الجمعة 10 / شوّال / 1445 - 19 / أبريل 2024
[4] من قوله تعالى: {وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ} الآية:23، إلى نهاية السورة
تاريخ النشر: ٢٩ / رمضان / ١٤٣٤
التحميل: 5089
مرات الإستماع: 3326

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله تعالى: الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ [سورة الفجر:8] يعني: هذه القبيلة من عاد، أو قبيلة عاد الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ، بما أعطاهم الله من بسطة في الأجسام، وقوة فيها، كما قال الله -تبارك وتعالى: وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً [سورة الأعراف:69].

وقوله: وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ [سورة الفجر:9] يعني: الذين خرقوا الصخر، والوادي هو: وادي القرى الذي فيه الحِجر.

وقوله: وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ [سورة الفجر:10] يعني: فرعون صاحب الأوتاد، يحتمل أن تكون هذه الأوتاد بمعنى: الأجناد، ويحتمل أن يكون ذلك بمعنى: أوتاد يتخذها؛ إما لتعذيب الناس، أو غير ذلك من الأغراض، والوتد معروف في الأصل.

وقوله: الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ [سورة الفجر:11] يعني: أن هؤلاء الأمم الذين ذكرهم الله -تبارك وتعالى- حصل منهم الطغيان، وتجاوز الحد، والاستكبار في الأرض بغير الحق.

وقوله: فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ [سورة الفجر:12] يعني: من الشرك بالله ، ومحادة رسله، ومقارفة المعاصي والفواحش والجرائم والمنكرات.

وقوله: فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ [سورة الفجر:13] يعني: أنزل الله بهم بأسه الذي لا يرد عن القوم المجرمين، وسوط العذاب بمعنى: نوع العذاب الذي وقع بهم، فالعذاب يعبر عنه بالسوط، فالسوط يشير إلى العقوبة.

وقوله: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ [سورة الفجر:14] فالله -تبارك وتعالى- يحصي على العباد أعمالهم، ويحاسبهم عليها، ويأخذهم متى شاء، لا يفوتونه، ولا يخفى عليه من أحوالهم وأعمالهم خافية.

ثم ذكر أحوال الإنسان والمعايير الفاسدة التي يتوهمها غير أهل الإيمان أو بعض ضعفاء الإيمان، فقال: فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ [سورة الفجر:15]، يفرح بالنعمة، ويعتقد أن ذلك لمنزلة له عند الله -تبارك وتعالى.

وقال: وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ [سورة الفجر:16] أي: إذا أصابته الضراء ظن أن ذلك لهوانه على الله -تبارك وتعالى، وهكذا إذا رأى الناسَ في حال من النعمة، أو حال من الضر فإنه يحكم بمقتضى ذلك على حالهم مع ربهم .

قال الله: كَلَّا [سورة الفجر:17] أي: ليس الأمر كما تقولون، بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ [سورة الفجر:17] ذكر حالهم السيئة التي توجب مقت الله حقيقة، وليس قلة الأرزاق، أو كثرة الأرزاق، فقال: كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ ۝ وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ [سورة الفجر:17، 18]، أي: لا يحض بعضكم بعضًا، وقال: وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا [سورة الفجر:19] أي: تأكلون المواريث التي للضعفاء من النساء والأيتام والصغار، أَكْلًا لَمًّا أي: تأكلونها وتأخذونها وتلمُّونها إلى مواريثكم وتضمونها إلى أموالكم بشرهٍ وحرص وتهافت عليها.

هذه الأوصاف المذكورة مع قوله: وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا [سورة الفجر:20] كلها تدور على معنى واحد في هؤلاء، وهو: التهافت على الدنيا، والحرص على جمعها بأي طريق كان، وهذه حال من لا يؤمن بالله ، ولا باليوم الآخر؛ ولهذا قال الله : أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ [سورة الماعون:1]، فذكر صفة من كان بهذه المثابة ولا يؤمن بالآخرة، فقال: فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ ۝ وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ [سورة الماعون:2، 3]، فمن كان لا يرجو لقاء الله ، ولا يخاف الدار الآخرة فمثل هذا لا يترفع عن كل الدنايا والمدنسات والقبائح من أن يقارفها، ولو كان ذلك بدفع هؤلاء الضعفاء الذين حالهم تجلب الشفقة والرحمة لما هم فيه من الضعف والإعواز، إلا أن هذا قد قُدَّ قلبه من حجر، فهو يدعّ اليتيم، ولا يحض على طعام المسكين، فهذه هي النفس التي يحملها هذا الإنسان المكذب بالآخرة، فهو لا يعرف إلا ما حل باليد؛ لأن ذلك هو منتهى البغية التي يبتغيها، وليس له رجاء بما عند الله .

بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، اللهم اغفر لنا، ولشيخنا، وللحاضرين.

قال الله تعالى: كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا ۝ وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا ۝ وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى ۝ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي ۝ فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ ۝ وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ ۝ يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ۝ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً ۝ فَادْخُلِي فِي عِبَادِي ۝ وَادْخُلِي جَنَّتِي [سورة الفجر:21-30].

قبل أن نبدأ بتفسير هذه الآيات: ما معنى قوله في هذه الآية: وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا [سورة الفجر:20] ما معنى جمًا؟ يعني: كثيرًا، والجم بمعنى: الكثير، أي: تحبون المال حبًّا كثيرًا، كما قال الله : وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ [سورة العاديات:8]؛ ولهذا فسره بعضهم: بالشديد، أي: تحبون المال حبًّا شديدًا، والمعنى واحد.

