الأحد 22 / جمادى الأولى / 1446 - 24 / نوفمبر 2024
[3] من قوله تعالى: {وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ} الآية:9، إلى قوله تعالى: {وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} الآية:22
تاريخ النشر: ٢٨ / رمضان / ١٤٣٤
التحميل: 4857
مرات الإستماع: 2845

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فالله -تبارك وتعالى- أقسم بالفجر المعروف، وبالليالي العشر، وهي: عشر ذي الحجة، وبالشفع والوتر، وهذا يدخل فيه ما قاله السلف من كل شفع ووتر، والوَتر بفتح الواو والوِتر بكسرها لغتان وقراءتان، وأقسم بالليل حال سريانه حينما يمضي في ساعاته وآنائه، فهذه الأمور المقسم بها تتضمن معانيَ وأمورًا وأشياء شريفة:

فقوله: وَالْفَجْرِ أي: هذا الوقت الشريف الذي فيه هذه الصلاة صلاة الفجر التي تشهدها ملائكة الرحمن.

وقوله: وَلَيَالٍ عَشْرٍ أي: الليالي العشر التي فيها أعمال الحج، وهي: أفضل ليالي وأيام العام إلا ليلة القدر.

وقوله: وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ الله وتر والخلق شفع، وكذلك أيضاً الصلوات شفع ووتر، إلى غير ذلك مما يدخل فيه هذا من الذوات والأعمال والعبادات وسائر الموجودات.

وقوله: وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ والليل فيه صلاة المغرب والعشاء، وفيه قيام الليل، وفي ثلثه الأخير ينزل الرب -تبارك وتعالى، وهو مظهر من مظاهر عظمة الله .

وقوله: هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ أي: هل هذا القسم فيه كفاية وإقناع لصاحب عقل، فالحِجر هو: العقل؛ لأنه يحجز صاحبه عن كل ما لا يليق.

قال: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ، فيكون جواب القسم على قول أهل العلم مقدرًا: لتجازنّ، أو أن المقصود: ما تضمنته هذه الآيات من هذه الأمور التي أقسم الله بها.

وقوله: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ، عاد: القبيلة المعروفة حيث أهلكها الله هلاكًا مستأصلاً.

وقوله: إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ فإرم على المشهور من أقوال المفسرين: أنها القبيلة -قبيلة عاد، أو قبيلة من عاد، وما بعده وصف لها، أي: قوله: ذَاتِ الْعِمَادِ، وهي: إما القامات الطويلة والأجسام الممتدة، أو أنهم أصحاب عُمُد يتنقلون ويرحلون وينتجعون المطر ويطلبون النبات والربيع، فذلك يرجع إليهم، وقد تكون صفة لهم، لأجسامهم، أو أن المقصود: القوة، وهذا يرجع إلى هذا المعنى، أي: الشرف والسؤدد، والقول بأن ذلك اسم للمدينة قال به بعض السلف، إلا أن عامة أهل العلم والجمهور على خلافه.

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، اللهم اغفر لنا، ولشيخنا، وللحاضرين.

قال المصنف -رحمه الله: وقوله تعالى: الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ [سورة الفجر:8] أعاد ابن زيد الضمير على العماد؛ لارتفاعها، وقال: بنوا عُمدا بالأحقاف لم يخلق مثلها في البلاد، وأما قتادة وابن جرير فأعاد الضمير على القبيلة أي لم يخلق مثل تلك القبيلة في البلاد، يعني: في زمانهم، وهذا القول هو الصواب، وقول ابن زيد ومن ذهب مذهبه ضعيف؛ لأنه لو كان أراد ذلك لقال: التي لم يعمل مثلها في البلاد، وإنما قال: لم يخلق مثلها في البلاد.

إذًا قوله: الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ هذه صفة لعاد، يعني: لم يخلق مثل تلك القبيلة في الطول والشدة والقوة، فهم الذين قالوا: مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً [سورة فصلت:15]، ومن قالوا بأنها القرية في قوله: إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ قالوا: هذا يعود إليها، فوصفها بأنها لم يخلق مثلها في البلاد.

وهنا قوله: الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ، التعبير بالخلق هذه قرينة تدل على أن المراد: القبيلة، ما قال: لم يُعمل، لم يُبنَ مثلها في البلاد، بل قال: لم يخلق، والعادة أن التعبير بالخلق يكون في خلق الناس، وفي خلق المخلوقات هذه التي خلقها الله، يعني: فيما يعود إلى الله -تبارك وتعالى، وإن في كان في اللغة يصح أن يقال للتشكيل والتصوير: خلق، وجاء ذلك في القرآن، في قوله الله لعيسى ﷺ: وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ [سورة المائدة:110]، فليس هو الذي يُوجِد الطين وينشئه من العدم، وإنما يشكله ويصوره، هذا في الذوات.

وأما في المعاني فقال: وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا [سورة العنكبوت:17] يعني: تختلقونه، فيصح التعبير بمثل هذه العبارة في التشكيل والتصوير، فبناء مدينة لو قال قائل: هذا خلَقَ مدينة في المكان الفلاني، فالعبارة صحيحة إذا كان المقصود البناء، فهذا يضاف إلى المخلوق، ولكن النفوس تستوحش من مثل هذه العبارة؛ لأنها غير مألوفة، ولا يتناولها الناس ويتداولونها بكثرة؛ ولهذا بعض الناس يقول: نخلق أفكارًا مثلاً من أجل كذا، يعني: نولّد أفكارًا، فليس المقصود الإيجاد من العدم، فالله هو الخالق.

