"وقسمٌ فيها خلاف: هل هي مكية أو مدنية؟
وهي ثلاث عشرة سورة: أم القرآن، والرعد، والنَّحل، والحجّ، والإنسان، والمطففون، والقدر، ولم يكن، وإذا زُلزلت، وأرأيت، والإخلاص، والمعوّذتان".
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
أما بعد: فهذه السور التي قال: "فيها خلاف"، سمَّى ثلاث عشرة سورة، ابن الحصار عدَّ ثنتي عشرة سورة، فعدَّ من هذه الثلاث عشرة تسعًا، وزاد: الرحمن، والصف، والتَّغابن[1]. لكنَّه لم يذكر: النَّحل، والحجّ، والإنسان، وأرأيت، لاحظ.
فعلى كل حالٍ، هؤلاء العلماء -رحمهم الله- يذكرون الاتِّفاق والاختلاف بحسب ما وقفوا عليه، ويُخالفهم في ذلك آخرون.
نعم، الأول كثير: الآيات المدنية في السور المكية كثير، لكن الآيات المكية في السور المدنية يقول: "قليل، مُختَلفٌ في أكثره"، مع أنَّ الحافظ ابن حجر قال عن هذا النوع الأخير: آيات مكية في سور مدنية، يقول: "هذا لم أره إلا نادرًا"[2].
وكما قلتُ لكم: أنَّ باب الدَّعوى واسع وكثير في كتب التفسير، لكن ما الذي يثبُت من ذلك؟ يعني: سورة يُختلف فيها مثلًا: سورة العنكبوت، فيذكر الله في صدرها المنافقين، فبعضهم يقول: هذه مدنية، بأي اعتبارٍ؟ السورة المشهور أنها مكيّة، الجمهور على أنها مكيّة، بأي اعتبارٍ؟
قالوا: النِّفاق لم يوجد إلا بالمدينة، إذًا هي مدنيَّة[3].
مع أنَّ هذا الكلام بهذا الإطلاق: أن النِّفاق لم يوجد إلا بالمدينة، مع أنَّه مشهور، إلا أنَّه يحتاج إلى تحريرٍ، يحتاج إلى نظرٍ، يقولون: مكّة مرحلة استضعاف، فلا حاجةَ لظهور المنافقين.
فيُقال: النِّفاق ألوان، فالناس من ضُعفاء الإيمان إذا ابتُلُوا؛ فإنَّه قد يحصل لهم تلوّنٌ وضَعْفٌ، فينتقل إلى مرحلةٍ يمكن أن يُطْلَق عليها ...، ينتقل إلى حالٍ يمكن أن تُسمَّى: بالنِّفاق.
يقولون: النِّفاق لم يظهر إلا بعد غزوة بدر؛ لما قَوِيَ الإسلام.
مع أنَّ الله -تبارك وتعالى- قال عن واقعة بدر فيما قصَّ عن خبرها، ومسير المسلمين إليها: إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ [الأنفال:49]، لكن في مسير المسلمين إلى بدر: "غرَّ هؤلاء"، فهذا قبل غزوة بدر، في مسيرهم إليها، من أين جاء هؤلاء؟
كذلك أيضًا في سورة المنافقين: وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ [العنكبوت:11]، هذه مكيّة، فيُمكن أن يكون هذا بأي اعتبارٍ؟
باعتبار أنَّ التَّحول والتَّلون ضَعفٌ عند الابتلاء؛ أنَّ هذا ينتقل معه بعضُ المنتسبين إلى الإسلام إلى حالٍ هي حال النِّفاق، فيُمكن أن يقع هذا في مرحلة الاستضعاف في مكّة مع الابتلاء، والله تعالى أعلم.
"واعلم أنَّ السور المكية نزل أكثرُها في إثبات العقائد، والردِّ على المشركين، وفي قصص الأنبياء.
وأنَّ السور المدنية نزل أكثرُها في الأحكام الشَّرعية، وفي الردِّ على اليهود والنَّصارى، وذكر المنافقين، والفتوى في مسائل، وذكر غزوات النبي ﷺ".
الآن هذه الأمارات والسِّمات العامَّة للقرآن المكي والمدني، سمات عامّة، هذا لا إشكالَ فيه، يعني: السور المكية تتحدث عن قضايا الاعتقاد، والردِّ على المشركين، وقصص الأنبياء في الجملة -في الغالب-، وأنَّ المدنية في تقرير الأحكام الشَّرعية، والردّ على أهل الكتاب، وذكر المنافقين، ... إلى آخره، هذا في الجملة، يعني: في الغالب، وإلا فيُوجد من هذا في هذا، ومن هذا في هذا، لكن هذه السِّمات العامَّة باعتبار الأغلب.
فهذا لا إشكالَ فيه، لكن حينما نأتي لسمات خاصّة، يعني: ما يُسمّى بالضَّوابط: ضوابط المكي، والمدني، فهذا الذي فيه إشكال.
قد لا تكون كثيرٌ من هذه الضَّوابط دقيقة، قد لا يكون كثيرٌ منها بهذه المثابة، مثلًا هنا يقول، بدأ يذكر الضَّوابط الآن بعد السِّمات العامَّة.
لمعرفة المكي والمدني، كيف نعرف المكي والمدني؟
له طريقان:
الطريق الأول: سماعي، مبناه على النَّقل والرِّواية.
الطريق الثاني: قياسي، يُعرف بالعلامات، لكن هذه العلامات هي علامات استقرائية، بمعنى: أننا لا نحكم على الآية أو السورة -كما سبق- باعتبار معنًى لاح لنا بأنها مكية، أو مدنية، لكن هذه العلامات هي علامات استقرائية، يعني: استُقْرِئ فيها المكي، فقيل: كل سورةٍ قيل فيها كذا فهي مكيّة، واستُقْرِئ فيها المدني: كل سورةٍ قيل فيها كذا فهي مدنية بهذا الاعتبار.
لو كان هذا الاستقراءُ دقيقًا، فهذه الطَّريق قياسية، التي تُعرف بهذه العلامات، فذكر منها أنَّه حيثما ورد: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا فهو مدني، وأمَّا يَا أَيُّهَا النَّاسُ يقول: فقد وقع في المكي والمدني.
العلماء ذكروا من هذا أشياء، مثلًا يقولون: كل سورةٍ فيها لفظ (كلا) فهي مكيَّة، جاء هذا في ثلاثةٍ وثلاثين موضعًا في القرآن، في خمس عشرة سورة، كلّها في النصف الأخير من القرآن.
يقولون: كل سورةٍ فيها سجدة فهي مكية، يُستثنى من هذا سورة الحج، ففيها خلافٌ معروفٌ.