وقوله: وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ المقصود بالخير هنا في هذه الآية هو: المال، وليس محبة الخير الذي هو: البر والمعروف والطاعة، وإنما المقصود به المال؛ لأن الله إذا ذكر الخير في القرآن فإن الغالب أنه المال كما قال تعالى: إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ [سورة البقرة:180]، ما معنى: إِنْ تَرَكَ خَيْرًا؟ يعني: مالاً.

فهنا قوله: وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ يعني: يحب المال محبة شديدة، وليس محبة البر؛ لأن الإنسان الكافر والمعرض لا يحب الخير الذي هو المعروف والبر، بل يكرهه ويشنؤه، ويعادي أهله، هذا هو المعروف، وللأسف هذا يُذَكِّر ببعض أصحاب الدعوة الرمادية الملساء الذين لا يريدون أن يزعجوا أحدًا أبدًا، ولو بتغيير حقائق القرآن، يتحدث في قناة فضائية سيئة ويقول: كل الناس يحبون الخير، كل الناس فيهم خير، بدليل أن الله قال: وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ [سورة العاديات:8]، يقصد: البر، والمعروف، فهو يريد أن يقول للعصاة وللفساق وللمجرمين ولغيرهم يقول: أنتم على خير، وأنتم فيكم خير، وأنتم أخيار، الله يقول: وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ، أما أنا فلا أعرف إن كان هو هكذا يفهم المعنى فهذا لا يصلح أن يتكلم، هذا جهل شديد، وإذا كان يعرف ويغير من أجل أن يسترضي هذا الجمهور الفاسد الذي يشاهد هذه القناة فالمصيبة أعظم، فالخير هو: المال.

بعض الناس يسأل عن حكم إمام يدعو بقوله: اللهم هيئ أسباب الهداية للمشركين، أقول: هذا يحتاج إلى تفصيل في هذا الدعاء، ماذا يقصد؟ إن كان يقصد: هداية الإرشاد، فالله قد هيأها، وما يحتاج إلى هذا الدعاء، فالله جعل هذا القرآن هدى، والنبي هادٍ، قال تعالى: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [سورة الإسراء:9]، وإذا كان يقصد: هداية التوفيق، أي: أن يهدي المشركين هداية توفيق، هكذا بإطلاق كل المشركين فهذا خلاف السنة الكونية، فبعض ألفاظ الدعاء أحيانًا تحتاج إلى مناقشة وتفصيل، ماذا تقصد؟ وما الذي لا تقصده؟ وما الحاجة لمثل هذا؟ والأفضل: اللهم أصلح من بصلاحه صلاح للإسلام والمسلمين، وأهلك من بهلاكه صلاح للإسلام والمسلمين، فهذا دعاء جزل، والحمد لله.

قال -رحمه الله: يخبر تعالى عما يقع يوم القيامة من الأهوال العظيمة، فقال تعالى: كَلَّا أي: حقًّا، إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا أي: وُطئت، ومهدت، وسويت الأرض والجبال، وقام الخلائق من قبورهم لربهم.

قوله هنا في ذكر أهوال القيامة: كَلَّا قال: "أي: حقًّا"، ابن جرير يقول: يعني: ما هكذا ينبغي أن يكون الأمر، أي: بحالكم من دفع اليتيم عن حقه، وأكل ماله، ومحبة المال هذه المحبة، ما هكذا ينبغي أن يكون الأمر، أو ما هكذا ينبغي أن يكون عملكم.

أما ابن كثير هنا ففسر كَلَّا بمعنى: حقًّا، ثم استأنف هذا الاستئناف، يعني: قال: كلا، أي: ليس الأمر كما تزاولون وتعملون، ما هكذا يكون العمل والحال، ثم استأنف فقال: إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا يعني: بعد هذا الردع بكلا جاء هذا الوعيد: إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا، والدك هو: الكسر والدق، تقول: دك العدوَّ، بمعنى: أنه كسرهم ودقهم وأباد خضراءهم.

وهنا هذا الدك ما المراد به؟ فسر بالزلزلة، زلزلت وحركت تحريكًا بعد تحريك، كما يقول ابن جرير -رحمه الله، فقوله: إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا أي: تحريكًا بعد تحريك، وابن قتيبة يقيد ذلك بجبالها، أي: الدك للجبال، فيكون ذلك من الأحوال الواقعة للجبال، لكن هنا أضيف إلى الأرض، فابن قتيبة يقول: دكت جبالها حتى استوت بالأرض، وليس بممتنع في اللغة أن يعبر بالكل عن البعض، أي: أن يعبر عن الجبال بالأرض، ليس ذلك بممتنع، لكنه خلاف المتبادر.

فقوله: دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا يعني: تزلزلت، هذا الذي يقوله ابن جرير والزجاج وعامة المفسرين، أما المبرد فيفسره بتفسيرٍ هو في الواقع يرجع إلى قول ابن قتيبة، يقول في قوله: دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا يعني: سُوّيت، فهذه التسوية كيف تكون الجبال فيها؟ تدك الجبال وتتفتت حتى تستوي مع الأرض، فالمبرد يقول: سويت، وذهبت المرتفعات التي فيها، فهو يفسر الدك بحط المرتفع، أي: بالبسط، والله لما تجلى للجبل قال: جَعَلَهُ دَكًّا [سورة الأعراف:143]، يعني: مستويًا بالأرض، فحطم هذا الجبل، واندق، وتفتت.

