيما يقابل النسخ، يعني في معناه الخاص: غير منسوخة.

فهنا بعضهم حمله على هذا المعنى الخاص: فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ يعني غير منسوخة.

وقد جاء عن قتادة: أن كل سورة ذكر فيها الجهاد فهي محكمة، لكن هذا المعنى -والله أعلم- فيه بُعد، هنا في هذا الموضع: فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ يعني غير منسوخة، وحينما تنزل سورة ويفرض فيها الجهاد فإن ردود الأفعال تجاه ذلك قبل نسخها سيتبين فيها الحال، ليس المقصود هنا أنها نزلت سورة غير منسوخة، محكمة بهذا الاعتبار، وإنما يحمل الإحكام هنا على معناه العام، ولهذا قال ابن جرير: محكمة بالبيان والفرائض، يعني أنه قد بيّن ذلك فيها، وفصل على وجه لا يدع في الحق لبسًا.

والشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله- رد على القائلين بأنها غير منسوخة، هنا في هذا الموضع وفسره بأن المراد متقنة الألفاظ والمعاني، واضحة الألفاظ، واضحة الدلالة، وزاد عليه غير منسوخة، يعني جعلها بمعنى أعم وأوسع، هو لا يحملها على هذا المعنى الضيق، يفسرها به، أنها غير منسوخة، لكنه حملها على أوسع معانيها، فنظر إلى احتمال اللفظ الذي هو الإحكام للمعنى الخاص، وللمعنى العام، ففسره بهذا وهذا جميعًا، فهذا أوسع ما يحمل عليه هذا الموضع، والله تعالى أعلم.

ومثل هذا التفسير بهذا الاعتبار لا إشكال فيه -إن شاء الله؛ لأن اللفظ يحتمل، لكن حينما يفسر ذلك بما يقابل النسخ فقط فهذا فيه بعد.

فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ هذه صفة ذكرها الله في المنافقين.

وكما قال الله -تبارك وتعالى- في سورة الأحزاب أيضًا عنهم، وقد مضى الكلام على هذا، فهم في حال الخوف يكونون بهذه المثابة: يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ [سورة الأحزاب:19]، تَدُورُ أَعْيُنُهُمْبمعنى: أنه لا ينظر النظر الذي يكون متصرفًا فيه، متحكمًا في توجيهه، وإنما يتحرك بصره، تتحرك عيناه بطريقة غير إرادية من شدة الخوف، كأنه في سكرات.

وبعضهم فسره: بشخوص البصر، من شدة الخوف.

المقصود في هذا وهذا أنه لم يعد يتحكم ببصره، صار بصره يتقلب من شدة ما أصابه، والبصر في حالاته حين الخوف يكون بهذه المثابة، فيكون له من الشخوص، كما أخبر الله -تبارك وتعالى- عن أحوال الكفار في القيامة من شخوص الأبصار، وكذلك أيضًا بحال هؤلاء المنافقين، ففسر هذا بنظر من صار بصره شاخصًا عند الموت.

وحمله ابن قتيبة والزجاج على أنهم يشخصون أبصارهم نحوك، يشخصونها نحوك، ينظرون إليك نظرًا شديدًا، يعني صارت أبصارهم كأنها من حال الفزع في حالة من الدهشة والخوف والانزعاج، يصوبون النظر إليك بطريقة لا إرادية، فيكون هذا النظر بهذه المثابة.

فهنا في هذا الموضع قال: يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ.

هناك قال في الأحزاب: تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ، فـتَدُورُ أَعْيُنُهُمْ يعني ينظر بطريقة من شدة الخوف، تدور عيناه، كأنه في حال غشية، نسأل الله العافية.

فهذه حال هؤلاء المنافقين، فالله ذكر أحوالهم ودخائلهم ومشاعرهم، والقلق الذي ينتابهم: يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ [سورة المنافقون:4] فهم في توجس وترقب دائم للمكروه.

يقول: ثم قال مشجعًا لهم: فَأَوْلَى لَهُمْ ۝ طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌهل هذا تشجيع لهم؟

هذا على المعنى الذي فسرها به ابن كثير -رحمه الله- يكون من قبيل الحث، والدفع على الامتثال، يعني ابن كثير هنا فسرها: أي وكان الأولى بهم أن يسمعوا ويطيعوا، أي في الحالة الراهنة، يعني هنا هذا الكلام الذي ذكره الحافظ ابن كثير يحتمل، لكن عامة المفسرين على خلافه، فقد حملوا الآية على معنى آخر، يعني هنا على قول ابن كثير: قوله: فَأَوْلَى لَهُمْيتصل بما بعده: فَأَوْلَى لَهُمْ ۝ طَاعَةٌ كان الأجدر بهم والأولى بحالهم أن ينقادوا ويطيعوا، وأن يقولوا قولاً معروفًا، وأن لا يتلكئوا في الاستجابة، هذا المعنى تحتمله الآية، وهو الذي مشى عليه ابن كثير -رحمه الله.

ولكن عامة أهل العلم من السلف فمن بعدهم فصلوا بين الجزأين، قالوا: فَأَوْلَى لَهُمْ هذا وعيد، كقوله: أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى [سورة القيامة:34] وذلك للوعيد، فيكون قوله: فَأَوْلَى لَهُمْ توعدهم، ثم يأتي كلام جديد مستأنف: طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ يعني خير لهم، أو غير ذلك، مما ذكر من التقديرات كما سيأتي.

إذًا: فَأَوْلَى لَهُمْهذا تهديد ووعيد، يتوعدهم به، وهذا الذي قال به من السلف مقاتل والكلبي وقبلهم قتادة، وبه قال من اللغويين الجوهري، واختاره كبير المفسرين ابن جرير، وقد ذكر العلماء أصل هذه المادة، حينما يقال: أولى له، في الوعيد، فالأصمعي يقول: حينما يقال ذلك في التهديد: أولى لك، أي: وليك وقاربك ما تكره.

ويقول غيره كالجرجاني: إن ذلك مأخوذ من الويل: فَأَوْلَى لَهُمْ أي: فويل لهم، وهذا الذي اختاره صاحب الكشاف.

