الحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسلام على رسول الله.
أما بعد:
"المقدّمة الأولى: وفيها اثنا عشر بابًا:
الباب الأوّل: في نزول القرآن، وجمعه في المصحف، ونقطه، وتحزيبه، وتعشيره، وذكر أسمائه:
نزل القرآنُ على رسول الله ﷺ من أوّل ما بعثه اللهُ بمكّة، وهو ابن أربعين سنةً، إلى أن هاجر إلى المدينة، ثم نزل عليه بالمدينة إلى أن توفّاه الله، فكانت مدّةُ نزوله عليه عشرين سنةً، وقيل: كانت ثلاثًا وعشرين سنةً، على حسب الاختلاف في سنِّه ﷺ يوم تُوفي: هل كان ابن ستين سنة، أو ثلاثًا وستين سنة؟
وكان ربما تنزل عليه سورة كاملة، وربما تنزل عليه آيات مُفترقات، فيضمّ بعضَها إلى بعضٍ حتى تكمل السورة".
النبي ﷺ حينما بُعِثَ إلى أن قُبِضَ اختلف العلماءُ في المدّة التي بقيها ﷺ في بعثته، وصَحَّ عن ابن عباسٍ -رضي الله عنهما- أنَّه قال: "أنزل على النبي ﷺ وهو ابن أربعين، وكان بمكّة ثلاث عشرة، وبالمدينة عشرًا، فمات وهو ابن ثلاثٍ وستين"[1]، هذا هو المشهور.
ومن أهل العلم مَن يقول: إنَّه بقي ﷺ عشرًا في مكّة، وبقي عشرًا في المدينة.
أمَّا قوله: "وكان ربما تنزل عليه سورةٌ كاملةٌ"، سورة كاملة مثل: سورة الكوثر، وسورة النصر، وكذا أيضًا سورة الأنعام، إلى غير ذلك، وربما تنزل عليه آيات مُتفرقة، وهذا أيضًا كثيرٌ، كما نزلت عليه الآيات من سورة النور في براءة عائشة -رضي الله تعالى عنها وأرضاها-.
يقول: "فيضمّ بعضَها إلى بعضٍ حتى تكتمل السورة"، وقد صحَّ عن زيد بن ثابت -رضي الله تعالى عنه- أنَّه قال: "كنا عند رسول الله ﷺ نُؤلّف القرآنَ من الرِّقاع"[2]، ما معنى: نُؤلّف القرآن من الرِّقاع؟
يعني: أنَّ القرآن كان مُفرَّقًا في الرِّقاع واللّخاف -وهي الحجارة الرَّقيقة- والأكتاف -عظم عريض-، ونحو ذلك مما كانوا يكتبون فيه في ذلك الوقت.
فالنبي ﷺ يُبيّن لهم موضع تلك الآية التي نزلت، فكتبوها على كتفٍ، أو في جلدٍ، أو نحو ذلك، فيُبين لهم -عليه الصلاة والسلام- موضعَها من السورة.
هذا معنى قول زيد بن ثابت: "كنا عند رسول الله ﷺ نُؤلّف القرآنَ من الرِّقاع"، والمقصود به ترتيب الآيات في السور، فإنَّ هذا بالإجماع بتوقيفٍ من النبي ﷺ، فالآيات مُرتبة كما نقرأها الآن، ودلائل هذا كثيرة، والنبي ﷺ كان يقرأ في الصَّلاة، وأصحابه يسمعون ذلك، وقد تلقّوا عنه، وحَفِظ بعضُهم القرآنَ في حياته كاملًا، وحفظ آخرون سورًا من القرآن، كلّ هذا بترتيب الآيات بلا شكٍّ.
"وأوّل ما نزل عليه من القرآن: صدر سورة العلق، ثم المدّثّر، والمزمل. وقيل: أوّل ما نزل المدّثّر. وقيل: فاتحة الكتاب. والأوّل هو الصَّحيح؛ لما ورد في الحديث الصَّحيح عن عائشةَ في حديثها الطَّويل في ابتداء الوحي، قالت فيه: جاءه الملك وهو بغار حِراء، قال: اقرأ، قال: ما أنا بقارئ، قال: فأخذني، فغطّني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني، فقال: اقرأ، قلتُ: ما أنا بقارئ، قال: فأخذني، فغطّني الثانية حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني، فقال: اقرأ، قلتُ: ما أنا بقارئ، قال: فأخذني وغطّني الثالثة حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني، ثم قال: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ [العلق:1- 5]، فرجع بها رسولُ الله ﷺ يرجف فؤاده، فقال: زمّلوني، زمّلوني، فزمّلوه حتى ذهب عنه ما يجد من الروع[3].
وفي روايةٍ من طريق جابر بن عبدالله: فقال رسولُ الله ﷺ: زمّلوني ، فأنزل الله تعالى: يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ [المزمل:1]"[4].
قوله هنا: "وأول ما نزل عليه من القرآن صدر سورة العلق" هذا المشهور الذي عليه جماهير أهل العلم، ويدلّ عليه حديثُ عائشة -رضي الله تعالى عنها وأرضاها- في ابتداء الوحي، قالت: "جاءه الملك وهو بغار حراء"، قال: اقرأ، قال: ما أنا بقارئ، فيحتمل أن تكون (ما) هذه نافية، وهذا هو الأشهر والأقرب والأرجح، فهو يُخبر ﷺ عن نفسه، ولو كانت استفهامية -كما يقول البعض- لما دخلت عليها الباء: ما أنا بقارئ، وإن حُكِيَ هذا أيضًا عن بعض أهل اللُّغة، مثل: الأخفش، حيث جوّز دخول الباء في الاستفهام، إلا أنَّه رُدَّ عليه في ذلك.
فالباء في: ما أنا بقارئ يقولون: هذه زائدة لتأكيد النفي، فمعنى: ما أنا بقارئ يعني: ما أُحْسِن القراءة، فكيف يقرأ وهو لا يُحْسِن القراءة؟ وبعضهم حمله على غير هذا، ولكن هذا هو المشهور.
