الجمعة 20 / جمادى الأولى / 1446 - 22 / نوفمبر 2024
[27] من قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ} الآية 90 إلى قوله تعالى: {وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} الآية 93
تاريخ النشر: ٢٢ / صفر / ١٤٢٧
التحميل: 3765
مرات الإستماع: 2247

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المفسر -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ۝ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ ۝ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَاحْذَرُواْ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاَغُ الْمُبِينُ ۝ لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ إِذَا مَا اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [سورة المائدة:90-93].

يقول تعالى ناهياً عباده المؤمنين عن تعاطي الخمر والميسر وهو القمار، وقد ورد عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أنه قال: "الشطرنج من الميسر" ورواه ابن أبي حاتم.

روى ابن أبي حاتم عن عطاء ومجاهد وطاوس -قال سفيان: أو اثنين منهم- قالوا: كل شيء من القمار فهو من الميسر حتى لعب الصبيان بالجوز.

وعن ابن عمر -ا- قال: الميسر هو القمار، وقال الضحاك عن ابن عباس -ا- قال: الميسر هو القمار، كانوا يتقامرون في الجاهلية إلى مجيء الإسلام فنهاهم الله عن هذه الأخلاق القبيحة.

وأما الأنصاب فقال ابن عباس -ا- ومجاهد وعطاء وسعيد بن جبير والحسن وغير واحد: هي حجارة كانوا يذبحون قرابينهم عندها، وأما الأزلام فقالوا أيضاً: هي قداح كانوا يستقسمون بها. رواه ابن أبي حاتم.

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فقد سبق الكلام على هذه المعاني التي في قوله تعالى: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ.. [سورة المائدة:90] وذكرنا أن كل الأنواع التي ذكرها السلف كالنرد والشطرنج وسائر الألعاب التي يُقامرُ بها داخلة فيه.

وأما الأنصاب فذكرنا كلام الحافظ ابن القيم -رحمه الله- ومن وافقه أن المراد بها كل ما نُصِب ليُعبد من دون الله من الأحجار والأشجار وما إلى ذلك مما يقصده العابدون ليذبحوا عنده ويتقربوا إليه، وبعضهم خصَّ ذلك بأحجار كان يُذبح عندها، وقيل غير ذلك، وعلى كل حال فالأنصاب هي كل ما نصب ليعبد من دون الله .

والأزلام قال: "هي قداح كانوا يستقسمون بها" ويدخل في هذا كل ما يفعلونه طلباً لمعرفة الغيب والكشف عن المستقبل حيث كان الواحد إذا أراد سفراً أدخل يده في كيس أو خريطة ويستخرج قدحاً، وهذه الأقداح قد كتب على بعضها "لا تفعل" وكتب على الآخر "افعل" والثالث لا يكتب عليه شيء. 

وعلى كل حال العلماء تكلموا بالتفصيل في أخبار العرب، وفي قصص العرب وما كانوا يتعاطونه في جاهليتهم من هذه القضايا، وقد مضى شيء يسير من ذلك، ومن أراد معرفة شيء من هذا فليتطلبه في مظانه حيث إنه ألفت كتب في الميسر وفي ألعاب الصبيان عند العرب، وكتبت كتابات تتعلق بالأزلام وطريقة العرب فيها واسم هذه القداح، وبعضهم زاد فيها على الثلاثة وذكر أسماء كثيرة، ولهم في ذلك طرق معروفة، وعلى كل حال فكل ما كانوا يتعاطونه مما يطلبون فيه معرفة الغيوب فهو داخل في هذا سواء عن طريق قدح يستخرجه، أو بطريقة أخرى يريد أن يعرف بها هذا.

وقوله تعالى: رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ [سورة المائدة:90] قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس -ا: أي سُخط من عمل الشيطان.

عبارات السلف في الرجس سواء قيل: السخط أو الإثم أو كما قال ابن جرير هو النتن، كل هذا صحيح؛ لأن الرجس والركس يقال بإزاء معنيين اثنين أو هو يدور على معنى النجس ويدخل فيه النجس حساً والنجس معنىً، فالنجاسة المعنوية يقال لها: رجس قال تعالى: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ [سورة الحـج:30] ونجاسة الأوثان قطعاً ليست نجاسة حسية، فكل دنس يقال له: رجس سواء كان ذلك من الدنس الحسي أو كان ذلك من الدنس المعنوي، والدنس الحسي مثل الأقذار والنجاسات، فإنه يقال لها: رجس وركس، قال النبي ﷺ في روثة الحمار: هذه ركس[1] والركس هو النجس، وكذلك يقال أيضاًَ للأمور النجسة نجاسة معنوية كالشرك، وسائر الآثام يقال لها رجس، ولهذا فسره بعضهم بالإثم، وفسره بعضهم بالنتن -كما قال ابن جرير- وقال هنا: أي سخط من عذاب الله ، والسخط إنما يكون بسبب مقارفة ما حرم الله -تبارك وتعالى- وهذا هو الإثم.

وقال سعيد بن جبير: إثم، وقال زيد بن أسلم: أي: شرٌّ من عمل الشيطان.