وجاء عن قتادة: أن ذلك بمنزلة قوله: العقاب أولى لهم، يعني كأنه يتعلق بمقدر: العقاب أولى لهم.

وعلى كل حال هي للوعيد على قول عامة أهل العلم من المفسرين سلفًا وخلفًا "أولى لهم" على خلاف ما ذكره ابن كثير، فلا يكون قوله: فَأَوْلَى لَهُمْ متعلقًا بقوله: طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ ومن ثم جعلوا قوله: طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ أنه كلام مستأنف، يعني: فَأَوْلَى لَهُمْ وعيد لهم، وويل لهم، ثم تقف، ثم: طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ.

فيكون التقدير: طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ بعضهم يقول: أمرُهم طاعة وقول معروف، أو طاعة وقول معروف خير لكم، وبنحو هذا قال الخليل بن أحمد وسيبويه، يقول: التقدير: طاعة وقول معروف أحسن وأمثل لكم من غيرهما.

يعني الآن على تقدير: أمرهم طاعة، يكون طاعة وقول معروف خبرًا لمبتدأ محذوف.

وعلى قول هؤلاء كسيبويه: يكون مبتدأ، طاعة وقول معروف أحسن وأمثل لكم.

ولكن هناك من قال كقول ابن كثير -رحمه الله، يعني يكون: طاعة خبرًا لأولى فَأَوْلَى لَهُمْ ۝ طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ.

هذا على قول ابن كثير، تكون الجملتان مرتبطتين ببعضهما: فَأَوْلَى لَهُمْ ۝ طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ إلى غير ذلك.

ابن جرير -رحمه الله- يقول: إن طَاعَةٌ خبر عن مقالهم قبله.

هذا معنى مغاير لما سبق، يعني ابن جرير يرى أنها منفصلة، وأن قوله: فَأَوْلَى لَهُمْوعيد، لكن ما المراد بقوله: طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ؟

يقول: إن ذلك من قبيل الخبر عنهم، حيث كانوا يقولون قبل ذلك: سمعًا وطاعة، فيكون ذلك إخبارًا عن قولهم وحالهم، هنا يقول: فَأَوْلَى لَهُمْثم نقف في رأس الآية: طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ يعني أنهم كانوا يقولون: سمعًا وطاعة، فيكون: طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ من قبيل الخبر عن هؤلاء، وليس من قبيل الطلب، كأنه نظر إلى ما بعده: طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ يعني هم يقولون: طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ، فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ في قيلهم هذا، ودعواهم التي ادعوها أنهم يسمعون ويطيعون: لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْهذا على قول ابن جرير -رحمه الله، والذي قبله أوضح في المعنى، -والله أعلم.

طاعة وقول معروف خير لهم، أو أمرهم طاعة وقول معروف، فهي جملة مستأنفة على تقدير محذوف، إما أن يكون مبتدأ أو خبرًا، لا أنها إخبار عن قولهم قبل ذلك.

وقوله : فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أي: عن الجهاد ونكلتم عنه أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ أي: تعودوا إلى ما كنتم فيه من الجاهلية الجهلاء، تسفكون الدماء، وتقطعون الأرحام، ولهذا قال تعالى: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ وهذا نهي عن الإفساد في الأرض عموماً، وعن قطع الأرحام خصوصًا، بل قد أمر الله تعالى بالإصلاح في الأرض وصلة الأرحام، وهو الإحسان إلى الأقارب في المقال والأفعال، وبذل الأموال.

وقد وردت الأحاديث الصحاح والحسان بذلك عن رسول الله ﷺ من طرق عديدة، ووجوه كثيرة.

روى البخاري عن أبي هريرة ، عن النبي ﷺ قال: خلق الله تعالى الخلق فلما فرغ منه قامت الرحم، فأخذت بحقو الرحمن ، فقال: مه، فقالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة، فقال تعالى: ألا ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك؟ قالت: بلى، قال: فذاك لك قال أبو هريرة : اقرءوا إن شئتم: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ [سورة محمد:22][1].

ثم رواه البخاري بلفظ: قال رسول الله ﷺ: اقرءوا إن شئتم: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ[2] ورواه مسلم.

وروى الإمام أحمد عن أبي بكرة قال: قال رسول الله ﷺ: ما من ذنب أحرى أن يعجل الله تعالى عقوبته في الدنيا مع ما يدخر لصاحبه في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم[3]، ورواه أبو داود والترمذي وابن ماجه، وقال الترمذي: هذا حديث صحيح.

وروى أحمد عن ثوبان عن رسول الله ﷺ قال: من سره النَّساء في الأجل والزيادة في الرزق فليصل رحمه[4]، تفرد به أحمد، وله شاهد في الصحيح.

وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله ﷺ: إن الرحم معلقة بالعرش، وليس الواصل بالمكافئ، ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها[5]، رواه البخاري.

وروى أحمد عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله ﷺ: توضع الرحم يوم القيامة لها حُجْنة كحُجْنة المِغزل، تَكلَّم بلسان طلْق ذلْق، فتقطع من قطعها، وتصل من وصلها[6].

وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- يبلغ به النبي ﷺ قال: الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا أهل الأرض يرحمكم أهل السماء، والرحم شُجْنة من الرحمن من وصلها وصلتْه ومن قطعها بتّتْه وقد رواه أبو داود والترمذي، وهذا هو الذي يروى بتسلسل الأولية، وقال الترمذي: "حسن صحيح"[7].

والأحاديث في هذا كثيرة جدًّا.

قوله -تبارك وتعالى: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ [سورة محمد: 22] يقول: أي: تعودوا إلى ما كنتم فيه من الجاهلية الجهلاء، تسفكون الدماء، وتقطعون الأرحام.

هذا الخطاب الآن: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ بعدما كان الكلام عن هؤلاء الذين في قلوبهم مرض، وعن حالهم وصفتهم، حينما تنزل السورة التي يفرض فيها القتال، جاء الكلام على سبيل الالتفات.