يقول: فأخذني فغطّني حتى بلغ مني الجهد، الغطّ يعني بمعنى: العصر الشَّديد، يعني: أنَّه ضَمَّه ضمًّا قويًّا شديدًا، فهذا الذي يُضَمّ هذا الضّم الشّديد يصدر منه صوتٌ كالمخنوق، بمعنى: أنَّ الغَطَّ يُقال لحبس النَّفَس.
يقول: أخذني فغطّني يعني: حينما ضمَّه هذا الضّم الشَّديد صدر منه صوتٌ، فمَن ضُمَّ هذا الضَّم الشَّديد يصدر منه صوتٌ عادةً كالمخنوق.
وقد جاء عن الطيالسي بإسنادٍ حسَّنه الحافظُ ابن حجر[5] -رحمه الله- أنَّه قال: فخنقني، أو قال: فأخذ بحلقي [6].
هذه اللَّفظة بالضمِّ: (الجُهد) تُقال للوسع والطاقة، تقول: بذلتُ جُهدي، يعني: طاقتي ووسعي، أي: بذلتُ ما أستطيع.
وأمَّا بالفتح: حتى بلغ مني الجَهد كما هنا، فمعنى ذلك: المشقّة، وبعضهم يقول: هما لغتان.
يقول: ثم أرسلني، فقال: اقرأ، قلتُ: ما أنا بقارئ، قال: فأخذني فغطّني الثانية حتى بلغ مني الجهد ...، إلى آخره، ثم قرأ عليه الآيات، فرجع بها، يعني: بالآيات، ويحتمل أن يكون رجع بالقصّة، رجع بها رسولُ الله ﷺ يرجُف فُؤاده، فقال: زمّلوني، زمّلوني، فزمّلوه حتى ذهب عنه ما يجد من الرَّوْع، والرَّوع بالفتح يعني: الخوف، وأمَّا (الرُّوع): إنَّ روحَ القدس نفث في رُوعي [7]، يعني: في قلبي.
ويقول: "وقيل: أول ما نزل المدثر"، القول بأنَّ المدثر هو أول ما نزل يلي القول السابق في القوة، يعني: الأقوال في أول ما نزل مُتعددة، ومنها ما يُحْمَل على أنَّ ذلك أول ما نزل في موضوعٍ خاصٍّ، لكن هنا في كون سورة المدثر هي أول ما نزل هذا يأتي ثانيًا من حيث درجة القوة بالنسبة للأقوال الواردة في أول ما نزل أنها سورة المدثر؛ وذلك لما أخرجه الشيخان عن جابرٍ -رضي الله تعالى عنه-، وتأمّلوا ألفاظ الحديث، قال: سمعتُ يحيى يقول: سألتُ أبا سلمة: أيّ القرآن أنزل قبل؟ قال: يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ [المدثر:1]، فقلتُ: أو: اقْرَأْ [العلق:1]؟ فقال: سألتُ جابر بن عبدالله: أيّ القرآن أُنزل قبل؟ قال: يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ، فقلتُ: أو: اقْرَأْ؟ قال جابر: أُحدِّثكم ما حدَّثنا رسولُ الله ﷺ قال: جاورتُ بحراء شهرًا، فلمَّا قضيتُ جواري نزلت، فاستبطنتُ بطن الوادي، فنُوديتُ، فنظرتُ أمامي وخلفي، وعن يميني، وعن شمالي، فلم أرَ أحدًا، ثم نُوديتُ، فنظرتُ فلم أرَ أحدًا، ثم نُوديتُ، فرفعتُ رأسي، فإذا هو على العرش في الهواء –يعني: جبريل -، فأخذتني رجفةٌ شديدةٌ، فأتيتُ خديجة فقلتُ: دثِّروني، فدثَّروني، فصبُّوا عليَّ ماءً، فأنزل الله : يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ [المدثر:1- 4][8].
هذا سبب نزولٍ واضح وصريح، وأنَّ هذا النزول كان بعد أن دثَّروه، لكن هذا يُمكن أن يُجاب عنه أيضًا بما في "الصحيحين" عن أبي سلمة، عن جابرٍ قال: "سمعتُ رسول الله ﷺ وهو يُحدِّث عن فترة الوحي"[9]، وفترة الوحي لا تكون إلا بعد انقطاعٍ، نزل عليه الوحي، ثم حصل انقطاعٌ، فهذه فترة الوحي.
فجابر يُحدِّث عن فترة الوحي، فقال في حديثه: بينا أنا أمشي سمعتُ صوتًا من السَّماء، فرفعتُ رأسي، فإذا الـمَلَك الذي جاءني بحراء جالسٌ على كرسي بين السَّماء والأرض، إذًا له عهدٌ بهذا الـمَلك، نزل عليه قبل ذلك بحراء، وهو يعرفه، يقول: فرجعتُ فقلتُ: زمِّلوني، فدثَّروني، فأنزل الله: يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ [10].
إذًا جابر بن عبدالله يتحدّث عن أول ما نزل بعد فترة الوحي، هذا احتمال.
وبعض أهل العلم يقولون: يحتمل أن يكون حديثُ جابر عن أول ما نزل في الرسالة؛ فـ اقْرَأ أول ما نزل في النبوة، والمدثر أول ما نزل في الرسالة، يعني: نُبِّئَ بـاقْرَأ، وأُرسِل بالمدثر: قُمْ فَأَنْذِرْ [المدثر:٢].
فهذا اجتهادٌ من جابر -رضي الله تعالى عنه-، وحديث عائشة -رضي الله عنها- أوضح وأصرح، فالراجح أنَّ أول ما نزل هو صدر سورة اقْرَأ.
يقول: "وقيل: فاتحة الكتاب"، هذا القول ضعيفٌ، وجاء من طريق أبي إسحاق، عن أبي ميسرة، يقول: "كان رسول الله ﷺ إذا سمع الصوتَ انطلق هاربًا"[11]، وذكر نزول الملك عليه، وقوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2] ... إلى آخرها، فهذا لا يصحّ من جهة الإسناد.