قوله: "من عمل الشيطان" يعني من تسويله وتزيينه للناس، فصار بهذا الاعتبار من عمل الشيطان، والله يقول: إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ [سورة المجادلة:10] يعني من تزيينه وتسويله، فصارت من عمله بهذا الاعتبار، وهكذا كل ما يزينه الشيطان لابن آدم فهو من عمله، فهذا الخمر والميسر والأنصاب والأزلام ليس مما دعا إليه الرسل -عليهم الصلاة والسلام- أو أنه مما يعد من مكارم الأخلاق ومن الأعمال الطيبة الحسنة وإنما هو من الأمور السيئة التي تجلب العداوة والبغضاء بين الناس، فمثل هذا يقال: إنه من عمل الشيطان، يعني من تزيينه وتسويله لابن آدم.

فَاجْتَنِبُوهُ [سورة المائدة:90] الضمير عائد إلى الرجس أي: اتركوه.

يقول: "الضمير عائد إلى الرجس" والرجس يعود إلى هذه الأمور المذكورة جميعاً أي الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس، والرجس هو النجس.

والعلماء الذين يقولون: إن الخمر نجاستها نجاسة حسية وليست معنوية مما يحتجون به بل أشهر الأدلة التي احتجوا بها هو هذا الدليل رِجْسٌ وعلى كل حال الله هنا قرنها بالميسر والأنصاب والأزلام وهذه الأشياء الثلاثة قطعاً ليست نجاستها نجاسة حسية إطلاقاً، وإنما هي نجاسة معنوية، ولما حرمت الخمر ماذا فعل بها الصحابة -؟ أراقوها في سكك المدينة فلو كانت نجاسة الخمر نجاسة حسية لما أريقت بسكك المدينة؛ لأن هذا تقذير لها وتلويث لها بالنجاسات التي يلامسها الناس ويمرون بها ويطئون عليها، إلى غير ذلك من الأدلة التي تدل على أن الخمر طاهرة العين ولكنها نجسة نجاسة معنوية. 

ولكن يمكن لمانع الانتفاع بالخمر أو بما أسكر بوجه من الوجوه أن يحتج بعموم المقتضى -يعني المحذوف المقدر في قوله: فَاجْتَنِبُوهُ [سورة المائدة:90]- فإن الله ما قال: فاجتنبوا شربه مثلاً وإنما قال: فَاجْتَنِبُوهُ [سورة المائدة:90] والأصل في المقتضى أنه يحمل على أعم معانيه، وهذا الذي عليه الجمهور، فيقال: فَاجْتَنِبُوهُ [سورة المائدة:90] أي اجتنبوا شربه واجتنبوا سائر أنواع الانتفاع من التطيب أو غير ذلك، وليس لأنه نجس نجاسة حسية، وهذا وجه إلا أن هذا فيه إشكال. 

والذي قد يكون أقرب -والله تعالى أعلم- أن يقال: إنما وضع من أجل أن يُتعاطى على وجه الإسكار فيحرم ويجب إراقته ولا يجوز إبقاؤه بحال من الأحوال، ولا إهداؤه ولا بيعه ولا غير ذلك، وأما ما وضع على وجه آخر فإنه لا يقال: إنه يحرم تعاطيه على ذلك الوجه الذي وضع له ولو كان إن استعمله أحد أسكره فإنه لم يوضع لهذا أصلاً كما يقال في أنواع من المصنوعات والمنتجات والأشياء كالغراء ونحوه فهي لم توضع من أجل أن تكون مسكرة لكن لو تعاطاها الإنسان بأكل أو شرب أو شم أو غير ذلك فقد يسكر، فلا يقال: إنها تحرم، والله تعالى أعلم، وإنما ما وضع لهذا المعنى -يعني ليؤكل أو ليشرب أو يشم أو يكون عن طريق إبر أو نحو ذلك للإسكار- فهذا يحرم اقتناؤه ويحرم تعاطيه ويحرم إهداؤه وبيعه وصناعته، وإلا فهل يقال لمن يصنع الصمغ مثلاً -حيث إن بعض أنواعه يسكر: إنه ملعون كما لعنت الخمر وحاملها والمحمولة إليه؟ وهل يقال لهؤلاء الذين يصنعون البنزين: إنهم ملعونون وكذا حامله والمحمول ومشتريه وبائعه؟ يعني أن الله لعن في الخمر عشرة والبنزين يسكر –أيضاً-فهل يقال فيه هذا؟ وإذا أصاب البنزين ثوبك فمعنى ذلك أنك تحتاج إلى غسل الأثر، فهل يقال هذا؟!

المقصود أن نجاسة الخمر نجاسة معنوية وليست حسية، وإنما يحرم بيع وتصنيع ما عمل لهذا الغرض وما عداه فلا يحرم، لكن لو أن أحداً تعاطى تلك الأشياء على وجه الإسكار فهذا يحرم قطعاً بلا مرية، والله تعالى أعلم.

لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [سورة المائدة:90] وهذا ترغيب.

