السبت 21 / جمادى الأولى / 1446 - 23 / نوفمبر 2024
(1-ب) من الفائدة الثانية إلى الفائدة التاسعة
تاريخ النشر: ١٤ / ذو القعدة / ١٤٣٦
التحميل: 2502
مرات الإستماع: 2040

"الفائدة الثانية: اختلف هل أول الفاتحة على إضمار القول تعليمًا للعباد أي قولوا الحمد لله، أو هو ابتدئ كلام الله، ولابد من إضمار القول في إياك نعبد وما بعده".

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد: 

فقوله تبارك وتعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2]، هذه جملة خبرية لكنها مُضمنة معنى الأمر، يُخبر تبارك وتعالى عن اتصافه بالحمد، وفي ضمنه تعليم للعباد وأمر لهم أن يحمدوه، هذا معنى ما ذكره ابن جُزي إضمار القول، يعني: قولوا الحمد لله، لكن الأصل عدم الإضمار هذه القاعدة فما ذكرته آنفًا من أنها جُملة خبرية لكن مُضمنة هذا لا يُحتاج معه إلى القول بالتقدير الفرق بين الأمرين الأصل عدم التقدير، وأن الكلام على وجهه هكذا فهي جملة خبرية، لكن مُضمنة معنى الأمر، تعليم من الله  للعباد.

ولاحظ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2]، هنا جاءت جملة اسمية، لكن لو قلنا بأن ذلك على تقدير القول قولوا فصارت جملة فعلية، والجملة الاسمية أبلغ؛ لأنها تدل على الدوام والثبوت، فهذا ثابت لله تبارك وتعالى في كل زمان في كل وقت، وهو محمود بكل حال، فهو ذو الكمال المُطلق في ذاته وأسماءه وصفاته وأفعاله، محمود في الدنيا والآخرة، فهنا يكون ذلك من باب الخبر التعبير بالجملة الاسمية فيها هذا الملحظ، فهي أبلغ من هذه الحيثية، لكنها متضمنة لمعنى الطلب، وهي تعليم للعباد، والله تعالى أعلم، كأن هذا أوفق وأليق، والله أعلم، أن يُعبر بمثل هذا.

"الفائدة الثالثة: الحمد أعم من الشكر؛ لأن الشكر لا يكون إلا جزاء على نعمة، والحمد يكون جزاء كالشكر ويكون ثناء ابتدئ، كما أن الشكر قد يكون أعم من الحمد؛ لأن الحمد باللسان والشكر باللسان والقلب والجوارح، فإذا فهمت عموم الحمد علمت أن قولك الحمد لله يقتضي الثناء عليه لما هو أهله من الجلال والعظمة والوحدانية والعزة والإفضال والعلم والمقدرة والحكمة وغير ذلك من الصفات، ويتضمن معاني أسماءه الحُسنى التسعة والتسعين، ويقتضي شكره والثناء عليه بكل نعمة أعطى ورحمة أولى جميع خلقه في الآخرة والأولى، فيا لها من كلمة جمعت ما تضيق عنه المُجلدات وتقف دون مداه عقول الخلائق ويكفيك أن الله جعلها أول كتابه وآخر دعوى أهل الجنة".

يعني وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [يونس:10]، فيما يتعلق بالحمد والشكر، وكذلك الفائدة الرابعة التي بعده هي مُكملة لهذا.

"الفائدة الرابعة: الشكر باللسان وهو الثناء على المُنعم والتحدث بالنِعم، قال رسول الله ﷺ: التحدث بالنعمة شُكر[1]، والشُكر بالجوارح هو العمل بطاعة الله وترك معاصيه، والشُكر بالقلب هو معرف مقدار النعمة، والعلم بأنها من الله وحده، والعلم بأنها تفضل لا باستحقاق العبد، واعلم أن النعم التي يجب الشكر عليها لا تُحصى ولكنها تنحصر في ثلاثة أقسام: نعم دنياوية كالعافية والمال، ونِعم دينية كالعلم والتقوى، ونِعم أخراوية وهي جزاءه بالثواب الكثير على العمل القليل في العمر القصير، والناس في الشكر على مقامين منهم من يشكر على النعم الواصلة إليه خاصة، ومنهم من يشكر الله عن جميع خلقه على النعم الواصلة إلى جميعهم، والشُكر على ثلاث درجات فدرجة العوام الشكر على النعم، ودرجة الخواص الشكر على النعم والنقم وعلى كل حال، ودرجة خواص الخواص أن يغيب عن النعمة بمشاهدة المُنعم، قال رجل لإبراهيم بن أدهم: إن الفقراء إذا أعطوا شكروا، وإذا منعوا صبروا، فقال إبراهيم بن أدهم: هذه أخلاق الكِلاب، ولكن القوم إذا مُنعوا شكروا وإذا أعطوا آثروا.

ومن فضيلة الشكر أنه من صفات الحق ومن صفات الخلق؛ فإن من أسماء الله الشاكر والشكور، وقد فسرتهما في اللغات".

كذلك الفرق بين الحمد والشكر، فقد مضى الكلام على شيء من هذا في اللغات أيضًا، ولكن على كل حال من أهل العلم من لم يُفرق بينهما فقالوا: الحمد والشكر معناهما واحد.

وممن قال بهذا المُبرد[2]، وأبو جعفر ابن جرير الطبري -رحمه الله-[3]، والذي عليه عامة أهل العلم هو التفريق بين الحمد والشكر، قالوا: الحمد يقابله الذم، والشُكر يقابله الكفران، الحمد يُقابل بالذم، والشُكر بالكُفران، وبينهما عموم وخصوص.

يعني: أن كل واحد منهما أعم من الآخر من وجه وأخص من وجه، فالحمد أعم من حيث ما يقع عليه، الحمد يقع على الصفات اللازمة والمُتعدية، فيُحمد الإنسان مثلًا على طول قامته ويُحمد على جماله وهذا من الصفات اللازمة ولا يد له فيها هذه من الله، ويُحمد على الصفات المُتعدية فيُحمد على كرمه وعلى بذله وإحسانه وجوده ونحو ذلك، فهذا الحمد أعم من هذه الحيثية؛ لأن الشكر لا يكون على الصفات اللازمة كما يقولون ما تشكره على طوله أو تشكره على جماله أو تشكره على جمال صوته؛ لأن هذه مواهب من الله، لكن الحمد أخص من الشكر من حيث الأداة التي يصدر عنها أو يقع بها، فالحمد يكون باللسان لكن مع مواطأة القلب، وهذا لابد منه وإلا لا يكون الحمد مُعتبرًا إلا مع مواطأة القلب وإلا فيكون التملق والمدح الذي قد لا يصدق صاحبه فيكون الحمد الحقيقي باللسان مع مواطأة القلب.

الشكر أخص من الحمد من حيث ما يقع عليه كما فهمنا مما سبق، فالشكر لا يكون إلا على الصفات المتعدية على جزاء نعمة إحسان، بينما الحمد يكون على نعمة ويكون على كل حال، يُحمد على كل حال.

الشكر أعم من الحمد من جهة الأداة التي يكون فيها، نحن عرفنا أن الحمد يكون باللسان مع مواطأة القلب حتى يكون صادقًا؛ لكن الشُكر يكون باللسان، ويكون بالقلب استحضار النعمة والمُنعم، ويكون أيضًا بالجوارح بالعمل بطاعته ومرضاته كما في البيت المشهور:

أفادتكم النعماء مني ثلاثة   

يقول: إنعامكم عليّ نتج عنه ثلاثة أشياء:

  يدي ولساني والضمير المُحجبا

 

يعني: صارت يدي تعمل في الخدمة شُكرًا، ولساني ينطق بالشكر، والقلب مستحضر للنعمة والإنعام والمُنعم فهذا كله يكون به الشكر، فصار الشكر أعم من حيث الآلة التي يكون بها الأداة والحمد أخص.