والعلماء -رحمهم الله- يتحدّثون في هذا الموضع عن أول ما نزل مُطلقًا، يعني: أول ما طرق سمع النبي ﷺ من القرآن، فيقال: اقْرَأ، ولم تنزل كاملةً، وأمَّا أول سورةٍ نزلت كاملةً -كما يقول بعضُ أهل العلم- فهي المدثر؛ ولهذا فإنَّ بعضهم يُوجّه قول جابرٍ باعتبار أنها أول سورةٍ نزلت كاملةً.
وهناك أوائل مخصوصة؛ كأول ما نزل في الأطعمة، وأول ما نزل في الجهاد، وأول ما نزل في الخمر.
وهذه الرواية التي ذكرها هنا: "فأنزل الله: يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ [المزمل:1]" إنما هو: يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ كما في رواية الحديث، وليس المزمل، فلا يوجد في شيءٍ من رواياته -لا في "الصحيحين"، ولا في غيرهما- أنَّ الذي نزل عليه هو المزمل.
آخر ما نزل من القرآن: يقول: "فسورة: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ" هذا جاء في "صحيح مسلم" عن ابن عباسٍ -رضي الله عنهما-، كما جاء عن عبيدالله بن عبدالله بن عتبة، قال: قال لي ابنُ عباسٍ: تعلم -وقال هارون: تدري- آخر سورة نزلت من القرآن، نزلت جميعًا؟ قلت: نعم: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ. قال: صدقتَ[12]. لكن هذا مَحْمَله على أنَّها آخر سورةٍ نزلت كاملةً.
يقول: "وقيل: آية الربا التي في البقرة، وقيل: الآية التي قبلها"، وفي الطبعات الأخرى -كطبعة دار الكتب الحديثة التي حققها اليونسي وإبراهيم عَطْوه- قال: "وقيل: آية الدَّين التي في البقرة"، وفي طبعة الدار العربية مكتوب: (الزنا)، وهذا طبعًا غلطٌ بلا شكٍّ، مع أنَّه كُتِب في بعض النُّسخ الخطية، فقد طالعتُ في نسخةٍ خطيةٍ فوجدتُه كذلك: (الزنا)، وهذا غلطٌ، والصَّحيح أنَّه آية الدَّين.
وقد أخرج أبو عبيد القاسم بن سلّام في كتابه "فضائل القرآن" عن الزهري، يقول: "آخر القرآن عهدًا بالعرش آية الربا، وآية الدَّين"[13].
وجاء في "الصحيح" عن ابن عباسٍ -رضي الله عنهما-: "آخر آيةٍ نزلت آية الرِّبا"[14].
وجاء أيضًا عن عمر مثل ذلك عند البيهقي في "الدلائل"[15].
وعند أحمد[16]، وابن ماجه عن عمر[17]: "مِن آخر ما نزل آية الربا".
فهذه الآيات الثلاث: آية الربا، وآية: وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ [البقرة:281]، وآية الدَّين، كلّها قيل فيها: أنَّها آخر ما نزل.
وقد جمع الحافظُ ابن حجر -رحمه الله-[18]، وأيضًا بعده السيوطي في "الإتقان"[19]، فقالوا: أنَّ هذه الآيات جميعًا نزلت في وقتٍ واحدٍ، فصحَّ أن يُقال عن كل واحدةٍ منها: أنها آخر ما نزل، فإذا قلت: آية الدَّين آخر ما نزل، فهذا صحيحٌ، وإذا قلت: وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ فكذلك، وإذا قلت: آية الرِّبا فكذلك، فلا إشكالَ في هذا، هذا كلّه صحيحٌ، وهذا هو الأقرب -والله أعلم-: أنَّ آخر ما نزل مطلقًا من القرآن هذه الآيات الثلاث، وأنَّ ما جاء من الروايات في ذكر بعضها فإنَّ ذلك أيضًا لا إشكالَ فيه، ووجه الجمع ما ذُكِرَ.
وأمّا سورة النصر فإنَّه يقال: إنها آخر سورةٍ نزلت كاملةً.
وأمَّا ما ورد من المرويات الأخرى، كما جاء عن البراء بن عازب من أنَّ سورةَ براءة آخر ما نزل[20]، فالمقصود ما يتّصل بالقتال، وهكذا يقولون: إنَّ سورة المائدة مثلًا هي آخر ما نزل، ويقصدون في الأحكام والحلال والحرام، فإنَّ سورة البقرة من أول ما نزل في المدينة، وسورة المائدة من آخر ما نزل، ويُشيرون بذلك إلى أنَّ الأحكام التي تضمنتها لم تُنْسَخ، مع أنَّ هذا ليس على إطلاقه.
وكذلك أيضًا ما يُذكر من أنَّ قوله -تبارك وتعالى-: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا [المائدة:٣]، يقولون: هي آخر ما نزل. وهذا من أضعف الأقوال، مع أنَّه مشهورٌ عند العامَّة؛ ربما لأنَّهم يتوهمون من قوله: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ أنَّه لا يتأتّى نزول شيءٍ من القرآن بعد إكمال الدِّين، ولكن ذلك يُحمل -كما قال ابن جرير رحمه الله- على أنَّ المراد بإكمال الدِّين وإتمام النِّعمة: أنَّه أكمل لهم دعائمه العِظام، وأصوله الكبار، وأمَّا إتمام النِّعمة فبإقرارهم في بيته الحرام مُنفردين، لا يُخالطهم أحدٌ من المشركين[21].
يعني: أن النبي ﷺ حجَّ في السنة العاشرة، ولم يحجّ أحدٌ من المشركين، وإنما حجَّ المسلمون دون غيرهم، فهذا من إتمام النِّعمة، لكن نزلت بعدها آيات.
هذا ما يتعلّق بآخر ما نزل.
وهناك أواخر مخصوصة: كآخر ما نزل في الأطعمة، وآخر ما نزل في الخمر، وآخر ما نزل في الفرائض في قوله: يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ [النساء:١٧٦].
