السبت 21 / جمادى الأولى / 1446 - 23 / نوفمبر 2024
[2] من قوله تعالى: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} الآية:9 إلى قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} الآية:12
تاريخ النشر: ٢٠ / ربيع الآخر / ١٤٣٥
التحميل: 9306
مرات الإستماع: 17971

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فيقول الله -تبارك وتعالى: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ۝ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [سورة الحجرات:9، 10].

يقول الحافظ ابن كثير -رحمه الله: يقول تعالى آمرًا بالإصلاح بين الفئتين الباغيتين بعضهم على بعض: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا.

لاحظ هنا أنه قال: اقْتَتَلُوا وذكر قبله مثنى: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فالطائفتان: مثنى، فعاد الضمير عليه مجموعًا، وهذا باعتبار أفراد كل طائفة.

يقول ابن كثير: فسماهم مؤمنين مع الاقتتال، وبهذا استدل البخاري وغيره على أنه لا يخرج عن الإيمان بالمعصية وإن عظمت، لا كما يقوله الخوارج ومن تابعهم من المعتزلة، ونحوهم.

الخوارج كما هو معروف يكفرون صاحب الكبيرة، ويقولون: إنه كافر ومخلد في النار، فيسلبون عنه اسم الإيمان، ويثبتون له اسم الكفر، ويحكمون عليه بالخلود في النار.

وأما المعتزلة فإنهم يقولون: إنه فاسق مِلِّي، بمنزلة بين المنزلتين، ليس بكافر ولا مؤمن، ولكنه فاسق.

وأما في الحكم فإنهم يحكمون عليه بالخلود في النار، هذه التي تسمى مسائل الأسماء والأحكام، يعني ماذا يسمى فاعل الكبيرة؟

هؤلاء يسمونه: كافرًا، وهؤلاء يسمونه: الفاسق الملي.

أما في الأحكام، فيحكمون عليه بالخلود في النار، يعني النتيجة عند المعتزلة في المصير مع الخوارج واحدة.

وهذا الأمر الذي يذكره أهل العلم عن هؤلاء الخوارج أنهم يكفرون صاحب الكبيرة هذا صحيح، ولكن ذلك حينما استقر مذهبهم على هذا، يعني بعدما صارت هذه المذاهب -كما يقال- متبلورة، بحيث ظهرت معالمها، وأصّل أصحابُها أصولها، وقعّدوا قواعدها، وإلا فإنها في البدايات لم تكن كذلك، يعني الأصول الخمسة عند المعتزلة مثلاً في بداياتهم لما ظهر واصل بن عطاء، وقال ما قال، هل كانت عندهم هذه الأصول الخمسة مقررة مقعدة مؤصلة، أو أنها وجدت مع الجدال مع الفرق والطوائف، وهذه الفرق قد درست الجدل والمنطق، وصارت تجادل عن مذاهبها وآرائها الفاسدة؟

وكذلك أيضًا الخوارج، فإنهم في البداية كانت مسألة التحكيم -كما هو معلوم- وقالوا: لا حكم إلا لله، ما كان عندهم أصول الخوارج التي تقررت فيما بعد، يعني ما كان هؤلاء الذين اجتمعوا وانشقوا من جيش علي -رضي الله تعالى عنه- يعتقدون أن فاعل الكبيرة كافر، لكنهم كما قال أهل العلم: يكفرون من خالفهم، ويحكمون بذلك على أمور لا توجب التأثيم، فضلاً على أن تكون من الأمور المخرجة من الملة، هم يكفرون من سواهم من المسلمين، يحكمون عليهم بالكفر.

فالأمور التي أخذوها على عليٍّ لم تكن أمورًا توجب المؤاخذة والإثم، فضلاً عن أن تكون من الكبائر، فضلاً على أن تكون من الأمور المخرجة من الملة، وهذا يحتاج أن نعرفه وأن نتبينه، ومن ثَمّ فإذا جاء من يكفر المسلمين بالاجتهادات، أو يكفر من لم يكن معه وعلى طائفته ورأيه، أو يكفر من خرج عن طاعته هكذا مطلقًا، فإن هذا يكون من جنسهم، وإن لم يقل من الناحية النظرية: إن فاعل الكبيرة كافر، قد لا يقول هذا من الناحية النظرية لكن حاله أسوأ ممن يقول: إن فاعل الكبيرة كافر؛ لأن هذا يكفر الناس الذين اختلفوا معه في أمور يسوغ فيها الاختلاف، أمور اجتهادية، يكفر من لم يقارف ما يؤاخذ عليه شرعًا، ويستحل دمه.

فمن كان بهذه المثابة فهو من جنس هؤلاء، ولا نحتاج أن ننظر هل يصرح هو ويعتقد أن فاعل الكبيرة كافر، هو الآن لا يكفر فاعل الكبيرة هو يكفر من يخالفه في اجتهاده، فلا يُنتظر منه أن يقول: إن فاعل الكبيرة كافر، حتى يقال: إنه من الخوارج، يكفر من يختلف معه بالاجتهاد، يكفر كل من عدا طائفته من المسلمين من أهل العلم ومن غيرهم من عامة الناس، فهذا لا يقال: إنه لا يكون من الخوارج؛ لأنه لم يصرح بأن فاعل الكبيرة كافر، أو أنه قال في يوم من الدهر: إننا لا نكفر من يقارف الكبائر، هو أسوأ ممن يكفر مقارف الكبائر، بل قد تجد في أحوال بعض هذه الطوائف من هو أسوأ من الخوارج، يعني الخوارج يتحرزون، وهم أصدق الناس -كما هو معلوم، والعلماء قبلوا روايتهم في الحديث؛ لأنهم يتحرزون من الكذب.

وقد تجد في بعض هذه الطوائف الذي يقول من الناحية النظرية: إنه لا يكفر فاعل الكبيرة، وقد تجده يستحل الكذب، ومن أكذب الناس، لا يضاهيه في الكذب إلا الرافضة، اختلاق الإفك على الناس، واستحلال الأعراض، ورمي الناس بالعظائم مما يبرءون إلى الله منه مما لم يقولوه ولم يفعلوه، استحل كل ذلك من أجل أن غايته التي يريد الوصول إليها تبرر هذه الوسائل، وكل من خالفه فإنه لا يتورع في رميه بكل قبيح من الكفر فما دونه.

فمثل هذا لا شك أنه أسوأ حالاً من الخوارج.

ثم بعد ذلك في التعامل مع مثل هؤلاء لا يُنظر إلى كل فرد، هل هو يقول بهذا، مغرر به، أو غير مغرر به، الكلام على طائفة الآن مجتمعة، لها شوكة، تقتل الناس، وتبيد خضراءهم، تسعى لهذا، هنا لا يقال في مثل هذه الحال: والله يوجد مجموعة من الناس مغرر بهم، إلى آخره، هؤلاء يُبيَّن لهم الحق عمومًا، فمن قبله فالحمد لله، ومن لم يقبل فإن عليًّا وأصحاب النبي ﷺ ما ذهبوا ينظرون في كل فرد من هؤلاء الأفراد ما حالهم، وماذا كانوا عليه من العمل، هؤلاء قوم قد اجتمعوا يقاتلون المسلمين، ويتركون أعداء الله .

فيفرق بين حال هؤلاء، وحال البغاة.

وكذلك أيضًا ما يحصل من القتال بين المسلمين على أمر من الأمور اختلفوا فيه، قد يختلفون على دماء فيقتتلون، قد يختلفون على أرض، قد يختلفون على أموال يتنازعونها فيقتتلون، قد يقتتلون على عصبية وحمية وقبلية، قد يقتتلون على حدود أرضية، أو غير ذلك، فهنا يُصلَح بينهم.

