الجمعة 20 / جمادى الأولى / 1446 - 22 / نوفمبر 2024
[26] من قول الله تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً} الآية 82 إلى قوله تعالى: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ..} الآية 89
تاريخ النشر: ٢١ / صفر / ١٤٢٧
التحميل: 3157
مرات الإستماع: 2335

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المفسر -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى:

لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ ۝ وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ۝ وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بِاللّهِ وَمَا جَاءنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَن يُدْخِلَنَا رَبَّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ ۝ فَأَثَابَهُمُ اللّهُ بِمَا قَالُواْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء الْمُحْسِنِينَ ۝ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ [سورة المائدة:82-86].

وقال سعيد بن جبير والسدي وغيرهما: نزلت في وفدٍ بعثهم النجاشي إلى النبي ﷺ ليسمعوا كلامه ويروا صفاته، فلما رأوه وقرأ عليهم القرآن أسلموا وبكوا وخشعوا، ثم رجعوا إلى النجاشي فأخبروه.

وقال عطاء بن أبي رباح: هم قوم من أهل الحبشة أسلموا حين قدم عليهم مهاجرة الحبشة من المسلمين.

وقال قتادة: هم قوم كانوا على دين عيسى ابن مريم فلما رأوا المسلمين وسمعوا القرآن أسلموا ولم يتلعثموا، واختار ابن جرير أن هذه الآيات في صفة أقوام بهذه المثابة، سواء كانوا من الحبشة أو غيرها.

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فهذه الروايات من المراسيل، وما ذكره كبير المفسرين ابن جرير الطبري -رحمه الله- في معناها أو فيمن نزلت فيه هو الأصح، أي أنها لا تختص بالحبشة بل هي في كل من كان بهذه المثابة، فمن اليهود الذين أسلموا عبد الله بن سلام وتنطبق أيضاً على من أسلم من النصارى، فالمقصود أن من أسلم من أهل الكتاب ممن هذه صفته فالآية تنطبق عليه.

وهذه الآيات ينبغي أن يربط أولها بآخرها، فالله ذكر صفتهم فقال: وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ [سورة المائدة:83] أي آمنوا بالنبي ﷺ وآمنوا بالقرآن.

ويقول الله عنهم أنهم قالوا: وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بِاللّهِ وَمَا جَاءنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَن يُدْخِلَنَا رَبَّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ ۝ فَأَثَابَهُمُ اللّهُ بِمَا قَالُواْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ [سورة المائدة:83-85] فهذه الآيات لا يصح بحال من الأحوال أن يفصل آخرها عن أولها؛ لأنه لا يمكن أن يقال: إن هذه الآيات في عموم النصارى، بل هي في من أسلم منهم وكانت هذه صفته، وأما هؤلاء الذين لم يسلموا سواء في هذا العصر أو في غيره من العصور فهم أشبه ما يكونون باليهود حيث عرفوا الحق وظهرت لهم دلائله ومع ذلك عاندوا وكفروا فهم أهل غضب كما أنهم أهل ضلال، أي أنهم جمعوا بين الغضب والضلال، وهل بلاء المسلمين في هذه العصور وقبلها من العصور إلا من النصارى، كما أخبر النبي ﷺ بقوله: الروم ذات القرون[1] فالحروب الصليبية مَن الذي قام بها خلال قرون متطاولة إلا النصارى؟ ومن الذين أقام دولة اليهود ومن الذي يحميها ومن الذي يمدها إلا النصارى؟ ومذابح المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها من الذي يقوم بها إلا النصارى؟ والأذى الذي يلقاه المسلمون في كل مكان من الذي وراءه إلا النصارى؟

والواقع أنك كلما نظرت في طائفة من الطوائف قلت: هذه الطائفة شرٌّ مجتمع، فإذا نظرت إلى اليهود وأمعنت النظر فيهم قلت: هؤلاء هم كتلة من الشر، وإذا نظرت إلى النصارى قلت: هؤلاء شر محض وبلاء يلقى المسلمون منهم أنواع الأذى، وإذا نظرت إلى ما يفعله الهندوس وعبَّاد البقر، قلت: لا يوجد أسوأ من هؤلاء، فكل هؤلاء الكفرة أعداء لله ولرسوله ﷺ ولدينه، وكلهم قد بلغوا في الشر غايته، وإن كان لا يوجد في المكر والدس والإفساد في الأرض أسوأ من اليهود، لكن هذه الآيات لا يقال: إنها تنطبق على عموم النصارى أبداً وإنما من أسلم منهم، وأما من لم يسلم فلا يمكن أن يقال فيه: إنه إذا سمع ما أنزل إلى الرسول فاضت عيناه من الدمع وقال: ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين، ومن يقتصر على أول الآيات ويترك آخرها، فهو كالذي يقتصر على قوله: فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ [سورة الماعون:4] ويترك ما بعدها، وهذا من تحريف الكلم عن مواضعه، والله تعالى أعلم.