هذه الرواية التي ذكرها: من أنَّ عليًّا قعد في بيته، فجمعه على ترتيب نزوله، وأنَّه لو وُجِدَ هذا المصحف لكان فيه علمٌ كبيرٌ، ضعَّفها الحافظُ ابن حجر -رحمه الله- لانقطاعها، ثم قال: "وعلى تقدير أن يكون محفوظًا فمُراده بجمعه: حفظه في صدره"، ثم قال: "وما تقدّم من رواية عبد خير عن عليٍّ أصحّ، فهو الـمُعتمد"[23]، يقصد بهذا ما رواه ابنُ أبي داود في كتاب "المصاحف" بسندٍ حسنٍ عن عبد خيرٍ قال: سمعتُ عليًّا يقول: "أعظم الناس أجرًا في المصاحف أبو بكر؛ فإنَّه أول مَن جمع بين اللوحين"[24]، هذا صحَّ عن عليٍّ ، وعليه فهو إقرارٌ منه أنَّ أول مَن جمع القرآن هو أبو بكر -رضي الله تعالى عنه-، مع أنَّ أبا بكر لم يجمع القرآن في مصحفٍ، وإنما جمعه في صحفٍ.
فعلى كل حالٍ، فإنَّ ذلك يُعَدّ من الجمع.
وهذا الأثر -أثر عليٍّ- نقله في الهامش، وقال: قال ابنُ كثير في "فضائل القرآن": فيه انقطاعٌ[25].
وقال ابنُ حجر في "الفتح": "إسناده ضعيفٌ؛ لانقطاعه"[26]، ونقل هذا الأثر السيوطي في "الإتقان" بدون إسنادٍ[27]، وكتاب ابن أشته مفقود، والسيوطي ينقل عنه في كتابه "الإتقان"، وفي غيره، وفي "التمهيد" لابن عبدالبر بالإسناد إلى ابن سيرين[28] بنحو هذا المذكور هنا، مع مُغايرةٍ يسيرةٍ في اللَّفظ.
فلا يصحّ أنَّ عليًّا جمع القرآن، وفي بعض هذه الرِّوايات: أنَّه جمعه على تنزيله، يعني: مُرتبًا بحسب النزول، وأنَّه لو وُجِد لكان فيه علمٌ كبيرٌ. ما هذا العلم الكبير؟!
لن يوجد فيه غير القرآن، فهل المقصود به -لو صحَّ ذلك- أنَّه على ترتيب النزول، فيكون ذلك مُفيدًا من هذه الناحية؟ لأنَّ كلَّ الروايات الواردة في ترتيب نزول سور القرآن لا يصحّ منها شيء، والله أعلم.
لاحظ هنا هذه الجملة: "مخافة أن يذهب بموت القُرَّاء"، انتبهوا، فهذا هو المفصل الذي تُفرّق به بين جمع أبي بكر ، وجمع عثمان -رضي الله تعالى عنه وعن جميع أصحاب النبي ﷺ-، فأبو بكر جمع القرآنَ في صُحُفٍ، وعثمان جمع القرآنَ في مصاحف، وأبو بكر كان الدَّافعُ أو العِلّة التي من أجلها جمع القرآن هو مخافة أن يذهب شيءٌ منه بذهاب القُرَّاء؛ لما استحرَّ القتلُ في القراء يوم اليمامة، فخاف أن يضيع شيءٌ من القرآن، فأشار عليه عمرُ بذلك، فجمعه.
أمَّا الجمع الذي كان في زمن عثمان -رضي الله تعالى عنه- فلم يكن السببُ هو قتل القُرَّاء، وإنما كان السببُ هو أنَّ الأجناد حينما التقوا من الشَّام والحجاز واليمن والعراق في فتح أرمينية اختلفوا في القراءة، فجعل كل واحدٍ يُخطِّئ قراءةَ الآخر، هؤلاء قرأوا في الشَّام على معاذ -رضي الله تعالى عنه- وأبي الدَّرداء، وهؤلاء في الكوفة قرأوا على ابن مسعودٍ ، وهؤلاء في المدينة قرأوا على أُبيّ بن كعبٍ -رضي الله عن الجميع-، وهكذا، فلمَّا التقوا في مكانٍ واحدٍ صار كل واحدٍ يُنكر قراءةَ الآخر، فركب حذيفةُ بن اليمان -رضي الله تعالى عنه- إلى عثمان في المدينة، ثم أشار عليه بجمع الناس على مصحفٍ واحدٍ.
قوله هنا: "غير مُرتّب السور" هذه من كلام ابن جزي، وليست من الرواية، وإنما ابن جزي -رحمه الله- يرى أنَّ ترتيب السور بغير توقيفٍ، أنَّه أمرٌ اجتهادي، لكن الذين يرون أنَّ هذا من الأمور التَّوقيفية، وأنَّ النبي ﷺ هو الذي رتَّب السور، يقولون: أنَّ ما جمعه أبو بكر -رضي الله تعالى عنه- كان مُرتّب السور. فهذا الموضع ليس محل اتِّفاقٍ.
هذا كلّه في رواية البخاري[29]، باعتبار أنَّ حفصة -رضي الله تعالى عنها- كانت وصية عمر -رضي الله تعالى عنه- على ما ترك.
هذا الجمع في زمن عثمان -رضي الله تعالى عنه-، كان زيد بن ثابت من كُتَّاب الوحي بين يدي النبي ﷺ، وشهد العرضةَ الأخيرة، وأيضًا هو الذي اختاره أبو بكر وعمر -رضي الله عنهما- لكتابة تلك الصحف، فاختاره عثمان ، وجيء بالصُّحف، وجِيء بالحفَّاظ مع الصُّحف، وجيء بكلِّ ما كُتِبَ بين يدي النبي ﷺ.