لكن إذا كانت الطائفة الأخرى ليست كذلك، الطائفة الأخرى هي ترى أن هؤلاء من المرتدين ومن الكفار، وأن قتالهم أوجب من قتال الكفار الأصليين، وأنه أفضل وأعظم، فهنا ما يقال: فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا.

تصلح بين طائفتين إحداهما ترى أن هؤلاء من أكفر الكفار، وأنه ليس لهم علاج إلا الاستئصال؟ الإصلاح ما وجهه هنا؟!

الإصلاح ليس على دماء، ليس على أموال، ليس على أرض، ليس على اختلاف في اجتهادات، هذه الحال لا يكون للإصلاح فيها موضع.

يقول: وبهذا استدل البخاري إلى آخره.

يقول: وهكذا ثبت في صحيح البخاري من حديث الحسن عن أبي بكرة: أن رسول الله ﷺ خطب يومًا ومعه على المنبر الحسن بن علي -رضي الله عنهما، فجعل ينظر إليه مرة، وإلى الناس أخرى، ويقول: إن ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين[1].

فكان كما قال -صلوات الله وسلامه عليه، أصلح الله به بين أهل الشام وأهل العراق بعد الحروب الطويلة.

هؤلاء تنازعوا على أمر وهو أن أهل الشام كانوا يطالبون بدم عثمان ، وعليٌّ -رضي الله تعالى عنه- كان يرى أن ذلك لا يتأتى حتى يُبايَع، ويتمكن ويستقر له الأمر، ثم بعد ذلك يستطيع القصاص من هؤلاء، فوقع هذا القتال، فهنا يأتي الإصلاح.

ابن جرير-رحمه الله- له كلام جيد في هذا المعنى في قوله: فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا يقول: فأصلحوا أيها المؤمنون بينهما بالدعاء إلى حكم كتاب الله والرضا بما فيه لهما وعليهما، وذلك هو الإصلاح بينهما بالعدل، فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى يقول: فإن أبت إحدى هاتين الطائفتين الإجابة إلى حكم كتاب الله لها وعليها، وتعدت ما جعل الله عدلاً بين خلقه، وأجابت الأخرى منهما، فقاتلوا التي تبغي، يقول: فقاتلوا التي تعتدي وتأبى الإجابة إلى حكم الله، حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِيقول: حتى ترجع إلى حكم الله الذي حكم في كتابه بين خلقه.. إلى آخر ما قال.

وقوله: فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ أي: حتى ترجع إلى أمر الله وتسمع للحق وتطيعه، كما ثبت في الصحيح عن أنس: أن رسول الله ﷺ قال: انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا قلت: يا رسول الله، هذا نَصَرتُه مظلوما فكيف أنصره ظالما؟ قال: تمنعه من الظلم، فذاك نصرك إياه[2].

قال أيضًا جماعة من السلف بهذا المعنى الذي ذكرته آنفًا مما قاله ابن جرير -رحمه الله: وأصلحوا بينهما بالدعاء إلى حكم كتاب الله، والرضا بما فيه لهما وعليهما، كما قال ابن جرير، جاء هذا عن الحسن وقتادة والسدي، فإن الإصلاح لا يكون إلا بالتحاكم إلى شرع الله -تبارك وتعالى، ولا يكون بحال من الأحوال بالتحاكم إلى غيره من المحاكم التي تحكم بغير ما أنزل الله، ويدخل في ذلك ما يسمى بـ"السُّلُوم القبلية" يعني يحصل قتال بين قبيلتين أحيانًا، أو بين طائفتين من القبيلة، فيتحاكمون إلى عادات عندهم يسمونها بهذا، ولا يخرجون عنها، فهذا من قبيل التحاكم إلى الطاغوت أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ [سورة المائدة:50].

وذكر سعيد بن جبير: أن الأوس والخزرج كان بينهما قتال بالسعف والنعال، فأنزل الله هذه الآية، فأمر بالصلح بينهما.

هذه الروايات مراسيل، ولكنه يوجد في بعض المرويات: أن الآية نزلت فيما هو شبيه بهذا، في واقعة وقعت لما أتى النبي ﷺ عبد الله بن أُبيٍّ، وحصل في ذلك الحين مجاوبة ومخاصمة في الكلام، ثم بعد ذلك صار اقتتال بالنعال، ونحو ذلك، فنزلت الآية.

وقال السدي: كان رجل من الأنصار يقال له: "عمران" كانت له امرأة تدعى: أم زيد، وإن المرأة أرادت أن تزور أهلها فحبسها زوجها وجعلها في عُلِّية له -يعني الغرفة في الدور الثاني مثلا يقال لها ذلك -بالكسر والضم- لا يدخل عليها أحد من أهلها، وإن المرأة بعثت إلى أهلها، فجاء قومها وأنـزلوها لينطلقوا بها، وإن الرجل قد كان خرج، فاستعان أهل الرجل، فجاء بنو عمه ليحولوا بين المرأة وبين أهلها، فتدافعوا واجتلدوا بالنعال، فنزلت فيهم هذه الآية، فبعث إليهم رسول الله ﷺ وأصلح بينهم، وفاءوا إلى أمر الله.

وقوله: فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ أي: اعدلوا بينهم فيما كان أصاب بعضهم لبعض، بالقسط، وهو العدل إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ.

روى ابن أبي حاتم عن عبد الله بن عمرو: أن رسول الله ﷺ قال: إن المقسطين في الدنيا على منابر من لؤلؤ بين يدي الرحمن، بما أقسطوا في الدنيا[3][ورواه النسائي].

وقوله: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [سورة الحجرات:10] أي: الجميع إخوة في الدين؛ كما قال رسول الله ﷺ: المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه[4].

وفي الصحيح: والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه[5].

وفي الصحيح أيضا: إذا دعا المسلم لأخيه بظهر الغيب قال الملك: آمين، ولك بمثله[6].

والأحاديث في هذا كثيرة.

وفي الصحيح: مثل المؤمنين في تَوادِّهم وتراحمهم وتعاطفهم، كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحُمَّى والسَّهَر[7].

وفي الصحيح أيضا: المؤمن للمؤمن كالبنيان، يشد بعضه بعضا وشبك بين أصابعه[8].

يعني أن الأخوة الإيمانية ثابتة لا ترتفع إلا بالخروج من الإيمان، فهي ثابتة حتى مع وجود القتال الذي هو أعظم المعاصي -بعد الشرك- التي يعصى الله -تبارك وتعالى- بها، ومع ذلك فالأخوة ثابتة بين هؤلاء المقتتلين.

وقوله: فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ [سورة الحجرات:10] يعني: الفئتين المقتتلتين، وَاتَّقُوا اللَّهَ أي: في جميع أموركم، لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ وهذا تحقيق منه تعالى للرحمة لمن اتقاه.

هنا قال: فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وهناك قال: وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا [سورة الحجرات:9].

قلنا: إن الضمير عاد مجموعًا باعتبار الأفراد، أفراد كل طائفة، وهنا: فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ، ما قال: فأصلحوا بين إخوتكم، هنا يقول: يعني الفئتين المقتتلتين.

ذكرُ التثنية هنا يحتمل أن يكون ذلك كما يقول بعضهم: باعتبار أن التثنية قد ترد مرادًا بها الكثرة، يعني التثنية قد تذكر ويراد بها الجمع، وهو أحد الأوجه في قوله -تبارك وتعالى: أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ  [سورة ق: 24].