والمشهور من أقوال المفسرين: أن ذلك يكون بزلزلتها، وتحريكها مرة بعد مرة، وكلمة دَكًّا الأولى مصدر مؤكد للفعل دُكَّتِ، ودَكًّا الثانية تأكيد له، كرر تأكيدًا.

إذًا حاصل كلام المفسرين أو أهل المعاني يرجع إلى شيئين:

الأول: أنه الزلزلة والتحريك.

المعنى الثاني: أنه بدك الجبال وببسطها وتسويتها بالأرض، فتزول المرتفعات، وتبقى الأرض في حال من الاستواء والانبساط.

قوله: وَجَاءَ رَبُّكَ يعني: لفصل القضاء بين خلقه، ظاهر هذا أن هذا الدك يكون بعد النفخة الثانية، فقوله: وَجَاءَ رَبُّكَ يعني: لفصل القضاء، جاء مجيئًا يليق بجلاله وعظمته، وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا، والله -تبارك وتعالى- يقول: وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا ۝ الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ [سورة الفرقان:25، 26]، في ذلك اليوم تتنزل الملائكة، ويجيء الرب -تبارك وتعالى، وكما قال الله : وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ [سورة الحاقة:17]، وعندها يحصل ما ذكره الله من إشراق الأرض: وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا [سورة الزمر:69]، هذا كله بمجيئه -تبارك وتعالى- للفصل والقضاء بين العباد.

وَجَاءَ رَبُّكَ يعني: لفصل القضاء بين خلقه، وذلك بعدما يستشفعون إليه بسيد ولد آدم على الإطلاق، محمد -صلوات الله وسلامه عليه، بعدما يسألون أولي العزم من الرسل واحدًا بعد واحد، فكلهم يقول: لست بصاحب ذاكم، حتى تنتهي النوبة إلى محمد ﷺ، فيقول: أنا لها، أنا لها فيذهب، فيشفع عند الله تعالى في أن يأتي لفصل القضاء، فيشفعه الله تعالى في ذلك[1]، وهي أول الشفاعات، وهي المقام المحمود كما تقدم بيانه في سورة سبحان.

يعني: عند قوله تعالى: عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا [سورة الإسراء:79]، يعني: الشفاعة العظمى، مع أنك إذا تأملت مجموع الروايات الصحيحة الواردة في الشفاعة تجد أن النبي ﷺ قال في كلها: أمتي، أمتي، فهذا قد يشكل: كيف أن النبي ﷺ حينما قيل له: اشفع تشفع، فيقول: أمتي أمتي، يعني: ليس فيها ذكر الفصل بين أهل الموقف! كل الروايات الصحيحة التي وقفت عليها يقول فيها: أمتي، أمتي، يعني: ليس فيها رواية واحدة يطلب فيها النبي ﷺ مثلاً الفصل بين أهل الموقف، مع أن هذه هي الشفاعة العظمى، فما الجواب عن هذا؟

الجواب: أن هذا هو البداية: أمتي أمتي، فعند ذلك يأمر الله -تبارك وتعالى- بأن يدخلوا من الباب الأيمن من الجنة، وهم شركاء للناس في غيره من الأبواب، فهنا هذه بداية الفصل الآن، يعني: بدأ الفصل بين الخلائق في الموقف، هذا هو الجواب.

قال -رحمه الله: فيجيء الرب -تبارك وتعالى- لفصل القضاء كما يشاء، والملائكة يجيئون بين يديه صفوفًا صفوفًا.

مجيء الملائكة، وإحاطتهم بالخلائق أيضاً هذا كله لبيان عظمة هذا الموقف، وشدة الهول الواقع فيه، وتعظيمًا لهذا المجيء للرب -تبارك وتعالى، وإلا فإن الخلق لا يفوتون الله ، ولا يستطيعون أن ينفذوا من بين يديه.

وقوله تعالى: وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ، روى الإمام مسلم بن الحجاج في صحيحه عن عبد الله -هو: ابن مسعود- قال: قال رسول الله ﷺ: يؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها، وهكذا رواه الترمذي[2].

هذا الحديث لم يذكر فيه النبي ﷺ الآية: وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ، ونحن قلنا في مناسبات سابقة: إن التفسير النبوي على نوعين:

النوع الأول: أن يذكر النبي ﷺ الآية، فهذا إذا صح إسناده فلا يجوز العدول عنه.

والنوع الثاني: أن يذكر النبي ﷺ في الحديث معنى، أو يخبر خبرًا، ولا يتطرق للآية، فيعمد المفسر إلى هذا الحديث ويربط بينه وبين الآية، فقد يصيب، وقد يخطئ، قد يكون الحديث لا ارتباط له بالآية، فيجتهد المفسر، ويظن أنه يرتبط بها، فيفسر الآية بالحديث، ومن هنا كان دخول الاجتهاد في التفسير النبوي من هذه الجهة على نوعين:

النوع الأول: ما لا مجال للاجتهاد فيه، وهو: ما صرح به النبي ﷺ بذكر الآية.

