بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فهذه السورة سورة الفجر الموضوع الذي تتحدث عنه هو: الجزاء، فهؤلاء الذين لربما يغترون بقوتهم، ويغترون بأموالهم، ويغترون بكثرة ما عندهم من الجموع، ويغترون بما عندهم من الإمكانات الهائلة الله-تبارك وتعالى- قادر على أخذهم، فقد أخذ هؤلاء الذين قبلهم من قوم عاد، وكذلك أيضاً ثمود، وفرعون، فهؤلاء أهلكهم الله -تبارك وتعالى، وهو بالمرصاد لمن كان على طريقهم، ومشاكلاً لهم، كما قال الله بعدما ذكر عقوبة قوم لوط: وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ [سورة هود:83]، فمن فعل فعلهم فإن عذاب الله ينزل به، ونقمته تحل بهؤلاء المجرمين.
فيمكن أن يقال: هذا هو مجمل ما تدور عليه السورة، حيث ذكر الله هذه الأقسام، وبعدها ذكر هذه الأمم القوية المكذبة، وما حصل لهم من العقوبات، ثم توعد بعدها من كان على شاكلتهم، وما ذكر من الآيات بعد ذلك من حال الإنسان في حالة الابتلاء بالنعمة أو بالمكروه كل ذلك يرجع إلى ما سبق من أن هذه المعايير: القوة والضعف والحاجة والمسكنة والفقر وإلى آخر هذه الأشياء، كل هذه يغتر بها الإنسان، ويترفع بها، ويظن أن ذلك لمنزلة له عند الله، أو نحو ذلك، فهذا كله غير صحيح، والله يبتلي الناس بهذا وهذا، وسيجازي الجميع، وسيحاسبهم، كما حاسب الذين من قبلهم، وجازاهم في الدنيا بالعذاب المستأصل.
قال -رحمه الله: روى النسائي عن جابر قال: صلى معاذ صلاة، فجاء رجل فصلى معه، فطول، فصلى في ناحية المسجد، ثم انصرف، فبلغ ذلك معاذًا، فقال: منافق، فذكر ذلك لرسول الله ﷺ، فسأل الفتى، فقال: يا رسول الله، جئت أصلي معه فطول عليّ، فانصرفت، وصليت في ناحية المسجد، فعلفت ناقتي، فقال رسول الله ﷺ: أفتان يا معاذ؟ أين أنت من سبح اسم ربك الأعلى، والشمس وضحاها، والفجر، والليل إذا يغشى؟[1].
بسم الله الرحمن الرحيم
وَالْفَجْرِ وَلَيَالٍ عَشْرٍ وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ [سورة الفجر:1-14].
قال المصنف -رحمه الله: أما الفجر فمعروف، وهو: الصبح، قاله عليٌّ وابن عباس وعكرمة ومجاهد والسدي.
وعن مسروق ومحمد بن كعب: المراد به فجر يوم النحر خاصة، وهو: خاتمة الليالي العشر.
والليالي العشر المراد بها: عشر ذي الحجة، كما قاله ابن عباس وابن الزبير ومجاهد وغير واحد من السلف والخلف.
وقد ثبت في صحيح البخاري عن ابن عباس -رضي الله عنهما- مرفوعا: ما من أيام العمل الصالح أحب إلى الله فيهن من هذه الأيام يعني: عشر ذي الحجة، قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجلا خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء[2].
وروى الإمام أحمد: عن جابر، عن النبي ﷺ قال: إن العشر عشر الأضحى، والوتر يوم عرفة، والشفع يوم النحر، ورواه النسائي، وهذا إسناد رجاله لا بأس بهم، وعندي أن المتن في رفعه نكارة[3]، والله أعلم.
قوله -تبارك وتعالى: وَالْفَجْرِ هنا لم يحدد فجر يوم بعينه، فأطلقه، والأصل: بقاء المطلق على إطلاقه، والعام على عمومه، حتى يرد ما يقيد أو يخصص، فالله أقسم بالفجر كما أقسم بالعصر، كما سيأتي، ولم يقيد ذلك بعصر يوم معين، فهذا الفجر يحمل على هذا الإطلاق: أن الله أقسم بالوقت المعروف، الذي هو وقت الفجر، الذي يبدأ من طلوع الفجر الصادق إلى طلوع الشمس، فهذه المدة تصل إلى ما يقرب من ساعة ونصف، تزيد قليلاً وتنقص قليلاً بحسب المواسم، فهذا يقال له: الفجر، وهذا وقت لصلاة الفجر، كما قال ربنا -تبارك وتعالى: وَقُرْآنَ الْفَجْرِ [سورة الإسراء:78] يعني: صلاة الفجر، إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا [سورة الإسراء:78]، أي: تشهده ملائكة الليل والنهار.