فمن فسر إرمَ بأنها المدينة التي لم يخلق مثلها، يعني: لم يُبنَ، فيكون أضاف الخلق إلى هذا المعنى، ويكون من عمل المخلوقين، من عمل الناس، ولكن الأشهر والأكثر استعمالاً في القرآن: استعمال الخلق فيما يضاف إلى الله -تبارك وتعالى، فهذه قرينة تدل على أن المقصود: القبيلة في صفتهم وخلقهم وأجسامهم وقوتهم وما إلى ذلك، ويدل على هذا قراءة أبي بن كعب، وهي غير متواترة: الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهُم فِي الْبِلَادِ.

فهنا يرجع للقبيلة بلا شك، فإن من يعقل يعاد إليهم من الضمائر ويعبر عنهم بالصيغ التي تكون للعقلاء، وقد ينزّل غير العقلاء منزلة العقلاء، فيعبر عنهم بما يعبر به للعقلاء، كقول يوسف ﷺ: وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ [سورة يوسف:4]، قال: "رأيتهم"، وما قال: رأيتها، فإنه يقال لغير العاقل: رأيتها، وقال: "ساجدين"، والأصل أن يقال: ساجدة لما لا يعقل، فهنا جمعها جمع مذكر سالمًا: "ساجدين"، وهذا يستعمل مع العقلاء، وله نظائر كقوله: أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا [سورة الأعراف:195]، قال عن الأصنام: يبطشون، وما قال: تبطش بها؛ لأن هؤلاء المشركين الذين عبدوهم لم ينزلوهم فقط منزلة العقلاء، بل جعلوهم آلهة، فعاملهم معاملة العقلاء، وهذا كثير في القرآن، وهو أنواع، فأحيانًا يكون من باب التنزُّل مع المخاطب؛ لأنه يعتقد ذلك، وأحيانًا لأنه أضاف إليها فعلاً من أفعال العقلاء، كقوله: وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ [سورة يوسف:4]، فالسجود من أفعال العقلاء في الأصل، فلما أضافه إلى الشمس والقمر عاملهما معاملة العقلاء.

هنا في عاد على هذه القراءة: الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهُم فِي الْبِلَادِ، يكون ذلك راجعًا إلى عاد، إلى القبيلة، والله تعالى أعلم.

قال -رحمه الله تعالى: وقوله: وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ [سورة الفجر:9] يعني: يقطعون الصخر بالوادي، قال ابن عباس -رضي الله عنهما: ينحتونها ويخرقونها، وكذا قال مجاهد وقتادة والضحاك وابن زيد، ومنه يقال: مُجتابي النمار إذا خرقوها، واجتاب الثوب إذا فتحه، ومنه الجيب أيضًا، وقال الله تعالى: وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ [سورة الشعراء:149].

هؤلاء ثمود نسبوا إلى جدهم: ثمود بن عابر بن إرم بن سام بن نوح، يعني: العهد قريب بعاد، ومع ذلك انظر إلى ردهم وجوابهم لنبيهم، وإلى تكذيبهم له، وإلى إصرارهم على الكفر، فهذا من أعجب الأشياء: أن هذه العقوبات التي أنزلها الله بهؤلاء المكذبين لم ينتفع بها أولئك الذين جاءوا بعدهم، فوقعوا في نفس التكذيب، فأنزل الله بهم عذابه المستأصل، والله المستعان.

فقوله: وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ، الوادي معروف، وهو: وادي القرى الذي فيه حجر ثمود، ولا زال معروفًا وقائمًا إلى اليوم.

قوله: جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ، ذكر هذه المزية التي عرفوا بها، وهي تدل على بأس وشدة وقوة، ومعنى: جَابُوا الصَّخْرَ يعني: خرقوه، ومن عبارات السلف: قطعوه، ولا إشكال في هذا، فهؤلاء كما هو معلوم يخرقون صخور الجبل، وينحتون كما قال الله : وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا [سورة الشعراء:149]، فيخرقونها ويتخذون البيوت في داخلها، فهذا يدل على أنهم عندهم من القوة والإمكانات الشيء الكثير.

والجَوْب بمعنى: الخرق، تقول: جاب الفيافي وجاب الفلاة وجاب الأرض يعني: قطعها، أو خرقها، ويجوب البلاد يعني: يقطعها طولاً وعرضًا، وإن شئت قل: خرقها؛ ولهذا يقال: المخترَق ذلك الموضع الذي يُجاب، والذي يُقطع ويخترق، ومن ذلك قيل للجيب جيب، وهو: الفتحة التي في أعلى الثوب، يدخل منها الرأس، ومنه الحديث في الفقراء الذين جاءوا إلى المدينة، ومن صفتهم أنهم مجتابو النمار[1]، جمع نمرة، يعني: ما عندهم شيء يلبسونه سوى نمرة ليست مفصلة، وإنما يخرقون خرقًا في وسطها فيدخلون منه الرأس، فهذا غاية ما عندهم من اللباس، مجتابو النمار، أي: خرقوها وأدخلوا رءوسهم، فكأنها ثوب.

فهنا قوله: جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ يعني: خرقوه، وهكذا الأقوال والآثار التي نقلها عن ابن عباس وغيره: ينحتونها ويخرقونها، وهكذا قال السلف، وهذا الذي مشى عليه ابن جرير -رحمه الله.

قال -رحمه الله: وقوله تعالى: وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ [سورة الفجر:10]، قال العوفي عن ابن عباس -رضي الله عنهما: الأوتاد: الجنود الذين يشدون له أمره، ويقال: كان فرعون يوتد أيديهم وأرجلهم في أوتاد من حديد يعلقهم بها، وكذا قال مجاهد: كان يوتد الناس بالأوتاد، وهكذا قال سعيد بن جبير والحسن والسدي.