أما ما يقع عليه الحمد والشكر فأيهما أعم؟ الحمد أعم، يكون على النعمة وغير النعمة على كل حال، وعلى الصفات المتعدية واللازمة؛ بينما الشكر يكون على الصفات المتعدية، ويبقى أيضًا هل يكون الشكر على غير النعمة يعني على الضراء هذه مراتب عالية تكلمنا على هذا في الأعمال القلبية في الكلام على الشُكر ودرجات الشُكر، وقلنا من الشُكر الشُكر على المصيبة والبلاء الذي يصيب الإنسان، وذكرنا شواهد لهذا وأحوال السلف لكن قلنا هذه مرتبة عالية، أن يشكر على الضراء فيعتبر أنها نِعم وهدايا تصل إليه من الله ليرفعه وليُمحصه لأن الله اختار له ذلك لرفعته وإكرامه فكانوا يرون أن هذه البلايا هدايا، ولهذا جاء عن سفيان -رحمه الله-: "من لم يعد البلاء نعمة فليس بفقيه"[4].

لكن أكثر الناس لا يصلون إلى هذا، غاية ما هنالك أن يوفق العبد للصبر فلا يجزع ولا يتسخط على ربه تبارك وتعالى.

الشكر يكون بالجوارح اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا [سبأ:13]، كان ﷺ يقوم الليل حتى تتورم قدماه، ويقول: أفلا أكون عبدًا شكورا[5]، فهذا شكر بالجوارح بالعمل بطاعة الله ، وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ [الضحى:11]، فهذا مقابل النعمة على تفسيره بأن المقصود حدث بهذه النعمة أخبر عن إنعام الله  عليك وتفضله بها، وكذلك أيضًا الأدلة الأخرى الدالة على هذه المعاني أن الشكر يكون بالقلب واللسان والجوارح، إذا آتاك الله مالًا فليُرى أثر نعمته عليك.

والمدح أعم منهما جميعًا بحيث ما يقع عليه فهذا يُمدح على ما كان خلقة أو تسخيرًا أو موهبة من الله فيُمدح على جماله أو طوله ويُمدح على الصفات الكسبية والمُتعدية كالكرم والحِلم وما إلى ذلك فهذا كله مما يقع فيه المدح أو عليه المدح، الأمور الاختيارية وغير الاختيارية، وكذلك أيضًا يقع على الحي والميت والإنسان والحيوان والنبات والجماد والزمان تمدح الجو وتمدح المبنى وتمدح المنظر أو المكان الذي رأيته أو ذهبت إليه في نُزهة هذا كله مما يقع فيه المدح، لكن هل يقال لذلك الشُكر؟ الجواب: لا، لكن المدح كالحمد يكون باللسان، فإن كان صادقًا فمع مواطأة القلب وإلا فكثير من المدح قد لا يكون كذلك، هذا ما ذكره هنا في من الفرق بين الحمد والشُكر، قال: الحمد أعم من الشُكر، وهذا من وجه.

ثم قال: "كما أن الشكر قد يكون أعم من الحمد"، كما قلنا بينهما عموم وخصوص، وقوله: "فإذا فهمت عموم الحمد علمت أن قولك الحمد لله يقتضي الثناء عليه لما هو أهله من الجلال والعظمة والوحدانية" إلى آخر ذلك.

قال: "ويتضمن معاني أسماءه الحُسنى التسعة والتسعين"، أسماء الله تبارك وتعالى الحُسنى أكثر من تسعة وتسعين أسمًا، وقوله ﷺ: إن لله تسعة وتسعين أسمًا، من أحصاها دخل الجنة[6]، المقصود بذلك: أن هذه الأسماء المعدودة بهذا العدد الخاصة التي تبلغ تسعة وتسعين اسمًا لها مزية أن من أحصها دخل الجنة، وإلا فأسماء الله أكثر من هذا، ... أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك ...[7].

فأسماءه لا يُحصيها إلا هو تبارك وتعالى فليست محصورة بتسعة وتسعين، إنما الذي في الحديث أن لهذه الأسماء التسعة والتسعين مزية أن من أحصها دخل الجنة، وقد وضحت هذا بالكلام هناك على الأسماء الحُسنى.

فقوله هنا: "الحمد لله يقتضي الثناء عليه لما هو أهله"، فأل هذه الحمد لله إذا دخلت على الأوصاف وأسماء الأجناس مثل الحمد دلت على الاستغراق والشمول والاستقصاء الحمد لله.

يعني: كل الحمد لله تبارك وتعالى بجميع أنواع الحمد، كل المحامد مستحقة لله تبارك وتعالى، فالحمد كما عرفنا هو وصف المحمود بصفات الكمال مع المحبة والتعظيم ولابد؛ ولهذا يقول شيخ الإسلام -رحمه الله-: "الحمد الإخبار بمحاسن المحمود مع المحبة لها. فلو أخبر مخبر بمحاسن غيره من غير محبة لها لم يكن حامدًا، ولو أحبها ولم يخبر بها لم يكن حامدًا"[8]، فهذا معنى الحمد كما ذكرنا، وأن كثيرًا من أهل العلم يقولون: بأن الحمد هو الثناء.

وقلنا: هذا لا يخلو من توسع وتساهل في العبارة، وإلا فهو الإخبار عن كمال المحمود وما له من صفات الكمال مع المحبة والتعظيم وأنه إذا كُرر ثانيًا فهو ثناء، فإذا كُرر ثالثًا فهو التمجيد، هذا الفرق بين هذه الثلاثة يدل عليه حديث: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين...[9].

فهنا قوله تبارك وتعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ [الفاتحة:2]، هذا حمد مُطلق، فالحمد هنا اسم جنس والجنس له كمية وكيفية فالثناء كمية الحمد، يعني: ذكره ثانيًا أثنى عليّ عبدي، والتمجيد الكيفية، والتعظيم، فالمجد كما ذكرنا يدل على السعة والحمد.

ولهذا يقولون: الحمد لله هنا يؤخذ منها أنه المستحق للعبادة وحده؛ لأنه إذا كانت جميع المحامد لله تبارك وتعالى فهذا يدل على أن له الكمال من كل وجه؛ لأنه لا يُحمد من كل وجه إلا من كان كاملًا من كل وجه، يعني أن حمده لا يكون فيه استثناء، وهذا لا يكون إلا لمن كان مُستجمعًا لجميع صفات الكمال، والذي يكون متصفًا بجميع صفات الكمال ينبغي أن يكون هو المعبود وحده، فإن الناقص لا يصلح للعبادة.

الحمد لله فهذه اللام تفيد الاختصاص وبعضهم يقول الاستحقاق، وذكرنا في بعض المناسبات سابقًا الفرق بين هذه اللامات، الحمد لله، فقلنا: إذا كان ذلك في نسبة معنى إلى ذات الحمد معنى نُسب إلى الله  الحمد لله فإن اللام تكون للاستحقاق، الحمد مُستحق لله، فإذا كان ذلك بإضافة ذات إلى ذات من شأنها أن تملك الكتاب لزيد فاللام للملك، الدار لمُحمد، فإذا كان ذلك بإضافة ذات إلى ذات ليس من شأنها أن تملك تقول المفتاح للسيارة، المفتاح للباب فهذا للاختصاص، فهذا الفرق بين المقامات الثلاثة، متى تكون اللام للاستحقاق ومتى تكون للاختصاص ومتى تكون للملك، فهنا أضفنا معنى الحمد لله فتكون اللام هذه للاستحقاق، والله تعالى أعلم.