كل سورةٍ في أوَّلها حروف التَّهجي فهي مكية، يقولون: سوى سورة البقرة وآل عمران، فهما مدنيتان بالإجماع، وفي الرعد خلافٌ.
يقولون: كل سورةٍ فيها قصص الأنبياء والأمم السَّابقة فهي مكية، سوى سورة البقرة.
كل سورةٍ فيها قصّة آدم وإبليس فهي مكية، سوى البقرة.
كل سورةٍ فيها: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، وليس فيها يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا -بهذا القيد- فهي مكية، لكن سورة الحج فيها خلافٌ.
كل سورةٍ من المفصل فهي مكية.
هكذا قال بعضُهم، لكن يحتجّ بمثل ما جاء عن ابن مسعودٍ قال: "نزل المفصل بمكّة، فمكثنا حججًا نقرؤه، لا ينزل غيره"[4].
يحتجّون بمثل هذه الرِّوايات، بصرف النَّظر عن صحّتها، وإلا فلا شكَّ أنَّ من سور المفصل ما هو مدني، يعني: سورة الكوثر مثلًا، وسورة إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ [النصر] هي آخر سورة نزلت على النبي ﷺ، سورة كاملة، فهي مدنية، وهي من المفصّل.
كذلك مثل: سورة الطلاق، وسورة الممتحنة، وسورة المجادِلة، وسورة الجُمعة، وسورة المنافقون، وسورة الصف، كلّ هذا من المدني، فهذه الضَّوابط لا تخلو من اعتراضات في أغلبها.
ضوابط المدني: مثلًا يقولون: كل سورةٍ فيها الحدود والفرائض فهي مدنية، وكل سورةٍ فيها إذنٌ بالجهاد، وبيانٌ لأحكام الجهاد؛ فهي مدنية، وكل سورةٍ فيها ذكر المنافقين فهي مدنية، ما عدا سورة العنكبوت، ففيها خلافٌ، وقلنا: بأنَّ الجمهور يقولون: أنَّها مكيّة.
ابن كثير -رحمه الله- يقول بأنَّ هذه الضَّوابط التي حاولوا أن يضبطوا بها المكي والمدني في أكثرها عسرٌ ونظرٌ[5]، يعني: لا تخلو من إشكالات، والله أعلم.
"الباب الثالث: في المعاني والعلوم التي تضمّنها القرآن.
ولنتكلم في ذلك على الجملة والتَّفصيل.
أمَّا على الجملة: فاعلم أنَّ المقصود بالقرآن دعوة الخلق إلى عبادة الله، وإلى الدُّخول في دين الله.
ثم إنَّ هذا المقصد يقتضي أمرين لا بدَّ منهما، وإليهما ترجع معاني القرآن كلّه".
لاحظوا: اﻵن المعاني والعلوم التي تضمّنها القرآن، اﻵن ما فائدة بحث هذا الموضوع؟
هذا له عدّة فوائد، لكن بالنسبة للمُفسّر معنى ذلك: أنَّه سيُعْنَى بهذه الجوانب في هذا التَّفسير، أنَّ هذه من الموضوعات التي جاء القرآنُ لتقريرها، وشرحها، وبيانها، إذًا على المفسّر أن يهتمَّ بهذه الموضوعات، هذا بالنسبة للمُفسِّر.
طبعًا بالنسبة لغير المفسّر: الموضوعات التي يُعنى بها القرآن: نعرف أهمية هذه الموضوعات، مثلًا: أن نتتبع ذلك، وأن نُعْنَى به في تدبّرنا وتلاوتنا، فهذا القرآن كتاب هدايةٍ، ما القضايا التي يدور عليها، ويشرحها، ويُبينها؟
فهذه الموضوعات قد يُقال لها: موضوعات القرآن، وبعضهم يتحدّث عن مقاصد القرآن، يعني: الجوانب التي قصد القرآنُ بيانها وإيضاحها، والأمر مُقارب، فهذا يُحتاج إليه.
يعني: نحن نعلم أنَّ ابن جزي مثلًا حينما يذكر هذه القضايا إذًا هو سيعتني بها.
والعلماء -رحمهم الله- يتفاوتون في ذكر هذه الموضوعات، كما يتفاوتون في ذكر المقاصد، وبعضهم يذكر ذلك في مقدمة كتابه في التفسير، مثلما فعل ابن جزي هنا، ومثلما فعل الطَّاهر بن عاشور.
"أحدهما: بيان العبادة التي دُعي الخلقُ إليها.
والآخر: ذكر بواعث تبعثهم على الدُّخول فيها، وقودهم إليها.
فأمَّا العبادة فتنقسم إلى نوعين، وهما: أصول العقائد، وأحكام الأعمال.
وأمَّا البواعث عليها فأمران، وهما: الترغيب، والترهيب".
يقصد باعتبار أنَّ العبادة تنتظم عبادة القلب، وعبادة الجوارح؛ فعبادة القلب يدخل فيها -أول ما يدخل- التوحيد، والخوف، والرَّجاء، والمحبّة، وما إلى ذلك من اﻷعمال القلبية، وكذلك أعمال الجوارح.
بيان العبادة: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذَّاريات:56]، يُبين، يشرح هذه العبادة والبواعث إليها؛ ما يتعلّق بالترغيب والترهيب، يعني يقول: هذان أصلان جاء القرآنُ لبيانهما، ثم يذكر بعد ذلك تفاصيل ما يدخل تحت هذين اﻷصلين.
"وأمَّا على التفصيل: فاعلم أنَّ معاني القرآن سبعة: وهي علم الربوبية، والنبوة، والمعاد، والأحكام، والوعد، والوعيد، والقصص.
فأمَّا علم الربوبية: فمنه إثبات وجود الباري ، والاستدلال عليه بمخلوقاته، فكلّ ما جاء في القرآن من التَّنبيه على المخلوقات، والاعتبار في خلقة الأرض، والسَّماوات، والحيوان، والنَّبات، والرياح، والأمطار، والشمس، والقمر، والليل، والنَّهار، وغير ذلك من الموجودات؛ فهو دليلٌ على خالقه".
طبعًا هنا علم الربوبية جعله هكذا بهذا الإطلاق، وأدخل تحته: توحيد الربوبية، وتوحيد اﻹلهية الذي سيذكره بعده: إثبات الوحدانية، والردّ على المشركين، ... إلى آخره، والتَّعريف بالصِّفات، فأدخل أنواع التوحيد الثلاثة في الربوبية.