بل من تتبع الروايات الصحيحة الواردة في هذا المعنى فإنه سيجد في بعضها -أي في بعض الروايات الصحيحة: أن الله -تبارك وتعالى- حينما ينزل إلى السماء الدنيا في الثلث الآخر كل ليلة، أن هذا النزول يمتد، ويبقى إلى صلاة الفجر، وأن ذلك يمكن أن يدخل تحت قوله: إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا [سورة الإسراء:78]، أي: يشهده الله وملائكته، ولكن المشهور: أن ذلك بشهادة الملائكة.
فهذا وقت لهذه الصلاة الشريفة، وهو وقت شريف، والنبي ﷺ يقول: بورك لأمتي في بكورها[4]، وذلك أشرف أوقات اليوم، وأجل أوقات اليوم، ومبعث النشاط والحركة والانتشار، فأقسم الله به.
وأما قول من قال كما يقول هنا: الفجر: معروف، وهو الصبح فهذا الذي اختاره ابن جرير، وسمى هؤلاء الذين قالوا بذلك، يقول: وهو: الصبح، قاله علي وابن عباس وعكرمة ومجاهد والسدي، وهو اختيار ابن جرير.
القول الآخر الذي هو قول مسروق ومحمد بن كعب، وأيضاً قال به مجاهد في رواية عنه: إن المراد: فجر يوم النحر خاصة، لماذا قالوا ذلك؟ قالوا: خاتمة الليالي العشر، وذكر بعده الليالي العشر، فقال: وَالْفَجْرِ وَلَيَالٍ عَشْرٍ، لكن هذا فيه نظر -والله أعلم؛ لأنه لا دليل عليه، فالله أطلقه، ونحن نطلق ما أطلقه الله، فالله أطلق ذلك فنحن نطلق ما أطلقه؛ ولهذا يقال: الفجر هو: الوقت المعروف.
وأما قتادة فحمل ذلك على فجر أول يوم من شهر محرم؛ لأنه منه تنفجر السنة، وهذا بعيد جدًّا، بل هو غلط؛ لأن ابتداء السنة الهجرية من شهر محرم إنما كان بتوقيت الصحابة، فهذا كله بتوقيت الصحابة في زمن خلافة عمر ، فاعتبار الفجر هو فجر أول يوم من شهر محرم غير صحيح، والله تعالى أعلم.
وأما الضحاك فيقول: فجر ذي الحجة، يعني: لاقتران قوله: وَلَيَالٍ عَشْرٍ، وبهذا قال السدي.
وبعضهم يقول: فيه تقدير: ورب الفجر، وهذا لا حاجة إليه؛ لأن الله يقسم بما شاء من مخلوقاته، وهذه التقديرات: وربِّ كذا، تجدونها في أقوال بعضهم عند تفسير مثل هذه المواضع التي يقسم الله بها بشيء من المخلوقات.
والقاعدة: أن القسم لا يكون إلا بمعظم، فإذا رأيت الله أقسم بشيء فهذا يدل على أن هذا الشيء معظم، فهذا الوقت وقت الفجر وقت له مزية، وله شرف، وهو أشرف أوقات اليوم.
قوله: وَلَيَالٍ عَشْرٍ، الليالي العشر هنا قال: "المراد بها: عشر ذي الحجة"، هكذا قال عامة أهل العلم، فهم يقولون: العشر من ذي الحجة، وهذا قول الجمهور، واختاره ابن جرير، ولم يُجِز مخالفة هذا القول لإجماع الحجة، وعرفنا أن الحجة عند ابن جرير تعني: قول الجمهور، وإلا فهناك أقوال أخرى.