ومعنى الحمد لله، يعني: المُطلق، فالله تبارك وتعالى هو الذي يستحق الحمد المُطلق وحده؛ لأنه ذو الكمال المُطلق.

فحمده تبارك وتعالى نوعان كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: حمد على إحسانه إلى عباده وهذا من الشُكر، وحمد لما يستحق بنفسه من نعوت الكمال، فهذا الحمد لا يكون إلا على ما هو في نفسه مُستحق للحمد، يعني: لصفات كماله يُحمد[10].

فهذا النوع الثاني، ولا يكون الحمد بطبيعة الحال إلا على كمالات، وما يُحمد به الخلق فذلك من الخالق ، يعني: الأوصاف الكاملة يُحمد على جماله يُحمد على كرمه يُحمد على جوده، من الذي أعطاه؟ هو الله تبارك وتعالى فهو أحق بالحمد وتقدست أسماءه، فهو المُستحق للمحامد جميعًا على الحقيقة، وهو أحق بالحمد والكمال من كل أحد، فهذا الحمد مُتضمن لمدحه تبارك وتعالى بصفات الكمال مع محبته والرضا عنه والخضوع له، كما يقول الحافظ ابن القيم رحمه الله[11].

وتصور أولئك الذين لا يثبتون صفات الله  كيف تؤثر العقائد الفاسدة في الفكر والسلوك والعمل؟!

كيف هؤلاء يتقربون إلى الله ويحمدونه، وهم لا يثبتون شيئًا من صفات الكمال، أو ينفون كما يفعل طوائف من المتكلمين كثيرًا من صفات الكمال، وهذا يدل على أن عقيدة أهل السنة هي العقيدة الحقة، وأنها تورث ألوان العبوديات القلبية، وما يحصل من جراء ذلك من الآثار من محبته تبارك وتعالى وتعظيمه والتوكل عليه والخوف منه ورجاءه، فالحمد لله الذي هدانا لهذا، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، فالإنسان يحمد الله أن جعله من أهل السنة، وإلا كما قيل:

لو شاء ربك كنت أيضًا مثلهم فالقلب بين أصابع الرحمن[12]

نسأل الله العافية، هؤلاء الذين لا يثبتون لله إلا أوصاف العدم، جعلوه والمعدوم شيئًا واحدًا، ولذلك نحن لا نُحصي ثناء على الله تبارك وتعالى؛ لأن أوصافه الكاملة لا يُحصيها إلا هو.

ولاحظ هنا ما ذكره من الحديث: التحدث بالنعمة شُكر، هذا لا يثبت عن النبي ﷺ بهذا اللفظ.

ثم يقول: "بأن النعم لا تُحصى لكنها تنحصر في ثلاثة أقسام"، يعني: تجمعها، نِعم دنيوية كالصحة والمال والولد ونحو ذلك، من أنواع النِعم، وهذه أكثر ما ينظر إليه الناس، ويستشعرونه ويفوت عليهم أكثره أيضًا، يفوت أكثره هناك نِعم لا يدري عليها الإنسان هذه الأجهزة التي تعمل في جسده، بل كما قال بعض أهل العلم: من الذي يحمد الله  على نعمة النفس والهواء، كثير منهم لا يستشعر إلا نعمة مُباشرة واصلة إليه يختص بها دون غيره، جاءه مال، جاءه ولد، أو نحو ذلك، لكن هذا الهواء لو حُبس عنه لحظات لرأيته بحال يُشفق عليه معها عدوه ثم ما يلبث أن تخرج نفسه، الهواء هذا التنفس، وذكرنا هذا في الكلام على الأسماء الحسنى، في هذه النعمة التي لا يستشعرها أكثر الناس، من الذي يحمد الله على نعمة النفس؟!

من الذي يحمد الله ويستشعر نعمة العقل التي لو سُلبها لصار مثل البهيمة؟! البهيمة يُقبل منها هذا، وقد يُستملح ولكن الإنسان حينما يتحول إلى حال كالبهيمة فإن ذلك يكون في غاية الشين في حقه، وهذا لا يستشعره أكثر الناس، ولكن لو رأى بعينه مسلوب العقل يُسلب أمامه، فيبدأ يتصرف بعد العقل بتصرفات تدل على ارتفاع هذا العقل منه لوقف أمام هذا مُعتبرًا ولكن الغفلة غالبة.

النوع الثاني: أو القسم الثاني النعم الدينية كالعلم والتقوى، فهذه أجل النوعين، يعني: من أنعم الله عليه في الدنيا بالتوفيق لطاعته والعمل بمرضاته والصلاح والاستقامة ووفقه للهدى وجنبه الفِتن والأهواء والبِدع والضلالات، فهذه نعمة لا تُقادر؛ لأنها تُفضي إلى القسم الثالث، وهي النعم الأخروية، والجزاء الأولى، والجنة والنجاة من النار يأخذ كتابه بيمينه، فما يخطه الناس في هذه الحياة الدنيا، ويرقمونه بأعمالهم ومزاولاتهم يُترجم عن ذلك بهذه النهاية، آخذ كتابه بيمينه، وآخذ كتابه بشماله، نتيجة لتلك الأحوال والأعمال التي كانوا عليها في الدنيا؛ ولذلك فإن الموفق هو الذي يعمل ويجد ويجتهد لتحقيق هذا الهدف والمستقبل الكبير الحقيقي أن يأخذ كتابه بيمنيه.

فإذا أراد أن يتكلم يحسب حسابًا لأخذ الكتاب، وإذا أراد أن يكتب يحسب حسابًا لذلك، وإذا أراد أن يعمل أو ينظر أو يمشي أو يأكل فإنه يحسب ذلك في مخالطته ومرافقته ومجالسه وأحواله كلها، أن تكون مجموع الأعمال تُفضي النتيجة إلى أن يأخذ كتابه بيمينه، فإذا غفل عن هذا انطلق اللسان فيما لا يحل وانطلق البصر بالنظر إلى ما لا يحل، وانطلق السمع في التقاط ما لا يحل من المسموعات، وانطلقت الجوارح عاملة بمساخط الله  ثم بعد ذلك تكون الكارثة فيأخذ كتابه بشماله فيقول: فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ ۝ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ ۝ يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ ۝ مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ ۝ هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ [الحاقة:25-29]، ذهب المال والمنصب.

يقول: "هنا الأخروية الجزاء بالثواب الكثير على العمل القليل في العُمر القصير".

ثم ذكر أن الناس في الشُكر على مقامين: "منهم من يشكر على النِعم الواصلة إليه خاصة، ومنهم من يشكر عن جميع الخلق على النعم الواصلة إلى جميعهم"، كما ذكرنا.

يقول: "والشكر على ثلاث درجات"، هذا الكلام تجدونه في ثنايا هذا الكتاب يتكلم على أشياء من هذا القبيل، وفي بعضها شيء من عبارات الصوفية، كما هنا، "درجة العوام الشكر على النعم، ودرجة الخواص الشكر على النعم والنِقم"، يعني: يمكن يُتسمح في هذا ويقال هذه مراتب عالية لأهل الإيمان يشكر على السراء والضراء كما ذكرنا، لكن عامة الناس إنما يشكرون على النِعم، ويُطالبون بالبصر على المصائب والمكاره.

يقول: "ودرجة خواص الخواص"، هذه هي التي تجري عند الصوفية العامة والخاصة وخاصة الخاصة.