وعلى كل حالٍ، مثل هذا الذي ذكره هنا من أنَّ علم الربوبية منه إثبات وجود الباري، ... إلى آخره، والاستدلال عليه بمخلوقاته، في الواقع أنَّ القرآن إنما يذكر ذلك من أجل التوصّل إلى النوع الذي جادل فيه المشركون، وأبوا كلّ الإباء الدُّخول في الإيمان بسببه: أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ[ص:5]، فهم كابروا في توحيد الإلهية، وأنكروا ذلك غاية الإنكار، لكنَّهم ما كانوا يُنكرون في الجملة توحيد الربوبية، فكانت النصوص التي تُذكر في القرآن -وهي كثيرة جدًّا- في تقرير الربوبية، كانت تُذْكَر كمُقدّمة ﻹثبات الإلهية، وإلا لم يكن القرآنُ يُعنى بتقرير وإثبات الربوبية التي كانت مُسلَّمةً من الـمُسَلَّمات في اﻷصل -في الجملة- عند هؤلاء المكذّبين.
ولذلك يُعاب على أصحاب الطُّرق الكلامية مثلًا: أنهم يُجهدون أنفسَهم في تقرير وإثبات توحيد الربوبية بأدلةٍ كثيرةٍ، وإثبات وجود الله ، كما قال بعضُهم عن الرازي: أنَّه يعرف على وجود الله ألف دليلٍ؛ لما قاله لتلك المرأة العجوز لما رأت كوكبةً من تلامذته معه، وقالت: مَن هذا؟ قالوا: هذا الذي يعرف على وجود الله ألف دليلٍ. فقالت: لو لم يكن في قلبه ألفُ شكٍّ لما عرف ألفَ دليلٍ[6].
وليس يصحّ في اﻷذهان شيءٌ | إذا احتاج النَّهار إلى دليل[7] |
فهذا لا يُحتاج إليه بالنسبة للمُخاطَبين بالقرآن ممن كانوا يُقرّون بوجود الله ، وهذه مُسلَّمة عندهم.
فما كان القرآنُ يُعنى بإثبات وجود الله، أو بإثبات أنَّه هو الربّ، الخالق، الرازق، المحيي، المميت، وإنما كانوا يُجادلون في اﻹلهية، فكانت تُذْكَر على أنها مُقدّمة؛ لذلك كانت طريقةُ الجدل في القرآن هي من هذا الباب، بخلاف طرق المتكلمين الذين يُطوّلون المقدّمات في المسلَّمات؛ من أجل إثباتها، أمَّا القرآن فهو ينتقل منها مباشرةً إلى النوع الذي كانوا يُجادلون به ويُكابرون، وهذا فرقٌ مهمٌّ جدًّا بين طريقة القرآن في الجدل والردِّ على المخالفين، وطريقة أهل الكلام.
فهذا الذي يذكره -رحمه الله- من أنَّ القرآن كان يُقرر هذه القضية، هذا الكلام فيه نظر، بل حتى اﻵيات التي أمر الله فيها بالسّير في الأرض: قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ [العنكبوت:20]، فهذه إنما خُوطب بها مَن كان عنده نوع ترددٍ وشكٍّ، أمَّا الذين قد ثبت يقينهم وإيمانهم فما كانوا بحاجةٍ إلى هذا، ولم يكن هذا الخطابُ مُتوجِّهًا إليهم: السَّير في اﻷرض للنَّظر في عواقب المكذّبين، الأمم الـمُهْلَكة، هذا للمُكذّبين، لمن عنده ترددٌ، لمن عنده شكٌّ.
مع أنَّ الوحدانية -كما نعرف- ليست من الربوبية، بل إنَّ الربوبية مُضمَّنة في توحيد الإلهية؛ فإنَّ الإله لا بدَّ أن يكون ربًّا، فإذا أثبت أنَّه إلهٌ فهذا يتضمن أنَّه هو الربّ وحده، لكن توحيد الربوبية إذا قلت: بأنَّ الله هو الربّ، الخالق وحده، الرازق وحده، ... إلى آخره، الذي هو توحيد المعرفة والإثبات، فيدخل فيه توحيد الربوبية، وتوحيد اﻷسماء والصِّفات.
فإذا قلت: لا خالقَ إلا الله، لا رازقَ إلا الله؛ وحَّدتَه بأفعاله؛ فهذا يقتضي أن تُوحّده في أفعالك أنت، فتوحيد الربوبية: أن تُوحّده بأفعاله، تقول: لا خالقَ إلا الله، لا رازقَ إلا الله، لا مُحيي إلا الله، لا مُميتَ إلا الله.
وتوحيد الإلهية: أن تُوحّده بأفعالك: قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ [الأنعام:162-163]، فنُوحّده في صلاتنا، لا نُصلِّي لغيره، وفي ذبحنا، وفي غير ذلك من العبادات، هذا توحيد الإلهية.
فتوحيد الربوبية يستلزم توحيد الإلهية، وأمَّا الإلهية فيتضمن الربوبية، فكيف يُجعل توحيدُ الإلهية هنا من جملة توحيد الربوبية، فيكون داخلًا تحته؟!
هذا غير صحيحٍ -والله أعلم-، بل هو من لوازم الربوبية، فيُجعل هو اﻷصل: توحيد الإلهية، والقرآن جاء لتقرير توحيد الإلهية، ولو قال في الجملة: بأنَّ القرآن جاء لتقرير التوحيد بأنواعه الثلاثة مثلًا؛ فلا إشكالَ في هذا، لكن الذين تأثَّروا بالمذاهب الكلامية غلب عليهم ذكر الربوبية حينما يذكرون التوحيد، سواء عند التَّعريف به، أو عند الـمُحاجّة والاستدلال، ونحو ذلك.
لاحظ: هنا عدّ خمس صفات، وفي بعض النُّسخ المطبوعة زيادة بعد القُدرة: الإرادة، فيكون قد عدَّ ستّ صفات، وهذه الصِّفات الستّ هي ستٌّ من السبع المشهورة التي يُثبتها اﻷشاعرة من طريق العقل، يقولون: هذه صفات دلَّ عليها العقل.
لكن كما عرفنا بالمقدّمة في التَّعريف بابن جزي وكتابه: أنَّه يُثبت من صفات الله الذاتية والفعلية المتعلقة بالمشيئة، والإرادة، ونحو ذلك، يُثبت أكثر من هذا، ولا يقتصر على هذه الصِّفات؛ ولهذا قال: "وغير ذلك من أسمائه وصفاته، والتَّنزيه عمَّا لا يليق به".
وعرفنا أنَّه أثبت صفةَ التَّعجب لله : بَلْ عَجِبْتُ وَيَسْخَرُونَ [الصافات:12] على هذه القراءة أثبتها، وأثبت غيرها: كصفة الحياء مثلًا، ونحو ذلك، فهو لا يقتصر على هذه الصِّفات، لكنَّه عدَّ ستًّا من سبعٍ، لكن لا يقصد بذلك الحصر.