"لعلَّ" في جميع المواضع في القرآن يمكن أن تفسر بأنها للتعليل إلا في موضع واحد وهو قوله: وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ [سورة الشعراء:129] أي: كأنكم تخلدون، وبهذا ينحل الإشكال؛ لأن أصل "لعل" للترجي والله لا يترجى، ولو فسرت للترجي يمكن أن يُخرّج هذا على وجه معروف وهو أن الخطاب قد يرد مراعىً فيه حال المخاطب، كما في قوله تعالى: فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [سورة طـه:44] أي على رجائكما، وهذا له أنواع كثيرة، والله أعلم.

ثم قال تعالى: إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ [سورة المائدة:91] وهذا تهديد وترهيب.

قوله تعالى: إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ [سورة المائدة:91] أي إنما حرمت هذه الأشياء من أجل هذا، فيدخل فيه سائر أنواع الألعاب التي تصد عن ذكر الله وتشغل عنه ولو لم يرد فيها النص بخصوصه، ولذلك فإن السلف نصوا على تحريم الشطرنج مع أن الحديث ورد في النرد سواء كان على سبيل اللعب من غير مال يدفعه الإنسان أو كان بمال، فالشطرنج يدخل فيه أيضاً غيره من الألعاب التي تلهي عن ذكر الله وتسبب العداوة والبغضاء والمشاحنات بين الناس فلا فرق بينها وبين هذه الأمور.

ذكر الأحاديث الواردة في بيان تحريم الخمر:

روى الإمام أحمد عن أبي هريرة قال: حرمت الخمر ثلاث مرات، قدم رسول الله ﷺ المدينة وهم يشربون الخمر ويأكلون الميسر، فسألوا رسول الله ﷺ عنهما فأنزل الله: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ إلى آخر الآية [سورة البقرة:219] فقال الناس: ما حرما علينا إنما قال: فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وكانوا يشربون الخمر حتى كان يوم من الأيام صلى رجل من المهاجرين أمَّ أصحابه في المغرب فخلط في قراءته فأنزل الله أغلظ منها: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ [سورة النساء:43] فكان الناس يشربون حتى يأتي أحدهم الصلاة وهو مفيق، ثم أنزلت آية أغلظ منها يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [سورة المائدة:90] قالوا: انتهينا ربنا، وقال الناس: يا رسول الله..

هذا الترتيب في ذكر المراحل الثلاث هو المشهور وهو الذي تدل عليه الروايات خلافاً لمن قال: إن أول ما نزل في الأشربة –يعني الخمر- هو قوله تعالى: وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا [سورة النحل:67] يقولون: امتن عليهم بها لشدة حبهم لها وكانت من مفاخرهم، والواقع أن قول الله : سَكَرًا فسره كثير من السلف بأن المراد ليس المسكر فالله لا يمتن عليهم بالمسكر، وإنما المراد به ما يتخذ من العصير من هذه الثمرات، ولا يلزم من ذلك أن يكون على وجه الإسكار، وعلى هذا يكون الذي نزل في الخمر أولاً هو قوله تعالى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ [سورة البقرة:219] ثم لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى [سورة النساء:43] ثم بعد ذلك قوله: فَاجْتَنِبُوهُ [سورة المائدة:90] يعني على هذه المراحل الثلاث.

وقال الناس: يا رسول الله ناس قتلوا في سبيل الله وناس ماتوا على فرشهم كانوا يشربون الخمر ويأكلون الميسر، وقد جعله الله رجساً من عمل الشيطان، فأنزل الله تعالى: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ [سورة المائدة:93] إلى آخر الآية، فقال النبي ﷺ: لو حرم عليهم لتركوه كما تركتم انفرد به أحمد.

على كل حال هذا الجزء أو هذه الرواية في سبب النزول تدل على أن قوله: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ [سورة المائدة:93] فيمن لم يبلغه الحكم، أي أنه شربها ولم يبلغه الحكم أو أن ذلك كان قبل التحريم كما نزلت هذه الآية في هؤلاء الذين سألوا عمن قتل قبل تحريمها، وبهذا نعرف أنه لا يجوز لأحد بحال من الأحوال أن يحتج بهذه الآية لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ إِذَا مَا اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ [سورة المائدة:93] على أنه يمكن أن يكون متقياً وهو يشرب الخمر، ومعلوم ما وقع من قدامة بن مظعون حينما كان في البحرين فشرب الخمر مع بعض أصحابه ثم شهد عليه أبو هريرة وجماعة، وجيء به إلى عمر، أو دعاه عمر وهو من أهل بدر فاحتج بهذه الآية: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ [سورة المائدة:93] فعمر بيّن وجه هذه الآية، وعلى كل حال أولئك تأولوا هذا التأويل، فبيّن لهم فرجعوا وتركوها، فليس لأحد أن يشربها محتجاً بمثل هذا، فإنه لا يكون متقياً إذا كان يفعل ما حرم الله عليه من هذه الآثام والكبائر.