هذه الأوتاد ما المراد بها؟ هنا ابن عباس بهذا الإسناد الضعيف يروى عنه: "الأوتاد: الجنود الذين يشدون له أمره"، وبعضهم يقول: الجنود الذين لهم خيام كثيرة يشدونها بالأوتاد، والوتد عمومًا معروف، فهو: الذي تثبت به الخيام، فهذا يقال له: وتد، والذين يطرق في الجدار من المسامير يقال له: وتد، كل هذا يقال له: وتد، والله وصف الجبال بأنها أوتاد، أو سماها بالأوتاد؛ لأنها تثبت الأرض؛ لئلا تميد وتضطرب وتتحرك، فهنا باعتبار الجنود إما لكثرة الخيام التي يشدونها بالأوتاد، وهذا قد لا يخلو من بعد -والله تعالى أعلم، أو أن هؤلاء الجنود هم أوتاد يثبت بهم ملكه، فيكون هذا عند القائلين بالمجاز من الاستعمال المجازي، يعني: اعتبر هؤلاء الذين يثبت بهم الملك أنهم أوتاد كأوتاد الخيمة التي تثبتها.

والقول الآخر قال: "كان فرعون يوتد أيديهم وأرجلهم في أوتاد من حديد يعلقهم بها"، يعني: يعذب الناس بهذه الطريقة، "قال مجاهد: كان يوتد الناس بالأوتاد" والله أعلم، فهذا يحتمل، وابن جرير -رحمه الله- جوز أيضًا أن تكون هذه الأوتاد مما يلعب به، سواء كانت أوتادًا من حديد، أو أوتادًا من خشب، أو نحو ذلك، وإذا كان الله -تبارك وتعالى- سمى الجبال أوتادًا فلو قال قائل: إن هذه الأوتاد هي أمثال الجبال لكان هذا له وجه، لكني ما رأيت أحدًا من السلف قال هذا، بمعنى أنه ما قال أحد من السلف مثلاً: إنها هذه الأهرام التي كالجبال، وهي من أعجب ما تكون في بنائها وضخامتها، ما رأيت أحدًا فسر هذا بهذا، ولا ذكره.

والسبب في هذا -والله أعلم: أن العلماء ما كانوا يقولون بأن الأهرام بناها الفراعنة، ما كانوا يقولون هذا، وتكلم العلماء عليها قديمًا، ووصفوها، وفُتح بعضها، ورأوا ما فيها من الموجودات، والتوابيت، كل هذا رأوه وشاهدوه وكتبوا عنه، ولكنهم لا يعرفون من أول من بناها، ويرجحون ويغلبون الظن أنها كانت قبل الطوفان، يقولون: لو كانت بعد الطوفان لعرف من بناها، فيرجحون أنها قبل الطوفان.

وبعضهم يقول: إن الذي بناها إدريس، باعتبار أن إدريس كان قبل نوح، هذا على قول بعض المؤرخين، وعلى القول الآخر: إنه بعد نوح ، فالشاهد أن بعضهم يقول: إن إدريس هو الذي بناها، والعلم عند الله، فهذه الأمور لا نعلمها، لكن ما كانوا يقولون أبداً: إن الفراعنة هم الذين بنوها.

وبعضهم يقول: العماليق هم الذين بنوها، لكن كل هذا ليس عليه دليل، ولا مستند، ولا أعلم أن أحدًا قال: إن الفراعنة هم الذين بنوها، حتى جاءت الحملة الفرنسية، ومعها علماء آثار نحو مائة وستة وأربعين عالمًا من علماء الآثار، فنبشوا بعض هذه الأهرام التي كانت مطمورة بالرمال، وبعضها كانت الأهالي يأخذون منها الحجارة، وحاول بعض الخلفاء العباسيين هدمها، وما استطاعوا، وهي كانت بعيدة، ولم يكن أحد يلتفت إليها، كأنها جبال في الصحراء، فجاء الفرنسيون ونبشوا وحفروا واستخرجوا هذا الصنم أبا الهول، حفروه بعد أن كان مطمورًا في الرمال ومغطى، لا يظهر للناس.

فالذين يقولون: لماذا لم يكسره الصحابة؟ نقول: لأنه كان مغطى بالرمال، فالفرنسيون حفروا وأخرجوه، وأخرجوا غيره، وقالوا للناس: هذه آثار فراعنة، وجاءوا بكتابات، وجاءوا بأشياء أخرى، وفتحوا عليهم باب الشر، وأرادوا ربط المصريين بما قبل الإسلام، وقالوا لهم: أنتم فراعنة، ما شأنكم بالإسلام؟ ارجعوا إلى فرعونيتكم، ودعوا الإسلام.

حتى إن العداوة كانت شديدة بين الإنجليز والفرنسيين، فلما احتل الإنجليز مصر بعد فرنسا لشدة عداوتهم لهم أزالوا كل ما يذكّر بالفرنسيين، كل شيء يذكّر بالفرنسيين أزالوه إلا شيئًا واحدًا: معهد الآثار الذي يقوم عليه علماء آثار من فرنسا، هو الوحيد الذي أبقوه، فهذا هدف مشترك بينهم، وهذا معروف في تاريخ مصر.

ومن أحسن من تكلم عن تلك المرحلة الجبرتي في تاريخه: عجائب الآثار، فهو رجل منصف وعالم، وأبوه عالم، وشمولي في جميع العلوم، حتى العلوم المادية: الهندسة والزراعة والطب وما إلى ذلك، وأبوه يقال عنه: لا يوجد علم إلا تعلمه، ولا توجد آلة لتلك العلوم إلا وهي في بيته، هذا أبو الجبرتي، فالجبرتي ألف هذا الكتاب، وهو مطبوع في ثلاثة مجلدات، أشياء ينقلها عمن رآها، وأشياء شاهدها هو بنفسه.