النوع الثاني: يدخله الاجتهاد، وهو: هذا النوع، وهذا النوع الثاني على مراتب: منه ما يظهر ذلك فيه غاية الظهور، يعني: وجه الارتباط، مثل هذا المثال: وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ، كيف يجاء بها؟ كيف تأتي؟ هل تمشي بنفسها، أو أنها يأتي بها ملك، أو أن الله يأمرها فتنزل في المكان الذي يريد؟ لا، بل يؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها، واضرب الرقم -لها سبعون ألف زمام في كل زمام سبعون ألف ملك- سيكون عددًا هائلا، فهذا العدد من الملائكة يجرون النار، وما قوة الملك؟

إذا كان الملك الواحد يقلب قرى قوم لوط، وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى [سورة النجم:53]، واحد فقط يقلب هذه القرى، فكيف بهذه التي يقودها هذا العدد الهائل من الملائكة؟ ويكفيك لكي تتصور حجم هذه النار أن تعلم أن الشمس والقمر يكوران ويلقيان في النار، ولا تضيق بهما، بل هي تقول: هل من مزيد؟ هل من مزيد؟ ويلقى فيها الخلائق كما جاء في الحديث: يا آدم أخرج بعث النار، قال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين...، فالناجي واحد من كل ألف، عند ذلك يشيب الصغير، وتضع كل ذات حمل حملها[3]، فمن هذا الذي سينجو من الألف؟

لكن النبي ﷺ أخبر أن يأجوج ومأجوج من هذه الأمة، من أمة الدعوة، وأنها ما كانت في أمة إلا كثرتها[4]، فرب ضارة نافعة، فهم يخرجون في آخر الزمان، ويفسدون إفسادًا عظيمًا، ومن كل حدب ينسلون، ولكن العاقبة لأهل الإيمان في الدنيا والآخرة.

فالمقصود: أن قوله هنا: وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ أي: يؤتى بها بهذه الصفة العظيمة الهائلة، فيشاهدونها، إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا [سورة الفرقان:12]، وهم كما قال الله : وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ [سورة الشورى:45]، مثل هذا الإنسان الذليل الذي قد وضع للذبح، فهو ينظر إلى السكين أو السيف، ينظر إليها من طرف خفي، يعني: وهو ذليل بائس منكسر، وينظر بطريقة خفية إلى هذا السيف أو الآلة التي سيقتل بها، فهكذا هؤلاء، نسأل الله العافية.

فمثل هذا اليوم يحتاج إلى عمل، ويحتاج إلى استعداد، ويحتاج إلى إخلاص ونيات صحيحة، ويحتاج إلى حفظ اللسان وغير اللسان، ويحتاج إلى مجاهدة لهذه النفس في الأعمال الصالحة، فبعد رمضان لا ينسى الإنسان ربه -تبارك وتعالى، والأعمال الصالحة، فالنبي ﷺ كان أحب العمل إليه ما داوم عليه صاحبه[5].

كان أبو صالح وأخوه وأمه يحيون الليل كل واحد يقوم ثلثه، فماتت الأم فتقاسم أبو صالح مع أخيه الليل إلى نصفين؛ لئلا تنقطع عادة في البيت؛ ولكيلا تكون ساعة من الليل إلا ويصلى فيها، فأخذوا نصيب الأم، فمات أخوه، فصار يقوم الليل كله، ما أرادوا أن يتركوا شيئًا كانوا عليه حتى بعد وفاة هؤلاء، يحيون الليل بهذه الطريقة، ثلث وثلث وثلث، فمن يفعل هذا والبيت قد يكون فيه سبعة أو ثمانية أو تسعة أو عشرة؟

لو أخذ كل واحد نصف ساعة، أو ساعة إلا الربع في مثل هذه الليالي القصيرة، أو ساعة، أو نحو ذلك من بعد العشاء إلى الفجر لأحيوا الليل كله، نحن لا نقول هذا في هذه الأيام، نحن نقول: حافظ على الفرائض، والسنن الرواتب، فإذا أَذَّن اترك ما بيدك واذهب إلى المسجد، ولا تترك وردك من القرآن، وأن تكون لك عادة من صيام، كأن يكون لك في الشهر صيام ثلاثة أيام، أو نحو هذا، فهذا بصيام الدهر.

وقوله تعالى: يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ أي: عمله، وما كان أسلفه في قديم دهره وحديثه، وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى أي: وكيف تنفعه الذكرى؟ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي يعني: يندم على ما كان سلف منه من المعاصي إن كان عاصيًا، ويود لو كان ازداد من الطاعات إن كان طائعًا، كما روى الإمام أحمد بن حنبل، عن محمد بن أبي عميرة، وكان من أصحاب رسول الله ﷺ، قال: لو أن عبدًا خر على وجهه من يوم ولد إلى أن يموت هرمًا في طاعة اللهلحقره يوم القيامة، ولود أنه رد إلى الدنيا كيما يزداد من الأجر والثواب[6].

قوله -تبارك وتعالى: يَوْمَئِذٍ يعني: في ذلك الحين، في يوم القيامة، حينما تدك الأرض، ويجيء الرب لفصل القضاء، وتنزل الملائكة، وتكون صفوفًا، ويجاء بنار جهنم بهذه الصفة، عندها يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى يعني: من أين له التذكر والاتعاظ حينها حيث لا ينفع الندم؟ فقد فات الأوان الذي ينفعه فيه التذكر والاتعاظ والاعتبار، فندمه ذلك إنما هو نوع من العذاب، وليس بنافعه شيئًا.