وروى الإمام أحمد عن عمر بن الخطاب أنه قال: لما نزل تحريم الخمر، قال: اللهم بيّن لنا في الخمر بياناً شافياً، فنزلت الآية التي في البقرة: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ [سورة البقرة:219] فدُعي عمر فقرئت عليه، فقال: اللهم بيّن لنا في الخمر بياناً شافياً، فنزلت الآية التي في سورة النساء: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى [سورة النساء:43] فكان منادي رسول الله ﷺ إذا قال: حي على الصلاة نادى: لا يقربن الصلاة سكران، فدُعي عمر فقرئت عليه، فقال: اللهم بيّن لنا في الخمر بياناً شافياً، فنزلت الآية التي في المائدة، فدُعي عمر فقرئت عليه، فلما بلغ قول الله تعالى: فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ [سورة المائدة:91] قال عمر -: انتهينا انتهينا، وهكذا رواه أبو داود والترمذي والنسائي، وصحح هذا الحديث علي بن المديني والترمذي[2].

وقد ثبت في الصحيحين عن عمر بن الخطاب أنه قال في خطبته على منبر رسول الله ﷺ: أيها الناس، إنه نزل تحريم الخمر، وهي من خمسة: العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير، والخمر ما خامر العقل.

يعني في زمانهم كانت الخمر تصنع من هذه الأشياء، لكن هذه الجملة التي ختم بها "والخمر ما خامر العقل" تدل على أن كل ما يصنع مما يكون مسكراً فإنه داخل فيها، فألوان الثمرات في الدنيا صار الناس يصنعون منها الخمر كما يصنعونه من أشياء أخرى ليست من جملة المطعومات، فهذا كله داخل فيها ولا تختص بنوع دون نوع ولا بثمرة دون ثمرة، فالله  إنما علق التحريم بهذا إِنَّمَا الْخَمْرُ [سورة المائدة:90] فكل ما خامر العقل فهو خمر وما خص به بعض هذه الأنواع، خلافاً لمن خصه ببعضها فأباح النبيذ المسكر، وعلى كل حال ذلك قول قد انقرض قائلوه فلم يعرف من يقول بهذا اليوم، والله تعالى أعلم.

وروى البخاري عن ابن عمر -ا- قال: نزل تحريم الخمر وإن بالمدينة يومئذ لخمسة أشربه ما فيها شراب العنب.

حديث آخر: روى الإمام أحمد عن أنس قال: "كنت أسقي أبا عبيدة بن الجراح وأبيَّ بن كعب وسهيل بن بيضاء ونفراً من أصحابه عند أبي طلحة - وأرضاهم- حتى كاد الشراب يأخذ منهم، فأتى آتٍ من المسلمين فقال: أما شعرتم أن الخمر قد حُرِّمت؟ فقالوا: حتى ننظر ونسأل، فقالوا: يا أنس اسكب ما بقي في إنائك، فوالله ما عادوا فيها، وما هي إلا التمر والبسر وهي خمرهم يومئذ" [أخرجاه في الصحيحين].

وفي رواية عن أنس قال: كنت ساقي القوم يوم حُرِّمت الخمر في بيت أبي طلحة وما شرابهم إلا الفضيخ البسر والتمر، فإذا منادٍ ينادي، قال: اخرج فانظر، فإذا مناد ينادي: ألا إن الخمر قد حرمت فجرت في سكك المدينة، قال: فقال لي أبو طلحة: اخرج فأهرقها فهرقتها فقالوا أو قال بعضهم: قتل فلان وفلان وهي في بطونهم قال: فأنزل الله: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ الآية [سورة المائدة:93].

كان من عادتهم وهي عادة العرب حتى في الجاهلية أنهم كانوا يشربون الخمر إذا أرادوا الحرب، وقد ذُكرت بعض منافعها عند الكلام على قوله -تبارك وتعالى: قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا [سورة البقرة:219] ومما ذكر من جملة منافعها أن الجبان يتشجع في الحرب وذُكر هذا كثيراً في أشعارهم من أنه إذا شربها فإنه لا يبالي بشيء مما يلاقيه أمامه من العدو، وذكروا من جملة فوائدها -قبحها الله- أن البخيل يجود وربما أتلف ماله وهو لا يُخرج شيئاً في حال الصحو، لكن هذه منافع ضئيلة في مقابل مفاسدها الكثيرة.

وروى ابن جرير عن أنس بن مالك قال: بينما أنا أدير الكأس على أبي طلحة وأبي عبيدة بن الجراح وأبي دجانة ومعاذ بن جبل وسهيل بن بيضاء - وأرضاهم- حتى مالت رءوسهم من خليط بسر وتمر، فسمعت منادياً ينادي: ألا إن الخمر قد حرِّمت، قال: فما دخل علينا داخل ولا خرج منا خارج حتى أهرقنا الشراب وكسرنا القلال وتوضأ بعضنا واغتسل بعضنا وأصبنا من طيب أم سُليم -ا- ثم خرجنا إلى المسجد فإذا رسول الله ﷺ يقرأ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ [سورة المائدة:90] إلى قوله تعالى: فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ [سورة المائدة:91] فقال رجل: يا رسول الله فما ترى فيمن مات وهو يشربها؟ فأنزل الله تعالى: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ الآية [سورة المائدة:93] فقال رجل لقتادة: أنت سمعته من أنس بن مالك؟ قال: نعم، وقال رجل لأنس بن مالك: أنت سمعته من رسول الله ﷺ قال: نعم، أو حدثني من لم يكذب وما كنا نكذب ولا ندري ما الكذب.