ولم يقل أحد: إن هذه الأوتاد هي الأهرام مثلاً؛ لأنهم لا يعتقدون أن الذين بنوها هم الفراعنة، فهذه الأوتاد يحتمل أن تكون جنودًا كثيرين يثبت بهم ملكه، ويحتمل أنه يعذب بها الناس، والله أعلم.

وقوله تعالى: الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ ۝ فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ [سورة الفجر:11، 12] أي: تمردوا وعتوا وعاثوا في الأرض بالإفساد والأذية للناس.

فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ [سورة الفجر:13] أي: أنزل عليهم رجزًا من السماء، وأحل بهم عقوبة لا يردها عن القوم المجرمين.

هنا قوله: الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ هذا يرجع إلى كل ما ذكر قبله من هؤلاء الأقوام، يعني: لا يرجع إلى فرعون فقط، بل ما ذكره الله -تبارك وتعالى- من عاد وثمود وفرعون وقومه، فهم الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ ۝ فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ، فهذه صفة أوجبت لهم العذاب، وهذا الذي يسمى بدلالة الإيماء والتنبيه، يعني: لما ذكر الطغيان، وتجاوز الحد، والإكثار من الفساد كانت النتيجة: فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ، فدل على أن وقوع هذا العذاب هو بسبب الطغيان في الأرض، والإكثار من الفساد، يعني: هذه العقوبة بسبب هذا الذنب المشترك بين هؤلاء الأقوام -نسأل الله العافية.

فمن أكثر الفساد، وطغى في البلاد فهو مستوجب للعقوبة المستأصلة في الدنيا، لكن العقوبات المستأصلة -كما يذكر شيخ الإسلام وغيره- لم ينزل منها بعد موسى ﷺ عقوبة مستأصلة، يعني: كالعقوبات السابقة لثمود وعاد وما إلى ذلك، ما نزلت، يعني: آخر من أُهلك من هؤلاء بعقوبة مستأصلة فرعون، فغرق هو وجنوده في البحر، الباقي كان لربما يصيبهم شيء من الجوع، ويصيبهم شيء من القتال مع المؤمنين فيُدالون عليهم، أو نحو ذلك، لكن كعقوبة تمحقهم وتستأصلهم لم تنزل، آخر ما هنالك في عهد موسى ﷺ.

قوله هنا: فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ، الفاء هذه هي التي تدل على التعليل، وربط ما بعدها بما قبلها، الذي يعرف بدلالة الإيماء والتنبيه، فَصَبَّ لماذا صب؟ بناء على ما سبق؛ لأنهم طَغَوْا فِي الْبِلَادِ ۝ فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ.

ومعنى قوله: فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ يعني: أفرغ عليهم، وألقى عليهم سوط عذاب وهو: ما عذبهم به، وهي: العقوبة التي نزلت بهم من الريح والصيحة والغرق، فهذه العقوبات المستأصلة التي نزلت بهؤلاء الأقوام المكذبين هي: سوط العذاب الذي عذبهم الله به، فسوط العذاب هو: نصيبهم من هذا العذاب، لكن التعبير بالسوط في قوله هنا: سَوْطَ عَذَابٍ، فيه إشارة إلى هذا العذاب الذي حصل لهم في الدنيا.

فبعض العلماء يقول: هو بالنسبة لما ينتظرهم في الآخرة كالسوط، أي: الذي في الدنيا كالسوط بالنسبة للعذاب الأليم في الآخرة، وبعضهم كالفراء يقول: هذا على طريقة العرب، تسمي العذاب والعقوبة مهما كان نوعها سوطاً، وتعبر عنها بالسوط لأي نوع من أنواع العذاب، لماذا؟ لأن السوط أشبه ما يكون برمز للعقوبة؛ ولهذا يقال: العصا والجزرة، إذا جمع بين الترغيب والترهيب، فالعصا رمز للعقوبة، وإلا فهو لا يعني أنه يعاقب بالعصا، لكن قد يعاقب بالقتل، وقد يعاقب بالحصار، وقد يعاقب بغيره، فقال: سَوْطَ عَذَابٍ؛ لأن العرب تعبر بالسوط عن العذاب وعن العقوبة، لهذا المعنى قال ذلك، وهذا الذي قاله ابن جرير -رحمه الله.

قال -رحمه الله: وقوله تعالى: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ [سورة الفجر:14]، قال ابن عباس -رضي الله عنهما: يسمع ويرى، يعني: يرصد خلقه فيما يعملون، ويجازي كلًّا بسعيه في الدنيا والآخرة، وسيعرض الخلائق كلهم عليه فيحكم فيهم بعدله، ويقابل كلًّا بما يستحقه، وهو المنزه عن الظلم والجور.

قوله: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ يعني: من فعل فعلهم فإن عقوبتهم قد تنزل به، فليس ذلك بمختص بهم، كما قال الله -تبارك وتعالى- لما ذكر عقوبة قوم لوط: وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ [سورة هود:83]، والحسن وعكرمة يقولون: لَبِالْمِرْصَادِ يعني: عليه طريق العباد، لا يفوته أحد منهم؛ لأن الأصل أن الذي يكون بالرصَد ويرصد ونحو ذلك يكون على مدرجة الناس، وعلى طريقهم، وعلى ممرهم، وعلى مسالكهم، فيأخذهم، وتقول: يرصد الصيد، وتقول: هذه مراصد ترصد بها النجوم مثلاً والأفلاك، ونحو ذلك، وابن جرير -رحمه الله- يقول: يرصدهم بأعمالهم في الدنيا، وكذلك في الآخرة على قناطر جهنم؛ ليكردسهم فيها إذا وردوها يوم القيامة، فجعله ابن جرير في الدنيا والآخرة.

الله -تبارك وتعالى- يحصي عليهم أعمالهم، وهو -تبارك وتعالى- قادر عليهم، ويأخذهم متى شاء، ويعاقبهم كيف شاء.