قال الله تعالى: يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى ۝ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي هنا يبدأ ينطق ويتفوه بحسراته، فماذا يتمنى؟ يقول: ليتني أكملت المشاريع التجارية؟ ليتني حصلت الأموال الفلانية؟ ليتني ازددت من الزروع والحرث، وما إلى ذلك؟ لا، أبداً، بل يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي، أي: لحياتي الحقيقية، فهذه هي الحياة الحقيقية، وليست هي التي نحن فيها الآن، هذه أحلام وأوهام، سرعان ما تنقضي وتزول، وكل شيء فيها يفنى، وأقرب ما هنالك وأدناه الأطيبان: الطعام والنكاح، وانظر كيف يتحول تحولاً سريعًا، ويضمحل، ويتلاشى، فهي أحلام، وأما الآخرة فهي الحياة الحقيقية.

يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي يتمنى، يعني: لأجل حياتي الأخروية، أو أن اللام بمعنى: في، فقوله: يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي يعني: في وقت حياتي الدنيوية، والأظهر: أنه يقصد الحياة الأخروية، فهذه هي التي يصح أن يقال لها: حياة؛ ولهذا قال الله : وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ [سورة العنكبوت:64] فالحيوان هنا تدل على المبالغة، بحيث إن المقصود أن الحياة الآخرة هي: الحياة الحقيقية التي يصدق عليها أنها حياة، أما هذه الحياة فهي ليست بحياة، فهي عابرة على الجميع، الصحيح والمريض، والفقير والغني، وهي: معبر، كراكب استظل تحت ظل شجرة، ثم ذهب وتركها.

قال الله تعالى: فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ أي: ليس أحدٌ أشدَّ عذابًا من تعذيب الله من عصاه، وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ أي: وليس أحد أشد قبضًا ووثقًا من الزبانية لمن كفر بربهم ، وهذا في حق المجرمين من الخلائق والظالمين.

قوله: فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ يعني: ليس أحدٌ أشد عذابًا من الله -تبارك وتعالى، فقوله: لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أي: عذاب الرب -تبارك وتعالى.

وقوله: وَلَا يُوثِقُ يعني: وضع الوثاق، وهو: الرباط والقيود والأغلال؛ لأن هؤلاء من المجرمين والعتاة على الله ، فلا يتركون هكذا، إنما توضع الأغلال في الأعناق، تربط الرقبة بسلاسل، والأيدي تغل إلى الأعناق، والأرجل كذلك، كما قال الله : ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ [سورة الحاقة:32]، فيقيد بالسلاسل الطوال، وهذه السلاسل تصطلي بالنار، ويزيد ذلك في عذابه، فهو مربط وفي النار.

فقوله هنا: فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ أي: الله، وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ أي: الله، وهذا على هذه القراءة أي: قراءة الجمهور: لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ الضمير يرجع إلى الله -تبارك وتعالى، فعذاب الله لا يقادر، ولا يطاق، ولا يحتمل، ولا يمكن لأحد أن يعذِّب مثل هذا العذاب، ولا يمكن لأحد أن يوثِق ويربِط مثل هذا الوثاق.

أما على القراءة الأخرى المتواترة، وهي قراءة الكسائي، فهي: بالبناء للمجهول، فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذَّبُ عَذَابُهُ أَحَدٌ ۝ وَلَا يُوثَقُ وَثَاقُهُ أَحَدٌ فهذا يعود إلى الإنسان المعذب والموثق، أي: المربوط بالأغلال والسلاسل، فقوله: لَا يُعَذَّبُ عَذَابُهُ أَحَدٌ ۝ وَلَا يُوثَقُ وَثَاقُهُ أَحَدٌ أي: لا أحد يعذَّب مثله، ولا يربَط مثله، والقراءتان ترجعان إلى معنى متحد مع اختلاف الضمير، فهذا يرجع إلى الله، وهذا يرجع إلى المعذَّب والموثَق.

فالمقصود: أن هذا العذاب الواقع من الله لا يستطيع أحد أن يعذبه، وأن هذا الوثاق الذي يوثقه الله لهؤلاء الكفار لا يستطيع أحد أن يوثقه، وهكذا فإن وثاقهم وعذابهم يكون كذلك، أي: منقطع النظير، ليس له نظير، ولا ما يقاربه.

قال -رحمه الله تعالى: فأما النفس الزكية المطمئنة، وهي: الساكنة الثابتة الدائرة مع الحق فيقال لها: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ۝ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ أي: إلى جواره وثوابه، وما أعد لعباده في جنته، رَاضِيَةً أي: في نفسها، مَرْضِيَّةً أي: قد رضيت عن الله، ورضي عنها، وأرضاها.

هنا قوله -تبارك وتعالى: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ لما ذكر حال الكفار، وما لهم من الأغلال والعذاب الشديد عقب ذلك بذكر أهل الإيمان، أهل النفوس المطمئنة، فهذه النفس المطمئنة يقول ابن كثير عنها هنا: "النفس الزكية المطمئنة، وهي: الساكنة الثابتة الدائرة مع الحق"، وهذا صحيح، فهي: اطمأنت بالحق واطمأنت بالإيمان.

أما عبارات المفسرين فمقاربة لهذا، فابن جرير يقول: التي اطمأنت إلى وعد الله الذي وعد أهل الإيمان به في الدنيا من الكرامة في الآخرة، يعني: آمنت، فهذا من الإيمان، فقوله: اطمأنت بوعد الله أي: اطمأنت بالإيمان بالله -تبارك وتعالى، والإيمان بالدار الآخرة، واطمأنت بالقبول عن الله ، وبالعمل الصالح الذي يرضيه، بخلاف تلك النفوس المشوشة، فهذه نفس ساكنة موقنة بالإيمان وبتوحيد الله وبوعده لأوليائه، كل هذه المعاني فوصلت إلى حال الطمأنينة، وصارت إلى حال من اليقين لا يخالطه ريب يقلقها ويشوشها ويزعجها.