وتكلمت على هذا المعنى في رمضان في الآيات التي يخطئ الناس في فهمها، وذكرت الآيات التي تذم أهل الكتاب في القرآن أو جملة منها، وقلت: ما تفهم الآيات بالاجتزاء، وإنما تضم الآيات في الموضوع الواحد، سواء كان هنا أو في غيره، كالآيات التي قد يفهم منها الثناء على أهل الكتاب مثل: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ [سورة المائدة:69] الآيات السابقة، فمثل هذه يتبين المراد بها إذا جمعت مع الآيات الأخرى.

فقوله تعالى: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ [سورة المائدة:82] ما ذاك إلا لأن كفر اليهود كفر عناد وجحود ومباهتة للحق وغمط للناس وتنقّص بحملة العلم، ولهذا قتلوا كثيراً من الأنبياء حتى هموا بقتل رسول الله ﷺ غير مرة وسموه وسحروه وألبوا عليه أشباههم من المشركين عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة.

وقوله تعالى: وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى [سورة المائدة:82] أي: الذين زعموا أنهم نصارى من أتباع المسيح وعلى منهاج إنجيله فيهم مودة للإسلام وأهله في الجملة، وما ذاك إلا لما في قلوبهم إذ كانوا على دين المسيح من الرقة والرأفة، كما قال تعالى: وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً [سورة الحديد:27] وفي كتابهم: من ضربك على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر.

طبعاً هذا الكلام كله لا ينطبق على النصارى أبداً لا على علمائهم في الدين ولا غيرهم، فليس فيهم إلا الغلظة والجفوة وليسوا على قوله تعالى: وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً [سورة الحديد:27] فهؤلاء أبعد ما يكونون عن المسيح -عليه الصلاة والسلام.

وليس القتال مشروعاً في ملتهم، ولهذا قال تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ [سورة المائدة:82] أي: يوجد فيهم القسيسون وهم خطباؤهم وعلماؤهم، واحدهم قِسِّيس وقَسّ أيضاً، وقد يجمع على قسوس.

واحدهم قَسّ - بفتح القاف- يقال: قسيس وقَس، والقَسُّ يقال: أصله من التتبع، يقال: قَسَّ العلم أي تتبعه وتطلبه، قَسَّ الشيء تتبعه، ويقال للعالم من النصارى: قَسّ وقِسِّيس، ويُجمع على قَسَس وقَسَاوِسَة.

واحدهم قسيس وقَسّ أيضاً، وقد يجمع على قسوس، والرهبان: جمع راهب وهو العابد مشتق من الرهبة، وهي الخوف، كراكب وركبان وفرسان.

الرهبان هم العباد الذين ينقطعون -في الغالب- في الأديرة ويعكفون على العبادة، فالقساوسة هم علماؤهم والمقدمون فيهم ورؤساؤهم في دينهم، وأما الرهبان فهم العباد المنقطعون للعبادة.

روى ابن أبي حاتم عن حامية بن رئاب قال: سمعت سلمان وسئل عن قوله: ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا [سورة المائدة:82] فقال: هم الرهبان الذين في الصوامع والخرب فدعوهم فيها، قال سلمان: وقرأت على النبي ﷺ ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ [سورة المائدة:82] فأقرأني: ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ صِدِّيقِينَ وَرُهْبَانًا) [سورة المائدة:82] فقوله: ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ [سورة المائدة:82] تضمن وصفهم بأن فيهم العلم والعبادة والتواضع.

ثم وصفهم بالانقياد للحق واتباعه والإنصاف فقال: وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ [سورة المائدة:83] أي: مما عندهم من البشارة ببعثة محمد ﷺ، يقول: رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ [سورة المائدة:83] أي: مع من يشهد بصحة هذا ويؤمن به، وهذا الصنف من النصارى هم المذكورون في قوله تعالى: وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلّهِ الآية [سورة آل عمران:199] وهم الذين قال الله فيهم: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ ۝ وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ [سورة القصص:52-53] إلى قوله: لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ [سورة القصص:55].

