بسم الله الرحمن الرحيم
مسألة في قوله تعالى: إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا [سورة الحجرات:6].
بقي بقية -كما وعدتكم من قبل- في مسألتين مما سبق الكلام عليه:
الأولى: في تفسير سورة الحجرات، وهي قوله -تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ [سورة الحجرات:6].
فقوله: إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ، من هذا الفاسق؟ كثير من المفسرين يقولون: إنه الوليد بن عقبة، والمرويات في أسباب النزول كثيرة، وهذه المرويات وإن كان كثير منها لا يخلو من ضعف إلا أنها بمجموعها تتقوى، فالنظر في هذا من جهتين:
الجهة الأولى: من جهة صحة الروايات في أسباب النزول.
والجهة الثانية: فيما يتعلق بالمتن، يعني: هل كان الوليد في ذلك الوقت في سن يؤهله أن يرسله النبي ﷺ جابيًا ليأخذ الصدقات أو لا؟
هذا موضع الكلام في هذه المسألة.
أولاً: الروايات في أسباب النزول، فالروايات التي جاءت بها منها مسندة ومنها مرسلة، يعني: بعض هذه المرويات مسندة، وكثير منها مراسيل، والمراسيل كما هو معروف إذا تنوعت طرقها وتعددت فإن ذلك يورثها قوة.
فالمسندة تبلغ نحو خمس روايات، وهي: ما يرويه الحارث بن ضرار المصطلقي، وعلقمة بن ناجية المصطلقي، وجابر بن عبد الله، وأم سلمة، وابن عباس -رضي الله عنهم، فهذه خمس روايات مسندة.
وأما المرسلة فخمس: عن مجاهد، وقتادة، وعكرمة، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، ويزيد بن رومان.
فمن هذه الروايات المسندة رواية الحارث بن ضرار الخزاعي، وهي أولها، وهي مخرجة عند الإمام أحمد -رحمه الله- وغيره، وقد حكم عليها السيوطي فقال: بإسناد جيد، والواقع أن إسنادها لا يخلو من ضعف، قال ابن كثير -رحمه الله: وقد روي ذلك من طرق، ومن أحسنها ما رواه الإمام أحمد في مسنده من رواية الحارث، يعني: أن قوله: "ومن أحسنها" لا يدل على التصحيح، ونقل الحافظ ابن حجر -رحمه الله- في كتابه الإصابة في ترجمة الوليد بن عقبة عن ابن عبد البر قوله: لا خلاف بين أهل العلم في تأويل القرآن أنها نزلت فيه، يعني: في الوليد، هذا كلام حافظ المغرب ابن عبد البر، يقول: "لا خلاف"، مع أن الروايات الواردة ليس كلها بمصرَّح فيها باسم الوليد، ففي بعضها إبهام.
الرواية الثانية: رواية علقمة بن ناجية، وهذه الرواية أخرجها ابن أبي عاصم، والطبراني، وابن عساكر، وقال عنها الهيثمي: رواه الطبراني بإسنادين، وذكر في الإسناد الأول رجلا ضعيفًا، ولم يذكر أن في السند الثاني ضعيفا أيضاً، مع أن في إسنادها الثاني أيضا: يعقوب بن محمد، وقد ضُعِّفَ.
الرواية الثالثة: رواية جابر بن عبد الله عند الطبراني في الأوسط، وهذه الرواية أيضا في إسنادها رجل ضعيف، وذكر هذا أيضا الهيثمي.
الرواية الرابعة: رواية أم سلمة -رضي الله تعالى عنها، وهذه عند ابن جرير الطبري في التفسير، والطبراني في الكبير، وأيضا في إسنادها رجل ضعيف.
الرواية الخامسة: رواية ابن عباس -رضي الله عنهما- عند ابن جرير بالإسناد المسلسل بالضعفاء، وهو: الإسناد المعروف: حدثني محمد بن سعد، حدثني أبي، حدثني عمي... إلخ، فهذا إسناد ضعيف، فهذه هي الروايات المسندة.