"وأمَّا النبوّة: فإثبات نبوّة الأنبياء -عليهم السلام- على العموم، ونبوة محمد -صلَّى الله عليه وآله وسلَّم- على الخصوص، وإثبات الكتب التي أنزلها اللهُ عليهم، ووجود الملائكة الذين كان منهم وسائط بين الله وبينهم، والردّ على مَن كفر بشيءٍ من ذلك.
وينخرط في سلك هذا: ما ورد في القرآن من تأنيس النبي ﷺ، وكرامته، والثَّناء عليه، وسائر الأنبياء -صلَّى الله عليه وعليهم أجمعين-.
وأمَّا المعاد: فإثبات الحشر، وإقامة البراهين عليه، والردّ على مَن خالف فيه، وذكر ما في الدار الآخرة من الجنة، والنار، والحساب، والميزان، وصحائف الأعمال، وكثرة الأهوال، وغير ذلك.
وأمَّا الأحكام: فهي الأوامر، والنَّواهي، وتنقسم خمسة أنواع: واجب، ومندوب، وحرام، ومكروه، ومباح. ومنها ما يتعلّق بالأبدان: كالصَّلاة، والصيام، وما يتعلّق بالأموال: كالزكاة، وما يتعلّق بالقلوب: كالإخلاص، والخوف، والرجاء، وغير ذلك".
نعم، يعني: هنا ذكر في اﻷحكامِ اﻷحكامَ الخمسة، أقسام الحكم التَّكليفي الخمسة، يعني: ما طلب الشارعُ فعلَه: إمَّا جزمًا، أو بغير جزمٍ -يعني: طلبًا غير جازمٍ-: الواجب، والمندوب، وما نهى عنه نهيًا جازمًا، أو غير جازمٍ: المحرم، والمكروه، بقي مُستوي الطَّرفين: وهو المباح.
فلا يخلو شيءٌ من حكمٍ للشارع، سواء قيل: بأنَّ هذه الإباحة هي الإباحة الشَّرعية، وهي التي يقصدونها عادةً في ذكر أقسام الحكم التَّكليفي، أو كانت الإباحة الأصلية؛ بحيث أنَّ الشارع لم يتعرض لذلك، فأقرّهم، وتركهم على ما كانوا عليه قبل ورود الشَّرع، التي يُسمّونها: البراءة اﻷصلية.
فعلى كل حالٍ، اﻷحكام تدور حول هذه الخمسة -كما هو معلومٌ-، فالإباحة هي من جملة اﻷحكام الشَّرعية، باعتبار أنَّ الشارع أباح ذلك للمُكلَّفين، وصاروا مُخيرين في فعله وتركه على استواءٍ، يعني: لا يترجّح جانب الترك، ولا جانب الفعل إلا بالنية، يعني: إذا نوى به القُربة –يعني: المباح- صار طاعةً، وإن نوى به مُحرَّمًا صار له الحكم اللَّائق به، مثل: النوم، والأكل، والشُّرب، لو أراد به التَّقوي على الطَّاعة -هو مباح- فإنَّه يكون قُربةً، ولو أراد به التَّقوي على المعصية يكون معصيةً.
"وأمَّا الوعد: فمنه وعدٌ بخير الدنيا، من: النَّصر، والظُّهور، وغير ذلك، ومنه وعدٌ بخير الآخرة -وهو الأكثر-: كأوصاف الجنة، ونعيمها.
وأمَّا الوعيد: فمنه تخويفٌ بالعقاب في الدنيا، ومنه تخويفٌ بالعقاب في الآخرة -وهو الأكثر-: كأوصاف جهنم وعذابها، وأوصاف القيامة وأهوالها.
وتأمّل القرآن تجد الوعدَ مقرونًا بالوعيد، قد ذُكِرَ أحدُهما على إثر ذكر الآخر؛ ليجمع بين الترغيب والترهيب، وليتبين أحدُهما بالآخر، كما قيل: "فبضدّها تتبين الأشياء".
وأمَّا القصص: فهو ذكر أخبار الأنبياء المتقدّمين وغيرهم: كقصّة أصحاب الكهف، وذي القرنين.
فإن قيل: ما الحكمة في تكرار قصص الأنبياء في القرآن؟
فالجواب من ثلاثة أوجهٍ".
قال: "أمَّا القصص: فهو ذكر أخبار الأنبياء"، هذا هو السَّابع من هذه المعاني والعلوم التي اشتمل عليها القرآنُ، هذا هو الأخير.
لاحظ: هذه الأقسام السَّبعة يمكن أن تُدْمَج، أن يُدْخَل بعضُها في بعضٍ، مثلًا لو قيل: الموضوعات التي يدور حولها القرآن، كما تُلاحظون هو أدمجها في اثنين، في أصلين، ثم جعلها على سبيل التَّفصيل في سبعةٍ.
يعني: لو قيل مثلًا: القسم الأول: هو ما يتعلّق بأصول الاعتقاد مثلًا، أو أصول الإيمان، ويدخل في ذلك: الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورُسله، والقدر، واليوم الآخر، فهذا نوعٌ من الموضوعات التي يدور حولها القرآن، تقرير أصول الإيمان مثلًا، أصول الاعتقاد.
القسم الثاني: الذي هو الفروع العملية: الحلال، والحرام، ونحو ذلك.
القسم الثالث: القصص، واﻷمثال.
فإذا أردتَ أن تزيد قسمًا رابعًا فيُمكن أن تقول: اﻷخلاق، والسلوك، والآداب، وما إلى ذلك، مع أنها في الواقع تدخل في جملة اﻷحكام، فيُمكن أن تُجعل العلوم على ثلاثة، أو على أربعة، بعضهم يذكر أكثر من هذا.
يعني: أبو بكر ابن العربي في كتابه "قانون التَّأويل" ذكر أنَّ علوم القرآن خمسون علمًا، وأربعمئة علمٍ، وسبعة آلاف، وسبعون ألفًا[8]، هذا العدد الهائل: سبعٌ وسبعون ألفًا وأربعمئة وخمسون، من أين جاء به؟
عدَّ كلمات القرآن وضربها في أربعة، باعتبار أنَّ كل كلمةٍ لها ظهرٌ وبطنٌ، ولها حدٌّ ومطلعٌ.