ولهذا قال تعالى هاهنا: فَأَثَابَهُمُ اللّهُ بِمَا قَالُواْ [سورة المائدة:85] أي: فجازاهم على إيمانهم وتصديقهم واعترافهم بالحق جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا [سورة المائدة:85] أي: ماكثين فيها أبداً لا يحولون ولا يزولون وَذَلِكَ جَزَاء الْمُحْسِنِينَ [سورة المائدة:85] أي: في اتباعهم الحق وانقيادهم له حيث كان وأين كان ومع من كان.

ثم أخبر عن حال الأشقياء فقال: وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أي: جحدوا بها وخالفوها أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ [سورة المائدة:86] أي: هم أهلها والداخلون فيها.

قوله: وَذَلِكَ جَزَاء الْمُحْسِنِينَ [سورة المائدة:85] هذا -كما ذكرنا سابقاً- أن الله قد يذكر أمراً خاصاً ثم يأتي بعده بالحكم العام ليشمل المذكور ويدخل فيه غيره أيضاً ممن ينطبق عليه هذا الوصف، وهذا كثير في القرآن، وهي قاعدة معروفة على كل حال وهذا من أمثلتها.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ۝ وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ حَلاَلاً طَيِّبًا وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِيَ أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ [سورة المائدة:87-88].

قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس -ا: نزلت هذه الآية في رهط من أصحاب النبي ﷺ قالوا: نقطع مذاكيرنا ونترك شهوات الدنيا ونسيح في الأرض كما يفعل الرهبان فبلغ ذلك النبيَّ ﷺ فأرسل إليهم فذكر لهم ذلك، فقالوا: نعم، فقال النبي ﷺ: لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأنام، وأنكح النساء، فمن أخذ بسنتي فهو مني ومن لم يأخذ بسنتي فليس مني[2] ورواه ابن أبي حاتم، وروى ابن مردويه من طريق العوفي عن ابن عباس -ا- نحو ذلك.

قوله هنا: لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ [سورة المائدة:87] يدخل فيه نوعان من التحريم، ما كان على سبيل الترهب كما تدل عليه رواية علي بن أبي طلحة هذه، ويدخل فيه نوع آخر وهو أن يحرم الإنسان على نفسه شيئاً، كأن يقول مثلاً: يحرم عليَّ كذا، وكذا علي حرام، وما أشبه ذلك مما يقوله الإنسان، فهذا لا يجوز، والله يقول: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ [سورة التحريم:1]، فلا يجوز أن يحرم الإنسان على نفسه لا زوجة ولا أمة ولا طعاماً أو لباساً أو غير ذلك مما أباحه الله تبارك وتعالى.

يقول تعالى: لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ [سورة المائدة:87] "تحرموا" فعل مضارع مسبوق بالنهي وهو للعموم، والعبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب، فلا يجوز التحريم سواء كان على قصد الترهب والعبادة أو كان ذلك على وجه آخر، والله أعلم.

وفي الصحيحين عن عائشة -ا- أن ناساً من أصحاب رسول الله ﷺ سألوا أزواج النبي ﷺ عن عمله في السر، فقال بعضهم: لا آكل اللحم، وقال بعضهم: لا أتزوج النساء، وقال بعضهم: لا أنام على الفراش، فبلغ ذلك النبي ﷺ فقال: ما بال أقوام يقول أحدهم كذا وكذا، لكني أصوم وأفطر، وأنام وأقوم، وآكل اللحم وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني[3].

ربما يكون الدافع لهذا الذي قال: لا آكل اللحم هو ما يذكره المتقدمون من أن اللحم يقوي الغريزة عند الرجل والشهوة، وكان بعض من يتنسك ويتعبد يتقلل منه أو يتركه لهذا الغرض، وقد يكون هؤلاء قصدوا بترك اللحم ترك أطيب ما كان عند العرب من الطعام ولا يجدونه إلا قليلاًَ، فقد يكون الدافع هذا أو ذاك، والله أعلم.

لكن هذه الأشياء الثلاثة المذكورة -لا أتزوج النساء ولا آكل اللحم وأصوم ولا أفطر- يجمع بينها الجامع المشترك وهو كسر الشهوة والتخلص منها، فالصيام يفتر الغريزة ويضعفها ومعلوم أن أكثر ما يشغل الإنسان ويشوش ذهنه ويفرق عليه قلبه هي هذه الغرائز التي أودعها الله فيه حيث تشغل الإنسان فيتشوش ذهنه، والذهن يتشوش مثل المرآة، فالمرآة حينما يلحقها الغبش فإنها تحتاج إلى أن تُجلى فإذا كانت هذه الغريزة تعاوده حيناً بعد حين، فهو كهذه المرآة التي تحتاج إلى صقل، ولذلك فإنها -أي الغريزة- تنطفئ بما ذكره النبي ﷺ في قوله: من استطاع منكم الباءة فليتزوج ومن لم يستطع فعليه بالصوم[4] فإذا تزوج كان ذلك كالمرآة التي تجلى، يعني أن المعاشرة يعود بعدها صفاء النفس وصفاء الذهن، والعقل يصير خالياً من أي تشويش، ثم ما يلبث أن يعاود الإنسان ويبدأ ذهنه يتفرق وهكذا، ولذلك قال بعده: ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه يضعفها. 