وبعضهم كابن الأنباري يقول: إن قوله هذا: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ هو جواب القسم: وَالْفَجْرِ ۝ وَلَيَالٍ عَشْرٍ ۝ وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ ۝ وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ والجواب: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ، وذكرنا أن بعض أهل العلم يقول: محذوف تقديره: ليجازنّ، أو لتجازنّ، أو نحو ذلك، وبعضهم كأبي حيان صاحب البحر قدّره بما تدل عليه خاتمة السورة التي قبلها، أي: ربطه بالسورة التي قبلها: إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ ۝ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ [سورة الغاشية:25، 26]، أي: إياب ورجوع هؤلاء إلينا، وحسابهم علينا، وَالْفَجْرِ ۝ وَلَيَالٍ عَشْرٍ ۝ وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ ۝ وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ، يعني: أن حسابهم علينا، وإيابهم إلينا، وهذا بعيد، وإذا قلنا: إن ترتيب السور غير توقيفي، وإنما شيء رآه الصحابة، واستأنسوا بما عهدوا من قراءة النبي ﷺ فإن هذا يزيده بعداً.

وأما قول من قال: إن جواب القسم قوله: هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ فهذا أبعد ما يكون، يعني: يقولون: إن هل هذه بمعنى: قد، أي: "قد في ذلك"، وهذا بعيد، والعلم عند الله .

فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ ۝ وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ ۝ كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ ۝ وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ ۝ وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا ۝ وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا [سورة الفجر:15-20].

قال -رحمه الله: يقول تعالى منكرًا على الإنسان في اعتقاده إذا وسع الله تعالى عليه في الرزق؛ ليختبره في ذلك، فيعتقد أن ذلك من الله إكرام له، وليس كذلك، بل هو ابتلاء وامتحان، كما قال تعالى: أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ ۝ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ [سورة المؤمنون:55، 56]، وكذلك في الجانب الآخر إذا ابتلاه وامتحنه وضيق عليه في الرزق يعتقد أن ذلك من الله إهانة له، قال الله تعالى: كَلَّا أي: ليس الأمر كما زعم لا في هذا ولا في هذا، فإن الله تعالى يعطي المال من يحب ومن لا يحب، ويضيق على من يحب ومن لا يحب، وإنما المدار في ذلك على طاعة الله في كل من الحالين: إذا كان غنيًّا بأن يشكر الله على ذلك، وإذا كان فقيرًا بأن يصبر.

قوله تعالى: فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ هذا في الإنسان، وكثير من أهل العلم يقولون: هذه صفة الكفار، وليست بصفة أهل الإيمان، وبعضهم يلمح كابن عطية، وكذلك ابن عاشور، يقول: وهذا قد يقع أيضاً من بعض ضعفاء الإيمان، فيحصل عندهم مثل هذا الوهن، والله -تبارك وتعالى- ذكر أوصاف الإنسان في القرآن من حيث هو، ما لم تتروض نفسه بالإيمان.

فالإنسان غير المؤمن أو ضعيف الإيمان قد تكون المعايير عنده ضعيفة، فإذا حصل له الابتلاء بالنعمة، وأعطاه الله ، يظن أن ذلك لحظوة ومنزلة له عند الله، وإذا حصل له أضداد ذلك من ضيق في الرزق، أو بلاء، أو مرض، أو نحو ذلك ظن أن هذا لهوانه على ربه -تبارك وتعالى، أو ينظر إلى الآخرين بهذا الاعتبار، ويقيس بهذه المقاييس، فالله ينكر هذا، ويقول: كَلَّا أي: ليس الأمر كذلك.

فالعطاء والمنع لا يدل على محبة الله للعبد، ولا على سخطه، فقد يكون العبد في حال من الغنى والعافية وهو عدو لله، فهو يعطي الكافر إملاء له واستدراجًا، وكذلك قد يكون المؤمن في حال من البلاء والمرض والفقر وليس ذلك لهوانه على ربه -تبارك وتعالى، بل قد قال النبي ﷺ: أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل[2]، فإذا كان في دين الرجل رقة خفف عنه، وهذا من رحمة الله .

فإذا نظرت إلى الناس في أحوالهم وفي بلائهم تجد أنهم يتفاوتون هذا التفاوت، فالأنبياء يضاعف لهم، حتى في الأمراض العادية، كالحمى، ونحو ذلك، كما ثبت ذلك عن النبي ﷺ لما سئل عن هذا: إنك لتوعك؟ قال: نعم[3]، وذكر أنه يوعك كما يوعك الرجلان، وأنه يضاعف لهم في الجزاء، فمع عظم البلاء يكون الجزاء، حتى الشوكة يشاكها المؤمن يكفر بها من خطاياه[4]، فهذا بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، يعني: من كان دونهم أو من كان قريبًا منهم يكون بلاؤه عظيمًا شديدًا.

فبعض الناس يتساءل يقول: أنا مثلاً من بين قراباتي، أنا من بين إخواني، امرأة تقول: أنا من بين أخواتي وقريباتي، أنا الوحيدة المتدينة، والبلاء يتتابع عليّ، وينصب صبًّا، لا أكاد أخرج من بلاء حتى أدخل في بلاء آخر، لماذا وهؤلاء لا يصيبهم شيء؟

يقال: أنتِ ما عرفتِ المقياس الصحيح الذي قد قرره الله في مواضع من كتابه، والنبي ﷺ قال: أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، وهذه الآيات في هذه السورة تنكر على من ظن أن العطاء إنما هو لكرامة العبد على ربه -تبارك وتعالى؛ ولذلك إذا نظرت مصداق هذا الحديث: أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، فإنك تنزل وتتدرج حتى تصل إلى مراتب متدنية في البلاء، بمعنى: أن هذه الدنيا هي أصلاً دار ابتلاء، فالإنسان -كما سبق- خلق في كبد، فهو يكابد العيش كما ذكر السلف، ويكابد الدنيا، ويكابد ما فيها، فهذه طبيعتها، وهذا مما يبعث النفس ويروضها على الصبر، فهو يعرف طبيعة هذه الحياة، فلا يجزع، ولا ينكسر، ولا يضيق ذرعًا بذلك، إنما هي أمور يسوقها الله إلى العبد فيرفعه بذلك.