وقد بينا في مناسبات شتى: أن الالتفات هو تحويل الكلام من الغائب إلى المخاطب، أو العكس، إلى غير ذلك من ألوان التصرفات فيه، مفرد إلى جمع، والعكس، وهكذا، فهذا بعض أهل العلم حمله على ذلك، يعني قالوا: الكلام لا زال عن هؤلاء المنافقين، لكنه تحول من الغيبة إلى الخطاب: فَهَلْ عَسَيْتُمْ يعني: يا معشر المتلكئين المتخلفين عن الجهاد، يخاطب الذين في قلوبهم مرض: أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ.

والكلام على سبيل التوبيخ: إِن تَوَلَّيْتُمْ الذي عليه الجمهور يعني أعرضتم عما أمرتم به من الإيمان، وطاعة الله وطاعة رسوله ﷺ.

وبعضهم يقول: أعرضتم عما أمرتم به من الجهاد؛ لأن السياق فيه.

المقصود: أن على هذين المعنيين يكون التولي عندهم بمعنى الإعراض.

الجمهور يحملونه على هذا، بصرف النظر عما حُمل ذلك عليه من معنى عام، أو معنى خاص.

معنى عام: أعرضتم عن الإيمان، وأعرضتم عن طاعة الله وطاعة رسوله ﷺ، وهذا لا إشكال فيه، أو أعرضتم عما أمرتم به من الجهاد؛ لأن السياق في ذلك.

أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْفقتادة يقول: إن توليتم عن طاعة كتاب الله : أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بسفك الدماء وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ.

وهكذا جاء عن ابن جريج: إِن تَوَلَّيْتُمْعن الطاعة، عبارات السلف في هذا متقاربة.

لكن من أهل العلم من حمله على معنى آخر، كما جاء عن الكلبي: إِن تَوَلَّيْتُمْ يعني أمرَ الأمة: أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ جعله من الولاية، يعني إن صار الأمر إليكم، وصرتم من ذوي السلطة: أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ إن توليتم.

ولكن هذا خلاف الظاهر، وذلك أن السياق في الكلام على الطاعة، والاستجابة لأمر الله ، وعدم التباطؤ فيه، والاستثقال له، فالذي يقابل ذلك هو الإعراض والترك والتضييع، فيقول لهم: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِفابن كثير حمله على الإعراض، لكنه على المعنى الخاص، أي: عن الجهاد، وهذا باعتبار السياق كما سبق.

وهنا في هذه الآية القراءة المعروفة المتواترة هي هذه التي نقرأ بها: إِن تَوَلَّيْتُمْ بالبناء للفاعل.

ولكن من المفيد الإشارة إلى قراءة أخرى مروية عن جماعة من السلف، كعلي -رضي الله تعالى عنه، وهي أيضًا رواية عن يعقوب، ويرويها عنه ورش: أنها بضم التاء والواو: إِن تُوُلِّيْتُمْ فهذه بالبناء للمفعول، فيكون المعنى: هل عسيتم إنْ ولِيَ عليكم ولاة جائرون أن تخرجوا عليهم في الفتنة، وتحاربوهم، وتقطعوا أرحامكم بالبغي والظلم والقتل، هذا معنى هذه القراءة: إِن تُوُلِّيْتُمْ.

لكن على هذه القراءة التي عليها الجمهور، القراءة المتواترة: إِن تَوَلَّيْتُمْ يعني عن طاعة الله وطاعة رسوله، وتركتم الجهاد في سبيل الله: أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ.

وحملُ ذلك على ما يدل عليه السياق، أو ما يتسق معه من أن التولي عن الجهاد لا إشكال فيه، ومعلوم أن الإنسان بطبيعته لابد له من مزاولة وفعل وإرادة، فإن لم يصرف ذلك في طاعة الله صار اشتغاله بأضداده، صار اشتغاله بما يضره، ولهذا فإن كل من أعرض عما هو بصدده ابتلي بالاشتغال بضده، وقد مضى الكلام على هذا في بعض المناسبات، والشيخ عبد الرحمن بن سعدي -رحمه الله- في كتابه: "القواعد الحسان" تكلم عن هذه القاعدة، وذكر لها أمثلة، ومن أوضح الأمثلة لهذا: ما ذكره الله -تبارك وتعالى- عن اليهود: وَلَمَّا جَاءهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ.

ماذا كانت النتيجة؟

نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ كِتَابَ اللّهِ وَرَاء ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ۝ وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ [سورة البقرة:101، 102] تركوا اتباع النبي المرسل -عليه الصلاة والسلام، كليم الرحمن، وتركوا الكتاب المنزل، وهو التوراة، وصاروا متبعين للسحرة، مشتغلين بالسحر، أحط الأشياء.

فمن أعرض عن الجهاد صار اشتغاله بعد ذلك بأضداده، بالإفساد في الأرض، وتقطيع الأرحام.

وحال الأمة شاهد على هذا، صار بأسهم بينهم.

وهكذا أيضًا فيما يتصل بالنفقات، من لم ينفق في سبيل الله ، ويمتثل أمر الله سلط ماله على هلكته في الباطل، تجد هذا الإنسان ينفق في أمور تضره ولا تنفعه، هذا على مستوى الأفراد، وكذلك على مستوى الأمة، فهذه الأموال الطائلة، والثروات الهائلة إذا لم تصرف في سبيل الله، ونصر الدين، وإعزاز كلمة الله أنفقت في أمور أخرى، تضر ولا تنفع.

وهكذا، فهذه قضية مطردة مشاهدة، الواقع يصدقها ويشهد لها، وتتكرر كثيرًا، تسخر الأموال في الإفساد والباطل، والله المستعان.

هنا في الحديث الذي ذكره الحافظ ابن كثير -رحمه الله: خلق الله تعالى الخلق، فلما فرغ منهم قامت الرحم، فأخذت بحقو الرحمن[8].

الحقو: الإزار، وأصله يكون معقد الإزار، ولكن توسع في الاستعمال فصار ذلك يقال للإزار.