يقول: "أن يغيب عن النعمة بمُشاهدة المُنعم". يعني: هو لا يستشعر النعمة، وإنما المُنعم حاضر في قلبه في كل حال فهو لا يلتفت إلى شيء سواه، يقول: هذه درجة أعلى أن يتعلق قلبه بالمُنعم، ويشتغل به دون التفات إلى غيره، ومثل هذا الغياب المغيب عن النعمة بهذه الصورة يحتاج إلى دليل، فالنبي ﷺ ما ورد عنه، وما ورد عن الأنبياء -عليهم السلام- وأتباع الرُسل كانوا يستشعرون هذه النِعم، ويلتفتون إليها شاكرين الله  على هذا الإنعام والإفضال.

والنبي ﷺ حينما خرج من الجوع ﷺ ولقي أبا بكر وعمر، وقد أخرجهما الجوع، ثم بعد ذلك لما أطعمهم الأنصاري البُسر جاء بعذق، ثم بعد ذلك ذبح لهم شاة وأكلوا، فقال النبي ﷺ: والذي نفسي بيده، لتسألن عن هذا النعيم يوم القيامة، أخرجكم من بيوتكم الجوع، ثم لم ترجعوا حتى أصابكم هذا النعيم[13].

فذكر النبي ﷺ النعمة، فاستحضار النِعم أمر لابد منه، والله  يقول: وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ [الضحى:11]، قيل: النبوة، وقيل: سائر النِعم، نعمة ربك، فإن النعمة هنا مفرد مُضاف إلى معرفة بنعمة ربك، فهو للعموم يعني بنِعم ربك، فسواء فُسر بالنبوة فهذه نعمة واصلة وهي أعظم ومن أجل النعم، أو قيل سائر الإنعام فهذا نظر إلى النعمة فيُشكر عليها، وإلا كيف يكون الشكر إذا لم ينظر ويستشعر النعمة، فإن الطريق إلى الشُكر هو استشعار النعمة، فلا يقال إن الشكر شكر خاصة الخاصة هو الفناء عن مُشاهدة النعمة بشهود المُنعم، هذا غير صحيح.

يقول: "قال رجل لإبراهيم بن أدهم: الفقراء"، طبعًا يقولون الفقراء يقصدون بهم من؟ الصوفية، فيسمونهم الفقراء، "إذا أعطوا شكروا وإذا مُنعوا صبروا، فقال: هذه أخلاق الكلاب"، هذا إذا ثبت عن إبراهيم بن أدهم فغاية ما هنالك أن يقال هذا ليس بكلام الأنبياء ليس بوحي، فهذه ليست بأخلاق الكلاب، وإنما المؤمن إذا أُعطي شكر، وإذا مُنع صبر، فالإنسان يسأل ربه يقول: اللهم اجعلنا ممن إذا أُعطي شكر، وإذا اُبتلي صبر، فليست أخلاق، وليست بأخلاق الكلاب.

يقول: "ولكن القوم إذا مُنعوا شكروا وإذا أعطوا آثروا"، هنا الكلام ليس في الإيثار وعدمه الإيثار، هو يشكر على ما أعطاه الله .

فهذا هو حال أهل الإيمان، والله يقول: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ [إبراهيم:7]، فالشكر على النِعم والصبر على المصائب والنِقم وما إلى ذلك، هذا هو حال أهل الإيمان، وأما الإيثار فهذا شأن آخر غير ما نحن فيه.

يقول: "ومن فضيلة الشكر أنه من صفات الحق"، يعني: الله تبارك وتعالى، وتكلمنا في الأسماء الحسنى عن اسمه الشكور.

قال: "ومن صفاته الخلق، وقد فسرتهما في اللغات"، يعني: الشاكر والشكور.

الفائدة الخامسة: قولنا: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2]، أفضل عند المُحققين من لا إله إلا الله لوجهين: أحدهما ما خرجه النسائي عن رسول الله ﷺ: من قال لا إله إلا الله كُتبت له عشرون حسنة، ومن قال الحمد لله رب العالمين كُتبت له ثلاثون حسنة[14]، والثاني: أن التوحيد الذي تقتضيه لا إله إلا الله حاصل في قولك رب العالمين، وزادت بقولك الحمد، وفيه من المعاني ما قدمنا، وأما قول رسول الله ﷺ: أفضل ما قلت أنا، وفي نسخة: أفضل ما قلته، أفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله[15]، فإنما ذلك للتوحيد الذي يقتضيه، وقد شاركتها الحمد لله رب العالمين في ذلك وزادت عليها، وهذا المؤمن يقولها لطلب الثواب، وأما لمن دخل في الإسلام فيتعين عليه لا إله إلا الله.

هذه المسألة المُفاضلة بين قول الحمد لله رب العالمين هل هي أفضل من لا إله إلا الله أو لا؟ فيها كلام معروف لأهل العلم، وقد مضى في الكلام على الأذكار في شرح الأذكار، المُفاضلة بين هذا، وهذا بناء على النصوص الواردة، لكن قوله بأنها أفضل عند المُحققين فيه نظر، يعني: ما كل العلماء من المحققين يقولون: بأن الحمد لله رب العالمين أفضل من لا إله إلا الله، فإن كثيرًا من المحققين يقولون: إن لا إله إلا الله أفضل من الحمد لله رب العالمين ونقلنا كلام هؤلاء هناك، ومن هؤلاء شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- فهنا ذكر الحديث: من قال: لا إله إلا الله كُتبت له عشرون حسنة، ومن قال: الحمد لله رب العالمين كُتبت له ثلاثون حسنة.

يقول هنا المعلق لفظه: إن الله اصطفى من الكلام أربعًا: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، فمن قال سبحان الله كُتبت له عشرون حسنة، ومُحيت عنه عشرون سيئة، ومن قال لا إله إلا الله مثل ذلك، فمن قال الحمد لله رب العالمين من قِبل نفسه كُتبت له ثلاثون حسنة وحُط عنه ثلاثون خطيئة، يمكن أن يقال -والله تعالى أعلم-: بأن القاعدة أن المزية لا تقتضي الأفضلية، فهذه مزية في ذكر الحسنات، وعدد الحسنات المترتبة على هذا، لكن هذا لا يقتضي الأفضلية بإطلاق؛ فإن قول لا إله إلا الله بالتنصيص عليه بقوله ﷺ: خير ما قلت أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله[16]، فهذا مُطلق، لكن هناك ذكر الحسنات فهذه مزية، لكن المزية لا تقتضي الأفضلية، يعني: بإطلاق.

وكذلك كما يقال في أصحاب النبي ﷺ، فأبو بكر أفضل الصحابة مع أن النبي ﷺ قال في عثمان : ما ضر عثمان ما عمل بعد اليوم[17]، وقد زوجه ابنتيه، فهذه مزايا لعثمان  ما حصلت لأبي بكر ولا لعمر -رضي الله عن الجميع- فيقال: المزية لا تقتضي الأفضلية.

قال في حق علي : أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى، غير أنه لا نبي بعدي[18]، فهذه مزية ما حصلت لأبي بكر، ولا لعمر، ولا لعثمان، لكن المزية لا تقتضي الأفضلية، فأبو بكر وعمر وعثمان  أفضل من علي -رضي الله عن الجميع-.

فهنا ذكر مزية للحمد مثلًا لا يعني أنه أفضل مطلقًا من قول لا إله إلا الله، فأفضل الذكر لا إله إلا الله؛ لأنها كلمة التوحيد، ولا تعدلها كلمة، ولو أنعمت النظر فإن الحمد مُضمن فيها؛ لأنه إذا كان هو المعبود وحده، فذلك يدل على أنه الكمال من كل وجه كما سبق فهذا الذي يكون له الحمد المُطلق الذي يستحق الحمد من كل وجه؛ لكماله المُطلق، والله تعالى أعلم، ومن أراد التوسع في هذا يرجع إلى ما ذكرناه في شرح الأذكار في الكلام على هذه المسألة والمُفاضلات في الأذكار، نعم تفضل.