وبعضهم يقول: المعنى: أصلحوا بين كل أخوين، فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ فذكر التثنية باعتبار أن المعنى أصلحوا بين كل أخوين مقتتلين.

وَاتَّقُوا اللَّهَ قال: أي في جميع أموركم، يعني أنه خاطب الأمة بهذا الخطاب العام، ما قال: واتقوا في الإصلاح بينهما مثلاً، فيكون ذلك شاملاً لكل ما يدخل تحت تقوى الله، كما مشى عليه الحافظ ابن كثير -رحمه الله.

ابن جرير يفسر هذا الموضع كعادته، فيرجع ذلك إلى ما قبله: وَاتَّقُوا اللَّهَ في هذا الإصلاح بينهما، بحيث لا يميل مع طائفة دون الأخرى، فيكون بذلك ظالمًا، "اتقوا الله" في هذا الإصلاح، فيكون بالقسط والعدل والتجرد، بعيدًا عن أهواء النفوس وميلها.

قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ  [سورة الحجرات:11].

ينهى تعالى عن السخرية بالناس، وهو احتقارهم والاستهزاء بهم؛ كما ثبت في الصحيح عن رسول الله ﷺ أنه قال: الكِبْر: بَطَر الحق، وغَمْص الناس[9].

ويروى: وغمط الناس[10].

والمراد من ذلك: احتقارهم واستصغارهم، وهذا حرام، فإنه قد يكون المحتقَر أعظم قدرًا عند الله، وأحب إليه من الساخر منه المحتقِر له؛ ولهذا قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ فنص على نهي الرجال، وعطف بنهي النساء.

قوله -تبارك تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ.

السخرية هي: الاستهزاء، وهي فرع عن الكبر كما جاء في الحديث، فإن غمص الناس هو احتقارهم، وإنما يحتقرهم من كان متكبرًا متعاليًا مترفعًا.

وهذه السخرية تدل على نقص وجهل.

وموسى ﷺ لما أمر قومه بذبح البقرة قالوا: أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ [سورة البقرة:67] فدل على أن الذي يستهزئ بالناس أنه من الجاهلين، بنص القرآن.

وهذه السخرية: لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ يدخل فيها جميع أنواع السخرية، احتقار الناس، الاستهزاء بهم، سواء كان ذلك للونهم، أو كان ذلك لغيره مما يتصل بخلقتهم، أو كان ذلك لأنسابهم وقبائلهم، أو كان ذلك لبلدهم، أو كان ذلك لناحيتهم، أو كان ذلك للهجاتهم، كلامهم، أو لحركاتهم وأفعالهم وتصرفاتهم، أو غير ذلك مما يسخر منه السفهاء، فإن هذا لا يجوز، وهذا نهي، والنهي للتحريم.

فالذي يسخر من الناس إضافة إلى كونه قد عصى الله -تبارك وتعالى- هو ينبئ عن جهل وكبر.

لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ والقوم في الأصل يقال لجماعة الرجال خاصة على المشهور، وقد يدخل فيه النساء على سبيل التبع.

وهذه الآية مما يستدل به على رجحان هذا القول، أي أن القوم يقال لجماعة الرجال؛ لأنه قال بعده: وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاءفدل على أن النساء لم يدخلن في ذلك، في لفظ القوم.

ومما يدل على هذا أيضًا قول الشاعر:

وما أدري ولستُ إخالُ أدري أقومٌ آلُ حصنٍ أم نساءُ

ففرق بين القوم والنساء.

هنا قال: لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ، عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ بمعنى: أنه قد يسخر ممن هو أفضل منه، لكنه يزدريه لبلده أو لهيئته ورثاثة ثيابه، أو لبُكوء في كلامه، أو نحو ذلك من المظاهر التي يعتقد أنها دالة على عجز أو ضعف أو قصور، أو نحو ذلك، فينتقص هؤلاء الناس، وقد يكون هؤلاء عند الله أفضل منه.

هذا أدبٌ أدّب الله به أهل الإيمان: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ.

وانظر إلى حالنا اليوم، وما يحصل من السخرية بين طوائف المسلمين، وعبر هذه الوسائل الجديدة التي يتداولها الناس، فتجد من هذا أشياء كثيرة في صور متنوعة، تارة تكون على سبيل الطرف والفكاهة على قبيلة، أو أهل بلد، أو نحو ذلك، مما يكون فيه نوع انتقاص لهؤلاء الناس، وهذا لا يجوز، وهذا الذي ينشرها ويرسلها، أو يضحك حينما تقال، أو يكتب ضحكته هو مشارك لهؤلاء في هذا الوزر، فلا يجوز تداول هذه الأشياء، ولا يجوز نشرها، ولا يجوز الضحك منها، بل ينكر على من فعل ذلك.

هذا تجدونه يذكر كثيرًا، ينسب إلى أهل بلد، أو رجل من أهل بلد، أو من قبيلة، أو نحو ذلك، وهذا لا يجوز.

وأما السخرية بأهل الفضل والدين والعلم والخير والصلاح في هذه الأمة فهذا أعظم وأشد، وإذا أردت أن ترى من هذا أشياء كثيرة انظر إلى التعليقات التي تكتب في هذه الوسائل الجديدة، لا يكاد يسلم أحد من السخرية، مهما كتب من الحق، ومهما كتب من الصواب، فالسخرية للأسف أصبحت صنعة لدى بعض الناس، وحرفة لا يتخلى عنها، ليس له شغل إلا السخرية بالآخرين -نسأل الله العافية، وبئست البضاعة.

وقوله: وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ أي: لا تلمزوا الناس.

والهمَّاز اللَّماز من الرجال مذموم ملعون؛ كما قال تعالى: وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ [سورة الهمزة:1].

فالهمز بالفعل واللمز بالقول، كما قال:هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ [سورة القلم:11] أي: يحتقر الناس ويهمزهم طاعنًا عليهم، ويمشي بينهم بالنميمة وهي: اللمز بالمقال؛ ولهذا قال هاهنا: وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ كما قال: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [سورة النساء:29] أي: لا يقتل بعضكم بعضًا.

اللمز هو العيب، وهذا العيب قد يكون باللسان يعني بالقول، وقد يكون بالفعل يعني كالإشارة بالعين، أو بالشفة، أو بغير ذلك مما يصدر من الإنسان بيده أو برأسه، أو نحو هذا مما يقصد به عيب الناس، فهذا كله من قبيل العيب، يعني يعيب الناس بقوله أو فعله، يبقى الفرق بين الهمز واللمز فهنا الحافظ ابن كثير -رحمه الله- يقول: الهمز بالفعل، واللمز بالقول.

بالفعل -كما قلت- حركة يد أو شفة، أو حركة لسان من غير نطق، أو حركة عين، أو نحو ذلك، هذا الهمز، واللمز بالقول أن يعيبهم ويدخل في ذلك الغيبة أيضًا، فإنها عيب لهم، ولذلك ذكر بعده الغيبة.

اللمز والهمز، مضى الكلام على شيء من هذا، وأن أهل العلم غير متفقين على تفسير الهمز بالفعل واللمز بالقول، فابن جرير -رحمه الله- يعكس هذا المعنى، فيرى أن اللمز يكون باليد والعين واللسان والإشارة، يعني يرى أن اللمز أعم وأوسع، فيشمل كل عيب، سواء كان بالقول أو بالفعل، وأما الهمز فيرى أنه لا يكون إلا باللسان.