والمقصود بالصوم إدمان الصوم، أي الصوم المتتابع الكثير جداً، أما صوم الاثنين والخميس وحده أو الأيام البيض فلا يكفي، أو صوم رمضان وحده لا يكفي، فالحاصل أنه قد يكون الجامع المشترك بين هذه الأشياء الثلاثة -والله تعالى أعلم- هو كسر الشهوة والتخلص من هذه الغريزة والإعراض عنها بالكلية، ولذلك ذكروا هذا، ومثل هذا حديث عثمان بن مظعون لما استأذن النبي ﷺ في شيء من هذا.

وقوله تعالى: وَلاَ تَعْتَدُواْ [سورة المائدة:87] أي: لا تبالغوا في التضييق على أنفسكم بتحريم المباحات عليكم، ولا تحرموا الحلال، فلا تعتدوا في تناول الحلال بل خذوا منه بقدر كفايتكم وحاجتكم، ولا تجاوزوا الحد فيه كما قال تعالى: وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ الآية [سورة الأعراف:31] وقال: وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا [سورة الفرقان:67] فشرْعُ الله عدل بين الغالي فيه والجافي عنه لا إفراط ولا تفريط ولهذا قال: لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ [سورة المائدة:87] ثم قال: وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ حَلاَلاً طَيِّبًا [سورة المائدة:88] أي: في حال كونه حلالاً طيباً وَاتَّقُواْ اللّهَ [سورة المائدة:88] أي: في جميع أموركم، واتبعوا طاعته ورضوانه واتركوا مخالفته وعصيانه الَّذِيَ أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ [سورة المائدة:88].

لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُواْ أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [سورة المائدة:89] وقد تقدم الكلام على اللغو في اليمين في سورة البقرة بما أغنى عن إعادته هاهنا -ولله الحمد والمنة- وأنه قول الرجل في الكلام من غير قصد: لا والله، وبلى والله.

هذا هو المشهور في تفسير اللغو في اليمين، أي هو ما يجري على اللسان من غير عقد القلب وقصده لليمين كأن تقول وأنت تتكلم: لا والله ولا تقصد الحلف، وهذا قول الجهور في تفسير اللغو في اليمين، والإمام الشافعي -رحمه الله- ذكر اللجاج واليمين في حال الغضب وأنه من اللغو، وعلى كل حال كلام أهل العلم في تفسير اللغو في اليمين كلام مشهور وأقوالهم في هذا معروفة، وأشهر هذه الأقوال هذا القول الذي قال به الجمهور، وكذا القول الآخر وهو أنه ما قاله الإنسان لشيء يعتقده فتبين خلافه، فهذا لا يؤاخذ عليه الإنسان، وهذا القول لا ينافي القول الأول وإن كان يختلف عنه.

قوله: "لا والله، وبلى والله" ونحو ذلك أيضاً مما يجري على الألسن هذا لا شك أنه من لغو اليمين الذي لا يؤاخذ الإنسان عليه.