والحسن البصري فسر ذلك: بالمؤمنة الموقنة، وهذا يرجع إلى ما سبق، ومجاهد قال: الراضية بقضاء الله التي علمت أن ما أخطأها لم يكن ليصيبها، وأن ما أصابها لم يكن ليخطئها، وهذا كله من قبيل التفسير بالمثال، أو بجزء المعنى، فهذا بعض الاطمئنان، يعني: النفس المطمئنة إذا أصابها المكروه لم يحصل لها الجزع، والتسخط على أقدار الله -تبارك وتعالى، فهذا من صور وأحوال النفس المطمئنة.

هذه النفس المطمئنة يقال لها: ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً يقول: "إلى جواره وثوابه، وما أعد لعباده في جنته، رَاضِيَةً أي: في نفسها، مَرْضِيَّةً أي: قد رضيت عن الله، ورضي عنها، وأرضاها".

قوله هنا: ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ أي: ارجعي إلى الله، يعني: راضية بالثواب، مرضية يعني: عند الله -تبارك وتعالى، هذا هو المشهور الذي عليه الجمهور، وهو المتبادر أصلاً، مع أن بعض السلف يقول كما جاء عن عكرمة وعطاء: ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ يعني: الجسد، بمعنى: أن الرب هو: الصاحب والسيد، يعني: ارجعي إلى الجسد الذي كنتِ فيه، فإلى ربك يعني: إلى جسدك، والعجيب أن هذا هو اختيار ابن جرير.

ابن جرير بماذا يحتج على هذا القول الذي قد يبدو لنا أنه لا يخلو من غرابة؟ يحتج بحديث البراء وفيه: أنه يقال لهذه الروح الطيبة: ارجعي إلى الجسد الذي كنت تعمرينه[7]، فقال: هذا معنى قوله: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ۝ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ، ويحتج على هذا أيضاً بقراءة غير متواترة عن ابن عباس -رضي الله عنهما: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ۝ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً ۝ فَادْخُلِي فِي عِبْدِي فقال: فَادْخُلِي فِي عِبْدِي بينما القراءة المتواترة قال: فَادْخُلِي فِي عِبَادِي يعني: عبادي الصالحين، أي: ادخلي في جملة الصالحين، وأما في هذه القراءة التي هي غير متواترة فقال: فَادْخُلِي فِي عِبْدِي.

فمثل هذا القول حينما تسمع توجيهه ودلائله يزول عنك الإشكال والاستغراب والاستبعاد الشديد، كيف يقال: ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ يعني: إلى جسدك؟! وهكذا أقوال الأئمة حينما تنظر إليها وتتأمل وتوجه هذه الأقوال لربما السامع بعد أن كان يعجب من هذا القول لربما يتحول إلى تبنيه، فلا تستعجل في استهجان كلام أهل العلم واستبعاده، أو الاستخفاف به، فإنك لو تأملته، وعرفت أدلتهم، ومأخذ هذا القول لربما غيرت رأيك، فهؤلاء أئمة وعلماء وأذكياء، فلو عرفته لربما غيرت رأيك، فإن العلماء يتناظرون أحيانًا، وكل واحد يتبنى رأيًا، ثم يتحول إلى رأي الثاني، فهذا يتحول عن رأيه إلى رأي مناظره، والمناظر يتحول إلى رأي الآخر، وقد حصل هذا معالشافعي والليث أومع الشافعي وأبي عبيد القاسم بن سلام، وهذا موجود، يتناظر العلماء ثم بعد ذلك هذا يأخذ بقول ذاك، وذاك يأخذ بقول هذا.

فَادْخُلِي فِي عِبَادِي أي: في جملتهم.

يعني: كما قال الله -تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ [سورة العنكبوت: 9].

في قوله -تبارك تعالى: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ۝ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً متى يقال لها هذا الكلام؟ هناك قولان:

القول الأول: يقال لها ذلك عند الاحتضار، فتبشر عند الموت، وعند مفارقة الروح الجسد، أي: يقال لها ذلك في الدنيا، يعني: قبل يوم القيامة، ويدل لهذا حديث البراء، فمن قالوا: إن هذا يكون قبل القيامة، أي: أنها تبشر، ويقال لهذه الروح هذا الكلام إذا خرجت استدلوا عليه بحديث البراء.

القول الآخر: أن هذا في الآخرة، فكما ذكر حال أهل النار، وأنه يجاء بجهنم، وتكون حالهم هناك الندم، وتمني العمل الصالح، وصلاح الحال، ذكر أيضاً حال أهل النفوس المطمئنة هناك، وأنه يقال لهم خلاف ذلك: ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً.

أما ابن جرير فيقول: إن قوله: فَادْخُلِي فِي عِبَادِي ۝ وَادْخُلِي جَنَّتِي، إن هذا يقال عند رد الأرواح إلى الأجساد يوم القيامة، مع أن حديث البراء الذي احتج به هؤلاء من أن المراد بالرب هنا: الجسد هو قبل القيامة، فهو: حديث الروح إذا خرجت، وأخذها الملائكة، وصعدوا بها، فهذا قبل القيامة، لكن ابن جرير -رحمه الله- يرى أنه يقال لها ذلك حينما ترد الأرواح في الأجساد يوم القيامة، فيقال لها: ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ أي: إلى الجسد الذي كنتِ تعمرينه، والله تعالى أعلم.