وتأملوا هنا قوله -تبارك وتعالى: وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ ليس معناه أن الإنسان يوجه العيب إلى نفسه، وإنما كما قال ابن كثير: أي: لا تلمزوا الناس، وقد ذكرنا -في مناسبات متعددة- أن النفوس المجتمعة على أمر تنزل منزلة النفس الواحدة، فأهل الإيمان لما اجتمعوا عليه صاروا بمنزلة النفس الواحدة، ولهذا قال الله تعالى: وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ [سورة النساء:29] يعني لا يقتل بعضكم بعضًا.

وقال في بني إسرائيل: ثُمَّ أَنتُمْ هَؤُلاء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ [سورة البقرة:85] يعني يقتل بعضكم بعضًا.

وقال: وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ [سورة البقرة:188] يعني لا يأكل بعضكم مال أخيه، فنزِّلت هذه النفوس منزلة النفس الواحدة.

هنا: وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ يعني لا يلمز بعضكم بعضًا.

ابن جرير -رحمه الله- يقول: فجعل اللامز لأخيه لامزًا نفسه؛ لأن المؤمنين كرجل واحد فيما يلزم بعضهم لبعض من تحسين أمره، وطلب صلاحه ومحبته الخير، يعني هو يحب لأخيه الخير، ويزين أمره، ويذكره بما يجمله، فإن عابه فكأنما يعيب نفسه، وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ يعيب نفسه بذلك.

هذا التعبير من أدق ما يكون، حينما نهى عن اللمز قال: وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ فيستشعر اللامز لإخوانه المسلمين، الساخر منهم، أو المستهزئ بهم، أو الذي يعيبهم أنه يوجه ذلك إلى نفسه، وأن ما يعيب إخوانه فإن ذلك يرجع إليه، ويكون عيبًا فيه؛ لأن أمر المسلمين واحد.

قال ابن عباس، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وقتادة، ومقاتل بن حَيَّان: وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ أي: لا يطعن بعضكم على بعض.

وقوله: وَلا تَنَابَزُوا بِالألْقَابِ أي: لا تتداعوا بالألقاب، وهي التي يسوء الشخص سماعها.

روى الإمام أحمد: عن أبي جَبِيرة بن الضحاك قال: فينا نزلت في بني سلمة: وَلا تَنَابَزُوا بِالألْقَابِ قال: قدم رسول الله ﷺ المدينة، وليس فينا رجل إلا وله اسمان أو ثلاثة، فكان إذا دُعِىَ أحد منهم باسم من تلك الأسماء قالوا: يا رسول الله، إنه يغضب من هذا، فنزلت: وَلا تَنَابَزُوا بِالألْقَابِ [ورواه أبو داود].

وَلا تَنَابَزُوا بِالألْقَابِ يقول هنا: أي لا تتداعوا بالألقاب، وهكذا قال ابن جرير -رحمه الله.

وَلا تَنَابَزُوا بِالألْقَابِ هذا التنابز بالألقاب يدخل فيه صور وأنواع كثيرة جداً، منها: الألقاب التي أشير إليها في هذا الحديث، مما يكون في بعض البيئات، كل إنسان لابد أن يلقب بلقب، قد يكون هذا اللقب لكلمة أخطأ فيها في يوم من الدهر، وكان ذلك سببًا لوصمه بلقب، أو كان لتصرف أو لشيء فعله، أو لغير ذلك مما يلابسه ويقارفه، أو لشيء رُمي به من غير أن يصدر منه ما يوجب ذلك، فتجد هؤلاء الناس لا يتركون أحدًا إلا بلقب.

وهذه من الأمور التي كانت تكرهها العرب في الجاهلية، وجاء الإسلام فحرمها، وَلا تَنَابَزُوا بِالألْقَابِ.

ويدخل في ذلك أيضًا رمي الناس بالأوصاف التي لا يرتضونها، أيًّا كانت، وإن لم تكن لقبًا لهم، كأن يقول: يا فاسق، يا كذا، يا فاجر، يا كافر، فهذا أشد وأعظم -كما سيأتي إيضاحه في التي بعدها.

ويدخل في ذلك أيضًا كل لقب يكرهه الإنسان ولا يرضى أن ينسب إليه، سواء كان ذلك يرجع إلى مهنة، أو إلى طائفة ينسب إليها، وهو لا يرتضي ذلك، ولا يقر به، ولا يرضاه، لا يجوز التراشق بين المسلمين بهذه الأمور.

وللأسف لها سوق رائجة في مثل هذه الأوقات، مع ضعف الإيمان والتربية، وقلة الخوف من الله -تبارك وتعالى، فكل من خالف هؤلاء الذين لا يتقون الله لابد أن يرموه بلقب من هذه الألقاب، وإن كان لا يرضى بحال من الأحوال بشيء من هذا.

فتُركت مثل هذه الآداب الربانية الواجب اتباعها، وصار ذلك فسوقًا عند فاعليه وأهله بنص القرآن -نسأل الله العافية، فهذا الذي يرمي الناس بهذه الألقاب، ويلقبهم بها، أو يعيرهم بها، أو يتنقصهم، أو نحو ذلك فهذا فاسق وليس بصالح، والفاسق لا تقبل له شهادة في الأصل إلا في حالات -كما هو معلوم، ولهذا قال بعده: بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإيمَانِ.

وقوله: بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإيمَانِ أي: بئس الصفة والاسم الفسوق، وهو: التنابز بالألقاب، كما كان أهل الجاهلية يتناعتون، بعدما دخلتم في الإسلام وعقلتموه.

وَمَنْ لَمْ يَتُبْ أي: من هذا: فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ.

وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ نقل الواحدي عن المفسرين في قوله: وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ هو أن يقول لأخيه المسلم: يا فاسق، يا منافق، أن هذا هو التنابز بالألقاب، يعني يرميه بهذه الأحكام، أو يعير المسلم بما كان عليه قبل ذلك من ذنب ومعصية تاب منها، أو من مذهب منحرف كان عليه ثم رجع، أو مَن كان على دين فتركه ودخل في الإسلام، كأن يقول لمن كان على اليهودية: يا يهودي، والنصراني يقول له: يا نصراني وقد دخل في الإسلام، فإذا غضب منه دعاه بذلك، فهذا أسلم وكان على المجوسية، فيقول له: يا مجوسي، أو أنه يخالفه أو يخاصمه أو نحو ذلك فلا يسميه إلا بالمجوسي، فهذا لا يجوز بحال من الأحوال.

وكذلك أيضًا ما جاء عن عطاء: "كل شيء أخرجتَ به أخاك من الإسلام".

والواقع أن هذا جميعًا من باب التقريب والتمثيل، ولهذا قال بعضهم: كقول بعضهم للبعيد: كلب، خنزير، حمار، نحو ذلك، ولهذا ابن جرير -رحمه الله- عمم المعنى: وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ فيدخل فيه هذا جميعًا، كل ما يوجه إليه من لقب، أو اسم، أو نحو ذلك مما يكرهه، فيقال: كذا، هو كذا، يا كذا.

فهؤلاء الذين يفعلون هذا ينادون على أنفسهم بالفسق.

وقوله -تبارك وتعالى: بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ قال: أي: بئس الصفة والاسم الفسوق، وهو التنابز بالألقاب، كما كان أهل الجاهلية يتناعتون، بعدما دخلتم في الإسلام وعقلتموه.

معنى كلام ابن كثير -رحمه الله: أن هذا الصنيع يكون فسوقًا ممن صدر عنه، بئس الحال التي تصيرون إليها بعد الدخول في الإيمان أن تتحولوا إلى حال كهذه، وهي الفسوق، أن يصدر منكم هذا العمل الذي يوجب الفسق.

