الأحد 20 / جمادى الآخرة / 1446 - 22 / ديسمبر 2024
(02- ا) بداية مقدمة المؤلف إلى آخر قوله " وأنا أرغب إلى الله العظيم ..."
تاريخ النشر: ٠٢ / رجب / ١٤٣٥
التحميل: 2848
مرات الإستماع: 2182

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.

أما بعد: سنقرأ -إن شاء الله تعالى- ابتداءً من هذا اليوم في هذا الكتاب "التسهيل" لابن جزي، وستكون القراءة من هذه الطبعة التي بين أيديكم، وهي طبعة دار الضياء، والفروق المؤثّرة بين الطَّبعتين يمكن أن نَعرفها من خلال المقارنة أثناء القراءة، فإذا وردت مواضع فيها فروق ذات أثرٍ، فيُمكن أن تُذْكَر، مع أنَّ هذه الطبعة التي بين أيديكم ذكر مُحققها: أنَّه رجع إلى ثمان نسخ خطية -كما ذكرتُ سابقًا-.

أمَّا الطبعة الأخرى التي طُبِعت بدار البيان في الشَّارقة، فهذه يقولون: إنَّهم رجعوا إلى خمس نُسخ خطيَّة؛ ثلاث أصلية، وما زاد فهو فرعي.

وهذه النُّسخ بمجموعها تشترك الطَّبعتان في نسخةٍ ونصف من هذه النُّسخ، اشتركوا في نسخةٍ، وهي نسخة الخِزانة الحسينية، فرجعوا إلى هذه النُّسخة الخطية في المجلد الثاني، من بداية سورة مريم، إلى نهاية الكتاب، هذا الذي اشتركت فيه النُّسختان، أمَّا الجزء الأول فهذا انفردت فيه طبعة دار الضياء.

كما اشتركت النُّسختان في نسخةٍ أخرى ناقصة من أوَّلها، والنَّقص ليس بكثيرٍ، فالمشتَرك لا يتجاوز النُّسخة ونصف النُّسخة.

وعلى هذا تكون طبعةُ دار البيان قد رجعت إلى ثلاث نسخٍ لم ترجع إليها طبعةُ الضياء، وأمَّا طبعة الضياء فتكون قد زادت بنحو ستِّ نسخٍ على طبعة دار البيان.

وعلى كل حالٍ، سيتبين من خلال القراءة -إن شاء الله تعالى- والمقارنة حال هذه الطَّبعات، وقد ذكر لي أحدُ الإخوان في المرة الماضية: أنَّ الذين طبعوا طبعة دار البيان استرجعوها من المراكز التي وضعوها عندهم؛ لأنَّهم عرفوا أخطاء، واكتشفوا عيوبًا لا يحسُن معها توزيع النُّسخة. هكذا قال، وكما قلتُ لكم من قبل: أنَّ الكتاب لم يلقَ الخدمة اللَّائقة به، فكلّ هذه الطبعات لا تليق بكتابٍ بهذه المنزلة.

قبل أن نبدأ القراءة أود أن أُذكِّر بأمرٍ ينفع طلاب العلم -إن شاء الله-، بحيث يبدؤون بدايةً صحيحةً، ومَن لم يكن له عهدٌ بذلك، فيُمكن أن تكون هذه بداية يتعلم معها القراءة النَّافعة.

وهذا الكتاب هو خِزانة في علم التفسير، ومَن ضَبَطَه وأتقنه فإنَّه سيضبط علم التفسير، إذا درسه بطريقةٍ صحيحةٍ، فهذا الكتاب فيه من الأقوال والتأصيل والترجيح والقواعد والتعليل ما يصلُح معه أن يكون أصلًا لطالب العلم، بحيث يُعلِّق عليه، ويُضيف إليه، ويرجِع إليه، ويتعاهده، فلا بدَّ من ضبطٍ؛ ولذلك يحسُن أولًا أن تقرأ ابتداءً قبل أن تأتي القَدْر الذي تتوقع أن يُشرح، قراءةً فاحصةً، دقيقةً، تتأمّل فيها عبارات المؤلف، وما قد يُشكل منها، ثم تُدوِّن الفوائد التي تمرّ بك من كلام المؤلف، وتُصنّفها.

هذا بالإضافة إلى أنَّ المؤلف -رحمه الله- ذكر في مُقدمته طريقته، وما يُعبِّر به عن الأقوال، مما يُبين به عن رأيه فيها من الترجيح، فهذه العبارات المتفاوتة لها دِلالات عند المؤلف، فتستطيع أن تُحدد هذه العبارات: إمَّا بدفترٍ، تجعل كلّ عبارةٍ في رأس صفحةٍ، أو تجعل ذلك في نسخةٍ إلكترونية، إذا كنتَ تُتابع فيها، أو بعد ذلك ترجع إليها، وتضع الأمثلة والتَّطبيقات لكل نوعٍ من هذه العبارات التي يُعبِّر بها عن الأقوال، هذا من جهةٍ.