لكن الظاهر المتبادر من قوله تعالى: ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً يعني: إلى الله -تبارك وتعالى، والمعنى الثاني الاحتمال فيه قوي، من أنه يقال: ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً يعني: إلى جسدك؛ لحديث البراء، وللقراءة الأخرى الشاذة؛ لأن القراءة الشاذة تفسر بها القراءة المتواترة، وهي قوله: ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً ۝ فَادْخُلِي فِي عِبْدِي، مع أن قوله: فَادْخُلِي فِي عِبْدِي يمكن أن يكون بمعنى الجمع أيضاً كقوله: فَادْخُلِي فِي عِبَادِي؛ لأن "عبد" هنا مفرد مضاف، وقد يقول قائل: فَادْخُلِي فِي عِبَادِي يعني: ارجعي إلى أجسادهم، باعتبار المجموع، ويكون المخاطب جنس النفس المطمئنة، وليست واحدة، فقد يقول قائل هذا، ولا يبعد.

لكن المتبادر -والله أعلم- أنها ترجع إلى ربها، وهو الله -تبارك وتعالى، وحتى على القراءة الأخرى الشاذة إذا صح سندها: فَادْخُلِي فِي عِبْدِي لا يعني: أن هذا تفسير للرب في قوله: ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ، مع أن إطلاق الرب على المخلوق موجود في اللغة، وموجود في القرآن، ففي القرآن في قوله تعالى في سورة يوسف : قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ [سورة يوسف:23] على أحد القولين.

فبعضهم يقول: المقصود به: العزيز، أي: أنه أكرمني وأحسن نزلي ومثواي في قصره هذا، أيضاً أوضح من هذه الآية فإن هذه الآية فيها قولان إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ، أوضح منها التي في نفس السورة في المواضع الأخرى كقوله: قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ [سورة يوسف:50]، فهنا هذا لا يحتمل، فقوله: ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ يعني: إلى سيدك، وكقوله: اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ [سورة يوسف:42] يعني: عند الملِك.

وقوله: فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ [سورة يوسف:42] هذه فيها قولان، بحسب مرجع الضمير، فبعضهم يقول: فأنساه الشيطان أي: أنسى ذاك الطليق الذي خرج من السجن، وهو: الساقي للملك، أي: نسي أن يذكر يوسف عند ربه، فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ، فبقي يوسف في السجن، وهذا ناسٍ، فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ [سورة يوسف:42]، لكن هذا فيه اختلاف الضمائر، والأصل أن مرجع الضمائر يكون متحدًا، فقوله: اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ، من أنسى؟ فيه قولان:

الأول: أنسى الشيطان الساقي ذكر ربه، فَلَبِثَ يعني: يوسف، فصار الضمير يرجع إلى يوسف، فتفرقت الضمائر، والأصل توحيد مرجع الضمائر ما أمكن، فهذه طريقة في الترجيح وقاعدة.

والثاني: فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ أي: أنسى يوسف ذكر ربه باللجأ إليه، فلا يؤمل في مخلوق، فكان نتيجة ذلك أنه لبث في السجن بضع سنين، فالقلب لا يكون فيه أدنى التفات إلى مخلوق.

وَادْخُلِي جَنَّتِي وهذا يقال لها عند الاحتضار، وفي يوم القيامة أيضًا، كما أن الملائكة يبشرون المؤمن عند احتضاره، وعند قيامه من قبره؛ فكذلك هاهنا.

ابن كثيرهنا جمع المعنيين: "عند الاحتضار" باعتبار حديث البراء، "وفي يوم القيامة" باعتبار أن ابن كثير فسر هذه الآية بأنها في القيامة، فيقال لها ذلك، وهذا محمل حسن، وجمع بين هذه النصوص.

قال -رحمه الله: وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله تعالى: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ۝ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً، قال: نزلت وأبو بكر جالس فقال: يا رسول الله، ما أحسن هذا، فقال: أمَا إنه سيقال لك هذا[8].

آخر تفسير سورة الفجر، ولله الحمد والمنة.

قوله تعالى: ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً، مخاطبة هذه النفس تكون كما ذكر ابن كثير: أن هذا يكون عند الاحتضار، ويكون بعد البعث، جمعاً بين النصوص، مع أن طوائف من أهل العلم يقولون: هذا عند خروج الروح، وهذا قال به من التابعين: أبو صالح، وزيد بن أسلم، واحتجوا بحديث البراء أنه يقال لها: (اخرجي راضية مرضيًّا عنك)، فهذا يصلح أن يكون تفسيرًا للآية، فاقتصروا على هذا: أنها عند الاحتضار، ومن نظر إلى السياق في ذكر حال أهل النار، ثم توجيه الخطاب للنفس المطمئنة قالوا: هذا في الآخرة، في القيامة، فصار عندنا حديث البراء يدل على أنه يحصل لها عند الاحتضار، والآية في سياقها أن هذا في القيامة، فقال ابن كثير: يكون ذلك في مقامين.

وأمّا ابن القيم فله تعليق على هذا فيقول: "قوله تعالى: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ۝ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً ۝ فَادْخُلِي فِي عِبَادِي ۝ وَادْخُلِي جَنَّتِي [سورة الفجر:27- 30] وقد اختلف السلف متى يقال لها ذلك، فقالت طائفة: يقال لها عند الموت، وظاهر اللفظ مع هؤلاء، فإنه خطاب للنفس التي قد تجردت عن البدن، وخرجت منه، وقد فسر ذلك النبي ﷺ بقوله في حديث البراء وغيره: فيقال لها: اخرجي راضية مرضيًّا عنك.