"الفائدة السادسة: الرب وزنه فعِل بكسر العين ثم أُدغم، ومعانيه أربعة: الإله، والسيد، والمالك، والمُصلح، وكلها في رب العالمين إلا أن الأرجح معنى الإله لاختصاصه بالله تعالى، كما أن الأرجح في العالمين أن يُراد به كل موجود سوى الله تعالى، فيعُم جميع المخلوقات".

الرب رب العالمين، الرب بمعنى رب العالمين يعني خالق العالمين وهو مالكهم والمتصرف فيهم، الرب في الأصل يقولون مأخوذ من التربية، تربية الشيء تنمية الشيء تبليغ الشيء إلى كماله، قال الله تعالى: وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ [النساء:23]، الربيبة هي التي يُربيها في حِجره، يعني: بنت الزوجة تتربى في كنفه، وهو أيضًا بمعنى هو بمعنى المُربي وكذلك بمعنى المالك والسيد في الحديث: أن تلد الأمة ربتها[19]، يعني: سيدتها، تلد من تكون مالكة لها، وكذلك يأتي بمعنى المعبود ولو كان بغير حق أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ [يوسف:39]، أأرباب متفرقون يعني المعبودين، والبيت المشهور المقول في الصنم:

أرب يبول الثُعلبان برأسه لقد هان من بالت عليه الثعالبُ[20]

ويأتي بمعنى القائم على الشيء، ومُدبر الشيء، ومُصلح الشيء ومتوليه، ومنه قوله في الحديث: هل لك من نعمة تربُها عليه[21]، يعني: تقوم بها وتصلحها.

وفي قول ابن عباس -ا-: لأن يرُبني بنوا عمي أحب إليّ من يرُبني غيرهم[22]، يعني: يسوسني يكون عليّ ربًا أي أميرًا يقوم بأمره ويُدبره ونحو ذلك، وكذلك أيضًا ما جاء في خبر صفوان بن أُمية يوم حُنين لما قال له أخ له من أُمه لما هُزم المسلمون في يوم حُنين قال الرجل: لقد بطل سحر محمد، والله لا يرده هزيمتهم إلا البحر، أو لا يرد مُنهزمهم إلا البحر، فقال: اسكت، لأن يرُبني رجل من قُريش أحب إليّ من أن يرُبني رجل من هوازن، هذا يقوله صفوان بن أُمية لأخيه هذا من أُمه، لأن يرُبني يعني أن يسوسني وأن يُدبر أمري رجل من قريش أحب إليّ من أن يرُبني رجل من هوازن، فهذا بمعنى التدبير ونحو ذلك.

فيقال لصاحب الشيء رب: سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون [الصافات:180]، يعني: صاحب العزة، فهذه المعاني ثابتة فالله تبارك وتعالى هو مُربي الخلق التربية بنوعيه تربية الأبدان بما يغذوهم به وتربية الأرواح إرسال الرسل وإنزال الكتب والهدايات وما أشبه ذلك.

وكذلك أيضًا الله تبارك وتعالى هو خالقهم وهو مالكهم وسيدهم ومعبودهم الحق، وهو القائم على شؤونهم والمتصرف فيهم والمُصلح لأحوالهم وهو صاحب العزة، فهذه المعاني كلها ثابتة وهي أكثر مما ذكره كما ترون ابن جُزي -رحمه الله-؛ ولذلك ذكر شيخ الإسلام -رحمه الله- في معاني الرب قال: "هو المُربي الخالق الرازق الناصر الهادي"[23].

وعلى كل حال لاحظ الآن بهذه المعاني مُستجمعة تجدون في كُتب الأسماء الحُسنى مثلًا أو في بعض كتب العقيدة يقولون مثلًا: الرب من الصفات الفعلية نظروا إلى معنى التربية والخلق ونحو ذلك التصرف فيهم، والواقع أنها صفة ذاتية وفعلية، فالسيد والمالك هذه من الصفات الذاتية، والخالق والمُربي والمتصرف فيهم هذه صفات فعلية.

ولذلك الرب يتضمن صفة ذاتية وفعلية.

وعلى كل حال، من أخص معاني الرب: المالك، والمُدبر، والقائم بما يُصلح الخلق؛ ولهذا جاء دعاء الأنبياء كثيرًا باسمه الرب؛ لأنه أحق باسم الاستعانة والمسألة كما قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: بأن عامة المسألة المشروعة باسم الرب[24].

ولذلك تجدون في القرآن دعاء الأنبياء -عليهم السلام- وأتباع الأنبياء: "ربنا" "ربي" بهذا الاسم، وقد ذكر هذا الملحظ أيضًا الشاطبي -رحمه الله- وغيره، لماذا كان عامة دعاء الأنبياء -عليهم السلام- باسم الرب؟ فهو المُتصرف، والمُعطي، والرازق، ونحو ذلك، وهو المالك، والقائم بما يُصلح الخلق، فيُناسب أن يقال: يا رب ارزقني، يا رب أعطني، يا رب، والله تعالى أعلم، وهو بهذا التعريف -الرب- لا يُطلق إلا على الله .

لكن قد يُقال: بالإضافة، رب الدار، رب الإبل ونحو ذلك لغير الله ، الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2]، واسم "الله"  مُشتق من الإلهية، وليس بجامد، وكثير من أهل العلم يقولون بأنه الاسم الأعظم وهو أقرب الأقوال؛ فهو يتضمن غاية العبد، ومصيره، ومُنتهاه، كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "الله وهو الإله المعبود، فهذا الاسم أحق بالعبادة يتضمن غاية العبد ومصيره ومنتهاه، وما خلق له، وما فيه صلاحه وكماله، وهو عبادة الله، ولهذا يقال: الله أكبر، الحمد لله، سبحان الله، لا إله إلا الله"[25].

والاسم الثاني: الذي هو الرب رب العالمين يتضمن خلق العبد ومُبتدأه، وهو أنه يرُبه ويتولاه، لاحظ الله الغاية، وهي العبادة وجِد من أجل ذلك، والربوبية -كما هو معلوم- تستلزم الإلهية، والإلهية تتضمن الربوبية؛ ولهذا يقولون: بأن توحيد الإلهية مُضمن لتوحيد الربوبية، وتوحيد الربوبية يستلزم، يعني: إذا أقررت أنه هو الخالق الرازق، المُدبر، المتصرف، فهو المستحق أن يُعبد دون ما سواه، يلزم أن يكون هو المعبود، وإذا قلت أنه هو المعبود وحده، وهو الإله فهذا يتضمن أنه هو الذي أعطى وخلق ورزق، وهو الذي بيده النفع والضُر، وما إلى ذلك.

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2]، والمقصود بالعالمين جمع عالم، فهو اسم جمع لا واحد له من لفظه، مثل: قوم، ورهط، ما لها واحد من لفظها، وذلك يُقال: العالمين كل ما سوى الله تبارك وتعالى، جُمع هنا ليشمل كل جنس، وليس كل فرد فقط بل كل جنس ممن سُمي به، فيعم جميع المخلوقات في العالم العلوي والسُفلي، وما بين ذلك، الملائكة، الإنس، الجن، الشياطين، الحيوانات، الجمادات، سائر المخلوقات، فالله ربها تبارك وتعالى، ودخلت عليه "أل" التي تدل على الاستغراق العالمين، فكل ما سوى الله هو داخل في ذلك، ويدل على هذا قول موسى فيما ذكر الله عنه لما سأله فرعون: قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ ۝ قَالَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا [الشعراء:23-24]، فهذا تفسير للقرآن، بالقرآن.