فالضحاك يقول: العشر هي: العشر الأواخر من رمضان، وكأن الذي حمله على هذا: أن الله ذكر الليالي، فقال: وَلَيَالٍ عَشْرٍ، والعشر الأواخر من رمضان فيها ليلة القدر، وهي: ليلة خير من ألف شهر، ولهذا العلماء يختلفون في الأفضل: هل هي العشر الأواخر من رمضان أو العشر الأول من ذي الحجة؟
فبعض أهل العلم كما مشى على ذلك ابن القيم -رحمه الله- يقول: إن أيام عشر ذي الحجة أفضل، وإن ليالي العشر الأواخر من رمضان أفضل، وعلل ذلك بأن عشر ذي الحجة قال فيها النبي ﷺ كما سبق: ما من أيام...، والعشر الليالي الأواخر من رمضان فيها ليلة القدر، وهي: خير من ألف شهر، ولكن هذا أيضاً لا يخلو من إشكال، وذلك: أن العرب تطلق الأيام وتقصد معها الليالي تبعًا لها، وتطلق الليلة وتقصد ما يتبعها من اليوم؛ لذلك ذكرنا في الكلام على الاعتكاف: أنه لو نذر أن يعتكف ليلة فهل يلزمه أن يعتكف ليلة في الليل فقط، أي: من غروب الشمس إلى طلوع الفجر، أو أنه يعتكف ليلة مع يومها؟
ذكرنا هناك أن ذلك بحسب نيته، فالأصل: أن الليلة يتبعها اليوم، لكن العرب قد تطلق الليلة وتريد بها الليلة فقط، وقد تطلق اليوم وتريد اليوم فقط، وقد تطلق ذلك وتريد به الليلة مع يومها، فكل هذه الإطلاقات معروفة في كلام العرب؛ ولهذا يُرجع إلى نيته، يقال: ماذا نويت؟ ما الذي قام بقلبك؟ هل أنت تريد أن تعتكف ليلة مع يومها أو الليل فقط؟
العشر الأواخر من رمضان فيها ليلة القدر، وهنا الله قال: وَلَيَالٍ عَشْرٍ، فكأن من قال كالضحاك: إن المقصود بالليالي العشر التي أقسم بها هي: العشر الأواخر من رمضان، كأنه نظر إلى اللفظ: وَلَيَالٍ عَشْرٍ، والمعنى: من جهة أن فيها ليلة القدر، والذين قالوا: العشر الأول من شهر ذي الحجة قالوا: النبي ﷺ قال: ما من أيام..، قيل لهم: ولكن الله ذكر هنا الليالي، قالوا: العرب تذكر اليوم وتقصد ليلته، وهذا الكلام صحيح؛ ولهذا عامة العلماء سلفًا وخلفًا يقولون: عشر ذي الحجة.
والذي يظهر -والله أعلم: أن ليالي عشر ذي الحجة أفضل من ليالي العشر الأواخر من رمضان إلا ليلة القدر، وأما التفصيل الذي ذكره ابن القيم فقال: إلا الليالي؛ لأن فيها ليلة القدر، فيقال له: إن ليلة القدر مستثناة، لكن ليست جميع ليالي العشر فيها ليلة القدر، فالنبي ﷺ قال: ما من أيام العمل الصالح أحب إلى الله فيهن من هذه الأيام فقال: ما من أيام، وهذه صيغة عموم، فإذا قلنا: الليلة تابعة لليوم إذًا ما من ليالٍ، ولم يستثنِ النبي ﷺ ليالي العشر الأواخر من رمضان، لكن لما كانت ليلة القدر خيرًا من ألف شهر استثنيناها، فهذه مزية لها، فلهذا تكون هذه الليلة مستثناة.
فالذي يظهر: أن أيام وليالي العشر الأول من شهر ذي الحجة أفضل؛ بناء على ظاهر الحديث، أي: أفضل من أيام وليالي العشر الأواخر من رمضان إلا ليلة القدر، وأما الذين استثنوا الليالي فقالوا: من أجل ليلة القدر، فيقال لهم: ليلة القدر مستثناة، وهي ليلة واحدة، وأما الليالي الأخرى التي ليست فيها ليلة القدر فتكون ليالي العشر الأول من شهر ذي الحجة أفضل؛ ولهذا قال النبي ﷺ لما سئل وقالوا له: ولا الجهاد في سبيل الله؟ -والجهاد هو أعظم وأفضل وأجل الأعمال، فقال: ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجلا خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء، وهذا الفضل ما ذكر في العشر الأواخر من رمضان، لا في لياليها، ولا في أيامها؛ ولهذا ما قالوا له: ولا العمل في العشر الأواخر من رمضان.
وعامة أهل العلم على أنها عشر ذي الحجة، فهي أفضل عشر في العام.
- أخرجه النسائي في الكبرى، كتاب التفسير، باب قوله تعالى: وَالشَّفْعِ [سورة الفجر:3]، رقم: (11609).
- أخرجه البخاري، أبواب العيدين، باب فضل العمل في أيام التشريق، رقم: (969).
- أخرجه أحمد، رقم: (14511)، وقال محققو المسند: هذا إسناد لا بأس برجاله، وأبو الزبير لم يصرح بسماعه من جابر، والنسائي في الكبرى، كتاب التفسير، باب سورة الفجر، رقم: (11607)، وضعفه الألباني في سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السيئ في الأمة (8/408)، رقم: (3938)، وقال: منكر، وهذا إسناد رجاله ثقات؛ إلا أنه معلول بعنعنة أبي الزبير؛ فإنه مدلس.
- أخرجه الترمذي، أبواب البيوع عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء في التبكير بالتجارة، رقم: (1212)، وقال: حديث حسن، وأبو داود، أول كتاب الجهاد، باب في الابتكار في السفر، رقم: (2606)، وابن ماجه، أبواب التجارات، باب ما يرجى من البركة في البكور، رقم: (2236)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود (7/ 360)، رقم: (2345)، وقال: حديث صحيح، وحسنه الترمذي، وصححه ابن حبان، وقوّاه ابن عبد البر والمنذري والحافظ ابن حجر والسخاوي.