أما الروايات المرسلة فكما قلنا: روايات مجاهد، وقتادة، وابن أبي ليلى، وعكرمة، ويزيد بن رومان، ونحن نعرف أن المرسل من أنواع الضعيف، لكن بمجموع هذه المراسيل تتقوى الرواية، وذلك إذا جاءت تلك الروايات من طرق ووجوه متعددة، وإذا صح سندها إلى من أرسلها، فهذه هي المرويات.
ثانيا: المتن، فلو نظرنا إلى المتن لوجدنا أن في بعضها: أن النبي ﷺ أرسل جيشًا في أعقاب هذا الخبر، واختلفت هذه الروايات التي ذكرت هذا الجيش من الذي كان يقوده، ففي بعضها: أنه خالد بن الوليد، وفي بعضها في رواية جابر: أنه نوى أن يبعث علي بن أبي طالب -رضي الله تعالى عنه، ثم اختلفت الروايات أيضا في الجيش الذي بعثه إليهم بعد خبر الوليد: هل وصل إلى بني المصطلق، أو أنه لقيهم في الطريق، ففي رواية الحارث: أن بني المصطلق استبطئوا رسول رسول الله ﷺ، فخرجوا إلى النبي ﷺ، وأن الوليد رآهم في الطريق فخاف، وعاد إلى النبي ﷺ يخبره، ولم يعلموا بقدومه إليهم، بل تفاجئوا بالجيش الذي بعث إليهم، بينما في بعض الروايات الأخرى: أنهم علموا بمقدمه، فخرجوا لاستقباله، إلا أنه خاف حين رآهم فرجع.
والعلماء تكلموا في هذا، وأن الله -تبارك وتعالى- حكم بالفسق فقال: إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ، فكيف يحكم على رجل له صحبة كما في الروايات هذه، يحكم عليه بالفسق؟ وقد أنكر بعض أهل العلم أن يكون الوليد هو السبب في النزول، وممن أنكر ذلك: أبو بكر بن العربي، وذلك أنه بنى على بعض الروايات التي يؤخذ منها أن سنه كان صغيرًا في ذلك الحين، ومثله لا يُرسل جابيًا للصدقات، ثم يقول: كيف يُفسَّق رجلٌ من أصحاب النبي ﷺ؟ وأما ما يتعلق بحده في الخمر فيقول: ليست الذنوب مسقطة للعدالة إذا وقعت منها التوبة، هذا حاصل كلام ابن العربي، والحافظ ابن حجر -رحمه الله- يقول: والرجل قد ثبتت صحبته، وله ذنوب أمرُها إلى الله -تعالى، والصواب: السكوت.
أما الجانب المهم في هذا الموضوع مما يتعلق بالمتن فهو: كم كان سن الوليد حينها حتى لو صحت الروايات؟ يعني: لو ثبت أنه صغير فإن هذا يمكن أن يكون سببًا لرد هذه المرويات التي يذكر فيها أنها نازلة في الوليد.
أما غزوة بني المصطلق هذه فذكر موسى بن عقبة: أنها في السنة الرابعة، وقال الواقدي: إنها في السنة الخامسة قبل الخندق، وذكر ابن اسحاق: أنها في السنة السادسة، ورجح ابن القيم بمرجحات متعددة: أنها في السنة الخامسة قبل الخندق، ورجح ابن عبد البر: أنها في السنة الخامسة بعد الخندق، وعلى هذا فهم متفقون أنها كانت قبل فتح مكة.