وهنا أيضًا في الحديث يقول: توضع الرحم يوم القيامة لها حُجْنة كحُجْنة المِغزل.

حُجْنة المغزل هي سنارته، أعلاها المعقوف.

لها حُجْنة كحُجْنة المِغزل، تَكلّم بلسان طلْق ذلْق[9] اللسان الطلْق يعني سريع النطق، والذلْق البليغ، يقال: فلان طلْق ذلْق، له لسان طلق ذلق، يعني يتكلم بطلاقة وببلاغة.

وحديث: توضع الرحم يوم القيامة لها حجنة إلى آخره، في إسناده ضعف.

وقوله في الحديث: الراحمون يرحمهم الله، ارحموا أهل الأرض يرحمكم أهل السماء، والرحمة شُجْنة من الرحمن[10].

شُجنة الشجنة أصلها في اللغة: الشجرة التي لها عروق، أو الشيء المشتبك، فيقال مثلاً: قرابة مشتبكة كاشتباك العروق، يعني الرحم أثر من آثار الرحمة مشتبكة بها، تقال الشجنة أيضًا للفرع من الشجرة المتشابك في أغصانه، شجنة تكون العروق فيها متداخلة ومشتبكة، الرحم أثر من آثار الرحمة ومشتبكة بها، مرتبطة بها ارتباطًا وثيقًا، والله أعلم.

أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ۝ إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ ۝ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ ۝ فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ ۝ ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ [سورة محمد:24-28].

يقول تعالى آمرًا بتدبر القرآن وتفهمه، وناهيًا عن الإعراض عنه، فقال: أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا أي: بل على قلوب أقفالها، فهي مطبقة لا يخلص إليها شيء من معانيه.

روى ابن جرير: عن هشام بن عروة عن أبيه قال: تلا رسول الله ﷺ يومًا: أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا فقال شاب من أهل اليمن: بل عليها أقفالها، حتى يكون الله تعالى يفتحها أو يفرجها، فما زال الشاب في نفس عمر حتى ولي، فاستعان به.

قوله -تبارك وتعالى: أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَهذا توبيخ من الله -تبارك وتعالى- في هذا الخطاب الموجه للمنافقين، وسبق الكلام على التدبر، وأن الآيات الأربع فيه منها آيتان في المنافقين: أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا هذه.

وفي الآية الأخرى: أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا [سورة النساء:82].

والثالثة في الكفار: أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءهُم مَّا لَمْ يَأْتِ آبَاءهُمُ الْأَوَّلِينَ [سورة المؤمنون:68].

والرابعة عامة: كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُو الْأَلْبَابِ [سورة ص:29] هذه عامة للخلق جميعًا.

وذكرنا هناك أن التدبر لا يحتاج إلى كون الإنسان عالمًا، ليس ذلك من شرطه، فهذا خطاب للمنافقين، وهناك أيضًا خطاب الكافرين، وخطاب عموم الأمة، ولا يوجد في موضع واحد أن الله وجه ذلك الخطاب لخصوص أهل الإيمان، أو للعلماء مثلاً، وذلك أن التدبر مطلوب من الجميع، وكلٌّ بحسبه، التدبر الذي يخاطب به هؤلاء من أهل النفاق والكفار كقوله: وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا [سورة النساء:82] فهنا قد يتدبرون من أجل أن يعرفوا أن هذا القرآن حق، بحيث لا تناقض فيه، ولا اختلاف، وهذه قضية تتأتى لمن نظر في القرآن وفحصه، ولا تحتاج إلى عالم، فهذا أحد مطالب المتدبرين.

وكذلك أيضًا: أن يتدبر قارئ القرآن من أجل الوقوف على العبر والعظات المضمنة في هذا القرآن وألوان الهدايات، فهذا لا يحتاج إلى عالم، ولا طالب علم.

وكذلك حينما يتدبر من أجل التعرف على محابّ الله ومساخطه، وأوصاف المؤمنين، وأوصاف الكافرين، وكذلك وصف هذه الدار الحياة الدنيا والآخرة، فهذا لا يحتاج إلى عالم، هناك قضايا واضحة في القرآن ذكر الله فيها صفات هؤلاء وصفات هؤلاء، ذكر صفة الجنة وصفة النار، القارئ يدرك هذه المعاني.

ثم أيضًا يتدبر ليعرض نفسه على القرآن، وما ذكر فيه من صفة أهل الجنة وصفة أهل النار، فيتتبع ذلك، وينظر بهذه الأوصاف هل تنطبق عليه أو لا تنطبق عليه، هذا لا يحتاج إلى عالم.

تدبر القرآن من أجل أن يرقق قلبه، وأن يلينه، وأن يعالجه من أدوائه وعلله، هذا لا يحتاج إلى عالم.

لكن أين المشكلة؟

المشكلة هي أن الكثيرين صارت أذهانهم تتوجه حينما يذكر التدبر، أو حينما تنبعث همهم إليه أنهم يطلبون المعاني الدقيقة، واللطائف التي تستخرج بالمناقيش، مما لم يسبقوا إليه، يعني هو يبحث عن لفتات دقيقة، وأشياء تنكشف له، قد لا توجد، أو لم تذكر من قِبَل أحد قبله، وهذا غير مراد، يعني هذا نوع، ومثل هذا غالب ما فيه إنما يستخرجه من كان عنده آلة وقدرة على الغوص، من أجل استخراج هذه المعلومات، ولذلك كثير من هؤلاء حينما يغوصون -أعني ممن لا بصر لهم- يستخرجون لفتات غير صحيحة، ومعانيَ ليست كما ينبغي، هذا فيما نشاهده فيما ينشر بعضهم ويكتب ويرسل رسائل بالجوال، أو عبر الوسائط الأخرى.