هذا الكلام بناءً على روايات لا تصحّ، فأدخلوا في القرآن من العلوم أشياء كثيرة خرجوا بها عن مقصوده، ومن هنا قالوا: بأنَّ القرآن يشتمل على علم الفلك، وعلوم الرياضيات والهندسة، وأنَّ القرآن مُشتملٌ حتى على علم الخطِّ بالرمل، ومُشتملٌ على كل شيءٍ ذكروه، وهناك أشياء لا يحسُن ذكرها، قالوا: موجودة في القرآن! وأنَّ هذا من جملة علوم القرآن! فأرادوا أن يُدْخِلوا فيه كلّ شيءٍ.
وهذا الكلام غير دقيقٍ، غير صحيحٍ، وابن العربي يُعيد ذلك إلى ثلاثة أقسام: التوحيد، والتَّذكير، والأحكام، وبدأ يفصل هذه اﻷنواع[9].
كذلك ابن برّجان أبو الحكم يذكر أنَّ جملة القرآن تشتمل على ثلاثة علوم: علم أسماء الله وصفاته، وعلم النبوة وبراهينها، ثم علم التَّكليف والمحنة[10].
بعضهم يقول: القرآن يشتمل على أربعة أنواع من العلوم: الأمر، والنَّهي، والخبر، والاستخبار[11]. وبعضهم زاد: الوعد، والوعيد[12].
ابن جرير -رحمه الله- يذكر أنَّه يشتمل على ثلاثة أشياء: التوحيد، والأخبار، والدِّيانات[13].
بعضهم يقول: يشتمل على ثلاثين علمًا. وذكروا تفاصيل لا أرى حاجةَ لذكرها.
فهذا كلّه مما يذكره أهلُ العلم، ويذكرون غير هذا.
الشيخ عبدالرحمن بن سعدي -رحمه الله- في "القواعد الحسان"، وظاهر كلامه أنَّه لا يقصد بذلك الحصر -على عادته-، فهو يتحدّث عن الفائدة التي يجنيها العبدُ من معرفته وفهمه ﻷجناس علوم القرآن، فهو يذكر أنَّ أجلّ علوم القرآن هو علم التوحيد، وما لله من صفات الكمال، ثم يذكر آثارَ هذا[14].
هذا -كما قلتُ لكم- يحتاج إليه المفسّر من أجل أن يُركز على هذه القضايا، ويحتاج إليه غير المفسّر من أجل أن يُعنى بتدبّره وقراءته بهذه الجوانب.
الشيخ عبدالرحمن بن سعدي -رحمه الله- يُعلّق على كل نوعٍ، يقول مثلًا في علم التوحيد والصِّفات: "فإذا مرّت عليه الآيات في توحيد الله وأسمائه وصفاته أقبل عليها، فإذا فهمها، وفهم المراد بها، أثبتها لله على وجهٍ لا يُماثله فيه أحد، وعرف أنَّه كما ليس له مثيلٌ في ذاته، فليس له مثيلٌ في صفاته، وامتلأ قلبُه من معرفة ربِّه وحبِّه بحسب علمه بكمال الله وعظمته، فإنَّ القلوب مجبولة على محبّة الكمال، فكيف بمَن له كلّ الكمال، ومنه جميع النِّعَم الجِزَال؟
ويعرف أيضًا أنَّ أصل الأصول هو الإيمان بالله، وأنَّ هذا الأصل يقوى ويكمُل بحسب معرفة العبد لربِّه، وفهمه لمعاني صفاته ونعوته، وامتلاء القلب بمعرفتها ومحبّتها".
يقول: "وأيضًا يعرف أنَّه بتكميله هذا العلم تكمل علومه وأعماله، فإنَّ هذا هو أصل العلم، وأصل التَّعبد، وأيضًا يعرف أنَّه بتكميله تكمل علومه ..." إلى آخره.
ثم يقول: "النوع الثاني من علوم القرآن: صفات الرسل وأحوالهم، وما جرى لهم وعليهم، مع مَن وافقهم، ومَن خالفهم، وما هم عليه من اﻷوصاف الوافية، فإذا مرّت عليه هذه اﻵيات عرف بها أوصافهم، وازدادت معرفته ومحبّته لهم، وعرف ما هم عليه من اﻷخلاق واﻷعمال، خصوصًا النبي ﷺ".
يقول: "فيقتدي بأخلاقهم وأعمالهم بحسب ما يقدر عليه، ويفهم أنَّ الإيمان بهم تمامه وكماله بمعرفته التَّامة بأحوالهم، ومحبّتهم، واتِّباعهم".
ويقول: "ويستفيد أيضًا الاقتداء بتعليماتهم العالية، وإرشاداتهم للخلق، وحُسن خطابهم، ولُطف جوابهم، وتمام صبرهم، فليس القصدُ من قصصهم أن تكون سَمَرًا، وإنما تكون عِبَرًا"[15].
ثم يذكر العلم الثالث من علوم القرآن: وهو علم أهل السَّعادة والخير، وأهل الشَّقاوة والشَّر، قال: "وفي معرفته لهم ولأوصافهم ونعوتهم فوائد الترغيب والاقتداء باﻷخيار، والترهيب من أحوال اﻷشرار، والفرقان بين هؤلاء وهؤلاء، وما الذي أوصل هؤلاء إلى دار النَّعيم، وما الذي أوصل أولئك إلى دار الجحيم، فيُحبّ اﻷتقياء، وذلك من الإيمان، ويُبغض أولئك، وذلك من الإيمان".
يقول: "فكلما كان العبدُ أكثر معرفةً بهذا؛ كان ...".
ثم يذكر العلم الرابع من علوم القرآن: وهو علم الجزاء في الدنيا، والبرزخ، واﻵخرة على أعمال الخير، وأعمال الشَّر، ويذكر أنَّ هذا يُفيد اﻹيمان بكمال عدل الله، وسعة فضله، والإيمان باليوم اﻵخر، فإنَّ تمام الإيمان بذلك يتوقف على معرفة ما يكون فيه، والترغيب، والترهيب، والرَّغبة في اﻷعمال التي رتَّب اللهُ عليها الجزاء الجزيل، والرَّهبة من ضدِّها.
الخامس من علوم القرآن: اﻷمر والنَّهي.
ويذكر أنَّ العبد إذا عرفه يعرف حدود الله، حدود ما أنزله على رسوله ﷺ، فإنَّ العباد مُحتاجون إلى معرفة ما أُمروا به، وما نُهوا عنه، والعمل بذلك، والعلم سابقٌ للعمل، وطريق ذلك إذا مرَّ على القارئ نصٌّ فيه أمرٌ بشيءٍ عرفه، وفهم ما يدخل فيه، وما لا يدخل فيه، وحاسَب نفسَه: هل هو قائمٌ بذلك كلِّه، أو بعضه، أو أنَّه تاركٌ له؟ فإن كان قائمًا به فليحمد الله، وليسأل ربَّه الثَّبات، والزيادة من الخير، وإن كان مُقَصِّرًا فليعلم أنَّه مطالَبٌ به، ومُلزمٌ بذلك، فليستعن بالله على فعله، ويُجاهد نفسَه على ذلك، وكذلك في النَّهي أيضًا يفعل ... إلى آخر ما قال[16].