وقال ابن زيد: أي بئس أن يسمى الرجل كافرًا أو زانيًا بعد إسلامه وتوبته، "بئس الاسم الفسوق" يعني أن ترمي أخاك بشيء كأن يقال: مجوسي، يهودي، بناء على ديانته السابقة، أو بناء على عمله، يقول: فاجر، زانٍ، سارق، وقد تاب من ذلك.

والذي يظهر وهو ما عليه عامة أهل العلم: أن المراد أن من قارف ذلك، وصدر منه فإنه فاسق، ولهذا فإن من أهل العلم من جعله -يعني هذا الحكم: بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ-شاملاً لما ذكر قبله، فمن فعل ما نُهي عنه: السخرية بإخوانه المسلمين، واللمز، والنبز فهو فاسق، وبئس الحال التي صار إليها من الفسوق بعد الإيمان، وهذا الذي اختاره ابن جرير -رحمه الله.

بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ يعني ما يصدر من تلك المزاولات من سخرية، وما بعدها، فهذا يوجب الفسوق.

وقوله هنا: وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ هذا كله يدل على أن هذه الأفعال محرمة، فالله -تبارك وتعالى- نهى عن ذلك، وحكم على فاعله بالفسق، وأيضًا توعدهم، قال: وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ.

وجاء بهذه الصيغة: الإشارة "أولئك"، وفصل بين طرفي الكلام بضمير الفصل: "هم"، وأدخل "ال" على الخبر، كل هذا يدل على توكيده، وهو يشبه الحصر، يعني كأن هؤلاء هم الذين استحقوا الوصف الكامل من الظلم، يعني هؤلاء هم الظالمون حقيقة، تقول: هؤلاء هم الأبرار، هؤلاء هم الفجار، هؤلاء هم المنفقون، فهذا كله يدل على تقوية الكلام، ويشبه الحصر.

ولابن القيم كلام في هذا، يقول -رحمه الله تعالى- معلقاً على قوله تعالى: وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ: "قسم العباد إلى تائب وظالم، وما ثَمّ قسم ثالث ألبته، وأوقع اسم الظالم على من لم يتب، ولا أظلم منه، لجهله بربه وبحقه، وبعيب نفسه، وآفات أعماله.

وفي الصحيح عنه ﷺ أنه قال: يا أيها الناس، توبوا إلى الله، فوالله إني لأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة[11].

وكان أصحابه يعدون له في المجلس الواحد قبل أن يقوم: رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الغفور[12] مائة مرة.

وما صلى صلاة قط بعد إذ أنزلت عليه: إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ [سورة النصر:1] إلى آخرها، إلا قال فيها: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي[13].

وصح عنه ﷺ أنه قال: لن يُنجي أحدًا منكم عملُه قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل[14].

فصلوات الله وسلامه على أعلم الخلق بالله، وحقوقه وعظمته، وما يستحقه جلاله من العبودية، وأعرفهم بالعبودية وحقوقها، وأقومهم بها"[15].

وقال -أيضا: "وتارك المأمور ظالم، كما أن فاعل المحظور ظالم، وزوال اسم الظلم عنه إنما يكون بالتوبة الجامعة للأمرين، فالناس قسمان: تائب وظالم ليس إلا، فالتائبون هم: الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ [سورة التوبة:112].

فحفظ حدود الله جزء التوبة، والتوبة هي مجموع هذه الأمور، وإنما سُمي تائبًا؛ لرجوعه إلى أمر الله من نهيه، وإلى طاعته من معصيته"[16].

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ  [سورة الحجرات:12].

يقول تعالى ناهيًا عباده المؤمنين عن كثير من الظن، وهو التهمة والتخون للأهل والأقارب والناس في غير محله؛ لأن بعض ذلك يكون إثمًا محضًا، فليُجتنب كثير منه احتياطًا، وروينا عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب أنه قال: "ولا تظننّ بكلمة خرجت من أخيك المسلم إلا خيرًا وأنت تجد لها في الخير محملا".

وروى مالك عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث، ولا تجسسوا، ولا تحسسوا، ولا تنافسوا، ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانا[17] [رواه البخاري ومسلم وأبو داود].

وعن أنس قال: قال رسول الله ﷺ: لا تقاطعوا، ولا تدابروا، ولا تباغضوا، ولا تحاسدوا، وكونوا عباد الله إخوانا، ولا يحل للمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام[18] [رواه مسلم، والترمذي وصححه].

قوله -تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ [سورة الحجرات:12].

اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ الحافظ ابن كثير -رحمه الله- يقول: هو التهمة والتخون للأهل والأقارب والناس، يعني من غير دليل، وإنما يكون ذلك مبناه على الأوهام، ولا حقيقة لذلك.

الأصل حمل الناس على ظاهرهم، وأنْ توكل سرائرهم إلى الله -تبارك وتعالى، فمن أظهر خيرًا قُبل منه، ولم يطلب ما وراء ذلك.

وقوله -تبارك وتعالى: اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ الحافظ ابن كثير -رحمه الله- يقول: لأن بعض ذلك يكون إثمًا محضًا، فليُجتنب كثير منه احتياطًا.

اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ معناه مفهوم المخالفة: أن من الظن ما لا يكون إثمًا، لكن ما هذا الظن الذي لا يكون إثمًا؟

ابن جرير-رحمه الله- يقول: إن هذا الظن الخارج عن كونه من الإثم هو أن يظن بالمسلمين خيرًا، فالظن ينقسم إلى قسمين: ظن سيئ، وظن حسن.

إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ فالظن السيئ إثم، ما الذي يبقى؟

أن يظن بأخيه خيرًا.

هذا كلام ابن جرير -رحمه الله، وهو ملحظ مهم، فهو يقول: لم يقل: إن الظن كله إثم، وإنما قال "بعض الظن إثم"، لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا [سورة النور: 12].

وقد ذكرت في تفسير سورة النور أن المعنى: أن يظن بأخيه الظن الحسن، وهنا نزّل النفوس منزلة النفس الواحدة، ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ يعني بإخوانهم.

والمعنى الثاني الذي ذُكر: أن ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ يعني: يرجع إلى نفسه، هل يفعل أو لا؟

فإن نزه نفسه، وقال: أنا لا يصدر مني هذا لو كنت مقامه، فليس ذلك بممتنع عليه وسائغ أو واقع من أخيه، كما في قصة أبي أيوب مع امرأته في قضية الإفك: "لو كنتِ مكانها أتفعلين ذلك؟" قالت: لا، قال: وأنا لو كنت مكان صفوان لم أفعل، ووالله إنها خير منك، وصفوان خير مني".

فيرجع إلى نفسه، هل أنا أفعل هذا الشيء؟

والمعنيان صحيحان، والقرآن يعبر به بالألفاظ القليلة الدالة على المعاني الكثيرة، فيرجع إلى نفسه، ويحسن الظن بإخوانه.

وبين المعنيين ملازمة -كما هو ظاهر، فهنا ابن جرير -رحمه الله- يذكر هذا: إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ [سورة الحجرات:12] البعض الذي لا يكون إثمًا هو الظن الحسن بإخوانه المسلمين.

أما ظن السوء فعلى هذا يكون من قبيل الإثم؛ لأنه لا يجوز له أخذ الناس بالظن، والحكم عليهم بالظن، ولو كانوا كما قال؛ لأنه لم يقل ذلك عن علم، إنما بمجرد الظنون، أما البواطن فأمرها إلى الله ، ليس إليه، فلو كان كلامه بالظنون الكاذبة موافقًا لحقيقة الأمر في الباطن فإنه لا يكون سالمًا من التبعة؛ لأنه تكلم حيث لا يجوز الكلام، يعني هو ما بنى كلامه على ما يوجب ذلك، وإنما قاله بظن كاذب، فوافق وصادف أن الحال في الباطن كما قال، لكن هو لم يصل إلى هذا بطريق صحيح، فلا يكون سالمًا، لا يجوز للإنسان أن يطلق لسانه، أو يظن بالناس الظنون السيئة.