وبعضهم يسأل قبل ذلك، يرسلون نماذج، يقول: ما رأيك فيها؟ أريد أن أنشرها؟ وهؤلاء قلة، بل ندرة، وفي كثير من هذه الأشياء واضح إذا كان الإنسان هذا ليس عنده بصر، ولا آلة تمكنه من هذا الغوص أنه يأتي بمعانٍ غير صحيحة، واستنباطات ولطائف ولفتات ليست بسديدة، وهذه هي المشكلة، أن تتوجه الأذهان حينما يذكر التدبر إلى هذه اللفتات واللطائف، ليس هذا هو المراد من هؤلاء الناس، حينما نخاطب الناس بالتدبر، ونطالبهم به نحن لا نطالبهم بمثل هذا، نقول: اعرضوا أنفسكم على القرآن، رققوا قلوبكم بالقرآن، انظروا في محابّ الله ومساخطه، فامتثلوا، افعلوا ما أحبه، واجتنبوا ما سخطه، انظروا في صفة هذه الدار، فازهدوا فيها، وانظروا في صفة الآخرة، فشمروا لها، هذا هو المراد.

ومن كان عنده شك في القرآن وتردد من أهل النفاق والكفر ونحو ذلك نقول: اقرأ القرآن، وتدبر لتعرف مصدر القرآن، وأنه من عند الله -تبارك وتعالى.

المقصود: أن مطالب المتدبرين متنوعة، فلا يصح أن تتوجه أذهاننا إذا ذكر التدبر إلى هذا النوع بخصوصه، ومن ثم يتكلف الإنسان تكلفات لا يحسنها، ويكون قائلا على الله بلا علم.

أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا "أم" هذه هي المنقطعة، بمعنى: بل والهمزة.

أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا أي: بل على قلوب أقفالها، يقول: فهي مطبقة، لا يخلص إليها شيء من معانيه، يعني بمعنى أن القلب هذا عليه قفل، فكأنه قد أغلق وأُرتج بالكلية، ولا يمكن فتحه، قد صار عليه القفل، فهو مغلق، لا ينفذ إليه شيء، يعني أن هذا القلب لا يستقبل، كما أن اليد آلة للبطش، والرجل للمشي، والعين للإبصار، فإذا تعطلت منافع هذه الأعضاء صارت كالعدم، القلب آلة للفكر والتفكر والعقل والعلم والفهم والإدراك، فإذا تعطل من هذا صار كالعدم.

لذلك الله -تبارك وتعالى- نفى عن هؤلاء الذين صاروا بهذه المثابة الذين: خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ [سورة البقرة:7] فصاروا لهم قلوب لا يعقلون بها، يعني إذًا لا قلوب لهم؛ لأن قلوبهم لم تعد تبصر فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [سورة الحج:46] فكما أن العين إذا ذهب بصرها فإنها تكون معطلة لا ينتفع بها، إنما هي صورة فقط، فكذلك القلب حينما يصاب بالعمى، وهذه الأدواء فإنه لا ينتفع به، فلا يعقل عن الله -تبارك وتعالى.

وقد ذكرت -سابقًا- أنواع هذه الحواجز والموانع التي تمنع من العقل عن الله والتدبر والتفكر بالكلية: الران، الأقفال، الأكنة، الأغلفة، الختم، الطبع، كل هذه الأشياء تمنع بالكلية، لكن قبل ذلك المرحلة الرمادية هذه التي يتفاوت فيها الناس، فهي قضية نسبية، فالقلب يمرض كما يمرض البدن، فهنا قد يكون المرض يسيرًا قد يتعاظم ويشتد، لكن إذا وصل إلى حال الموت فهنا يكون صورة بلا معنى، مثل الجثة، الإنسان المريض حركته ضعيفة، نشاط الأعضاء ضعيف، وظائف الجسم ضعيفة، وإذا تعاظم فيه المرض، ووصل إلى حال الموت فعند ذلك يكون جثة هامدة، لا يعمل شيء من هذه الأعضاء والأبعاض، والله المستعان.

أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا، أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ"الفاء" هذه عاطفة على جملة محذوفة، كأن التقدير: أيعرضون عن كتاب الله، فلا يتدبرون القرآن؟!

ثم قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِم أي: فارقوا الإيمان، ورجعوا إلى الكفر مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى.

الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ أي: زين لهم ذلك وحسنه.

وَأَمْلَى لَهُمْ أي: غرهم وخدعهم.

قوله -تبارك وتعالى: إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى يقول: فارقوا الإيمان ورجعوا إلى الكفر.

من هؤلاء؟

هذه ظاهرها العموم: إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِم يعني رجعوا إلى الوراء، والدُّبر معروف، فمن رجع فإنه يكون قد ولى دبره.

فبعض أهل العلم كقتادة واختاره ابن جرير يقولون: هذه قصد بها أهل الكتاب، بأي اعتبار؟

باعتبار أنهم عرفوا نعته ﷺ ثم كذبوا وكفروا، وأعرضوا: إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى.

وبعضهم كالضحاك والسدي يقولون: هي في المنافقين أظهروا الإيمان، وعرفوا حقيّة ما جاء به الرسول ﷺ ثم نكصوا وكفروا، وتركوا العمل بما أمروا به من طاعة الله وطاعة رسوله ﷺ، والجهاد في سبيل الله.

وبعض أهل العلم يقول: إن ذلك فيمن ارتد بعد إسلامه، هذا الذي رجحه الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله.

وكأن هذا أقرب -والله أعلم؛ لأن ظاهر اللفظ العموم إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى فالذين قالوا: إنها في المنافقين قالوا: لأن السياق في المنافقين.

قال: الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ، سَوَّلَ لَهُمْ يقول: زين لهم ذلك وحسنه وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي [سورة طه:96] يعني زينت وحسنت.

وكما قال الله -تبارك وتعالى: فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ [سورة المائدة:30] زينت له نفسه ذلك.

هنا: الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ.

سَوَّلَ لَهُمْ الشيطان.

وَأَمْلَى لَهُمْ من الذي أملى لهم؟

هنا ابن كثير يقول: غرهم وخدعهم، يعني الشيطان، كل ذلك في الشيطان، أن الضمير يرجع إلى الشيطان في الموضعين.

الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ الإملاء بمعنى: أنه يعدهم ويمنيهم، يعدهم بالمغفرة، يرجيهم بالتوبة، فكل ذلك تغرير بهم.