وكانوا يقبلون ما شهد عليه شاهدان، قيل: أي: أنَّه مما كُتِب بين يدي النبي ﷺ. وقيل: كان لا يقبل إلا ما شهد عليه شاهدان، أي: أنه مكتوبٌ ومحفوظٌ، يعني: لا يقبل إلا ما اجتمع فيه الحفظ والكتابة، فهذه مزايا لزيد بن ثابت -رضي الله تعالى عنه-، فهو من كُتَّاب الوحي، وكتب الصُّحف لأبي بكر وعمر -رضي الله عنهما-، وأيضًا شهد العرضةَ الأخيرة.
عبدالرحمن بن الحارث بن هشام، القرشي، المخزومي، كان عمره لما قُبِضَ النبي ﷺ كما في "الطبقات" لابن سعد: عشر سنين[30].
وقال الحافظ في "الإصابة": "هذا وهمٌ، بل كان صغيرًا"[31]، يعني: أصغر من عشر سنين.
وقال ابن حبّان: "ولد في زمن النبي -صلَّى اللَّه عليه وآله وسلم-، ولم يسمع منه"[32]، ثم ذكره في ثقات التابعين.
وقال البغويّ: "روى عن النبي -صلَّى اللَّه عليه وآله وسلم-، ولا أحسبه سمع منه"[33].
وذكره البغويُّ والطَّبرانيُّ في الصَّحابة، والبخاري وأبو حاتم الرازيّ في التابعين[34].
ومات سنة 43 من الهجرة، فيما ذكره ابن حبان[35].
والذَّهبي -رحمه الله- ذكر أنَّه ليس له صُحبة، وإنما رُؤية، يقول: "وتلك صُحبة مُقيّدة"[36].
وأمَّا سعيد بن العاص بن أمية القرشي المتوفّى سنة 59، فهذا كما قيل عنه: كان أشبه الناس لهجةً برسول الله ﷺ[37].
هؤلاء خيار الناس، أو من خيار الناس في ذلك الزمان.
هذا كما في "الصحيح" عن زيدٍ -رضي الله تعالى عنه- يقول: "فأرسل عثمانُ إلى حفصة: أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف"، إلى أن قال: "حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف ردَّ عثمانُ الصُّحفَ إلى حفصة"[38].
قوله: "فلمَّا كَمُل المصحف نسخ عثمانُ منه نسخًا"، قلنا: أنَّ أبا بكر جمعه في صحفٍ، وعثمان جمعه في مصاحف.
أبو بكر لم يُظهر هذه الصُّحف للناس، ولم يُطالب الناس بأن يقرؤوا بها، وإنما كانت نسخة قد احتفظ بها احتياطًا للقرآن، وأمَّا عثمان فألزم الناسَ بهذه المصاحف، وأمر بغيرها أن يُحرق.
يقول: "فلمَّا كمل المصحف نسخ عثمانُ منه نسخًا"، هذه النُّسخ لم يثبُت في عددها شيءٌ، كل ما يُقال في عدد هذه المصاحف، أو عدد هذه النُّسخ فهو لا يثبت، بعضهم يقول: ستّ نسخ، احتفظ بواحدةٍ عنده، والثانية أبقاها في المدينة مع زيد، يُقرئ بها أهل المدينة، وثالثة بعث بها إلى الكوفة، ورابعة إلى البصرة، وخامسة إلى مكّة، وسادسة إلى الشَّام.
وابن كثير -رحمه الله- ذهب إلى أنها سبع، فذكر اليمن والبحرين[39].
وبعضهم يقول: ثمان، هذه السبع، بالإضافة إلى مصر.
وذكر القرطبي -رحمه الله- في تفسيره أنها أربع[40]، واستغرب ابنُ كثير -رحمه الله- في كتابه "فضائل القرآن" هذا القول[41].
وبعضهم يقول: خمس نسخٍ.
ولعلَّ القائل بأنَّها خمس يقصد أنها هي الستّ من غير اعتبار النسخة التي احتفظ بها عثمانُ -رضي الله تعالى عنه- لنفسه، يعني: التي بأيدي الناس خمس نسخ.
لكن هذا لا يترتب عليه عمل، ولا أثر، ولا يصحّ في ذلك شيء، ليس عندنا أسانيد صحيحة يمكن أن يُتعرف بها على حال هذه الأقاويل أو الرِّوايات.
إذًا رأي ابن جزي أنَّ ترتيب السور أمرٌ اجتهادي، والقول بأنَّ هذا باجتهادٍ ذهب إليه جمعٌ من أهل العلم، ونسبه بعضُهم إلى الجمهور، وهو اختيار ابن كثير[42] -رحمه الله- وجماعة.
وممن قال به أيضًا القاضي عياض[43]، والسيوطي[44]، وهو قول مشهور عن الإمام مالك[45]، وذهب إليه القاضي أبو بكر الباقلاني في كتابه "الانتصار لنقل القرآن"[46]، وهو كتاب مطبوع في ثلاثة مجلدات، والكتاب ناقص، ويوجد مُختصر له في نحو مجلدٍ، هذا يرد على الطَّاعنين في القرآن.
وأيضًا ابن فارس يقول: أنَّه اجتهادي[47]. وشيخ الإسلام ابن تيمية[48] -رحمه الله-، والحافظ ابن رجب[49].
ويستدلون على هذا بأدلةٍ، ومن أقوى ما يستدلون به: أنَّ مصاحف الصَّحابة -رضي الله تعالى عنهم- كانت غير مُرتّبة، يقولون: مصحف أُبي بن كعب رُوِيَ أنَّه كان مبدوءًا بالفاتحة، ثم البقرة، ثم النساء، ثم آل عمران، ثم الأنعام.
ومصحف ابن مسعود يقولون: كان مبدوءًا بالبقرة، ثم النساء، ثم آل عمران.
ومصحف عليٍّ يقولون: كان مُرتّبًا على النزول، باعتبار تلك الرِّواية -لو صحّت-، فأوَّله: اقْرَأْ، ثم يستدلون بمرويات، لكن هذه المرويات لا تخلو من ضعفٍ.
مثل: ما جاء عند ابن أشتة في كتاب "المصاحف" من أنَّ عثمان أمرهم أن يُتابِعوا الطُّوَل، يعني: السّبع الطّوال، فجعل سورةَ الأنفال وسورةَ التوبة في السّبع، ولم يفصل بينهما بـ"بسم الله الرحمن الرحيم"[50]، لكن هذا لا يصحّ.