يبقى أن الظن قد يوجد في قلب الإنسان، ولا يتكلم به، فهل يكون مؤاخذًا؟  

هو إن بنى عليه الحكم بأن تكلم أو تعامل مع هؤلاء الناس بمقتضاه فإنه يكون مؤاخذًا، فإن لم يصدر منه شيء، ولم يعاملهم بمقتضاه فينبغي عليه مدافعته، وأما ما يقع في القلب من الخواطر من غير إرادة فإنه يدفعها، ولا يكون مؤاخذًا على ذلك، لكن عليه أن يدفعها، وأن يلتمس المعاذير لإخوانه المسلمين.

وقوله: وَلا تَجَسَّسُوا أي: على بعضكم بعضًا.

والتجسس غالبا يطلق في الشر، ومنه: الجاسوس، وأما التحسس، فيكون غالبًا في الخير؛ كما قال تعالى إخبارا عن يعقوب أنه قال: يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ  [سورة يوسف:87].

وقد يستعمل كل منهما في الشر كما ثبت في الصحيح أن رسول الله ﷺ قال: لا تجسسوا، ولا تحسسوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانا[19].

وقال الأوزاعي: التجسس: البحث عن الشيء، والتحسس: الاستماع إلى حديث القوم وهم له كارهون، أو يتسمع على أبوابهم. والتدابر: الصَّرْم[20] [رواه ابن أبي حاتم].

وقيل غير هذا في الفرق بين التجسس والتحسس، لكن ذلك حينما ورد في الحديث منهيًّا عنه: لا تجسسوا ولا تحسسوا، فدل ذلك على أن هذا التحسس قد يقع أيضًا في الشر، ولا يلزم أن يكون ذلك في الخير مطلقًا، لكنه قد يستعمل في الخير، أو في المباح، وقد يستعمل في غيره، وقد يكون أحدهما بالاستماع ونحوه، والآخر بالفعل ونحو ذلك، فهذا كله محرم، فإن الناس إنما يؤخذون بما ظهر منهم، ولا يطلب ما وراء ذلك.

وقد تكلم أهل العلم على الحالة التي يستثنى فيها من ذلك، بحيث يجوز فيها التحسس أو التجسس، وهي ما إذا قويت التهمة في مفسدة متعدية، قالوا: مثل المحتسب، من كان من أهل الحسبة، فإنه حينما تقوى التهمة، وتظهر أمارات قوية على ذلك في مفسدة متعدية، فيجوز في ذلك التحري، كأن يكون مثلاً رجل قد اتخذ داره شراكًا للإيقاع بالنساء، أو نحو ذلك، أو اتخذ متجره لهذا الغرض، وقويت الأمارات، أو أن هذه الدار اتخذت للبغاء -أعزكم الله، ويرى من أمارات ذلك وعلامته وما إلى ذلك مما يقوي هذه التهمة، بوجود نساء لا صلة لهن بصاحب هذه الدار، أو نحو ذلك، يدخلن، وأمور من هذا القبيل، ففي هذه الحال لا بأس في منكر متعدٍّ قد ظهرت أماراته، قويت التهمة يعني.

أما ما عدا ذلك فلا، مثل أن يكون المنكر قاصرًا على نفسه، كأن يظن بهذا الإنسان مثلاً أنه يفعل معصية في داخل بيته غير متعدية، كأن يكون يشرب الخمر، أو غير ذلك، مما قد يقارفه، فهذا يكون بينه وبين الله ، ومعصيته لا تضر المجتمع، وإنما تضره هو فقط، فيعاقب عليها، إنما الذي يضر المجتمع ما كان متعديًّا أو ما كان ظاهرًا.

وقوله: وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فيه نهي عن الغيبة، وقد فسرها الشارع كما جاء في الحديث الذي رواه أبو داود عن أبي هريرة قال: قيل: يا رسول الله ما الغيبة؟ قال: ذكرك أخاك بما يكره قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته[21] [ورواه الترمذي، وقال: حسن صحيح].

وقد ورد في الغيبة الزجر الأكيد؛ ولهذا شبهها تعالى بأكل اللحم من الإنسان الميت؛ كما قال تعالى: أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ؟ أي: كما تكرهون هذا طبعًا فاكرهوا ذاك شرعًا؛ فإن عقوبته أشد من هذا، وهذا من التنفير عنها، والتحذير منها، كما قال في العائد في هبته: كالكلب يقيء ثم يرجع في قيئه[22]، وقد قال: ليس لنا مثَلُ السَّوْء[23].

وثبت في الصحاح والحسان والمسانيد من غير وجه أنه قال في خطبة حجة الوداع: إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا[24].

وروى أبو داود عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: كل المسلم على المسلم حرام: ماله وعرضه ودمه، حسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم[25] [ورواه الترمذي، وقال: "حسن غريب"].

وروى الحافظ أبو يعلى عن ابن عَمٍّ لأبي هريرة: أن ماعزًا جاء إلى رسول الله ﷺ فقال: يا رسول الله، إني قد زنيت، فأعرض عنه، قالها أربعًا فلما كان في الخامسة قال: زنيت؟ قال: نعم، قال: وتدري ما الزنا؟ قال: نعم، أتيت منها حرامًا ما يأتي الرجل من امرأته حلالا، قال: ما تريد إلى هذا القول؟ قال: أريد أن تطهرني، قال: فقال رسول الله ﷺ: أدخلت ذلك منك في ذلك منها كما يغيب المِيل في المكحلة والرِّشاء في البئر؟ قال: نعم، يا رسول الله، قال: فأمر برجمه فرجم، فسمع النبي ﷺ رجلين يقول أحدهما لصاحبه: ألم ترَ إلى هذا الذي ستر الله عليه فلم تدعه نفسه حتى رُجمَ رجم الكلب، ثم سار النبي ﷺ حتى مَرّ بجيفة حمار فقال: أين فلان وفلان؟ انزلا فكلا من جيفة هذا الحمار قالا: غفر الله لك يا رسول الله، وهل يُؤكل هذا؟ قال: فما نلتما من أخيكما آنفا أشد أكلا منه، والذي نفسي بيده، إنه الآن لفي أنهار الجنة ينغمس فيها[26] [إسناده صحيح].

وروى الإمام أحمد عن جابر بن عبد الله قال: كنا مع النبي ﷺ فارتفعت ريح جيفة منتنة، فقال رسول الله ﷺ: أتدرون ما هذه الريح؟ هذه ريح الذين يغتابون الناس[27].

قوله -تبارك وتعالى: وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا وهذا نهي أيضًا وهو للتحريم، ومما يدل على ذلك أيضًا الأحاديث الواردة في هذا الباب، وكذلك أيضًا ما ذكر بعضه في هذه الآية من هذا التمثيل الذي ضربه للمغتاب وغيبته: أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ؟ فمثل هذا لا يقال في شيء مباح، أو مكروه كراهة تنزيه، بل إن أهل العلم عدوا الغيبة من كبائر الذنوب، وما جاء فيها من الوعيد لهؤلاء الذين يأكلون أعراض الناس، فإن الكبيرة -كما هو معروف- في ضابطها: ما جاء في خصوصه وعيد، أو عقوبة أو حد، أو نحو ذلك.

وهنا في قوله -تبارك وتعالى: أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ مضى الكلام على هذا مفصلاً في شرح الأمثال في القرآن.