وإذا نزل الإنسان لكي ينظر في البلاء يجد أن البعض لربما يكون بلاؤه في أمور مختلفة، يعني: تجد امرأة تريد أن تنتحر، ما هي المشكلة؟ المشكلة أن عندها طفلا له سنتان أو ثلاث مزعج في نظرها، أزعجها وما عندها غير هذا الطفل، وملت من الحياة، وملت من العيش، ولا تريد البقاء مع زوجها، ولا تريد أن تبقى في الحياة كلها، بسبب هذا الطفل، يعني: الآن هذا الولد الذي هو نعمة عليها هو بلاؤها، وكم من امرأة ما تزوجت تتمنى أنها تتزوج.

وكم سمعتُ من النساء -وما أدري من أين جئن بهذا- يقمن كل ليلة بسورة البقرة؛ اعتقادًا منهن أن هذا يجلب لهن زوجًا، باعتبار أنْ أخذها بركة، فهن كل ليلة يقمن، وعلى طول السنة، يقمن بسورة البقرة؛ لأنها تتمنى زوجًا، هذا حال التي ما تزوجت، فهي في بلاء، دائمًا تفكر في هذا الموضوع، يقوم معها ويقعد، ويأكل ويشرب، والتي تزوجت قد ما تنجب، أو تتأخر سنوات، فتكون هذه مشكلة المشكلات، ومصيبة المصائب، ومن مستشفى إلى طبيبة إلى تحاليل إلى فحوصات، وإلى هنا وهناك؛ لأنه ما عندها أولاد، فتبقى في قلق دائم، وهاجس مستمر، هذا بلاؤها الآن، يا سبحان الله! مع أن الأولاد زيادة، وليس عيبًا، فإبراهيم ﷺ لم يولد له إلا بعد الشيخوخة، وزكريا قال: رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا [سورة الأنبياء:89].

فهذا ليس بعيب أي كون الإنسان لا يولد له، وليس بنقص، ومع ذلك تجد من الناس من تكون هذه عنده غاية البلاء والمصاب، مع أنه بلاء يسير، بل يقال له: احمد الله أنت معافى في بدنك، وأرزاقك دارّة، ليس عندك مشاكل وأمراض، والأولاد زيادة، وما تدري ما حجز الله عنك، قد تكون تعاستك بسبب أولادك، أنا أعرف شخصًا كانت نهايته على يد ولده بساطور، قتله في حظيرة غنم عند الأبِّ، يذهب ويجلس فيها في الظهيرة، وولده هو الذي قتله بساطور، ضربه حتى مات، نهايته على يد هذا الولد، نسأل الله العافية.

فالقضية ليست أن يأتيه ولد، فنحن نعرف أناساً عندهم أولاد، ولكنهم يتمنون هلاك هؤلاء الأولاد؛ لأنهم رأوا منهم الشيء الكثير من الشر والفساد والإفساد والتهديد بالقتل صباحاً ومساءً، يأتي إلينا أناس أحيانًا يقول: ولده يهدده بالقتل صباحاً ومساءً، ويطلب منه أموالا، لأن ولده مبتلى بالمخدرات، فهل وجود هذا الولد خير له أو عدمه؟

فتجد الذي لا يولد له في بلاء وكرب وشدة، والذي ولد له في كرب، انظر هذه ماذا تقول؟ تريد أن تنتحر لأجل طفل عمره سنتان أو ثلاث، فهذه عندها طفل، وكم من واحدة تتمنى هذا الطفل، وتتمنى هذا الإزعاج في البيت ومن يردّ الصوت، تتمنى أن تسمع صوت طفل، ولكن ما حصل، فهذه بلاؤها في طفلها، تجد هذا كثيراً في النساء، عندها أطفال صغار ملئوا الدنيا عليها غمًّا، لماذا؟ قالت: مزعجون، واحدة أرسلت لي قبل يومين: أنا في كرب وشدة ادع الله أن يفرج عني، ما هذا الكرب؟ عندها طفلان بالنسبة لها مزعجان، فهي في كرب، تطلب الفرج، فهذا ابتلاء بالنسبة إليها، والناس يتفاوتون في البلاء.

لقد رأيت مرة رجلاً يبكي كما يبكي الطفل، وهو رجل ذو هيئة، ورجل مرموق، ورجل معروف في ناحيته، يبكي كما يبكي الطفل ويشكو، فلما ذكر البنت ظننت أنه حصل لها مكروه، أي: أنه انتُهك عرضها أو شيء، فالبنت صغيرة في الابتدائي، فتبين أن المشكلة هي: أنها تدرس في مدرسة مع بنت الأستاذة، والأستاذة التي تدرس بنته مع بنتها في نفس المستوى زادت بنتها ربع درجة، فصارت بنت الأستاذة هي الأولى، وبنت هذا هي الثانية، فيتكلم بحرقة يقول: أنا ما أريد أن أطور الموضوع، وأذهب به إلى الجهات المختصة، والشكاوى، وكذا، فبماذا تشير عليّ؟

أنا لما قال هذا لي كأنه صب عليّ خزانًا من الماء البارد، أنا كنت أترقب وأنتظر ماذا سيقول؟ ما الذي وقع للبنت من البلاء؟ وإذا الذي فيها زيادة ربع درجة، فصارت بنت تلك هي الأولى، وهذه هي الثانية، فيتكلم، وينعصر من الألم، ويبكي، ويمسح دموعه، والمسألة هي أولى وثانية، وربع درجة، يا أخي، تكون الثانية أو الثالثة أو الرابعة، ما المشكلة؟

ما يدريك لعل ربع الدرجة هذه تدفع عنها من الشر الكثير، وما يدريك لعلها تدفع عنها حسدًا، وتدفع عنها شرورًا، وتدفع عنها كلام ناس، وتدفع عنها أذى، دعها تنزل مرتبة، وما يدريك أين العاقبة الحسنة، وأين الخير، لعل الله دفع عنها شرًّا كثيرًا بهذا، فهذا الرجل بلاؤه هذا، فهو يبكي.