ومما لا يؤاخذ الإنسان عليه أن يحلف الإنسان على شيء يعتقده فيتبيّن خلافه ولم يقصد بذلك الكذب، فمثل هذا لا يؤاخذ الإنسان فيه حقيقة فهو ملحق بلغو اليمين باعتبار عدم المؤاخذة، وإلا فإنه ليس من اللغو في حقيقته؛ لأن الإنسان يعقد قلبه عليه عقداً تاماً، فلا يقال لذلك: إنه لغو لكنه ملحق به في حكمه باعتبار أن الإنسان لا يؤاخذ عليه؛ لأن اليمين التي يؤاخذ عليها الإنسان ويكون حانثاً إن لم يلزمها -عند الجمهور- هي أن يحلف على شيء مستقبل أنه يفعله أو لا يفعله أو يفعله غيره أو لا يفعله أو نحو ذلك فهو يلزم بهذه اليمين نفسه أو يلزم غيره وهذه هي التي فيها الكفارة إذا كان قد عقد قلبه أو عقد هذه اليمين في قلبه، قال تعالى: وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ [سورة المائدة:89] (عاقدتم الأيمان) (عقَدتم الأيمان) -على القراءات الثلاث- هذا الذي يوجب الكفارة، أما أن يحلف الإنسان على شيء في الماضي أو على شيء حاضر أنه كذا، ويتبيّن خلافه كأن يقول: والله إن زيداً في داره -وهو يعتقد هذا- ثم يتبيّن خلاف ذلك فهذا لا يؤاخذ عليه الإنسان، وكذلك لو أنه حلف في الماضي وقال: والله إن زيداً لم يسافر فتبيّن خلافه فمثل هذا لا يؤاخذ الإنسان عليه، فإن كذب في هذا فهذه هي اليمين الغموس التي تغمس صاحبها في النار، وهذه على الأرجح، -وهو قول الجمهور- أنها لا كفارة فيها، لكنها من الكبائر وتحتاج إلى توبة.

والخلاصة أن عندنا ثلاثة أنواع من اليمين: لغو لا يؤاخذ الإنسان عليه وهو ما يجري على الألسن، ويلحق به ما حلف الإنسان عليه معتقداً له على حال معينة فتبيّن خلافه، فهذا لا يوجب الكفارة وهو ملحق بلغو اليمين، ويبقى ما يوجب الكفارة وهو ما كان على أمر مستقبل يفعل أو لا يفعل، وبقي نوع آخر وهو اليمين الغموس وهذه لا توجب الكفارة، لكن توجب التوبة.

فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ [سورة المائدة:89] يعني محاويج من الفقراء ومن لا يجد ما يكفيه.

وقوله: مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ قال ابن عباس -ا- وسعيد بن جبير وعكرمة أي: من أعدل ما تطعمون أهليكم وقال عطاء الخرساني: من أمثل ما تطعمون أهليكم.

في قوله تعالى: مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ قال ابن عباس وسعيد بن جبير وعكرمة: "من أعدل ما تطعمون أهليكم، وقال عطاء الخرساني: "من أمثل ما تطعمون أهليكم" يوجد فرق بين القولين؛ لأن كلمة أوسط تأتي لمعنيين، فهي تأتي لما وقع بين طرفين، ومنه قولهم: خير الأمور الوسط أي ما بين طرفين، وتأتي بمعنى: الأمثل والأحسن تقول مثلاً: النبي ﷺ من أوسط قومه نسباً، يعني من أحسنهم نسباً، وعلى أحد الوجوه في التفسير في قوله تعالى: قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ [سورة القلم:28] يعني أفضلهم وأعقلهم، وهنا مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ هل المقصود من أمثله، أو أن المقصود به ما كان بين طرفين، يعني ليس الشيء الذي يكون في غاية الجودة ولا الشيء الرديء وإنما هو الوسط، فهل المراد الوسط بين الإسراف والتقتير، أو أن المراد الوسط بين الكثرة والقلة في المقدار؟

تفسيره بأنه الأمثل أي بمعنى أنه يُخرج الأفضل هذا فيه بعد؛ لأنه حتى في الزكاة إنما تخرج من وسط المال يعني المتوسط فلا يؤخذ الأفضل -كرائم الأموال- ولا يؤخذ أردأ المال وأقله قيمة وإنما الوسط وهذا هو العدل الذي جاءت به الشريعة، والقول بأنه بين الإسراف والتقتير لعله هو الأقرب، والله أعلم، يعني لا تكون من أجود الطعام ولا تكون من أردأ الطعام وإنما بين هذا وهذا، وإذا كان الأمر كذلك فيتبيّن خطأ من يعمد في إخراج الكفارات إلى أرخص نوع من الطعام ويخرجه.

ومن الصور الغريبة في إخراج الكفارات أنه إذا كان بعضهم يدفع كفارته للجمعيات وهي تساوي مائة ريال يشترون بها طعاماً من وسط قوت البلد فإن بعضهم يدفعها في بلد تكون فيه المائة ريال قيمة لأربع كفارات، فهل من هذا حاله يكون محققاً مراد الله تعالى في قوله: مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ [سورة المائدة:89]؟

الجواب لا، ولذلك فإن صاحب الكفارة لا بد أن ينظر إلى الذي يطعمه أهله فيخرج منه، وهذا يختلف من شخص إلى شخص؛ لأن الأقرب أن يحمل قوله: أَهْلِيكُمْ على أهله هو وليس المقصود عموم الناس، فهذا يختلف باختلاف الناس غنىً وفقراً وتوسعةً وتقتيراً أو ضيقاً في العيش وما أشبه هذا، فيراعى فيه حال هذا الإنسان والبلد التي يعيش فيها، فلا يعمد إلى بلد يأخذ من الطعام الذي لا يأكله هو أو حتى ربما لا تأكله بهائمه فيخرجه هناك ثم يقول: إن الذمة قد برئت، لا وإنما مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ.