لاحظوا: اﻵن هذا الكلام جيد، مهم جدًّا في التَّدبر، كيف نتدبّر القرآن باعتبار المقاصد، أو باعتبار موضوعات القرآن؟ ومثل هذا نحتاج إليه كثيرًا، وقلَّ أن يُطْرَق، يعني: في الكلام على تدبّر القرآن.
نحن في كثيرٍ من اﻷحيان إذا ذُكِرَ التَّدبر مباشرةً تتجه اﻷذهانُ إلى استخراج الدَّقائق بالمناقيش، الأشياء التي يرفع الناسُ إليها أبصارهم أشياء غريبة: لفتات، لطائف، وهذا في الواقع إنما هو بعض ما يُستخرج بالتَّدبر، وإلا فإنَّ التَّدبر في اﻷصل واﻷساس هو أن يعرض الإنسانُ نفسَه على القرآن، وأن يعرف محابّ الله، ومساخطه، وأن يعرف مراد الله -تبارك وتعالى- منه، ويعرف صفات أهل السَّعادة، وأهل الشَّقاوة، ويعرض نفسَه على ذلك كلِّه، كما أنه أيضًا يُرقق قلبَه بالقرآن، ويُليّن هذا القلب، إلى غير ذلك من مطالب المتدبرين.
لكن من الخطأ أن تتجه اﻷذهانُ إلى ما ذُكِرَ، ثم بعد ذلك يتسلق مَن يُحسن، ومَن لا يُحسن لاستخراج المعاني الدَّقيقة الغريبة، واللَّفتات النَّادرة، فيأتي بعضُ مَن لا يُحسن بالعجائب، ويكون قائلًا على الله بلا علمٍ، مُجترئًا على كلامه. وهذا خطيرٌ.
الطاهر بن عاشور -على سبيل المثال- يتحدّث عن هذه القضايا فيما يحقّ أن يكون ...، هو ينظر إليها باعتبار المفسّر: ما الذي يُعنى به؟ ما القضايا التي جاء القرآنُ لتقريرها؟ ما المقاصد اﻷصلية؟
فذكر ثمانيةً:
إصلاح العقائد، هذا اﻷول، تعليم الاعتقاد الصَّحيح، وأنَّ هذا من أعظم المطالب.
الثاني: تهذيب الأخلاق، والنبي ﷺ وصفه ربُّه فقال: وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ [ن:4]، قالت عائشةُ -رضي الله عنها-: كان خلقُه القرآن[17]، وكان يقول: إنما بُعثتُ ﻷتمم مكارم الأخلاق[18]، أو محاسن.
الثالث: التَّشريع، وهو اﻷحكام الخاصّة والعامّة: إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ [النساء:105].
الرابع: سياسة اﻷمّة، إصلاح اﻷمّة، حفظ نظام اﻷمّة باجتماعها، وما إلى ذلك: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا [آل عمران:103]، وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ [الأنفال:46]، إلى آخره.
الخامس: القصص، وأخبار الأمم السَّالفة؛ للتَّأسي بصالح أحوالهم: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ [يوسف:3].
والسادس: التَّعليم بما يُناسب حالةَ عصر المخاطبين، وما يُؤهلهم إلى تلقِّي الشَّريعة، ونشرها، فتحدّث عن هذه القضية، وأنها نقلت العربَ من تلك الحال التي كانوا عليها في الجاهلية إلى أن صاروا روَّادًا في الحضارة، والعلم، والمعرفة، وقادوا الأمم، وأناروا الدُّنيا.
السابع: المواعظ، والإنذار، والتَّحذير، والتَّبشير، وهذا يجمع آيات الوعد، والوعيد، والمحاجّة، والمجادلة للمُعاندين، ويدخل هذا في الترغيب والترهيب.
الثامن: وهو الكلام على الإعجاز بالقرآن؛ ليكون آيةً دالةً على صدق النبي[19] ﷺ.
فهو يقول: بأنَّ المفسّر يدور حول هذه القضايا.
"وأمَّا القصص: فهو ذكر أخبار الأنبياء المتقدّمين وغيرهم: كقصّة أصحاب الكهف، وذي القرنين.
فإن قيل: ما الحكمة في تكرار قصص الأنبياء في القرآن؟
فالجواب من ثلاثة أوجه:
الأوّل: أنَّه ربما ذكر في سورةٍ من أخبار الأنبياء ما لم يذكره في سورةٍ أخرى، ففي كل واحدةٍ منهما فائدة زائدة على الأخرى.
الثاني: أنَّه ذُكرت أخبار الأنبياء في مواضع على طريقة الإطناب، وفي مواضع على طريقة الإيجاز؛ لتظهر فصاحةُ القرآن في الطَّريقتين.
الثالث: أنَّ أخبار الأنبياء قصد بذكرها مقاصد، فتعدّد ذكرها بتعدّد تلك المقاصد.
فمن المقاصد بها: إثبات نبوءة الأنبياء المتقدّمين بذكر ما جرى على أيديهم من المعجزات، وذكر إهلاك مَن كذَّبهم بأنواع من الإهلاك.
ومنها: إثبات النبوة لمحمدٍ ﷺ؛ لإخباره بتلك الأخبار من غير تعلمٍ من أحدٍ، وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى: مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا [هود:49].
ومنها: إثبات الوحدانية، ألا ترى أنَّه لما ذكر إهلاك الأمم الكافرة قال: فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ [هود:101]؟
ومنها: الاعتبار في قُدرة الله وشدّة عقابه لمن كفر.
ومنها: تسلية النبي ﷺ عن تكذيب قومه له بالتأسي بمَن تقدّم من الأنبياء، كقوله: وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ [الأنعام:34].
ومنها: تسليته ، ووعده بالنَّصر كما نصر الأنبياء الذين من قبله.
ومنها: تخويف الكفَّار بأن يُعاقبوا كما عُوقِب الكفَّار الذين من قبلهم.
إلى غير ذلك مما احتوت عليه أخبار الأنبياء من العجائب، والمواعظ، واحتجاج الأنبياء وردّهم على الكفَّار، وغير ذلك.
فلمَّا كانت أخبارُ الأنبياء تُفيد فوائد كثيرة ذكرت في مواضع كثيرة، ولكل مقامٍ مقال".