حديث آخر: روى الإمام أحمد عن ابن عمر -ا- قال: قال رسول الله ﷺ: لُعِنَت الخمر على عشرة أوجه لعنت الخمر بعينها وشاربها وساقيها وبائعها ومبتاعها وعاصرها ومعتصرها وحمالها والمحمولة إليه وآكل ثمنها ورواه أبو داود وابن ماجه[3].

وروى أحمد عن ابن عمر -ا- قال: خرج رسول الله ﷺ إلى المربد فخرجت معه فكنت معه فكنت عن يمينه.

قوله: "إلى المربد" المربد يطلق على المكان الذي تُجمع فيه الغنم أو الإبل، ويقال أيضاً للمكان الذي يجمع فيه التمر.

فكنت عن يمينه، وأقبل أبو بكر فتأخرت عنه، فكان عن يمينه وكنت عن يساره، ثم أقبل عمر فتنحيت له فكان عن يساره، فأتى رسول الله ﷺ المربد، فإذا بزقاق على المربد فيها خمر، قال ابن عمر: فدعاني رسول الله ﷺ بالمدية.

قوله: "فإذا بزقاق على المربد" يعني ظرفاً أي وعاء من جلد أراد النبي ﷺ أن يشقه.

قال ابن عمر: وما عرفت المدية إلا يومئذ، فأمر بالزقاق فشقت، ثم قال: لعنت الخمر وشاربها وساقيها وبائعها ومبتاعها وحمالها والمحمولة إليه وعاصرها ومعتصرها وآكل ثمنها[4].

حديث آخر: روى الحافظ أبو بكر البيهقي عن سعد قال: أنزلت في الخمر أربع آيات، فذكر الحديث، قال: وصنع رجل من الأنصار طعاماً فدعانا، فشربنا الخمر قبل أن تحرَّم حتى انتشينا فتفاخرنا فقالت الأنصار: نحن أفضل، وقالت قريش: نحن أفضل، فأخذ رجل من الأنصار لَحْى جزور فضرب به أنف سعد ففزره وكان أنف سعد مفزوراً فنزلت إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ [سورة المائدة:90] إلى قوله تعالى: فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ [سورة المائدة:91] أخرجه مسلم[5].

حديث آخر: روى ابن أبي حاتم عن عبد الله بن عمرو -ا- قال: إن هذه الآية التي في القرآن: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [سورة المائدة:90] قال: هي في التوراة "إن الله أنزل الحق ليذهب به الباطل ويبطل به اللعب والمزامير والزفن والطنابير والشعر.. ".

الأحاديث السابقة كلها أحاديث صحيحة، وهي إما صحيحة بذاتها وإما بطرقها أو شواهدها، وأقل ذلك ما كان من قبيل الحسن لغيره، والمختصر ينتقي، لكن هذه الرواية التي جاء بها هنا هي من رواية عبد الله بن عمرو بن العاص -ا- وقد كان يقرأ في كتب أهل الكتاب، ومعلوم أنه في وقعة اليرموك حصل زاملتين فكان يقرأ منهما ويحدث بذلك.

يقول -أي في التوراة: "أنزل الله الحق ليذهب به الباطل ويبطل به اللعب" اللعب يعني اللعب الباطل، وعلى كل حال النبي ﷺ قال: كل شيء من لهو الدنيا باطل[6] ثم استثنى الثلاث، وكلمة "باطل" في الحديث لا تعني التحريم، فاللعب منه ما هو محرم، ومنه ما يذم الإكثار منه كما قال الشاطبي -رحمه الله؛ لأن الإكثار من المباحات والتوسع فيها كالإكثار من اللعب أو التنزه يُذهب المروءة وترد شهادة من فعل ذلك، وتسقط به عدالته -يعني مَن أكثر من اللعب حتى عُرف به- وهناك لعب محرم أيضاً.

يقول: "يبطل به اللعب والمزامير والزَّفْن" المزامير يعني المعازف، والزفن يعني الرقص، والكَبَارات يعني الطبول سواء كان مغطىً من الوجهين أو من وجه واحد، ولهذا إذا قال المؤذن الله أكبار –بزيادة الألف- فإن المعنى يتحول فبدلاً من أن يكون المعنى "الله أكبر" صار شيئاً آخر، فالكَبَر هو الطبل، فالكَبَارات تقال للطبول في كلام العرب والبَرابِط آلة موسيقية توضع على الصدر مثل العود، والزَّمَّارات معروفة فهي قصبة مثقوبة تصدر صوتاً إذا نفح فيها، والمقصود أن هذه الأنواع من الملاهي والمعازف كلها محرمة فهي تصد عن ذكر الله وتشغل عنه، ولهذا قال الله : وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ [سورة لقمان:6] وكلام ابن مسعود في هذا معروف حيث قال: "والذي لا إله غيره إنه الغناء" وأبو بكر حينما دخل بيت رسول الله ﷺ وجد الجاريتين تضربان بالدف –أي بنتين صغيرتين- ومع ذلك قال: أبمزمور الشيطان في بيت رسول الله ﷺ؟ فما أنكر عليه النبي ﷺ الحكم أنه مزمور الشيطان وإنما بيّن له علة استُثني فيها هذا، فقال: دعهما يا أبا بكر فإنها أيام عيد[7] فالمقصود أن النبي ﷺ أقره على أن هذا مزمور الشيطان، فمن أين عُرف هذا؟