فهذا إذا قلت: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2]، كل ما سوى الله من الأفلاك السابحة، والبر، والبحر وما فيهما، وما في السماوات والأرض وما بينهما، فهذا كله داخل في: العالمين، وكثير من أهل العلم يقولون: إنه مشتق من العلامة؛ لأن كل ما في هذا الوجود من المخلوقات علامة على وجود الله ، وعلى كماله وعلى وحدانيته، إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ [آل عمران:190]، تدل على أن الله هو الخالق وحده، وأنه هو المعبود وحده ، وتقدست أسماؤه، وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ [الروم: 22].

وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحدُ

بعض أهل العلم يقول: إن العالمين مشتق من العلم، لكن الأول هو المشهور، وهؤلاء الذين قالوا أنه مشتق من العلم إن قُصد أن ذلك بالنظر إلى علم الله تبارك وتعالى بهم، وأن ذلك يدل على إحاطته وقدُرته اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا [الطلاق:12]، فهذا له وجه، وإن قُصد به أن هذه المخلوقات سُميت عوالم؛ لأنها قد توصف بشيء من العلم المحدود، فهذا أيضًا يحتمل، ولكن القول الأول أقرب، والله أعلم، فهو مشتق من العلامة، وبعض أهل العلم يقول: لا يبُعد أن يكون مشتقًا من الأمرين: من العلم، ومن العلامة.

ولاحظ الجمع هنا الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2]، هذا جمع من يعقل، فهذا مع أنه يتضمن العقلاء كما ذكرنا، وغير العقلاء من الحيوان والنبات والجماد، لكن هذا من باب تغليب العقلاء على من سواهم؛ لأن العقلاء هم المعنيون بالخطاب والتكليف، ولما ميزهم الله  بما يكون مناطًا للتكليف وهو العقل، أما قوله تبارك وتعالى: لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا [الفرقان:1]، فالمقصود به الإنس والجن، فهذا من باب الإطلاق على معنى أخص، فكلمة العالمين أحيانًا تأتي بمعنى عام كما في قوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2]، قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ [الشعراء:23]، وأحيانًا يُقصد بها بعض ذلك، والسياق هو الذي يُبين ذلك ويوضحه، والله أعلم.

أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ [الشعراء:165]، هنا المقصود به الإنس، ومن عالم زمانهم أيضًا فقط؛ لأنهم ما كانوا يأتون الذكران من العالمين من كل جيل، فهذا السياق يوضح أن المعنى أخص، والعلم عند الله.

"الفائدة السابعة: ملك قراءة الجماعة بغير ألف من المُلك، وقرأ عاصم والكسائي بالألف، والتقدير على هذا مالك مجيء يوم الدين، أو مالك الأمر يوم الدين، وقراءة الجماعة أرجح لثلاثة أوجه: الأول: أن الملك أعظم من المالك؛ إذ قد يوصف كل أحد بالمالك لماله، وأما الملك فهو سيد الناس، والثاني: قوله: وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ [الأنعام:73]، والثالث: أنها لا تقتضي حذفًا والأخرى تقضتيه؛ لأن تقديرها مالك الأمر، أو مالك مجيء يوم الدين، والحذف على خلاف الأصل، وأما قراءة الجماعة فإضافة ملك إلى يوم الدين، فهي على طريقة الاتساع، وأجر الظرف مُجرى المفعول به، والمعنى على الظرفية، أي: الملك في يوم الدين، ويجوز أن يكون المعنى ملك الأمور يوم الدين، فيكون فيه حذف، وقد رويت القراءتان في الحديث عن رسول الله ﷺ،  وقد قُرئ ملك بوجوه كثيرة إلا أنها شاذة".

كلامه هنا في (مالك) يدور على التقدير هنا مالك مجيء يوم الدين، ومالك الأمر. بأي اعتبار؟ باعتبار أن اليوم ظرف زمان، وأن ذلك لا يضاف إليه المِلك وإنما يكون المِلك لما يقع فيه أو لمجيئه. هذا الذي يقصده كلامه يحوم حول هذه القضية أن الإضافة جاءت إلى ظرف زمان، لكن على كل حال مثل هذا الكلام الذي ذكره في الترجيح بين القراءتين بهذه الطريقة قد يُناقش. القراءتان متواترتان ثابتتان. فهنا يقول: (مَلِكِ) قراءة الجماعة بغير ألف من الملك، وقرأ عاصم والكسائي بالألف. لاحظ هي الآن الصفة الرابعة للفظ الجلالة (الله) أو بدل منه، وهو مضاف ويوم مضاف إليه، ويوم مضاف والدين مضاف إليه.

القراءات التي أشار إليها ابن جزي -رحمه الله- عاصم والكسائي كما ذكر (مالك) بالألف اسم فاعل من المِلك بكسر الميم قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ [آل عمران:26]، فهو المالك يعني المتصرف في الأعيان المملوكة كيف شاء هذا المالك. قراءة الجمهور (ملك) والملك هو الذي له التصرف المطلق يأمر وينهى ويُطاع مأخوذ من (المُلك) بضم الميم أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [البقرة:107]، وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا [المائدة: 17، 18]، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ [التغابن:1]، تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ [الملك: 1]، الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ [الحشر:23]، مَلِكِ النَّاسِ [الناس:2]، فملك صفة مشبهة تدل على ثبوت ملكه تبارك وتعالى وعلى دوامه فله التصرف التام في الأمر والنهي، فقراءة (مَلِكِ) أعم في المعنى وأشمل من قراءة (مالك)، يقولون: لأن كل ملك فهو مالك، وليس كل من كان مالكًا يكون ملكًا. يعني أنت تملك سيارة وتملك كتابًا لكنك لست بملك، لكن الملك أيضًا يكون مع ملكه مالكًا فهو أبلغ وأشمل؛ ولهذا اختار كثيرون قراءة الجمهور (مَلِكِ) والترجيح بين القراءات لا بأس به على سبيل الاختيار؛ لكن مع مراعاة ألا يكون هذا الترجيح مفضيًا إلى الانتقاص من القراءة الأخرى، أو التوهين لها؛ لأن ذلك إذا كان من القراءة الثابتة الصحيحة المتواترة أنه كلام الله تبارك وتعالى. فلا يجوز الترجيح بين القراءات بطريقة تُشعر انتقاص أو توهين القراءة الأخرى، لكن لا بأس أن يقال على سبيل الاختيار بأن هذه القراءة تدل على معنى أوسع، تدل على معنى أكمل، تدل على معنى أشمل، فهذا لا إشكال فيه، ولو دققت النظر فإن (مَلِكِ) أبلغ من (مالك) من حيث أنه يدل على التصرف المطلق، المُلك والملك يكون أيضًا مالكًا كما ذكرنا، لكن الواقع أيضًا أن المالك يتصرف فيما تحت يده مما يملكه مما لا يتصرف فيه الملك ولا يكون أمره نافذًا فيه، بمعنى هل الملك الآن في الدنيا يستطيع أن يبيع دارك أو سيارتك أو نحو ذلك، هل يملك هذا شرعًا؟ الجواب: لا يستطيع. ولذلك إذا أُخذ من الإنسان شيء من هذا بحاجة في طريق أو مسجد أو كذا يُرضى صاحبه بالتعويض وقد يبالغ له في هذا حتى تطيب نفسه، أليس هذا هو الواقع؟! لماذا؟ لأن هذا يملكه صاحبه، فأمر الملك لا ينفذ فيه. هل يستطيع الملك أن يطلق امرأتك؟ الجواب: لا، لا ينفذ تطليقه لو قال: بأن امرأتك طالق. فإن الطلاق لا يقع، لو قال: بأن هذا المملوك عندك حر. فإن ذلك لا يكون عتقًا له، فملك فيها من الكمال والمعنى ما لا يوجد في المالك، والمالك فيها من الكمال والمعاني ما لا يوجد في ملك، ولهذا ثبت الاسمان لله  (مَلِكِ) و (مالك)، وثبت ذلك في هذه الآية بقراءتين، والقاعدة أن القراءتين إن كان لكل قراءة معنى بمنزلة الآيتين، ومن هنا يقال: القرآن يُعبر به بالألفاظ القليلة الدالة على المعاني الكثيرة.