وبعض أهل العلم يقولون: إن الذي أملى لهم هو الله.

الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ زين لهم الكفر والارتداد، وترك طاعة الله وطاعة رسوله ﷺ وَأَمْلَى لَهُمْ أي: الله.

فيكون المعنى: أنه أمهلهم، فلم يعاجلهم بالعقوبة، واستدرجهم: وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ [سورة القلم:45].

وقالوا: الإملاء من الله على سبيل الاستدراج، والتسويل من الشيطان، وقد ذكرنا قاعدة من قواعد التفسير، وهي: أن توحيد مرجع الضمائر أولى من تفريقها.

وهذا الذي يدل عليه ظاهر السياق.

الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ هو أيضًا، وَأَمْلَى لَهُمْ أي: الشيطان.

لكن لو نظرنا أيضًا إلى القراءات في الآية فهذه قراءة الجمهور: وَأَمْلَى لَهُمْ.

وفي قراءة أخرى متواترة، قراءة أبي عمرو بالبناء للمجهول "الشيطان سول لهم وأُمْلِى لهم"، من الذي أملى لهم؟

هنا غير مذكور، فبعضهم يقول على هذه القراءة: "أُملِي لهم" يكون الذي أملى لهم هو الله.

فتأمل هنا: "الشيطان سول لهم وأُمْلِى لهم" فالذي أملى بهذا الاعتبار عند بعض أهل العلم هو الله، حيث لم يعاجلهم بالعقوبة، وبهذا قال الفراء، مع أن ابن جرير -رحمه الله- حمل ذلك مطلقًا - يعني سواء على هذه القراءة، أو على قراءة الجمهور: وَأَمْلَى لَهُمْ- على أن الذي أملى لهم هو الله، والشيطان سول لهم.

الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمة الله عليه- ذكر شواهد الأول، وشواهد الثاني، يعني يقول: كل واحد منها يشهد له القرآن، يعني توجد نصوص بأن الشيطان يرجِّيهم، ويملي لهم، يعني يوسع لهم الأمل، ويفسح لهم فيه، من أجل الاستغراق في الكفر والمعاصي، والاسترسال في ذلك، كما قال الله وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي [سورة إبراهيم:22].

الله يقول: وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ فوعْده هو إملاؤه، وعَدَهم التوبة، وعدهم أن لهم عند الله الجنة، ونحو ذلك بمغفرة الله لهم، ثم ورطهم، فالشنقيطي -رحمه الله- ذكر شواهد لهذا، وشواهد لهذا، مع أنه يميل إلى أن الذي أملى لهم هو الشيطان.

ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ أي: مالئوهم وناصحوهم في الباطن على الباطل، وهذا شأن المنافقين، يظهرون خلاف ما يبطنون.

ولهذا قال الله وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ أي: ما يسرون وما يخفون الله مطلع عليه، وعالم به، كقوله -تبارك وتعالى: وَاللّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ.

قوله -تبارك وتعالى: ذَلِكَهذا إشارة إلى ما تقدم من ارتدادهم: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ.

هنا هؤلاء: الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ هذا الارتداد لأي شيء كان؟

لكونهم: قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ بهذا كانوا مرتدين.

وهذا السياق كما هو معلوم في المنافقين، فالآيات لم تزل تتحدث عنهم، وهذه من صفات المنافقين، فهنا: قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ من الذين كرهوا ما نزل الله؟

أهل الكتاب مثلاً، هذا قال به جماعة من أهل العلم، وذلك كما في قوله -تبارك وتعالى- عن المنافقين: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِم [سورة المجادلة:14] يعني المنافقين تولوا اليهود.

وقالوا لهم أيضًا: لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا [سورة الحشر:11] فهم يقولون: لا نسمع فيكم قول قائل، ولا نقبل عذل عاذل، فبعض أهل العلم حمل ذلك على المنافقين، أنهم قالوا ذلك لليهود.

وبعض أهل العلم يقول: الذين كرهوا ما نزل الله هم الكفار والمشركون، فهم كرهوا ما نزل الله.

وهذا يشهد له قوله -تبارك وتعالى- قبله: وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَّهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ [سورة محمد:8].

قال: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ [سورة محمد:9] هذه في صفة الكفار التي ذكرها قبل ذلك.

فهنا جاء الكلام عن المنافقين بعد هؤلاء الكفار، قال: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ.

فهذا يمكن أن يكون قرينة تدل على ذلك.

ولا شك أن الكفار من المشركين أنهم بهذه المثابة، وبهذه الصفة: أنهم كارهون لما أنزل الله، وكذلك أيضًا أهل الكتاب، فكل ذلك واقع ومتحقق في صفتهم.

ابن كثير -رحمه الله- يقول: أي: مالئوهم وناصحوهم، يعني: سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ ناصحوهم في الباطن على الباطل، يعني أن المنافقين يتمالئون مع أعداء الله ، الكارهين لشريعته، ووحيه وأحكامه وحدوده، يقولون لهم: سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ تأمل فِي بَعْضِ الْأَمْرِ ليس في كل الأمر، فهنا هذا من أعمال المنافقين التي أوجبت كفرهم وردتهم؛ لأن الله قال بعده: فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمْ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ فالذين يكونون بهذه الصفة عند الوفاة تضرب وجوههم وأدبارهم هم الكفار وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلآئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ [سورة الأنفال:50].

فهذا لا يكون لأهل الإيمان من العصاة، فهذه الآية فيها وعيد شديد وتهديد لمن أذعن للكفار، وأطاعهم، وانقاد لهم، مَن دخل في طاعتهم، ولو في بعض الأمر.

خطورة تقديم التنازلات، والاستجابة لمطالب أعداء الله ، فإن ذلك قد يؤدي إلى الخروج من الإسلام بالكلية -نسأل الله العافية، فالأمر ليس بالسهل.

الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله- في "الأضواء" تكلم على هذا الموضع بكلام جيد، يحسن مراجعته، إذا كان طاعة هؤلاء الكفار في بعض الأمر توجب هذه النهاية الخطيرة، فكيف بالدخول تحت طاعتهم في كل شيء، وتبديل شرائع الإسلام بالكلية، والتمالؤ معهم على كل شيء، بل لربما تحول بعض من ينتسب إلى الإسلام إلى حال من الإفساد والنكاية بالدين وأهله أعظم مما للكفار، فيتحول هو إلى محرض لهم، ومهدد لهم من الإسلام وأهله، يخوفهم من الإسلام وأهله، يعني هم لربما لا ينشطون في بعض القضايا أن يحاربوها، أو يكون لهم موقف حاسم تجاه قضايا المسلمين، فيأتي هذا ويحرضهم ويخوفهم ويضغط عليهم، من أجل بعث هممهم لمحاربة هذا الأمر الذي يتصل بدين الله ، أو أوليائه، وأهل طاعته، يعني يكون هو أسوأ حالاً منهم، هو يستقوي بهم ويحرضهم على الإفساد والإيقاع بأهل الإيمان، أو إفساد شرائع الدين، نسأل الله العافية.

حتى قال قائلهم: أنا أعلم بمصلحة فرنسا من فرنسا، يعني هو يستحثهم على خطوات وإجراءات، وهم يتباطئون فيها، يرون أن النار الهادئة أولى لتحقيق أهدافهم، وهو يريد أن لا يتوانوا في سحق ما يتصل بالإسلام، فيقول: أنا أعلم بمصلحة فرنسا؛ لأنه طبعًا وليه هناك، يقول: أنا أعلم بمصلحة فرنسا من فرنسا، إلى هذا الحد صار -نسأل الله العافية- الضلال والنفاق متغلغلاً في عروقه، وقد تحدثنا في مناسبة ماضية عن حديث: اجعل في قلبي نورًا، وفي بصري نورًا، وفي سمعي نورًا[11] إلى آخره.

وذكرنا أن الإنسان يصل به الحال أحيانًا إلى أن يكون في حالة كأنما عجن وخلط الإيمان مع لحمه ودمه، وكذلك يصل في حال الضلال والانحراف إلى حال كأنما عجن النفاق بلحمه ودمه، لا ينطق ولا يرى ولا يبصر ولا يتكلم ولا يتصرف ولا يحاول ولا يزاول إلا بنفاق حامض -نسأل الله العافية- فيكون من المردة، كما قال الله -تبارك وتعالى: مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ [سورة التوبة:101] الإنسان المسلم يحذر من هذا كله.

وكما قيل: كثرة المزاولات تورث الملكات، هذا في الخير وفي الشر، يصير النفاق كأنه سجية وملكة له، ولذلك لما ذكر الله المنافقين ذكر من أحوالهم أشياء عجيبة، حتى في الآخرة لما يبعثون: يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ [سورة المجادلة:18] يعني هم إلى آخر لحظة، حتى في الآخرة، يقوم من قبره وهو يحلف أيمانًا، ما بعد هذا شيء، هل ترجِّي أن هذا يرجع في الدنيا ويتوب ويستغفر؟ هذا حتى في الآخرة يقوم من القبر، وبهذا الكذب الفج الذي يحلف عليه ويقسم الأيمان، نسأل الله العافية.

أما قول من قال: إن القائلين هم اليهود قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ أي: اليهود قالوا للمنافقين، والمنافقون هم الذين كرهوا ما نزل الله فهذا بعيد، الآية في المنافقين، قالوا للكارهين لما أنزل الله، وقد ذكر الله هذه الكراهة بصفة الكافرين في السورة نفسها، يقولون لهم: سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ فهؤلاء كما قال الله عنهم: إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا يعني هم يريدون التوفيق بين الإيمان والكفر، بين أهل الإسلام والكفار، فيلفقون لهم دينًا ومنهاجًا وشريعة من هذا وهذا.

وهذا لا يمكن أن يحصل به التوفيق إطلاقًا، الذين يفعلون ذلك لا يمكن أن يصلوا إلى نتيجة، فالله يقول: وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [سورة البقرة:120] الرضا لن يتحقق حتى تتبع ملتهم، أمّا أن تتنازل عن بعض الأشياء فهذا لربما يغض الطرف عنك مؤقتًا، ثم يأتي التحطيم، ويدوسونه بنعالهم، كما شاهد العالم: وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ هذا الرضا، لكن الكف عن القتال: وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ [سورة البقرة:217] فالكف عن القتال إلى حد الردة، أما الرضا فـحَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ لاحظ اليهود والنصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ لكن ملة من؟

إذا اتبعت ملة النصارى لن ترضى اليهود، وإذا اتبعت ملة اليهود لن ترضى النصارى: وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَىَ شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ [سورة البقرة:113].

وَقَالُواْ كُونُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُواْ [سورة البقرة:135] "أو" هذه للتقسيم، يعني قالت اليهود: كونوا هودًا تهتدوا، وقالت النصارى: كونوا نصارى تهتدوا، وليس معناه التخيير، فاليهود لا يقولون: كونوا هودًا أو نصارى تهتدوا، هم يرون أن النصارى كفار، والنصارى يعادون اليهود في أصل دينهم، فهذا لن يتحقق له مبتغاه، الذي يلفق ويطيعهم في بعض الأمر، زعمًا منه أنه يريد الإحسان والتوفيق، وأولئك كما قال الله : أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْالنساء:63].

هؤلاء أهل النفاق: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا ۝ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا ۝ فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا ۝ أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا [سورة النساء:60-63] هذه في المنافقين.

يقولون: إن السيخ، الديانة هذه التي في بلاد الهند، طبعًا بعضكم لربما ما أدرك هذا، في أواخر القرن الماضي، ليس ذلك ببعيد، يعني قبل نحو ثلاثين سنة، أو نحو ذلك، قاموا على المسلمين في بلاد الهند، وذبحوا الصغير والكبير، مقتلة للأطفال والنساء والشيوخ، وهدموا، والإعلام لم يكن بهذه الصورة الآن بوسائله وقنواته إلى آخره، ولكن وصلت بعض الصور، فلو بحثت مثلا في النت عن: "السيخ، مذابح السيخ للمسلمين" إلى آخره لشاهدت العجب العجاب.