ولذلك فالذين يخرجونها هناك ينبغي أن يراعوا هذا المعنى، فمثلاً حينما نقول: إنه يجزئ في الكفارات أن يملكهم الطعام المصنوع مثل الأرز واللحم ونحو هذا وهو مطبوخ وجاهز بحيث يأكلون منه إلى أن يشبعوا، فما القول فيما لو كان في بلد من البلدان الفقيرة التي لا يجد أهلها إلا أردأ أنواع الأرز وأرخصها ولا يكون معه شيء مما لا يأكله هو لو عُرض عليه، هل نقول: يعطيهم هذا؛ لأن هذا قوتهم وتبرأ ذمته؟ هل هذا من أوسط ما يطعم أهله؟

نقول: لا، ولكن إذا أخرجتها هناك فتخرج النوع اللائق مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ وهذه القضية يغفل عنها كثير من الناس عند إخراج الكفارات، والله أعلم.

وهناك قول آخر: وهو أنه وسط بين القلة والكثرة وهذا قول ابن جرير، وعمد إلى هذا القول بناء على النظر فيما ورد في تحديد بعض الكفارات، حيث جاءت الروايات بصاع وفي بعضها بالمد وفي بعضها بنصف الصاع، فما هو الأوسط بين الصاع في مثل زكاة الفطر ونصف الصاع في مثل من كان عليه كفارة الجماع في رمضان، حيث لما جيء للنبي ﷺ بفرق من طعام من أجل الرجل الذي جامع في نهار رمضان وكان هذا الطعام بقدر ثلاثين صاعاً بحيث إنه إذا قسم نصف صاع فهو يعدل طعام ستين مسكيناً، فابن جرير نظر إلى هذا، ونظر إلى هذا في الكفارات، وقال: الوسط هنا في كفارة اليمين أن يخرج نصف صاع، وقال: هذا هو الأعدل وجزم بهذا وقال: إن الأدلة تدل عليه، والله تعالى أعلم.

وقوله تعالى: أَوْ كِسْوَتُهُمْ [سورة المائدة:89] هي أن يدفع إلى كل واحد منهم من الكسوة ما يصح أن يصلي فيه، إن كان رجلاً أو امرأة كلٌّ بحسبه، والله أعلم.

وقد يقال في هذا -والله أعلم: إنه أيضاً من أوسط ما يخرج من الكسوة، يعني لا يعمد إلى أنواع رديئة جداً فيخرجها في الكفارة، وهذه المسألة الكلام فيها مثل الكلام في قوله -تبارك وتعالى: مِن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا [سورة المجادلة:4] بعد أن ذكر عتق الرقبة في كفارة الظهار وصيام الشهرين ثم ذكر بعد ذلك إطعام الستين مسكيناً ولم يقل بعده: من قبل أن يتماسَّا، فالعلماء اختلفوا إذا كان عادماً للرقبة ولم يقدر على الصيام هل يقال في الإطعام: إنه من قبل أن يتماسا أيضاً أم لا؟ فبعضهم قال: نعم إلحاقاً له بما سبق، فالمقصود أنه يقال في هذا مثل ما يقال هناك، فالكسوة هل تكون أيضاً من أوسط ما يلبس لأن المعنى الذي من أجله طولب بهذا متحقق؟!

وفي قوله: أَوْ كِسْوَتُهُمْ [سورة المائدة:89] لم تقدَّر بمقدار، ولهذا قال بعضهم: أدناه الثوب ولا حدَّ لأعلاه، لكن هذا يختلف من عصر إلى عصر، فقديماً الذين جاءوا إلى النبي ﷺ مجتابي النمار، يعني ما علي الواحد منهم إلا قطعة قماش خرقها من الوسط وأخرج رأسه منها؛ لأنه ليس لديه شيء آخر، وربما يكون عند الإنسان الإزار وليس عنده رداء -مثل كثير من أصحاب الصفة- فقديماً ربما يلبس الرجل إزاراً وليس عنده رداء، وربما يلبس القميص وليس عنده سواه، فأدنى الكسوة هو الثوب، أما الآن إذا أراد الإنسان أن يعطي كسوة فإن ذلك لا يكفي فيه أن يدفع قميصاً أو إزاراً ويقول هذا يكفي، وإنما ينظر إلى عرف الناس فيما يلبسون، فالذي يصدق عليه هذا في عصرنا الحاضر أكثر من قيمص، والمراد بالقميص الثوب المعروف.