هنا في تعليل تكرار القصص في القرآن، طبعًا هنا أصل، وهو: أنَّه لا يوجد في القرآن تكرار محض، لا في آيةٍ، ولا في القصص، يعني: لا في آيةٍ معينةٍ، ولا في القصص التي تُذكر، ولا في غير ذلك، يعني مثلًا: في قوله -تبارك وتعالى- في سورة الرحمن: فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ [الرحمن:13] تكررت، فكل واحدةٍ تتعلق بما ذُكِرَ قبلها، كل واحدةٍ تتصل بما قبلها، لما يذكر نعمًا يقول: فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ، هي تتصل بما قبلها، حتى في ذكر النار، وما إلى ذلك، فحينما يذكر الله ذلك بعده، فبضدّها تتبين اﻷشياء، فلا يُعرف قدر النَّعيم إلا بأضداده.
وكذلك أيضًا ما قد يُتوهم من قوله -تبارك وتعالى-: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ [الكافرون:1-2]، أشرنا إلى هذا في مناسبةٍ سابقةٍ، فاﻷوّلان في الحاضر -على قول طائفةٍ من أهل العلم-: لَا أَعْبُدُ اﻵن مَا تَعْبُدُونَ، وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ اﻵن مَا أَعْبُدُ، واﻷخيران في المستقبل: وَلَا أَنَا عَابِدٌ في المستقبل لن أتحوّل إلى معبوداتكم، وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ لن تتحولوا إلى عبادة معبودي في المستقبل، فهذا ليس فيه تكرار: الحاضر، والمستقبل.
وبعض أهل العلم يقولون عكس هذا، المهم أنَّه لا يوجد تكرار محض في القرآن إطلاقًا، وقد ذكر هذا المعنى جماعةٌ من أهل العلم: كشيخ الإسلام، وغيره: لا يوجد في القرآن تكرارٌ محضٌ.
القصص التي كُررت، طبعًا القصص منها ما كُرِّر كثيرًا: كقصة موسى ، ومن القصص ما لم يُذكر إلا مرة واحدة: كقصّة أصحاب الكهف مثلًا، وقصّة يوسف .
فهذا التَّكرار -تكرار القصص- بعض أهل العلم يقولون في تعليله: أنَّ ذلك من أجل أنَّ الصحابة -رضي الله تعالى عنهم- كانوا يحفظون بعض القرآن، فهذا يتلقّى سورةً، وهذا يتلقّى سورةً، وهذا يتلقّى سورةً، فتكون هذه القصص قد حصلت لهؤلاء لما كُررت.
كما أنَّ بعضهم يقول: إنَّ الوفود الذين يفدون على النبي ﷺ متعددون، فهؤلاء يذهبون بسورةٍ فيها قصّة، وهؤلاء يذهبون بسورةٍ فيها نفس القصة لكن بسياقٍ آخر، وما إلى ذلك، فيكون قد حصل لهم بمجموعهم هذه القصّة، مثل: قصة موسى .
وهذا قد ردَّه شيخُ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-، وقال: "إنَّ هذا الكلام غير صحيحٍ"[20]، مع أنَّه ذكره جمعٌ من أهل العلم.
ابن جزي -رحمه الله- هنا ذكر ثلاث حِكَم لتكرار القصص:
الأولى: أنَّه يذكر في موضع أشياء لا تُذكر في الموضع الآخر، يعني: كلّ موضعٍ فيه زيادات، فيه جوانب ليست في نفس القصّة المذكورة في سورةٍ أخرى.
الثانية: أنه يذكر أخبار الأنبياء -عليهم السلام- تارةً بتفصيلٍ وإطنابٍ، وتارةً بإيجازٍ؛ ليُظهر فصاحة القرآن.
هذا يُعبّر عنه كثيرون بأنَّ ذلك -تكرار القصص- يقولون: من أجل الإعجاز، ما وجه هذا الإعجاز الذي يُشيرون إليه؟
يقولون: الله تحدَّاهم بالقرآن أن يأتوا بمثله.
فقد يقول قائلٌ من هؤلاء: إنَّ هذه القصّة ذُكِرَت، كيف يأتي التَّحدي أن نأتي بمثلها وقد ذُكرت؟! نحتاج قصّة أخرى.
فالقرآن يُنوِّع ذكرها، ويُصرِّفه بصيغٍ مختلفةٍ، ويتحداهم أن يأتوا بمثله، مع هذا التَّصريف والتنويع في التَّعبير عن ذلك.
هذا ما يتعلّق بالإعجاز، وهذا معنى مشهور ذكره كثيرون: أنَّ من الحِكَم إبراز الإعجاز القرآني، القصّة الواحدة يذكرها بتصاريف وصياغات متنوعة، ومع ذلك هم يعجزون عن هذا، كلّه مُعجز.
الثالثة: أنَّه يقول هنا: المقاصد التي أرادها من ذكر أخبار اﻷنبياء، فيتعدد ذكرها بتعدد المقاصد، يعني: هذا يُعبّر عنه بعبارةٍ واضحةٍ، فيُقال: هذه القصص، وهذا من أوضح الحِكَم التي تُذْكَر في تكرر القصص، يُقال: لا يُوجد تكرار محض هكذا، وإنما يُذْكَر في كل مقامٍ ما يُناسب هذا المقام، فيُذكر من قصّة موسى في الكلام على بني إسرائيل في هذا السياق من تعنُّتهم مع أنبيائهم ونحو ذلك ما يُناسِب هذا المقام، في سياق بيان إنعام الله عليهم، وما أعطاهم وحباهم به، فيُذكر من القصّة ما يُناسِب هذا المقام.
أحيانًا قد تذكر بعض القصص في سياق بيان شدّة بأس الله ونكاله بالمكذّبين، فيُذكر من القصّة ما يُناسب ذلك، فهي في كل سياقٍ بحسبه، بمعنى: أنَّه في كل مقامٍ يُؤتى من قصص اﻷنبياء ما يُناسب هذا الموضع، فهذا ليس بتكرارٍ.
والعلماء -رحمهم الله- لهم كلامٌ غير هذا كثير في هذه القضية، ويذكرون ذلك في ثنايا التفسير، يعني: في كلامهم في تفاسيرهم إذا جاؤوا عند قصص اﻷنبياء -عليهم السلام- يذكرون فوائد القصص، ويذكرها بعضُهم في مقدّمات كتب التفسير، ويذكرها بعضُهم في مُصنّفاتهم في علوم القرآن، مثلما فعل الزركشي في "البرهان"، والسيوطي في "الإتقان"، وغير هؤلاء خلقٌ كثيرٌ لا يُحصيهم إلا الله، يذكرون هذا في كتب علوم القرآن، وبعضهم يذكره في مُصنّفات خاصّة في قصص اﻷنبياء -عليهم السلام-، أو القصص القرآني -والله أعلم-.