في قوله تعالى: وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا [سورة الجمعة:11] ذُكر في سبب النزول أن عيراً أتت لدحية بن خليفة الكلبي قبل إسلامه فضرب بين يديها بالطبل إيذاناً بقدوم العير كما كانت عادة الناس إذا قدمت العير، وهذا الرجل ما كان من المسلمين، وقد يكون هذا حصل قبل تحريم المعازف، قال تعالى: انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا [سورة الجمعة:11] أي إلى عير التجارة، فالمقصود أن الله سمى هذا لهواً، فهذا وغيره يدل على أن هذه المعازف بجميع أنواعها من الباطل وأنها لا تجوز إلا في حالتين فقط: الأولى: في العيد لقوله –عليه الصلاة والسلام: دعهما فإنها أيام عيد، والثانية: في الزواج كما في حديث عائشة: "هلا بعثتم معهم بلهو فإن الأنصار يعجبهم اللهو، أعلنوا هذا النكاح واضربوا عليه بالدف" والمراد بإباحته في النكاح أنه يباح في اليوم الذي يعلن فيه النكاح وليس دائماً، وكذلك قولنا في العيد يعني في يوم عيد الفطر فقط -يوم واحد وليس ثلاثة أيام- أما في عيد الأضحى -العيد الأكبر- فهناك ثلاثة أيام بعده كلها أيام عيد بنص حديث رسول الله ﷺ وأما ما عدا أيام العيد والنكاح فلا يجوز، وهذه قضية لا يكاد ينازع فيها أحد من أهل العلم لكن في هذا الوقت -وقت الفتن التي تموج بالناس- تجد من يكتب أن اللحية لا يجب إعفاؤها ويجوز حلقها، وربما قال بعضهم يستحب حلقها، والمعازف مباحة ومع أن الحديث في الصحيح: ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف[8] فتجده يضعفه، لكن مثل هؤلاء لا تُشترَى كُتبهم ولا يلتفت إلى كلامهم ولا يُشتغل بهم، وينبغي لطالب العلم أن ينأى بنفسه عن الشذوذات؛ لأنه حتى لو كان الإنسان يعتقد هذا فليس من المصلحة إخراج هذا في زمن اضطرب فيه الناس غاية الاضطراب وصاح بهم الشيطان حتى زلزلهم عن كثير من ثوابتهم وعقائدهم وقال لهم: كل ما تعلمتموه عبر هذه العقود الطويلة لا تسمعون فيه غير إنه حرام!!

إباحة الضرب بالدف خاص بالنساء:

إباحة الضرب بالدف في العيد وعند إعلان النكاح إنما هو للنساء فقط، لكن إذا وصل صوت الدف إلى الرجال بسبب قربهم فإن الرجال لا يطالبون بالانتقال إلى مكان حيث لا يسمعون فيه، وكذلك إذا جاءت الجارية في البيت لتضرب بالدف وأهل البيت من الرجال موجودون فلا يطلب منهم الخروج، وكذا لو ضربت فيه المرأة من محارمهم فلا إشكال في هذا، لكن المقصود أن ذلك لا يكون للرجال، ولذلك عندما يأتون في الأعراس بشريط فيه رجال يضربون بالدف وينشدون فإنه يقال: ليس لهم هذا أصلاً وإذا كان هذا لا يجوز لهم فليس لكم سماع هذا الباطل؛ لأن فعلهم هذا منكر، فليس للنساء أن يأتين بصوت رجل ينشد ويضرب بالدف في العيد أو في الزواج ثم يقال: إنما الدف للنساء، فهذا هو الفرق؛ لأنه إذا كان فعل الرجل هذا محرم -وهو الإنشاد مع ضربه بالدف- فليس لأحد من الرجال ولا النساء أن يسمع هذا الباطل وإنما يرخص فيه للنساء بمعنى أن يضربن بالدف في هذه الحالات فقط، والله أعلم.

والطنابير والشعر، والخمر مرة لمن طعمها، أقسم الله بيمينه وعزته من شربها بعدما حرمتها لأعطشنه يوم القيامة، ومن تركها بعد ما حرمتها لأسقينه في حظيرة القدس، وهذا إسناد صحيح.

هو إسناد صحيح إلى عبد الله بن عمرو، لكنه متلقَّى من كتبهم الإسرائيلية –من التوراة- وهذه دخلها التحريف إلا أن هذا في الجملة يوافق ما في القرآن.

حديث آخر: قال الشافعي -رحمه الله: أنبأنا مالك عن نافع عن ابن عمر -ا- أن رسول الله ﷺ قال: من شرب الخمر في الدنيا ثم لم يتب منها حرمها في الآخرة أخرجه البخاري ومسلم[9].

وروى مسلم عن ابن عمر -ا- قال: قال رسول الله ﷺ: كل مسكر خمر وكل مسكر حرام، ومن شرب الخمر فمات وهو يدمنها ولم يتب منها لم يشربها في الآخرة [10].