فهؤلاء من أشد الناس عداوة للمسلمين، وحقدًا عليهم، يعني أشد من الهندوس والبوذيين، يقال: إن أصل هذه الديانة، هي ديانة حادثة في الهند، يعني متأخرة، يقال: إنها أصلها أن رجلاً من الهندوس كان يشتغل عند تاجر من المسلمين، فكان معجبًا بأمانته وأخلاقه واستقامته ونزاهته، أعجب به إعجابًا شديدًا، فكان مترددًا بين ديانته الهندوسية، وما يرى من أخلاق هذا المسلم، ويرى التنافر والصراع الدامي بين المسلمين والهندوس، فأزمع على أن يجمع الطائفتين، ويوحد بينهما في ديانة واحدة، لينتهي هذا الصراع، فهو يرى أن المسلمين جيدون، كحال هذا التاجر الذي عرفه من قرب، وأن هؤلاء الهندوس هم قومه وأهل دينه، فأراد أن يجمع ويمزج بينهما، فجاءت هذه الطائفة: السيخ، التي صارت أشد عداوة على المسلمين من الهندوس، فأقامت مذابح للمسلمين، ولو قرأتم في تاريخ بعض ملوك الهند من المسلمين، والتحولات التي حصلت، والتبديل والتلفيق، حصلت أشياء من هذا القبيل، ومحاولات للجمع بين هذه الديانات، لتكون ديانة متقاربة، أو ديانة واحدة، فماذا نتج عن ذلك؟

اقرءوا في تاريخ الهند.

ثم قال تعالى: فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمْ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ أي: كيف حالهم إذا جاءتهم الملائكة لقبض أرواحهم، وتعاصت الأرواح في أجسادهم واستخرجتها الملائكة بالعنف والقهر والضرب، كما قال وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلآئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ [سورة الأنفال:50] الآية.

وقال تعالى: وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ [سورة الأنعام:93] أي: بالضرب أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ [سورة الأنعام:93].

ولهذا قال هاهنا: ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ.

قوله -تبارك وتعالى- هنا: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ.

هذا الموضع فيه قراءتان متواتران: وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ قراءة الجمهور بالفتح: "والله يعلم أسرارهم" جمع سر، الأسرار التي بينهم وبين هؤلاء الكفار الذين اتفقوا معهم على الطاعة في بعض الأمر، ويعلم أسرارهم كلها في هذا وفي غيره، مما يبيتونه من مساخط الله -تبارك وتعالى.

وقراءة حمزة والكسائي وحفص عن عاصم وهي التي نقرأ بها بالكسر: إِسْرَارَهُمْ على المصدر.

يقول هنا: أي ما يسرون وما يخفون، والله مطلع عليهم، هذه الأشياء التي يبيتونها مع أعداء الله ، ويتفقون معهم عليها، وما يقدمون لهم من التنازلات، الله يعلم ذلك جميعًا، وإن خفي على الناس.

ابن جرير -رحمه الله- حمل هذه الآية على غير ما ذكر، يعني من كون ذلك أنهم: قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ هم الكفار أو اليهود، أو أهل الكتاب، وإنما ذلك لطائفة أيضًا من المنافقين: قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ يعني من المنافقين، يعني أن المنافقين يقول بعضهم لبعض: سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وهذا فيه بعد، -والله تعالى أعلم.

يقول: فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمْ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ يقول: أي: كيف حالهم إذا جاءتهم الملائكة لقبض أرواحهم؟

يقول: فَكَيْفَ"الفاء" هذه لترتيب ما بعدها على ما قبلها.

و"كيف" هذه في محل رفع على أنها خبر مقدم، فكيف علمه بأسرارهم إذا توفتهم الملائكة؟!.

أو في محل نصب بفعل محذوف، يعني كيف يصنعون؟

ويحتمل غير ذلك، كأن تكون خبرًا لـ"كان" مقدرة، يعني فكيف يكونون إِذَا تَوَفَّتْهُمْ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ؟

ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ، ذَلِكَإشارة إلى التوفي المذكور، توفي الملائكة لهم، في هذه الحال: يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ لماذا؟

لأنهم: اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ.

  1. رواه البخاري كتاب تفسير القرآن، باب وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ، رقم (4830).
  2. رواه البخاري كتاب تفسير القرآن، باب وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ، رقم (4831) ومسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب صلة الرحم وتحريم قطيعتها، رقم (2554).
  3. رواه أحمد، رقم (20398) وأبو داود، كتاب أحاديث أبي موسى الأشعري ، باب أبي بكرة، رقم (921)، والترمذي، كتاب أبواب صفة القيامة والرقائق والورع عن رسول الله ﷺ، باب، رقم (2511)، وابن ماجه، كتاب الزهد، باب البغي، رقم (4211) وقال محققو المسند: "إسناده صحيح".
  4. رواه أحمد، رقم (22401) وقال محققو المسند: "صحيح لغيره".
  5. رواه أحمد، رقم (6524) وقال محققو المسند: "إسناده صحيح" وهو في البخاري، كتاب الأدب، باب ليس الواصل بالمكافئ، رقم (5991).
  6. رواه أحمد، رقم (6774) وقال محققو المسند: "إسناده ضعيف".
  7. رواه أبو دواد، كتاب الأدب، باب في الرحمة، رقم (4941)، والترمذي، أبواب البر والصلة عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء في رحمة المسلمين، رقم (1924)، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وأحمد، رقم (6494)، وقال محققو المسند: "صحيح لغيره" وقال الألباني: "حسن لغيره" كما في صحيح الترغيب والترهيب، رقم (2256).
  8. سبق تخريجه.
  9. سبق تخريجه.
  10. سبق تخريجه.
  11. رواه البخاري، كتاب الدعوات، باب الدعاء إذا انتبه بالليل، رقم (6316)، ومسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه، رقم (763).

مواد ذات صلة