طيب، ما الفرق بين هذا وبين الباب الثالث الذي قبله؟
الفرق: هناك في الباب الثالث يتحدّث عن الموضوعات التي جاء القرآنُ لتقريرها، الموضوعات التي يدور حولها القرآن، مثلًا: قضية أصول الاعتقاد -كما قلنا-، الفروع العملية: الحلال، والحرام، اﻷحكام، قضايا الترغيب والترهيب مثلًا، القصص، واﻷمثال، واﻷخبار، فهذه موضوعات القرآن التي تدور حولها آيات القرآن، أمَّا هذه فهي فنون العلم التي تتعلّق بالقرآن، ما العلوم المرتبطة بالقرآن؟
هناك علوم تتعلق بالفقه مثلًا، وهناك علوم تتعلّق بالحديث، ما العلوم التي تتعلق بالقرآن؟
لاحظوا: هذا الكتاب سمَّاه المؤلف: "التَّسهيل لعلوم التَّنزيل"، وذكر في مُقدّمته أنه يذكر فيه التَّفسير، ويذكر فيه أيضًا من علوم القرآن، فهو يُعنى بهذه القضايا ويُبيّنها، ما هذه العلوم المتعلقة بالقرآن؟
هنا ذكر اثني عشر علمًا، والعلماء -رحمهم الله- مثلًا: الزركشي في كتابه "البرهان" -وهو من أوسع كتب علوم القرآن- ذكر سبعةً وأربعين علمًا، والسيوطي في كتابه "الإتقان" -وهو خزانة لعلوم القرآن- ذكر ثمانين نوعًا، في كتابه الذي هو أصغر من هذا، الذي هو "التَّحبير" ذكر مئةً واثنين من اﻷنواع، طبعًا بطريقة التَّشقيق، يعني مثلًا: حينما يقول: الليلي، والنَّهاري، يجعل الليلي بمُفرده، والنَّهاري بمُفرده، الصِّيفي، والشِّتائي مثلًا، السّفري، والحضري، يجعل ذلك على نوعين.
فعلى كل حالٍ قضية العدّ ليست بموضع اعتبارٍ، وليس لها دلالة أكيدة، ولكن المقصود أنَّ العلماء -رحمهم الله- تكلّموا على علوم القرآن المتنوعة.
ابن جزي ذكر اثني عشر علمًا، معنى هذا أنَّ ابن جزي -رحمه الله- لما سمَّى كتابه، وذكر في المقدمة أنَّ "التسهيل في علوم التنزيل" هو سيُضمِّن هذا التفسير هذه القضايا أيضًا، فهو لن يقتصر على مجرد التفسير، وإنما سيتكلم في قضايا تتعلّق بالناسخ والمنسوخ، قضايا تتعلّق بالمكي والمدني مثلًا، قضايا تتعلّق بأسباب النزول، وهكذا بحسب ما يذكر من علوم القرآن.
هذه اثنا عشر، طبعًا بالنسبة للنَّسخ مثلًا هو مُشترك مع السّنة؛ ولذلك تجدونه في كتب المصطلح، وتجدونه في أصول الفقه، وتجدونه في علوم القرآن، كذلك أيضًا ما يتعلّق باللغة، لكن سيفصل هذه اﻷنواع، وسيتكلّم على كل واحدٍ منها.
طيب، اﻵن هذا يحتاج إلى مناقشةٍ لبيان حقيقة التفسير ما هي؟ وما الذي يدخل تحته؟ لكن هذا يحتاج إلى ذهنٍ حاضرٍ، والوقت الآن انتهى، الجزء الثاني بقدر ساعة، إلا إذا أعطونا أكثر، وهذا يحتاج إلى ذهنٍ حاضرٍ.
- انظر: "المدخل لدراسة القرآن الكريم" لأبي شُهبة (225).
- انظر: "فتح الباري شرح صحيح البخاري" لابن حجر (941).
- انظر: "روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني" للألوسي (10/345).
- أخرجه الطبراني في "المعجم الأوسط"، برقم (6344)، وفيه حديج بن معاوية، وثَّقه أحمدُ وغيره، وضعَّفه جماعةٌ. انظر: "مجمع الزوائد ومنبع الفوائد" للهيثمي (7/157).
- انظر: "تفسير ابن كثير" (1/18).
- انظر: "قمع الدجاجلة الطاعنين في مُعتقد أئمّة الإسلام الحنابلة" لعبدالعزيز الراجحي (471).
- انظر: "أبو الطيب المتنبي وما له وما عليه" للثعالبي (123).
- انظر: "قانون التأويل" لابن العربي (540).
- انظر: المصدر السابق (312).
- انظر: "البرهان في علوم القرآن" (1/18).
- انظر: المصدر السابق (2/316).
- انظر: "الكامل في القراءات العشر والأربعين الزائدة عليها" لليشكري (91).
- انظر: "الإتقان في علوم القرآن" (4/37).
- انظر: "القواعد الحسان لتفسير القرآن" (1/86).
- انظر: المصدر السابق (1/86-87).
- انظر: المصدر السابق (1/86- 88).
- أخرجه أحمد في "مسنده"، برقم (24601)، وصححه الألباني في "صحيح الجامع"، برقم (4807).
- أخرجه البزار في "مسنده"، برقم (8949)، قال في "كشف الخفاء": رواه مالك في "الموطأ" بلاغًا عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقال ابن عبدالبر: هو متّصل من وجوهٍ صحاحٍ عن أبي هريرة، وغيره، ومنها ما رواه أحمد، والخرائطي في أول "المكارم" بسندٍ صحيحٍ عن أبي هريرة مرفوعًا بلفظ: ((إنما بُعثتُ لأتمم صالح الأخلاق))، ومنها ما رواه الطَّبراني في "الأوسط" بسندٍ فيه عمر بن إبراهيم القرشي -وهو ضعيفٌ-، عن جابرٍ مرفوعًا بلفظ: ((أنَّ الله بعثني بتمام مكارم الأخلاق وكمال محاسن الفعال))، لكن معناه صحيحٌ، ومنها ما عزاه الدَّيلمي لأحمد في "مسنده" عن معاذٍ، لكن قال في "المقاصد": وما رأيتُه فيه، والذي رأيتُه فيه أبو هريرة -رضي الله عنه-. انظر: "كشف الخفاء" للعجلوني (1/212).
- انظر: "التحرير والتنوير" (1/40- 41).
- انظر: "مجموع الفتاوى" (19/168).