هناك أشياء عجيبة يشاهدها الإنسان في الحياة، يعني: هناك ناس عيالهم لا يستطيعون الالتحاق بالمدارس، وهناك ناس أولادهم لا يصلحون للتعليم؛ لأن عندهم ضعفًا، وصعوبات في التعلم، وعندهم تخلف، وهناك ناس عندهم أولاد يدرسون لكن نتائجهم دائمًا رسوب في كل المواد، أو ما عنده دور ثانٍ -إن كان يوجد دور ثانٍ، وهذه ربع درجة بينها وبين الأولى وصارت مصيبة بالنسبة إليه، فالإنسان يبتلى على قدر إيمانه، فإذا كان في الإيمان رقة خفف عنه، يعني: لا يأتيه بلاء ومصائب على مستوى الأنبياء والأمثل فالأمثل، لا، ولكن تأتيه أشياء بسيطة وخفيفة هي بالنسبة إليه القيامة كلها، وهي بالنسبة للآخرين أمنية الأماني، فكثير يتمنى أنه ما نقص عليه من الدرجة الكاملة إلا ربع الدرجة هذه، فهي أمنية لدى آلاف الملايين، وهذا الذي لربما مصيبته وبلاؤه أو مصيبتها وبلاؤها في طفل أو طفلين هي أمنية لغيره، فهذه نعمة، وهذا الصوت أجمل تغريد لدى المرأة التي لم ترزق بالأولاد، لكن ما يعرف قدر النعمة إلا من فقدها.

إن هناك نِعمًا أسديت إلى أناس يراها من وقعت لهم أنها نقم ومصائب وبلايا، بينما يتمناها أكثر الخلق، يتمنونها، ويغبطونه، وينظرون إليه أنه منعم عليه، وأن الله فاض عليه بهذه النعم، ولكن العبد قد يضعف شكره لله ، ولا يتبصر بنعم الله، فيقع منه مثل هذا الضعف والجزع، ونسأل الله أن يجعلنا وإياكم من الشاكرين لنعمه، وألا يحولها عنا بذنوبنا، وأن يزيدنا وإياكم من فضله، وأن يغني المسلمين من فضله، وألا يحوجهم لأحد من خلقه، ويصلح أحوالهم، ويجمعهم على الحق، والله المستعان.

فهذه السورة تتحدث عن الجزاء في موضوعها الأصلي، فهذه المعايير من العطاء والمنع والغنى والفقر إلى آخره، هذه ليست هي المعايير الحقيقية لقرب العبد من ربه، وأسوأ ما تسمع من سؤال أن يقول: لماذا أنا؟ لماذا يا رب؟ لماذا أعطيت فلانا؟ فلان ما يستحق، أعوذ بالله! هذا هو التسخط على القدر، هذا لا يقوله إلا من لا يعرف ربه -تبارك وتعالى، فالله عليم حكيم،

 وإذا عرف العبد أن ربه عليم حكيم رضي بتدبيره، وقال: تدبيره خير من تدبيري، لاسيما إذا استخار في أمر يقصده.

هذا المعنى الذي ذكره ابن كثير في تفسير هذه الآية جيد، في قوله: "قال الله تعالى: كَلَّا أي: ليس الأمر كما زعم لا في هذا ولا في هذا، فإن الله تعالى يعطي المال من يحب ومن لا يحب.." إلى آخره، ومدار ذلك على الطاعة والمعصية، وحال العبد من الصلاح والاستقامة، وبنحو هذا ذكر ابن جرير -رحمه الله.

قال -رحمه الله: وروى أبو داودعن سهل -يعني: ابن سعد- أن رسول الله ﷺ قال: أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة، وقرن بين إصبعيه الوسطى والتي تلي الإبهام[5].

وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ [سورة الفجر:18]، يعني: لا يأمرون بالإحسان إلى الفقراء والمساكين، ويحث بعضهم على بعض في ذلك.

وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ [سورة الفجر:19] يعني: الميراث، أَكْلًا لَمًّا أي: من أي جهة حصل لهم ذلك، من حلال أو حرام.

وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا [سورة الفجر:20] أي: كثيرًا، زاد بعضهم: فاحشًا.

يعني: قوله -تبارك وتعالى- بعدما ذكر حال هذا الإنسان الذي قد اختلت عنده المعايير قال: كَلَّا أي: ليس الأمر كما تقولون، وليس الأمر كما تعتقدون، بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ، ابن جرير -رحمه الله- يقول في قوله تعالى: كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ، أي: بل إنما أهنتُ من أهنتُ؛ من أجل أنه لا يكرم اليتيم، فهنا يقول: إنه أخرج الكلام مخرج الخطاب، فقال: بل لستم تكرمون اليتيم، بعدما تكلم عن جنس الإنسان، أو عن الإنسان المكذب.