وقال العوفي عن ابن عباس -ا: عباءة لكل مسكين أو شملة، وقال مجاهد: أدناه ثوب وأعلاه ما شئت، وقال الحسن وأبو جعفر الباقر وعطاء وطاوس وإبراهيم النخعي وحماد بن أبي سليمان وأبو مالك: ثـوب ثوب.

قول أبي مالك: "ثـوب ثوب" يعني يعطي لكل مسكين ثوباً، وهذا الذي ذهب إليه ابن جرير أيضاً، أي أنه يكفي فيه ثوب فما أعلاه مما يصدق عليه الثوب، والثوب عندهم مثل الرداء فهو يعتبر ثوباً، فقطعة القماش هذه تسمى ثوباً، وفي البخاري: "كنا عند أبي هريرة وعليه ثوبان"[5]، يعني عليه إزار ورداء.

وقوله: أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ [سورة المائدة:89] ولا بد أن تكون مؤمنة كما ثبت من حديث معاوية بن الحكم السلمي الذي هو في موطأ مالك ومسند الشافعي وصحيح مسلم أنه ذكر أن عليه عتق رقبة وجاء معه بجارية سوداء فقال لها رسول الله ﷺ: أين الله؟ قالت: في السماء، قال: من أنا؟ قالت: رسول الله، قال: أعتقها فإنها مؤمنة الحديث بطوله[6].

قوله في تحرير الرقبة: "ولا بد أن تكون مؤمنة" أخذاً من هذا الحديث وأخذاً من حمل المطلق على المقيد، فالمطلق مع المقيد له أربعة أحوال، في بعضها يحمل المطلق على المقيد، وفي بعضها لا يحمل المطلق على المقيد بالإجماع، وفي بعض الصور خلاف، فتحرير الرقبة جاء مقيداً بالإيمان في كفارة القتل وجاء مطلقاً في كفارة الظهار وكفارة اليمين، فسبب الإعتاق في كفارة القتل وكفارة اليمين وكفارة الظهار مختلف والحكم واحد بالنسبة لمن عليه عتق –أي أن الحكم هو العتق- فهذه الصورة هي إحدى الصور الوسط التي فيها الخلاف، فالصورتان الأوليان هما:

الأولى: أن يتحد الحكم والسبب فيحمل المطلق على المقيد، والثانية: أن يختلف الحكم والسبب فلا يحمل المطلق على المقيد، وبقيت صورتان وسط هما: الأولى: أن يختلف السبب ويتحد الحكم ومثال ذلك هذه الصورة التي في مسألتنا، والأقرب فيها أنه يحمل فيها المطلق على المقيد، والصورة الثانية: هي إذا اتحد السبب واختلف الحكم، ومثال هذه الصورة مسألة التيمم حيث أطلق الله في قوله: فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ [سورة النساء:43] ولم يحدد هل المسح إلى المرافق أم لا؟ وفي الوضوء قيَّد فقال: فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ [سورة المائدة:6] فالسبب واحد وهو الطهارة والحكم مختلف، فهنا الغسل بالماء وهناك المسح بالتراب، فلا يحمل المطلق على المقيد في هذه الصورة.

فهذه خصال ثلاث في كفارة اليمين أيها فعل الحانث أجزأ عنه بالإجماع، وقد بدأ بالأسهل، فالإطعام أسهل وأيسر من الكسوة.

يعني أن "أو" هنا للتخيير وليست للترتيب فيتخير المرء من هذه الخصال شاء.

فالإطعام أسهل وأيسر من الكسوة، كما أن الكسوة أيسر من العتق، فترقى فيها من الأدنى إلى الأعلى، فإن لم يقدر المكلف على واحدة من هذه الخصال الثلاث كفر بصيام ثلاثة أيام.