ومما ذكر هناك: أن قوله: أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وجه الشبه: أن هذا الذي يُغتاب غير حاضر، هو لا يستطيع الدفع عن عرضه، فهو كالميت، فكذلك شبه هنا بأكل لحم الأخ وهو ميت.

وهذا التشبيه لا شك أنه في غاية التنفير، وذلك أن الإنسان ينفر عادة من الميت ويستوحش، كما يذكر الحافظ ابن القيم وغيره، وقد ذكرت ذلك في الكلام على اتباع الأوهام، بأنه لو وُضع في حجرة مع ميت وهو يعلم أنه ميت، وأنه لن يتحرك، وأنه لن يصدر منه شيء، ومع ذلك فإنه لا يستطيع النوم في هذا المكان وعنده أحد ميت، عنده جنازة، لا يستطيع النوم في هذه الحجرة مع هذا الميت، كأنه يتوهم -كأنه يشعر- أن هذا الميت سيصدر منه شيء، سيصدر منه حركة، سيصدر منه تصرف، مع أنه يعلم بقرارة نفسه أن ذلك لا يكون، ولكن هذه هي النفوس.

فهنا إذا كان بهذه المثابة، فكيف بأكل لحمه؟ فكيف إذا كان أخًا له؟

فذكر الأخوة، وذكر أكل اللحم، وذكر الموت، وكل هذه الأمور الثلاثة موجبة للنفور من هذا.

وقول النبي ﷺ في خطبة الوداع: إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا[28] ذكر هذه الثلاث، قرن الأعراض مع الدماء والأموال، وذكر هذه الحرمات الثلاث: اليوم والشهر والبلد، فدل ذلك على أن أعراض المسلمين في غاية الحرمة، فضلاً عن دمائهم وأموالهم، وأنه ينبغي الاحتراز من هذا غاية الاحتراز، وأن يتباعد الإنسان غاية التباعد عن الوقيعة في ذلك، وأن يحفظ لسانه وقلمه، وأن يتقي الله -تبارك وتعالى، فإن هؤلاء سيقتصون منه في يوم من الدهر، ولكن من حسناته، والله المستعان.

الحال لا تسر، الغيبة والوقيعة في الأعراض فاشية في المسلمين، وهي أكثر في مثل هذه الأوقات مع هذه الأسباب التي صار الناس يتوصلون بها إلى نشر ذلك في الآفاق، يعني في السابق لربما كان الإنسان يغتاب في مجلس، يغتاب مع أحد من الناس، ويتكلم في عرض أخيه، اليوم وهو جالس في بيته يتكلم ويكتب سواء أراد أن يكون ذلك مسموعًا أو مكتوبًا، ويمكن مع المشاهدة لصورته، وهو يتكلم ويقع في أعراض المسلمين، وينتشر ذلك، فيقرؤه من بأقطارها، ويحسب أن ذلك هينًا سهلاً، ويذهب بعده ينام، أو يأكل أو يضحك بملء فيه، إنْ كانت كلمة -إشارة واحدة: "حسبك منها أنها قصيرة" قال: لقد قلتِ كلمة لو مُزجت بماء البحر لمزجته[29].

فكيف بعظائم تقال، ومختلقات وأكاذيب وفرى توجه إلى المسلمين، بل إلى خيارهم وعلمائهم وصلحائهم، -والله المستعان، وحسبنا الله ونعم الوكيل، أصبح الإنسان لا يفرق أحيانًا بين حال هؤلاء، هل هؤلاء الذين يكتبون هم من أعداء الإسلام أو هم من عصاة المسلمين؛ لأن الكلام لا يصدر من إنسان يتقي الله ، ويعلم أنه محاسب بين يديه، يعني هذه الأشياء التي تكتب أو تقال يمكن أن يكتبها عدو مندس، يمكن أن يكتبها الرافضي، ممكن أن يكتبها بعض العصاة، والله المستعان.

هذا الحديث لما قال: انزلا فكلا من جيفة هذا الحمار[30] إلى آخره في إسناده ضعف، والحافظ ابن كثير -رحمه الله- هنا صحح إسناده.

والحديث الذي بعده: "كنا مع النبي ﷺ فارتفعت ريح جيفة منتنة"[31]، هذا حسّن إسناده الشيخ شعيب الأرنؤوط، وكذلك الشيخ ناصر الدين الألباني.

ولا شك أن الذنوب لو كان لها رائحة لما أطاق أحد مجالسة أحد، يعني الغيبة وغير الغيبة، الذنوب لو كان لها رائحة أو كان لها صورة تبدو في وجه الإنسان لما أطاق أحد أن ينظر إلى أحد، أو أنّ أحدًا يجالس أحدًا، -والله المستعان.

وقوله: وَاتَّقُوا اللَّهَ أي: فيما أمركم به ونهاكم عنه، فراقبوه في ذلك واخشوا منه.

إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ أي: تواب على من تاب إليه، رحيم بمن رجع إليه، واعتمد عليه.

قال الجمهور من العلماء: طريق المغتاب للناس في توبته أن يُقلع عن ذلك، ويعزم على ألا يعود، وهل يشترط الندم على ما فات؟ فيه نـزاع، وأن يتحلل من الذي اغتابه.

وقال آخرون: لا يشترط أن يتحلله، فإنه إذا أعلمه بذلك ربما تأذى أشد مما إذا لم يعلم بما كان منه، فطريقه إذًا أن يثني عليه بما فيه في المجالس التي كان يذمه فيها، وأن يرد عنه الغيبة بحسبه وطاقته، فتكون تلك بتلك.

هنا في هذه التوبة يقول: قال الجمهور: طريق المغتاب أن يقلع، ويعزم ألا يعود، وهل يشترط الندم؟

الندم يشترط في التوبة، لكن يرِد عليه السؤال المعروف وهو أن الندم لا يملكه الإنسان، فقد يندم ويريد دفع الندم على خسارة، أو نحو ذلك ولا يستطيع، وقد يريد الندم ولكنه أيضًا قد لا يستطيع، يعني قد ينال من امرأة يحبها ويعشقها قبلة أو نحو ذلك مما حرم الله عليه، ويريد أن يندم، فإذا تذكر ذلك لربما تاقت نفسه إليه.

ومن هنا أورد العلماء -رحمهم الله- هذا السؤال هل هذا الندم من قبيل تكليف ما لا يطاق: لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا [سورة البقرة:286] فهو شيء يقع في القلب من غير تطلب؟

وقد ذكرت -في بعض المناسبات- قاعدة في هذا، وهي: أن خطاب الشارع إذا توجه إلى المكلف في أمر لا يدخل تحت طاقته فإنه يتوجه إلى سببه، أو إلى أثره، ومثلنا للأثر بقوله -تبارك وتعالى: وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ [سورة النور:2] إقامة الحد، فالرأفة تقع في القلب من غير إرادة، رحمة رقيقة.

إذًا يكون الأثر هو تخفيف الحد، أو التقليل منه، أو الإلغاء للحد، بدافع الرأفة.

وأما السبب فمثاله الندم، فإنه ينظر في الأمور التي توجب له الندم، أنه عصى الله، وأن الله رآه، وأن ذلك مكتوب في صحيفة عمله، وأنه سيحاسب عليه، إلى آخره، فيكون ذلك جالبًا للندم.

وهنا مسألة التحلل، يقول: إن بعض أهل العلم اشترطوا ذلك، وقال آخرون: لا يشترط؛ لأنه يتأذى، هذا بالإضافة إلى أمر آخر ذكره بعض أهل العلم كالنووي -رحمه الله- أن ذلك يوجب الشحناء والنفرة، وما لا يراد أن يكون بين أهل الإيمان من التشاحن والتفرق والعداوات إذا أعلمه بذلك.