فقوله: فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ هذا غائب، ونحن تكلمنا في التدبر عن الالتفات، فهنا يتكلم عن غائب: فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ يعني: هو، قال: ثم خاطبهم بقوله: كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ، قال: فوجهه إلى الخطاب، فقال: لستم تكرمون اليتيم وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ؛ فلذلك أهنتكم، يعني: خاطب هؤلاء المعتقدين أن العطاء والمنع دليل على القرب أو البعد من الله -تبارك وتعالى، يعني: محبة الله للعبد أو بغضه له.

فالحاصل: أن من أهل العلم كابن جرير من يربط بين هذا: بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ وبين ما ذكر قبله من طبيعة هذا الإنسان، ومعاييره الفاسدة، يعني: يقول: هذا هو الذي يوجب هوان العبد على ربه -تبارك وتعالى، وذكر هذه الأصناف وإلا فالمعنى أعم من ذلك، يعني: البعد عن الله بإطلاق، وترك عبادة الله، وترك الإحسان إلى الخلق أيًّا كان.

لكن ذكر هؤلاء: اليتيم؛ لأنه منكسر القلب، وضعيف، ولا كاسب له، فهو يحتاج إلى إكرام، وإحسان، فضلاً عن أن يُعتدى عليه، ويؤخذ ماله، ولهذا جاء كثيرًا الوعيد الشديد على أكل مال اليتيم، مع أنه لا يجوز أكل أموال الناس عمومًا، لكن اليتيم لما كان لا كاسب له فهو بحاجة، وهو أيضاً صغير، فقد يُستغل صغره، ويؤخذ ماله، ولا يستطيع أن يدفع عن نفسه، فجاء هذا التشديد والوعيد في حقه، فذكر اليتيم هنا، وذكر المسكين.

وَلَا تَحَاضُّونَ يعني: يحض بعضكم بعضًا، وهذا يدل على أن هذا مطلب شرعي، يحض الناس بعضهم بعضاً على إطعام المساكين والفقراء، فهذا له شأن عند الله، كما في قوله -تبارك وتعالى: فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ ۝ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ ۝ فَكُّ رَقَبَةٍ ۝ أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ ۝ يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ ۝ أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ [سورة البلد:11-16]، فهذه قضايا لها شأن عند الله ، وهي أعمال جليلة قد يغفل الكثيرون عنها.

قال: وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا هنا قال: "وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ يعني: الميراث"، فالتراث هو: الميراث، هذا الذي فسره به أكثر أهل العلم، وهو اختيار ابن جرير: أنه الميراث، ويقولون: أصله: الوُراث، فأبدلت التاء من الواو المضمومة، فصار التراث، مثل: تُجَاه، أصلها: وُجاه، أي: تُجاه كذا.

وهذا التراث الذي يأكلونه يدخل فيه أخذ أموال اليتامى وميراثهم، وأخذ أموال النساء وميراثهن، فهم لا يورثون المرأة والطفل، ويقولون: المرأة لا شأن لها، ولا تدفع، وكذلك هذا الطفل ليس فيه غناء، فيأخذون ميراثه، فلا يورثون هذا الصغير، فيأكلون أموالهم أَكْلًا لَمًّا يعني: أكلاً شديدًا.

فقوله: لَمًّا تأتي بمعنى: الشدة، وتأتي بمعنى: جمعًا، يعني: كأنه يحوي ويلف ما وصلت إليه يده، يقولون: فلان يده طويلة، يعني: يأخذ كل شيء، ويجمع كل شيء، فهذا الذي يده طويلة معناه: أن كل ما وصلت إليه اليد أخذه؛ ولهذا فسر بعضهم قوله: أَكْلًا لَمًّا بالشديد، أي: أكلاً شديدًا، وبعضهم: بالجمع، من قولهم: لممت الطعام يعني: إذا أكلته جميعًا.

وابن جرير -رحمه الله- فسرها بالمعنيين: الشديد والجمع، فهم يأخذون أموالهم وأموال النساء والأطفال، أي: المواريث التي يستطيعون أخذها، كما قال الحسن: يأكل نصيبه ونصيب اليتيم، وأصل اللمّ في لغة العرب بمعنى: الجمع، يقال: لَمَّ القومَ، ولَمَّ القبيلةَ، ولَمَّ المالَ، بمعنى: جمعه، وأما الليث فيقيد ذلك بالجمع الشديد، ولا زالت هذه الكلمة مستعملة إلى اليوم.

  1. أخرجه مسلم، كتاب الزكاة، باب الحث على الصدقة ولو بشق تمرة، أو كلمة طيبة، وأنها حجاب من النار، رقم: (1017).
  2. أخرجه الترمذي، أبواب الزهد عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء في الصبر على البلاء، رقم: (2398)، وقال: هذا حديث حسن صحيح، وابن ماجه، أبواب الفتن، باب الصبر على البلاء، رقم: (4023)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (1/ 230)، رقم: (992).
  3. أخرجه البخاري، كتاب المرضى، باب: أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، رقم: (5648)، ومسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب ثواب المؤمن فيما يصيبه من مرض، أو حزن، أو نحو ذلك حتى الشوكة يشاكها، رقم: (2571).
  4. أخرجه البخاري، كتاب المرضى، باب ما جاء في كفارة المرض، رقم: (5640)، ومسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب ثواب المؤمن فيما يصيبه من مرض، أو حزن، أو نحو ذلك حتى الشوكة يشاكها، رقم: (2572).
  5. أخرجه أبو داود، أول كتاب الأدب، باب في ضَمِّ اليتيم، رقم: (5150)، وهو في البخاري، كتاب الأدب، باب فضل من يعول يتيما، رقم: (6005)، ومسلم، كتاب الزهد والرقائق، باب الإحسان إلى الأرملة والمسكين واليتيم، رقم: (2983).

مواد ذات صلة