هذه الأحاديث وردت في خصوص شارب الخمر، ومن أهل العلم من ذهب إلى أن من تعاطى شيئاً من الشهوات المحرمة فإنه يُحرم نظيره في الآخرة، وهذا مشى عليه ابن القيم -رحمه الله- ولم يقتصر فيه على ما ورد فيه النص، إلا أن هذا لا يخلو من إشكال؛ لأن مثل هذه الأمور إنما تتلقى من الوحي ولا يدخلها القياس، لكن لا شك أن من تعاطى هذه الشهوات فإنها تنقص مرتبته في الآخرة، بل حتى التوسع في المباحات شأنها كذلك على قول بعض السلف كعمر حيث كان يتأول في ذلك قول الله : أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا [سورة الأحقاف:20] مع أن المشهور أن تعاطي المباحات في الدنيا لا ينقصه عند الله -تبارك وتعالى- إذا أدى حق الله عليه فلم يكن مضيعاًَ، وهما قولان للسلف معروفان، ومن أراد أن يستزيد في تعاطي المباحات هل يؤثر أم لا فليراجع كتاب الموافقات في الكلام على المباح حيث ذكر مذهب عمر وما نقل عنه في هذا، ومن وافقه من السلف.

وعن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام قال: سمعت عثمان بن عفان يقول: "اجتنبوا الخمر فإنها أم الخبائث، إنه كان رجلٌ فيمن خلا قبلكم يتعبد ويعتزل الناس، فعلقته امرأة غوية فأرسلت إليه جاريتها فقالت: إنا ندعوك لشهادة، فدخل معها فطفقت كلما دخل باباً أغلقته دونه حتى أفضى إلى امرأة وضيئة عندها غلام وباطية خمر، فقالت: إني والله ما دعوتك لشهادة ولكن دعوتك لتقع عليَّ، أو تقتل هذا الغلام، أو تشرب هذا الخمر، فسقته كأساً فقال: زيدوني فلم يَرِم حتى وقع عليها وقتل النفس، فاجتنبوا الخمر فإنها لا تجتمع هي والإيمان أبداً إلا أوشك أحدهما أن يخرج صاحبه" [رواه البيهقي وهذا إسناد صحيح] وقد رواه أبو بكر بن أبي الدنيا في كتابه ذم المسكر مرفوعاً، والموقوف أصحُّ والله أعلم.

وروى أحمد بن حنبل عن ابن عباس -ا- قال: لما حرمت الخمر قال ناس: يا رسول الله أصحابنا الذين ماتوا وهم يشربونها؟ فأنزل الله: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ إلى آخر الآية [سورة المائدة:93] ولما حوِّلت القبلة قال ناس: يا رسول الله، إخواننا الذين ماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس؟ فأنزل الله: وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ [سورة البقرة:143][11].

وعن عبد الله بن مسعود أن النبي ﷺ قال لما نزلت لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ إِذَا مَا اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ [سورة المائدة:93] فقال النبي ﷺ: قيل لي: أنت منهم وهكذا رواه مسلم والترمذي والنسائي من طريقه[12].

في قوله تعالى: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ إِذَا مَا اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ [سورة المائدة:93] ثم بعد ذلك كرره ثُمَّ اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ ثم كرر أيضاً فقال: ثُمَّ اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ [سورة المائدة:93] ذكر هذا ثلاث مرات، فمن أهل العلم من يقول: هذا للتوكيد، ومنهم من يجعل ذلك بحسب الأزمنة الثلاثة، بمعنى أن قوله: اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ في الماضي، وقوله: ثُمَّ اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ في الحاضر، وقوله: ثُمَّ اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ في المستقبل.

ومعلوم أن التحليل والتحريم -بل التكليف عموماً- من شروطه بلوغ الخطاب والعقل، وهؤلاء الذين شربوا الخمر قبل نزول الحكم لا يتعلق بهم التحريم، ولهذا يقول الله : عَفَا اللّهُ عَمَّا سَلَف [سورة المائدة:95] كما سيأتي في الكلام على الصيد، ويقول: وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاء إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ [سورة النساء:22] وما أشبه ذلك، فهذه من شروط التكليف.

ولما حرم الله الربا قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ۝ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ [سورة البقرة:278-279].

وبعض أهل العلم يقول في قوله تعالى: إِذَا مَا اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ [سورة المائدة:93] أي: اتقوا المحرمات وعملوا الصالحات، وقوله: ثُمَّ اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ يعني بعد التحريم اتقوا ما حرم عليهم، وقوله: ثُمَّ اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ يعني ما حرم عليهم بعد ذلك التحريم؛ لأن الشريعة نزلت شيئاً فشيئاً حتى اكتملت، كما قال الله : الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [سورة المائدة:3] وكما جاء عن ابن عباس -ا- أن الله فرض عليهم الإيمان، ثم بعد ذلك زادهم الصلاة، فلما أذعنت قلوبهم زادهم الزكاة، ثم لما أذعنت قلوبهم زادهم، وهكذا حتى اكتمل الإيمان.