وأما الوليد بن عقبة فكان إسلامه عام الفتح، لكن ما سنه حينما أسلم؟ بعض هذه الروايات تقرر: أنه لا زال صغيرًا صبيًّا، وبعض هذه الروايات تدل على أنه كان في سن الرجولة، ففي بعض هذه المرويات يقول الوليد: لما افتتح رسول الله ﷺ مكة، جعل أهل مكة يأتونه بصبيانهم، فيدعو لهم بالبركة، ويمسح على رءوسهم، فجيء بي إليه وأنا مُخلَّق -يعني: بالطيب، فلم يمسني من أجل الخَلوق، أي: من أجل الطيب، لأنه مُحرِم ﷺ، فهذه الرواية معناها: أنه كان صغيراً، وهذه الرواية هي التي تمسك بها ابن العربي، وقال: إن من كان بهذه المثابة لا يُرسل جابياً للصدقات، فالنبي ﷺ معلوم أنه توفي بعد ذلك بمدة ليست بالطويلة، يعني: بعد فتح مكة بقي النبي ﷺ مدة قليلة، فالفتح كان في الثامنة، فبقي التاسعة والعاشرة، وبعد حجته ﷺ بمدة ليست بالطويلة قبض، فعلى هذا يكون هذا الصغير الذي جاء به أهله لم يبلغ مبلغ الرجال، فلا يصلح أن يُبعث لهذا الغرض.
لكن هذه الرواية لا تصح، حكم عليها بعض أهل العلم بأنها منكرة، وممن ردها: ابن أبي خيثمة، وابن عبد البر، وتبعهم الحافظ ابن حجر؛ لجهالة أبي موسى الهمداني، هذا الذي يرويها، وقال: الحديث منكر مضطرب، لا يصح، واستدل الحافظ على اضطرابه بقوله: ومن يكون صبيًّا يوم الفتح كيف يبعث مُصدِّقًا بعد الفتح؟ يعني: بناء على الروايات الأخرى الكثيرة.
أما من استدل على أنه كان كبيرًا يوم الفتح فاستدلوا بما روى أهل السير والتواريخ في قصة صلح الحديبية في السنة السادسة من أن أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط لما خرجت إلى النبي ﷺ مهاجرة في الهدنة سنة سبع خرج أخواها: الوليد وعمارة؛ ليرداها، فمن يكون صبيًّا يوم الفتح كيف يكون ممن خرج ليرد أخته قبل الفتح؟
لكن هذه الحادثة أيضا ضعيفة، ذكرها ابن سعد دون إسناد، وعند ابن عساكر رواها بسنده إلى محمد بن عمر الواقدي، وذكر أسماء النفر الذين قدموا في الأسرى من بني عبد شمس، وذكر منهم: الوليد بن عقبة، في أسارى بدر.
لكن هذه الرواية مرسلة، والواقدي متروك.
كذلك أيضا يستدل من قال: إنه كان كبيرًا حينها بقصة شكوى زوجته للنبي ﷺ، كما جاء عن علي : أن امرأة الوليد بن عقبة جاءت إلى النبي ﷺ تشتكي الوليد أنه يضربها، فقال لها: ارجعي، فقولي: إن رسول الله ﷺ قد أجارني، قال: فانطلقت، فمكثت ساعة، ثم إنها رجعت، فقالت: يا رسول الله، ما أقلع عني، قال: فقطع رسول الله ﷺ هُدبة من ثوبه، فأعطاها، فقال: قولي: إن رسول الله ﷺ قد أجارني...، إلخ، فرفع رسول الله ﷺ يديه فقال: اللهم عليك بالوليد، مرتين أو ثلاثا.
لكن هذه الرواية أيضا ضعيفة، وعلى هذا فلا يصح شيء من هذه الروايات التي تدل على أنه كان صغيرًا أو أنه كان كبيرًا، وابن عبد البر -رحمه الله- يقول: أظنه لما أسلم كان قد ناهز الحلم، بينما قال آخرون: إنه كان طفلا، وبعضهم قال: كان كبيراً، والحافظ ابن حجر في التهذيب يقول: ويدل على أنه كان من زمن النبي ﷺ رجلا ما ذكره أصحاب المغازي: أنه قدم في مدة الحارث، يعني: ابن عم أبيه الذي أسر في يوم بدر، فافتداه بأربعة آلاف.
فإذا لم يثبت شيء من هذه الروايات: أنه كان صغيرًا فهذا هو المهم، فإن مجموع هذه الروايات لا شك أنه يدل على أن أصل ذلك صحيح، وابن عبد البر -رحمه الله- نقل الإجماع عليه، لكن سمعتم كلام أهل العلم في هذا -والله أعلم.