وكذلك ما جاء عن ابن عباسٍ -رضي الله عنهما- أنَّه قال لعثمان: ما حملكم أن عمدتم إلى الأنفال، وهي من المثاني، وإلى براءة، وهي من المئين، فقرنتم بينهما، ولم تكتبوا بينهما سطر: "بسم الله الرحمن الرحيم"، ووضعتُموها في السبع الطّول؟ فقال عثمان : كان رسولُ الله ﷺ تنزل عليه السور ذوات العدد، فكان إذا نزل عليه أو أُنزل عليه شيءٌ دعا بعض مَن يكتب فيقول: ضعوا هذه الآية في السورة التي يُذكر فيها كذا وكذا، وكانت الأنفال من أوائل ما نزل بالمدينة، وكانت براءة من آخر القرآن نزولًا، وكانت قصّتها شبيهة بقصّتها، فظننتُ أنها منها، فقُبِضَ رسولُ الله ﷺ ولم يُبين لنا أنَّها منها، فمن أجل ذلك قرنت بينهما، ولم أكتب بينهما سطر: "بسم الله الرحمن الرحيم"، ووضعتُهما في السبع الطول[51].
وهذه الرِّواية لا تصحّ، وقال عنها الترمذي: "هذا حديثٌ حسنٌ، لا نعرفه إلا من حديث عوف، عن يزيد الفارسي، عن ابن عباسٍ"[52]، وقال عنه الحاكم: "صحيحٌ على شرط الشيخين، ولم يُخرجاه"[53]، ووافقه الذَّهبي[54]، وتكلّم عليه الشيخُ أحمد شاكر بكلامٍ طويلٍ في تعليقه على ابن جرير، وقال: "هو ضعيفٌ جدًّا"[55]، وكذلك في تعليقه على "المسند"[56]، وضعَّفه جماعةٌ من أهل العلم، منهم: الشيخ شُعيب الأرناؤوط، قال: "إسناده ضعيفٌ، ومتنه مُنكر"[57]، وضعَّفه الشيخ ناصر الدين الألباني[58].
فهذا بالنسبة للقول الأول: أنَّ ذلك كان باجتهادٍ.
القول الثاني: أنَّ ذلك بتوقيفٍ، كل سور القرآن بلا استثناء كان بتوقيفٍ من النبي ﷺ. إذا قيل: بتوقيفٍ، يعني: أن النبي ﷺ هو الذي أرشدهم إليه.
واستدلّ أصحابُ هذا القول بأنَّ الصحابة أجمعوا على المصحف الذي كُتِب في عهد عثمان ، ولم يُخالف منهم أحدٌ، وأنَّ هذا الإجماع لا يمكن أن يقع إلا أن يكون ذلك بتوقيفٍ؛ لأنَّه لو كان باجتهادٍ لتمسَّكوا بمصاحفهم.
طبعًا هذا الإجماع الذي يُذْكَر، هم نعم أجمعوا على هذا المصحف، لكن هذا الاتِّفاق على مصحف عثمان مع اعتراض ابن مسعودٍ في البداية، ثم رجع عن ذلك، لا يعني أنَّ هذا الترتيب كان بتوقيفٍ؛ ولهذا أنا أقول: يُلتَزم في طباعة المصاحف ترتيب السور على ما هي عليه؛ لأنَّ ذلك ارتضاه أصحابُ النبي ﷺ، وهذا على القول بأنَّه كان باجتهادٍ.
وأيضًا استدلّوا بأدلةٍ، منها: ما جاء عن أوس بن حُذيفة الثَّقفي، قال: كنتُ في الوفد الذين أسلموا من ثقيف ...، وجاء في الرواية: فقال لنا رسولُ الله ﷺ: طرأ عليَّ حزبي من القرآن، فأردتُ ألا أخرج حتى أقضيه، يقول: فسألنا أصحابَ رسول الله ﷺ قلنا: كيف تحزبون القرآن؟ قالوا: نحزبه ثلاث سور، وخمس سور، وسبع سور، وتسع سور، وإحدى عشرة سورة، وثلاث عشرة، وحزب المفصل من "ق" حتى نختم[59].
وهذا الحديث قال عنه يحيى بن معين: "وحديثه عن النبي ﷺ في تحزيب القرآن حديثٌ ليس بالقائم"[60]، وحسَّنه العراقي[61]، والحافظ ابن حجر[62]. وضعَّفه الألباني[63]، والأرناؤوط[64].
هذا لو صحَّ فإنَّه يمكن أن يُستدلّ به على أنَّ ترتيب السور كان بتوقيفٍ، مع أنَّ المخالفين يقولون: حتى لو صحَّ فإنَّ تحزيبهم ذلك لا يعني أنَّه كان بتوقيفٍ من النبي ﷺ بالضَّرورة، يعني: ليس بنصٍّ، مع أنَّ هذا فيه بُعْدٌ.
يعني: لو صحَّ الحديثُ لكان ذلك يدلّ على أنه بتوقيفٍ.
ويقول الحافظُ ابن حجر -رحمه الله-: "فهذا يدلّ على أنَّ ترتيب السور على ما هو في المصحف الآن كان في عهد النبي ﷺ، ويحتمل أنَّ الذي كان مُرتبًا حينئذٍ حزب المفصل خاصّة، بخلاف ما عداه، فيحتمل أن يكون كان فيه تقديم وتأخير"[65].
احتجَّ أيضًا مَن قال: أنَّه بتوقيفٍ: بأنَّ السور المتجانسة في القرآن لم يُلتزم فيها الترتيب والولاء، ولو كان الأمرُ بالاجتهاد لاعتبر هذا التَّجانس والتَّماثل دائمًا، لكن ذلك لم يكن.