ولو قيل: إن ذلك يمكن أن يكون فيه تفصيل، بحيث ينظر إن كان ذلك -يعني الإخبار والتحلل له- يوجب عداوته أو إيلامه، أو نفرته، أو نحو ذلك فهنا يمكن أن يتحلل منه إجمالًا، يقول له: إنه وقع مني بعض ما لا يحل في حقك فحللني مثلاً، فإن كان هذا القدر يوجب أيضًا عداوته، أو نحو ذلك، كأن يكون هذا الإنسان عنده ردود أفعال، أو كما يقال: يحمل عداوات، ولربما يتحامل على الناس بهذا، ويقاطعهم، أو يتمحل في السؤال، ما الذي قلته؟ وما الذي فعلته؟ ونحو ذلك، ففي هذه الحال يقال: إنه يدعو له، ويحسن أمره، ويذكر هذا الإنسان بالخير في المجالس التي ذكره فيها بالشر.

لكن أقول: ما الحاجة لمثل هذا كله؟ لماذا يطلق الإنسان لسانه بالغيبة ثم بعد ذلك يكون أسيرًا لهذا الذي اغتابه، فيبحث عن مخرج هل يذهب إليه ويتكلم معه في التحلل منه إجمالاً أو تفصيلاً، أو يدعو له، ويذكره بالذكر الحسن في المجالس التي اغتابه فيها؟ سمعت بعضهم يقول: سأتصدق عنه، كل صدقة سأجعله معي فيها، ما الحاجة لهذا؟ ما الحاجة لإطلاق اللسان أصلاً في غيبة الناس؟ فيحفظ المرء لسانه، ويتقي الله ، ولا يحتاج إلى مثل هذا، ولكن النفس إذا ضعفت قارفت مثل هذه القبائح -والله المستعان.

  1. رواه البخاري، كتاب الصلح، باب قول النبي ﷺ للحسن بن علي -رضي الله عنهما، رقم (2704).
  2. رواه الترمذي، في كتاب أبواب الفتن عن رسول الله ﷺ، رقم (2255) وأصله في البخاري، كتاب المظالم والغصب، باب أعن أخاك ظالما أو مظلوما، رقم (2444).
  3. رواه النسائي، كتاب الْقَضَاء، بَابُ ذِكْرِ الِاخْتِلَافِ عَلَى الزُّهْرِيِّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، رقم (5886)، وأحمد، رقم (6485)، وقال محققو المسند: "إسناده صحيح على شرط الشيخين".
  4. رواه البخاري، كتاب المظالم والغصب، باب لا يظلم المسلم المسلم ولا يسلمه، رقم (2442)، ومسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم، رقم (2580).
  5. رواه مسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر، رقم (2699).
  6. رواه مسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب فضل الدعاء للمسلمين بظهر الغيب، رقم (2732).
  7. رواه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم، رقم (2586).
  8. رواه البخاري، كتاب المظالم والغصب، باب نصر المظلوم، رقم (2446)، ومسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم، رقم (2585).
  9. رواه الترمذي، كتاب أبواب البر والصلة عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء في الكبر، رقم (1999)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة، رقم (134).
  10. رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب تحريم الكبر وبيانه، رقم (91).
  11. رواه مسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب استحباب الاستغفار والاستكثار منه، رقم (2702).
  12. رواه أبوداود، كتاب الصلاة، باب في الاستغفار، رقم (1516)، والترمذي، أبواب الدعوات عن رسول الله ﷺ، باب ما يقول إذا قام من مجلسه، رقم (3434) وابن ماجه، كتاب الأدب، باب الاستغفار، رقم (3814)، وصححه الألباني، في صحيح أبي داود، رقم (1357).
  13. رواه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب: وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [سورة الزلزلة:8]، رقم (4967)، ومسلم، كتاب الصلاة، باب ما يقال في الركوع والسجود، رقم (484).
  14. رواه البخاري، كتاب الرقاق، باب القصد والمداومة على العمل، رقم (6463)، ومسلم، كتاب صفة القيامة والجنة والنار، باب لن يدخل أحد الجنة بعمله بل برحمة الله تعالى، رقم (2816).
  15. مدارج السالكين (1/ 196، 197).
  16. المصدر السابق (1/ 313).
  17. رواه البخاري، كتاب النكاح، باب لا يخطب على خطبة أخيه حتى ينكح أو يدع، رقم (5143)، ومسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظن، والتجسس، والتنافس، والتناجش ونحوها، رقم (2563)، وأبو داود، كتاب الأدب، باب في الظن، رقم (4917)، وهذا لفظ مسلم.
  18. رواه البخاري، كتاب الأدب، باب ما ينهى عن التحاسد والتدابر، رقم (6065)، ومسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب النهي عن التحاسد والتباغض والتدابر، رقم (2558).
  19. رواه البخاري، كتاب النكاح، باب لا يخطب على خطبة أخيه حتى ينكح أو يدع، رقم (5143)، ومسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظن، والتجسس، والتنافس، والتناجش ونحوها، رقم (2563)، وهذا لفظ مسلم.
  20. تفسير القرآن العظيم (7/ 379).
  21. رواه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الغيبة، رقم (2589)، وأبو داود، كتاب الأدب، باب في الغيبة، رقم (4874)، والترمذي، أبواب البر والصلة عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء في الغيبة، رقم (1934).
  22. رواه البخاري، كتاب الهبة وفضلها والتحريض عليها، باب هبة الرجل لامرأته والمرأة لزوجها، رقم (2589)، ومسلم، كتاب الهبات، باب تحريم الرجوع في الصدقة والهبة بعد القبض إلا ما وهبه لولده وإن سفل، رقم (1622).
  23. رواه البخاري، كتاب الحيل، باب في الهبة والشفعة، رقم (6975).
  24. رواه البخاري، كتاب القسامة والمحاربين والقصاص والديات، باب تغليظ تحريم الدماء والأعراض والأموال، رقم (4406)، ومسلم، كتاب المغازي، باب حجة الوداع، رقم (1679).
  25. رواه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم ظلم المسلم وخذله واحتقاره، ودمه وعرضه وماله، رقم (2564).
  26. رواه أبو داود، كتاب الحدود، باب رجم ماعز بن مالك، رقم (4428)، والنسائي، كتاب الحدود، باب من قال لا يقام عليه الحد حتى يعترف أربع مرات، رقم (16998)، وضعفه الألباني، في مشكاة المصابيح، رقم (3627).
  27. رواه أحمد في المسند، رقم (14784)، وحسنه الألباني، في صحيح الترغيب والترهيب، رقم (2840).
  28. رواه البخاري، كتاب القسامة والمحاربين والقصاص والديات، باب تغليظ تحريم الدماء والأعراض والأموال، رقم (4406)، ومسلم، كتاب المغازي، باب حجة الوداع، رقم (1679).
  29. راه أبو داود، كتاب الأدب، باب في الغيبة، رقم (4875)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب، رقم (2834).
  30. رواه أبو داود، كتاب الحدود، باب رجم ماعز بن مالك، رقم (4428)، والنسائي، كتاب الحدود، باب من قال لا يقام عليه الحد حتى يعترف أربع مرات، رقم (16998)، وضعفه الألباني، في مشكاة المصابيح، رقم (3627).
  31. رواه أحمد في المسند، رقم (14784)، وحسنه الألباني، في صحيح الترغيب والترهيب، رقم (2840).

مواد ذات صلة