وهذا من بلاغة القرآن، ومن وجوه الإعجاز تجدون في الكلام على اختلاف الأحرف السبعة وتنوعها والقراءات يقولون: مما يؤخذ من ذلك إعجاز القرآن. من أي وجه؟ لاحظ كثرة المعاني بعبارات قصيرة عبارات قليلة وتحتها من المعاني الكثير، فالقراءتان بمنزلة الآيتان، فـ الله هو الملك والمالك، فكل ذلك ثابت له تبارك وتعالى.

(مالك يوم الدين): اليوم في الأصل هو القطعة من الزمن قلّت أو كثرت، طالت أو قصرت يعني مطلق الوقت، فقد يقال للزمن وإن كان قليلًا، إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ آل عمران:155]: يعني وقت التولي كان محدودًا لم يكن يومًا كاملًا.

وكذلك يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ [الأنعام:158]: يعني في الوقت الذي تظهر فيه هذه الآية وهي طلوع الشمس من مغربها.

وقال تعالى: وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ [مريم:15]، وقت الولادة محدود، وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا [مريم:15]، هذه أوقات محدودة وعُبّر عنها باليوم، كما يطلق أيضًا على الزمن المديد الطويل، وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ [الحج:47]، تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ [المعارج:4]، أما اليوم في الشرع: فيكون من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، قال تعالى: أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ [البقرة:184]، فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة:184]، فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ [البقرة:196]، وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ [البقرة:203]، فهذا يقال: أيام منى.

فاليوم من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، والعرب قد تطلق اليوم وتقصد مع ليلته كما هو معروف.

وأما الدِّينِ: فالحساب والجزاء على الأعمال خيرها وشرها يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ [النور:25]: يعني: جزاء الأعمال.

فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ [الواقعة:86]: يعني غير مجزيين بأعمالكم محاسبين عليها، قول الكفار فيما ذكر الله عنهم أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَدِينُونَ [الصافات:53]: يعني لمجزيون على أعمالنا.

وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ [الذاريات:6]: يعني الجزاء على الأعمال واقع حقيقة، كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ [الانفطار:9]: الجزاء والحساب على الأعمال، يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ ۝ وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ ۝ وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ [الانفطار:15-17]، فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ [التين:7]: يعني البعث والحساب وما يتبع ذلك من الجزاء على الأعمال فكل هذا داخل فيه، والمقصود بيوم الدين: يوم القيامة. يوم قيام الناس من قبورهم ويجازون على الأعمال، الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ [غافر:17]، فـ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ: يعني مالك ذلك اليوم وهو مليكه على القراءتين لا ملك سواه، ولا مالك سواه، لا ينازعه في ذلك أحد، فأمره فيه نافذ.

والله تبارك وتعالى يقول: وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ [الأنعام:73]، الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ [الحج:56]، الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ [الفرقان:26]، لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ [غافر:16]، هو مالك الدنيا والآخرة لكنه خص ذلك اليوم مع أنه يملك ما قبله كما قال الله : وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى [الليل: 13].

باعتبار أنه المتفرد في ذلك اليوم بالملك فلا أحد يدعي الملك سواه، في الدنيا يوجد ملوك ولكن في الآخرة لا يوجد. أيضًا هو أعظم فلا يقاس بالدنيا فإذا كان لا مالك لذلك اليوم فهو لما دونه أملك، مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ إذا كان يملك ذلك اليوم العظيم الذي لا يدعي فيه أحد، يقبض الله الأرض يوم القيامة، ويطوي السماء بيمينه، ثم يقول: أنا الملك أين ملوك الأرض؟[26].

لا أحد يدعي فيه ملك، كل أحد يريد فكاك رقبته، يفر المرء من أقرب الناس إليه يراهم ويبصرهم، يُبَصَّرُونَهُمْ [المعارج:11]، لكنه يريد أن يدفع عن نفسه وأن يخلصها فتنقطع أملاك الخلائق في ذلك اليوم، قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ [آل عمران:26]، الله  هو الذي يعطي من شاء الملك وينزعه ممن يشاء، أما في الآخرة فكل ذلك يزول، والله المستعان، وذلك اليوم هو اليوم الحقيقي مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ، وهنالك تلك الدار الحقيقية، وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [العنكبوت:64]، الحياة الحقيقية هناك لذلك أضاف ملكه ليوم الدين، وإن كان ذلك لا ينفي ملكه عما عداه، والله تعالى أعلم.

"الفائدة الثامنة: الرحمن الرحيم ملك صفات، فإن قيل: كيف جر ملكِ وملكِ صفة للمعرفة، وإضافة اسم الفاعل غير محضة؟ فالجواد أنها تكون غير محضة إذا كان بمعنى الحال أو الاستقبال، وأما هذا فهو مستمر دائم، فإضافته محضة".

مضى الكلام على معاني الرحمن الرحيم في الكلام على البسملة، ولا حاجة لإعادته، وكذلك في الكلام على الغريب مضى شيء من هذا.

"الفائدة التاسعة: يوم الدين، هو يوم القيامة، ويصلح هنا في معاني الدين الحساب والجزاء والقهر، ومنه: أَئِنَّا لَمَدِينُونَ [الصافات:53]".

وهذا أيضًا مضى الكلام عليه آنفًا يوم الدين يوم الجزاء ولماذا خُص بذلك، لعلنا نتوقف عند هذا.

أسئلة:

س: يقول الأخ: من خلال ما ذُكر من كون سورة الحجر: وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي [الحجر:87]، نازلة في مكة ويدل ذلك على نزول سورة الفاتحة بمكة، وأن صاحب الجلالين يقول: إن هذه السورة نزلت بعد كذا ... إلخ قبل كذا، ما مدى صحة هذا وهل لذلك أهمية؟.

جـ: أما الصحة فلا يثبت، هذا الترتيب جاء في سياق في نحو روايتين كلاهما لا تصح، ترتيب السور سردًا هكذا أنها نزلت كذا ثم كذا ثم كذا، الذي بنى عليه عامة المفسرين فهذا لا يثبت في ترتيب السور هكذا في نسق جميع السور مرتبة، الأحاديث الواردة فيها ضعيفة، لكن يُعرف أن بعض السور نزلت قبل بعض أو نحو ذلك من قرائن أو أدلة مثل هذه الآية: وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي [الحجر:87]، وكما في قوله: وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ [النحل:118]، هذه قاله في النحل، والذي قصه من قبل مفصلًا في سورة الأنعام وهي مكية قال: وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ [الأنعام:146]، فهذا تفصيل للإجمال في قوله: مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ، فدل على أن سورة الأنعام نازلة بمكة قبل سورة النحل، هذه قرائن.