يقول: بدليل أنَّ سور المسبّحات لم تُرتّب على التوالي، بينما هي مُتماثلة في افتتاح كلٍّ منها بتسبيح الله، بل فُصل بين سورها بسورة: "قد سمع"، والممتحنة، والمنافقين، وبدليل أنَّ "طسم" الشعراء و"طسم" القصص لم يتعاقبا مع تماثلهما، بل فُصل بينهما بسورةٍ أقصر منها، وهي طس [النمل:1].
وانتصر أيضًا لهذا المذهب أبو جعفر النّحاس[66]، واحتجّ له بحديث: أُعطيتُ مكان التوراة السّبع الطّوال[67]، لكن هذا الحديث لا يصحّ عند جماعةٍ من أهل العلم؛ قال عنه ابنُ كثير: "هذا حديثٌ غريبٌ، وسعيد بن بشير -رجل من رُواته- فيه لينٌ"[68]، لكن صححه آخرون، أو حسَّن إسنادَه آخرون: كالشيخ أحمد شاكر -رحمه الله-، قال: "رواه الطبري هنا بإسنادين"[69]، وذكر أنَّ أحد هذين الإسنادين صحيحٌ، والآخر ضعيف، وحسَّنه الشيخ ناصر الدين الألباني[70]، وفي موضعٍ صححه بمجموع طرقه[71].
فقوله: أعطيتُ مكان التوراة السّبع الطّوال مثل هذا إذا صحَّ فيدلّ على أنَّ أجزاء من القرآن كانت مُرتّبةً؛ ولذلك فإنَّ من أهل العلم مَن يقول بأنَّ الصحابة -رضي الله تعالى عنهم- إنما رتَّبوه على ما كانوا يُشاهدون من غالب حال النبي ﷺ في قراءته، وكيف كان يقرأ، ولا شكَّ أنَّ عندهم أشياء معروفة، مثل: ما جاء عن النبي ﷺ في الزهراوين، وكذلك في قراءته ﷺ لـقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص]، وقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ [الفلق]، وقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ [الناس]، هكذا على التوالي، وأدلة من هذا القبيل يستدلون بها.
ولهذا فإنَّ الإمام مالكًا -رحمه الله- يقول: "إنما ألّف القرآن على ما كانوا يسمعون من النبي ﷺ"[72]، يعني: إنَّهم استأنسوا بما شاهدوا من حال رسول الله ﷺ ومن قراءته، والأمر يحتمل أن يكون كذلك: أنَّهم رتَّبوه هذا الترتيب ليس بنصٍّ من رسول الله ﷺ، ولكن استئناسًا بما شاهدوا من غالب حاله -عليه الصلاة والسلام-، مع أنَّه قرأ ﷺ البقرة، ثم النِّساء، ثم آل عمران، فلم يُرتّب هذا الترتيب الذي نجده في المصاحف.
والذين يقولون بالتَّوقيف يُجيبون عن هذا فيقولون: إنَّ مراعاة ذلك في القراءة في الصَّلاة أو خارج الصلاة ليست بلازمة، وأنَّ ما جاء عن ابن مسعودٍ -رضي الله تعالى عنه- حينما سُئِل عمَّن مَن يقرأ القرآن منكوسًا، فقال: "ذاك رجل نكس اللهُ قلبَه"، فإنَّ المقصود بهذا أنَّه يقرأ السورة مقلوبة، يعني: يقرأ السورة من آخر آية حتى يصل إلى أول آية، فهذا يفعله بعضُ مَن يتمهر في الحفظ، ولا زال هناك مَن يفعل ذلك، مع أنَّ أبا عبيد القاسم بن سلّام -رحمه الله- على إمامته وفضله استبعد هذا جدًّا، وقال: "هذا لا يمكن لأحدٍ"[73]، مع أنَّه موجودٌ إلى اليوم، يوجد في بعض بلاد الأعاجم -فضلًا عن بلاد العرب- مَن يحفظ من الصِّغار السورة، فيأتي بها من آخر آية حتى يصل إلى أول آية، وهذا موجودٌ أيضًا في الأزمان السَّابقة.
فأبو عبيد استبعد هذا، وقال: "هذا لا يتأتى لأحدٍ"، ومن ثمَّ فإنَّه حمل التَّنكيس على أن يترك مُراعاة ترتيب السور، فقالوا: لا بدَّ إذا قرأ في الركعة الأولى: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ [الناس] أن يبدأ في الركعة الثانية بسورة البقرة. وهذا فيه نظر، فله أن يُقدّم ويُؤخّر، ولا إشكالَ في ذلك، والله تعالى أعلم.
هذا ما يتعلّق بترتيب السور.
وممن ذهب إلى أنَّ ذلك كان بتوقيفٍ: أبو جعفر النّحاس[74]، وأبو بكر ابن الأنباري[75]، والزركشي[76]، وغيرهم.
- أخرجه أحمد في "المسند" ط. الرسالة، برقم (2242)، وقال مُحققو "المسند": "إسناده صحيحٌ على شرط البُخاري".
- أخرجه الترمذي: أبواب المناقب، برقم (3954)، وصححه الألباني.
- متفق عليه: أخرجه البخاري: كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟، برقم (3)، ومسلم: كتاب الإيمان، باب بدء الوحي إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، برقم (160).
- متفق عليه: أخرجه البخاري: كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟، برقم (4)، ومسلم: كتاب الإيمان، باب بدء الوحي إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، برقم (161)، وفيه: فأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ ...} [المدثر:2] إلى (ص8) قوله: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [المدثر:5].
- "فتح الباري" لابن حجر (1/24).
- أخرجه أبو داود الطيالسي في "مسنده"، برقم (1643).
- أخرجه بهذا اللَّفظ معمر بن راشد في "جامعه"، برقم (20100)، وصححه الألباني في "تخريج مشكلة الفقر" (ص19)، (15).
- أخرجه بهذا السياق مسلم: كتاب الإيمان، باب بدء الوحي إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، برقم (161).
- متفق عليه: أخرجه البخاري: كتاب تفسير القرآن، باب {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر:4]، برقم (4925)، ومسلم: كتاب الإيمان، باب بدء الوحي إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، برقم (161).