نحكم بأنه لم يجد بأن نقول له حينما حنث: هل تجد رقبة أو كسوة أو طعاماً؟ فإن كان لا يستطيع ذلك بمعنى أنه لا يملك قدراً زائداً على قوت يومه وليلته ومن يعول وجهَّناه إلى صيام ثلاثة أيام، وهذا الذي ذهب إليه كثير من أهل العلم وهو اختيار ابن جرير، لكن لو أن إنساناً قال: والله أنا عندي أموال في أسهم أو عندي أراضٍ لكن هذه اللحظة ليس بيدي مال فهل أصوم؟ نقول: هذا كله مال فلا يجزئك الصيام، كما أن حال الناس اليوم اختلفت عن السابق، فمثلاً لو أن شخصاً له راتب لكن حينما حنث ليس عنده سوى قوت يومه وليلته فهل نقول: هذا عادم، وهو بعد خمسة أيام سيأتيه الراتب؟ نقول: هذا غير عاجز فلا يقال: إنه يصوم، لكن إنسان آخر ليس لديه دخل ولا شيء ولا يملك إلا قوت يومه وليلته مع عياله، فماذا يصنع؟ هذا نقول له: يجزئك الصيام، فالمقصود أن من صام وهو يستطيع العتق أو الإطعام أو الكسوة فإنه لا يجزئه الصيام.

فإن لم يقدر المكلف على واحدة من هذه الخصال الثلاث كفر بصيام ثلاثة أيام كما قال تعالى: فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ [سورة المائدة:89] وقد قرأها أبي بن كعب وابن مسعود -ا- وأصحابه: (فصيام ثلاثة أيام متتابعات).

التتابع في صيام كفارة اليمين يستدل عليه بهذه القراءة وهي من القراءات الآحادية، والقراءة الآحادية تفسر بها القراءة المتواترة ويستدل بها في الأحكام ويُحتج بها في اللغة، فهذه القراءة دليل على هذا، ويحتج عليه أيضاً -من الناحية الفقهية- بحمل المطلق على المقيد في الصورة الأولى التي ذكرناها وهي إذا اتحد الحكم والسبب.

والقاعدة في القراءات أن القراءتين إن كان لكل واحدة منهما معنىً يخصها فهما بمنزلة الآيتين، فضع القراءة الأولى مع القراءة الأخرى ونقول: عندنا قراءتان ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ هذا مطلق، و(ثلاثة أيام متتابعات) هذا مقيد فالسبب واحد وهو كفارة اليمين، والحكم واحد وهو صيام ثلاثة أيام، فنجد أنه اتحد الحكم واتحد السبب فيحمل المطلق على المقيد، وبالتالي نقول: يجب التتابع في صيام كفارة اليمين.

وهذه إذا لم يثبت كونها قرآناً متواتراً فلا أقل أن يكون خبراً واحداً أو تفسيراً من الصحابة وهو في حكم المرفوع.

هذا كلام ابن كثير، ومراده أنه يحتج بهذا، وابن جرير يقول: إن الإنسان إذا صام متتابعاً فإنه يجزئه عند الفريقين، وإذا صام مفرَّقاً فإنه لا يجزئه عند طائفة، فطالما أن الأمر كذلك فإنه يصومه متتابعاً بهذا الاعتبار، والله أعلم.

وقوله: ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ أي: هذه كفارة اليمين الشرعية وَاحْفَظُواْ أَيْمَانَكُمْ قال ابن جرير: معناه لا تتركوها بغير تكفير كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ أي: يوضحها ويفسرها لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [سورة المائدة:89].

  1. أخرجه ابن أبي شيبة (19342) (ج 4 / ص 206) وضعفه الألباني في ضعيف الجامع برقم (3954).
  2. الحديث أخرجه البخاري في كتاب النكاح - باب الترغيب في النكاح (4776) (ج 5 / ص 1949) ومسلم في كتاب النكاح - باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه ووجد مؤنة واشتغال من عجز عن المؤن بالصوم (1401) (ج 2 / ص 1020).
  3. سبق تخريجه في الصحيحين إلا أن قول أحدهم: "لا آكل اللحم" في مسلم دون البخاري وليس فيهما قوله: وآكل اللحم.
  4. أخرجه البخاري في كتاب النكاح - باب قول النبي ﷺ: من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر أحصن للفرج وهل يتزوج من لا أرب له في النكاح (4778) (ج 5 / ص 1950) ومسلم في كتاب النكاح - باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه ووجد مؤنة واشتغال من عجز عن المؤن بالصوم (1400) (ج 2 / ص 1018).
  5. أخرجه البخاري في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة - باب ما ذكر النبي ﷺ وحض على اتفاق أهل العلم وما اجتمع عليه الحرمان مكة والمدينة وما كان بها من مشاهد النبي ﷺ والمهاجرين والأنصار ومصلى النبي ﷺ والمنبر والقبر (6893) (ج 6 / ص 2670).
  6. أخرجه مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة - باب تحريم الكلام في الصلاة ونسخ ما كان من إباحة (537) (ج 1 / ص 381).

مواد ذات صلة