س: هل هناك فائدة من معرفة نزول السور أن هذه قبل هذه ... إلخ؟.

جـ: الجواب: نعم، وقد ذكر الشاطبي -رحمه الله- في الموافقات: بأن القرآن المكي منزل في الفهم بعضه على بعض. يعني بحسب ما نزل، يعني مثلًا سورة النحل منزلة في الفهم على سورة الأنعام، حتى تفهم ما جاء فيها تحتاج أن تفهم سورة الأنعام مثلًا، وهكذا كل سورة بالنظر إلى السور التي نزلت قبلها في مكة. ويقول: بأن السور المدنية منزلة في الفهم على السور المكية وأن السور المدنية منزلة في الفهم على بعضها. يعني ما نزل قبلها من أوائل السور في المدينة البقرة ومن أواخر السور في الأحكام المائدة، وحتى تفهم المائدة تحتاج أن تفهم ما نزل في البقرة مثلًا، وهذا الكلام في الجملة لا إشكال فيه، ويدور حوله الذين يتحدثون عن الوحدة الموضوعية في القرآن وهؤلاء قد يبالغ بعضهم ويتكلف في الربط بين السور في الفهم تكلفات مع أن ذلك لا يثبت أن هذه السورة نزلت بعد هذه، وهذه بعد هذه؛ لأن الأدلة الواردة في سردها لا تصح، فيتكلفون فيقعون في شيء من التكلفات والاعتدال في الأمور مطلوب، فهذا له أهمية وله فائدة في الفهم ومعرفة الناسخ والمنسوخ، بمعرفة المتقدم والمتأخر حال التعارض فإن هذا من الطرق التي يُعرف بها الناسخ والمنسوخ، والله أعلم.

س: [...].

جـ: الشكر باللسان أن يقول: أشكر الله على هذه النعمة، على ما أعطاني، على ما رزقني. فهو كما يقول شيخ الإسلام: بمعنى الحمد. بهذا الاعتبار، الحمد يكون بمعنى الشكر على النعمة باللسان فيتفق الشكر والحمد من هذه الحيثية أن ذلك مما يتعلق باللسان فإن كان مع مواطأة القلب يعني الحمد فهذا هو الشكر باللسان، أن يكون المعنى واحد بهذا الاعتبار، فيقول: أحمد الله على هذه النعمة، أشكره على هذه النعمة، نحمده ونشكره، الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله. هذا شكر.

س: كيف كان يُصلي قبل الفاتحة ...

جـ: لا، حديث أبي سعيد بن المعلى النبي ﷺ قال له: بأنه سيعلمه أعظم سورة في القرآن. هو كان يقرأ في الفاتحة ويعرفها وهذا كان في المدينة ويسمع النبي ﷺ يقرؤها في الصلاة ويجهر بها لكنه أراد أن يُعلمه أمرًا زائدًا وهو أن الفاتحة هي أعظم سورة، مثل ما لو قلت الآن: سأخبرك بأعظم سورة في القرآن. هل يعني أنك لا تقرأ الفاتحة وما سمعت بها؟ الجواب: لا، لكن هذه فائدة بمزية هذه السورة ومنزلتها، مثل ما قال النبي ﷺ لأُبَيّ بن كعب: (أي آية من كتاب الله معك أعظم؟) فقال: اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ...  [البقرة:255]. فقال: ليَهْنِك العلم أبا المنذر[27]، فهو استطاع أن يعرف أن هذه أعظم آية في القرآن، فالنبي ﷺ أخبر أبا سعيد بن المعلى  أعظم سورة، فالقدر الزائد هو مزية هذه السورة أنها أعظم سورة فقط، لا أنه ما كان يسمع بها ولا عرفها ولا حفظها ولا يصلي بها إطلاقًا لم يقل هذا أحد.

س: ما هو القول الراجح في قراءة سورة الفاتحة؟.

جـ: ذكرت هذا وقلت: كأن الأقرب -والله أعلم- لو قال قائل: بأنها لا تُترك في الصلاة السرية ولا الجهرية. والقول الآخر قوي: أنها تُقرأ في السرية ولا تُقرأ في الجهرية، لكن لو قيل: بأنها تقرأ مطلقًا لعل هذا أقرب، والله أعلم.

 

  1. أخرجه ابن أبي الدنيا في الشكر (ص:25)، رقم: (64)، بلفظ: ((التحدث بالنعم ...)).
  2. انظر: تفسير القرطبي (1/133).
  3. تفسير الطبري (1/135).
  4. انظر: الشكر لابن أبي الدنيا (ص:30)، رقم: (81).
  5. أخرجه البخاري، كتاب التهجد، باب: قيام النبي ﷺ الليل حتى ترم قدماه، رقم: (1130)، ومسلم، كتاب صفة القيامة والجنة والنار،  باب إكثار الأعمال والاجتهاد في العبادة، رقم: (2819).
  6. أخرجه البخاري، كتاب الشروط، باب ما يجوز من الاشتراط والثنيا في الإقرار، والشروط التي يتعارفها الناس بينهم، وإذا قال: مائة إلا واحدة أو ثنتين، رقم: (2736)، ومسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب في أسماء الله تعالى وفضل من أحصاها، رقم: (2677).
  7. أخرجه أحمد (7/341)، رقم: (4318)، وابن حبان (3/253)، رقم: (972)، والحاكم في المستدرك (1/690)، رقم: (1877).
  8. مجموع الفتاوى (8/378).
  9. أخرجه مسلم، كتاب الصلاة، باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة... رقم: (395).
  10. مجموع الفتاوى (6/84).
  11. مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (1/49).
  12. نونية ابن القيم = الكافية الشافية (ص:20).
  13. أخرجه مسلم، كتاب الأشربة، باب جواز استتباعه غيره إلى دار من يثق برضاه بذلك، وبتحققه تحققا تاما، واستحباب الاجتماع على الطعام، رقم: (2038).
  14. أخرجه النسائي في السنن الكبرى، كتاب عمل اليوم والليلة، ذكر ما اصطفى الله جل ثناؤه من الكلام، (9/309)، رقم: (10608).
  15. أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (4/470)، رقم: (8391)، ومالك في الموطأ (1/214)، رقم: (32).
  16. أخرجه مالك في الموطأ (1/214)، رقم: (32)، والبيهقي في الدعوات الكبير (2/158)، رقم: (536). 
  17. أخرجه الترمذي، أبواب المناقب عن رسول الله ﷺ، رقم: (3701)، والحاكم في المستدرك (3/110)، رقم: (4553).
  18. أخرجه البخاري، كتاب أصحاب النبي ﷺ، باب مناقب علي بن أبي طالب القرشي الهاشمي أبي الحسن ، رقم: (3706)، ومسلم، كتاب فضائل الصحابة ، باب من فضائل علي بن أبي طالب ، رقم: (2404).
  19. أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب معرفة الإيمان، والإسلام، والقدر وعلامة الساعة، رقم: (8).
  20. البحر المحيط في التفسير (6/56).
  21. أخرجه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب في فضل الحب في الله، رقم: (2567).
  22. أخرجه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب قوله: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:40]، رقم: (4666).
  23. مجموع الفتاوى (14/13).
  24. مجموع الفتاوى (14/13).
  25. مجموع الفتاوى (14/12).
  26. أخرجه البخاري، كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: {ملك الناس} [الناس:2]، رقم: (7382)، ومسلم، كتاب صفة القيامة والجنة والنار، رقم: (2787).
  27. أخرجه مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضل سورة الكهف، وآية الكرسي، رقم: (810).

مواد ذات صلة