- متفق عليه: أخرجه البخاري: كتاب تفسير القرآن، باب {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر:4]، برقم (4925)، ومسلم: كتاب الإيمان، باب بدء الوحي إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، برقم (161).
- "أسباب النزول" ت: الحميدان (ص19).
- أخرجه مسلم: كتاب الإيمان، برقم (3024).
- "فضائل القرآن" للقاسم بن سلام (ص369).
- أخرجه البخاري: كتاب تفسير القرآن، باب {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} [البقرة:281]، برقم (4544).
- "دلائل النبوة" للبيهقي محققًا (7/138).
- أخرجه أحمد في "المسند" ط. الرسالة، برقم (350)، وقال مُحققو "المسند": "حسن، رجاله ثقات، رجال الشيخين".
- أخرجه ابن ماجه: كتاب التّجارات، باب التّغليظ في الربا، برقم (2276)، وصححه الألباني.
- "فتح الباري" لابن حجر (8/205).
- "الإتقان في علوم القرآن" (1/102).
- متفق عليه: أخرجه البخاري: كتاب المغازي، باب حجّ أبي بكر بالناس في سنة تسع، برقم (4364)، ومسلم: كتاب الفرائض، باب آخر آية أنزلت آية الكلالة، برقم (1618).
- "تفسير الطبري = جامع البيان" ت: شاكر (9/519).
- أخرجه ابن كثير في "فضائل القرآن" (ص88): عن محمد بن سيرين قال: لما توفي النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أقسم عليٌّ أن لا يرتدي برداءٍ إلا لجمعةٍ حتى يجمع القرآن في مصحفٍ، ففعل، فأرسل إليه أبو بكر -رضي الله عنه- بعد أيام: أكرهتَ إمارتي يا أبا الحسن؟ فقال: لا والله، إلا أني أقسمتُ أن لا أرتدي برداءٍ إلا لجمعةٍ. فبايعه، ثم رجع.
- "فتح الباري" لابن حجر (9/13).
- "المصاحف" لابن أبي داود (ص49).
- "فضائل القرآن" لابن كثير (ص88).
- "فتح الباري" لابن حجر (9/13).
- "الإتقان في علوم القرآن" (1/204).
- "التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد" (8/301).
- أخرجه البخاري: كتاب تفسير القرآن، باب قوله: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} [التوبة:128] من الرأفة، برقم (4679).
- "الطبقات الكبرى" ط. العلمية (5/3).
- "الإصابة في تمييز الصحابة" (5/23).
- "الثقات" لابن حبان (3/253).
- "معجم الصحابة" للبغوي (4/430).
- "الإصابة في تمييز الصحابة" (5/23).
- "الثقات" لابن حبان (3/253).
- "سير أعلام النبلاء" ط. الرسالة (3/484).
- "البداية والنهاية" لابن كثير ط. هجر (11/317).
- أخرجه البخاري: كتاب فضائل القرآن، باب جمع القرآن، برقم (4987).
- "فضائل القرآن" لابن كثير (ص77).
- في "تفسيره" (1/54)، وعبارته: "ونسخ منها عثمان نسخًا، قال غيرُه: قيل: سبعة، وقيل: أربعة، وهو الأكثر".
- "فضائل القرآن" لابن كثير (ص77)، و"تفسير ابن كثير" ت: سلامة (1/30).
- "تفسير ابن كثير" ت: سلامة (1/30).
- "إكمال المعلم شرح صحيح مسلم" للقاضي عياض (3/80).
- "الإتقان في علوم القرآن" (1/216).
- "الإتقان في علوم القرآن" (1/216)، و"إكمال المعلم شرح صحيح مسلم" للقاضي عياض (3/80).
- "الانتصار للقرآن" للباقلاني (1/279).
- كلام ابن فارس هذا في كتابه "المسائل الخمس" ذكره الزركشي في "البرهان" (1/237).
- "الفتاوى الكبرى" لابن تيمية (4/419).
- "تفسير الفاتحة" لابن رجب (ص6).
- "الإتقان في علوم القرآن" ط. الهيئة المصرية العامَّة (2/406).
- أخرجه الترمذي: أبواب تفسير القرآن، باب ومن سورة التوبة، برقم (3086)، وضعفه الألباني.
- "سنن الترمذي" ت: شاكر (5/273).
- "المستدرك على الصحيحين" للحاكم (2/360).
- التعليق من "تلخيص الذهبي" (3272): تقدّم هذا، وأنَّه صحيحٌ.
- "تفسير الطبري = جامع البيان" ت: شاكر (1/102).
- "مسند أحمد" ت: شاكر (1/334) (399).
- "سنن أبي داود" ت: الأرناؤوط (2/90).
- "ضعيف سنن الترمذي" (ص380).
- أخرجه ابن ماجه: كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب في كم يستحبّ أن يختم القرآن؟، برقم (1345)، وصححه الألباني.
- "الاستيعاب في معرفة الأصحاب" (1/120).
- "تخريج الإحياء" (1/276).
- "الفتوحات" لابن علان (3/229).
- "ضعيف ابن ماجه" (ص99) (283).
- "سنن ابن ماجه" ت: الأرناؤوط (2/370).
- "فتح الباري" لابن حجر (9/43).
- "معاني القرآن" للنحاس (1/48).
- أخرجه البيهقي في "شعب الإيمان"، برقم (2192).
- "تفسير ابن كثير" ت: سلامة (1/154).
- "تفسير الطبري = جامع البيان" ت: شاكر (1/100).
- "سلسلة الأحاديث الصحيحة وشيء من فقهها وفوائدها" (3/469).
- "صحيح الجامع الصغير وزيادته" برقم (1059).
- "الإتقان في علوم القرآن" (1/215).
- "غريب الحديث" للقاسم بن سلام (5/120).
- نقله عنه صاحب "البرهان في علوم القرآن" (1/258)، و"الإتقان في علوم القرآن" (1/218).
- نقله عنه في "الإتقان في علوم القرآن" (1/217).
- "البرهان في علوم القرآن" ط. المعرفة (1/38).