وبعضهم يقول: هذه الجمل الثلاث هي باعتبار المراتب الثلاث وهي المبدأ والوسط والمنتهى، وبعضهم يقول: هي بالنظر إلى ما يتقيه الإنسان ويجتنبه، فالمحرمات يتركها الإنسان من أجل اتقاء العذاب، والشبهات توقياً للحرام، ويتقي التوسع في المباحات حفظاً للمروءة؛ لأن التوسع فيها قد يذهب مروءته، وهذا لا يخلو من إشكال في تفسير الآية.

وبعضهم يقول: قوله: اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ يعني اتقوا الإشراك وآمنوا بالله ورسوله، وقوله: ثُمَّ اتَّقَواْ [سورة المائدة:93] يعني اتقوا الكبائر، وقوله: ثُمَّ اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ [سورة المائدة:93] يعني اتقوا الصغائر، وهذا أيضاً لا يخلو من إشكال.

وعلى كل حال يمكن أن يقال: إن الأول لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ إِذَا مَا اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ [سورة المائدة:93] بتلقي أمر الله بمعنى أنهم كانوا محققين للإيمان منقادين لله -تبارك وتعالى- بقلوبهم وجوارحهم ويقبلون عن الله ويصدقون أحكامه ويعملون بطاعته.

وقوله: ثُمَّ اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ [سورة المائدة:93] أي ثبتوا على إيمانهم وعلى تقواهم.

وقوله: ثُمَّ اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ أي تقربوا إليه بألوان القربات التي ترفعهم كألوان النوافل وتوقي المشتبهات وما أشبه ذلك مما يصل به الإنسان إلى درجة الإحسان.

هذا هو الأقرب في تفسير الآية وهو الذي قال به كبير المفسرين ابن جرير الطبري -رحمه الله- والعلم عند الله .

وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.

  1. أخرجه النسائي في كتاب الطهارة - باب الرخصة في الاستطابة بحجرين (42) (ج 1 / ص 39) وأحمد (3966) (ج 1 / ص 418) وصححه الألباني في صحيح النسائي برقم (42).
  2. أخرجه أبو داود في كتاب الأشربة – باب في تحريم الخمر (3672) (ج 3 / ص 364) والنسائي في كتاب الأشربة - باب تحريم الخمر قال الله تبارك وتعالى: إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ [سورة المائدة:91] (5540) (ج 8 / ص 286) وأحمد (378) (ج 1 / ص 53) وصححه الألباني في صحيح النسائي برقم (5540).
  3. أخرجه أبو داود في كتاب الأشربة - باب العنب يعصر للخمر (3676) (ج 3 / ص 366) وابن ماجه في كتاب الأشرية - باب لعنت الخمر على عشرة أوجه (3380) (ج 2 / ص 1121) وأحمد (4787) (ج 2 / ص 25) وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه برقم (3380).
  4. أخرجه أحمد (5390) (ج 2 / ص 71) وقال شعيب الأرنؤوط: حسن والمرفوع منه صحيح بطرقه وشواهده.
  5. أخرجه أحمد (1614) (ج 1 / ص 185) والبيهقي (17788) (ج 8 / ص 285) وقال شعيب الأرنؤوط: إسناده حسن، وبعض هذا الحديث في صحيح مسلم مختصراً في كتاب فضائل الصحابة باب في فضل سعد بن أبي وقاص (1748) (ج 4 / ص 1876).
  6. أخرجه الطبراني في الأوسط (5309) (ج 5 / ص 278) وفي الكبير (1309) (ج 20 / ص 44) والحاكم (2468) (ج 2 / ص 104).
  7. أخرجه البخاري في كتاب العيدين – باب إذا فاته العيد يصلي ركعتين وكذلك النساء ومن كان في البيوت والقرى (944) (ج 1 / ص 335) ومسلم في كتاب صلاة العيدين - باب الرخصة في اللعب الذي لا معصية فيه في أيام العيد (892) (ج 2 / ص 607).
  8. أخرجه البخاري معلقاً في كتاب الأشربة - باب ما جاء فيمن يستحل الخمر ويسميه بغير اسمه (5268) (ج 5 / ص 2123) وابن حبان (6754) (ج 15 / ص 154) والطبراني في الكبير (3418) (ج 3 / ص 282) وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (5466).
  9. أخرجه البخاري في كتاب الأشربة (5253) (ج 5 / ص 2119) ومسلم في كتاب الأشربة - باب عقوبة من شرب الخمر إذا لم يتب منها بمنعه إياها في الآخرة (2003) (ج 3 / ص 1587).
  10. أخرجه مسلم في كتاب الأشربة - باب بيان أن كل مسكر خمر وأن كل خمر حرام (2003) (ج 3 / ص 1587).
  11. أخرجه الترمذي في كتاب تفسير القرآن عن رسول الله ﷺ باب تفسير سورة المائدة (3050) (ج 5 / ص 254) وأحمد (2452) (ج 1 / ص 272) وصححه الألباني في صحيح الترمذي برقم (3050).
  12. أخرجه مسلم في كتاب فضائل الصحابة باب من فضائل عبد الله بن مسعود وأمه -ا- (2459) (ج 4 / ص 1910).

مواد ذات صلة