وقوله تعالى: فَادْخُلِي فِي عِبَادِي مطابق لقوله ﷺ: اللهم الرفيق الأعلى[9]"[10].

وقال: "فالنفس المطمئنة هي: التي اطمأنت إلى ربها، وسكنت إلى حبه، واطمأنت بذكره، وأيقنت بوعده، ورضيت بقضائه، وهي: ضد النفس الأمارة بالسوءِ، فلم تكن طمأنينتها بمجرد إسقاط تدبيرها، بل بالقيام بحقه، والطمأنينة بحبه وبذكره"[11].

وقال: "وإن المراد من الآية رضاها بما حصل لها من كرامته، وبما نالته منها عند الرجوع إليه، فحصل لها رضاها، والرضا عنها، وهذا يقال لها عند خروجها من دار الدنيا، وقدومها على الله.

قال ابن عمرو-رضي الله عنهما: "إذا توفي العبد المؤمن أرسل الله إليه ملكين، وأرسل إليه بتحفة من الجنة، فيقال: اخرجي أيتها النفس المطمئنة، اخرجي إلى روح وريحان، ورب عنك راضٍ.

وفي وقت هذه المقالة ثلاثة أقوال للسلف:

أحدها: أنه عند الموت، وهو الأشهر، قال الحسن: إذا أراد قبضها اطمأنت إلى ربها، ورضيت عن الله، فيرضى الله عنها.

الثاني: وقال آخرون: إنما يقال لها ذلك عند البعث، وهذا قول عكرمة وعطاء والضحاك وجماعة.

الثالث: وقال آخرون: الكلمة الأولى وهي: ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً تقال لها عند الموت، والكلمة الثانية وهي: فَادْخُلِي فِي عِبَادِي ۝ وَادْخُلِي جَنَّتِي تقال لها يوم القيامة، قال أبو صالح: قوله: ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً هذا عند خروجها من الدنيا، فإذا كان يوم القيامة قيل لها: فَادْخُلِي فِي عِبَادِي ۝ وَادْخُلِي جَنَّتِي.

والصواب: أن هذا القول يقال لها عند الخروج من الدنيا ويوم القيامة، فإن أول بعثها عند مفارقتها الدنيا، وحينئذ فهي في الرفيق الأعلى إن كانت مطمئنة إلى الله، وفي جنته، كما دلت عليه الأحاديث الصحيحة، فإذا كان يوم القيامة قيل لها ذلك، وحينئذ فيكون تمام الرجوع إلى الله ودخول الجنة، فأول ذلك عند الموت، وتمامه ونهايته يوم القيامة، فلا اختلاف في الحقيقة"[12].

يعني: كلام ابن القيم هنا كقول ابن كثير: يقال لها عند خروج الروح، يقال لها أيضاً في القيامة، انتهى الكلام على هذه السورة، والحمد لله رب العالمين.

  1. أخرجه البخاري، كتاب التوحيد، باب كلام الرب يوم القيامة مع الأنبياء وغيرهم، رقم: (7510)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها، رقم: (193).
  2. أخرجه مسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب في شدة حر نار جهنم وبعد قعرها وما تأخذ من المعذبين، رقم: (2842).
  3. أخرجه البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب قصة يأجوج ومأجوج، رقم: (3348)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب قوله: يقول الله لآدم أخرج بعث النار من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين، رقم: (222).
  4. أخرجه الترمذي، أبواب تفسير القرآن عن رسول الله ﷺ، باب: ومن سورة الحج، رقم: (3169)، وقال: هذا حديث حسن صحيح، والنسائي في الكبرى، كتاب التفسير، باب قوله تعالى: وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى [سورة الحج:2]، رقم: (11277)، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي.
  5. أخرجه البخاري، كتاب الإيمان، باب: أحب الدين إلى الله أدومه، رقم: (43)، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب أمر من نعس في صلاته، أو استعجم عليه القرآن، أو الذكر بأن يرقد، أو يقعد حتى يذهب عنه ذلك، رقم: (785).
  6. أخرجه أحمد في المسند، رقم: (17650)، وقال محققو المسند: إسناده صحيح، رجاله ثقات رجال الصحيح غير علي بن إسحاق -وهو السلمي مولاهم- فمن رجال الترمذي، وهو ثقة.
  7. أخرجه أحمد، رقم: (18534)، وقال محققو المسند: إسناده صحيح، رجاله رجال الصحيح. أبو معاوية: هو محمد بن خازم الضرير، والأعمش: هو سليمان بن مهران، وزاذان: هو أبو عبد الله، ويقال: أبو عمر الكندي، مولاهم.
  8. أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره، رقم: (19287).
  9. أخرجه البخاري، كتاب الدعوات، باب دعاء النبي ﷺ: اللهم الرفيق الأعلى، رقم: (6348)، ومسلم، كتاب فضائل الصحابة -رضي الله تعالى عنهم، باب في فضل عائشة -رضي الله تعالى عنها، رقم: (2444).
  10. الروح لابن القيم: (ص: 76).
  11. طريق الهجرتين وباب السعادتين: (ص: 341).
  12. مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (2/ 176- 177).

مواد ذات صلة