كذلك أيضًا حينما يذكر في المقدّمات أشياء في علوم القرآن، وهذه العلوم مبثوثة، كما أنَّه يتحدث عن علومٍ تضمنها القرآن، وهذا أيضًا مبثوثٌ في التفسير، ويذكر أيضًا في المقدمة أنَّه يُبين عن لطائف قد تلقّاها من أفواه الشيوخ، أو استنبطها واستخرجها بنفسه، فهذه تجدها مبثوثةً في الكتاب.

فلو أنَّك صنّفت الكتابَ بهذه الطريقة، ثم بعد ذلك ما يمرّ بك؛ يمكن أن تُلحقَه بالنوع الذي يليق به.

والكتاب مليءٌ بالعلم، وقد سُئِل الشيخ بكر أبو زيد -رحمه الله-، وهو معروفٌ بطريقته الدَّقيقة في القراءة قبل أن تأتي هذه البرامج، فهو حينما يُؤلّف في جُزئيةٍ دقيقةٍ في العلم يذكر معلومات من كتبٍ كثيرةٍ، ليست هذه الكتب بمظانّ لهذه المسألة، والسَّبب في ذلك هو أنَّه يقرأ قراءةً فاحصةً، ثم بعد ذلك يُقيد الفوائد، ويُصنّفها، فإذا جاء يُؤلف في مسألةٍ دقيقةٍ يكون قد اجتمع له من العلم أشياء كثيرة في هذه المسألة، مما قد تفرّق في بطون الكتب.

وقد سأله بعضُ طلاب العلم: ماذا أُدوِّن إذا قرأتُ؟ فقال: هذا يختلف، كلٌّ بحسبه. وهذا صحيحٌ، فالإنسان الذي يقرأ وهو خالي الذّهن قد لا يجد شيئًا يُقيده، وإنما ربما يُقيد أشياء يسيرة ومحدودة من القضايا البارزة، أمَّا طالب العلم الذي يقرأ قراءةً دقيقةً، ويتأمّل، ويعرف القواعد والضَّوابط، وطرق التَّرجيح، وما يتّصل باللَّطائف واللَّفتات البلاغية والـمُلَح، هذا بالإضافة إلى قضايا كثيرةٍ تتعلق بتطبيقات على علوم القرآن بأنواعها المختلفة، تجد ذلك في هذا الكتاب، فتستطيع أن تستخرج من هذا الكتاب كتابًا آخر في فنون علوم القرآن.

كما أنَّك تستطيع أيضًا أن تدرُس هذا الكتاب دراسةً نقديةً، بمعنى: أنَّك لو قرأته قراءةً مجردةً فإنَّك ستقول: إنَّ المؤلف يذكر كذا، ويذكر كذا، ويُعلل بكذا، ويُرجّح بكذا ... إلى آخره، لكن حينما تقرأ هذا الكتاب مع مقدّمته التي ذكرها، ثم تنظر في التَّطبيقات، وهل ما ذكره قد سار عليه بدقّةٍ أو لا؟ والنّقولات التي ينقلها، والعزو، وكل هذه الأشياء، فبها تتبين جوانب من الكتاب قد لا تظهر لمن يقرأ قراءةً سطحيةً.

فلذلك أنا أدعو من البداية إلى أن تكون لنا قراءة قبل أن نأتي، ثم بعد ذلك نُقيد ما نحتاج إليه من الفوائد، ثم بعد ذلك يُراجِع ما كتب، وما قرأ، فهذه ثلاث قراءات، فإذا انتهى من الكتاب أعاده وراجعه، بهذا ينتفع -إن شاء الله تعالى-.

أرجو في قراءتنا هذه أن يتحقق ما نُؤمِّله من كون هذه الطَّريقة التي نسير عليها -إن شاء الله- طريقة تعليمية لطلاب العلم ينتفعون بها، وتُربّي الـمَلَكة، ويتعلم كيف يتعامل مع عبارات أهل العلم وأقوالهم، وهذا هو الذي يُحتاج إليه بالنسبة لطلاب العلم.

كثيرٌ من كتب ودروس التفسير لا تُعنى بهذا، سواء كانت في الجامعات، أو الدروس التي في المساجد، قد تُذكر الأقوال، ولكن يُعطَى هؤلاء الطلاب النتائج مباشرةً، ولا يعرفون كيف تَوصَّل هذا الذي يُعلّمهم إلى هذه النَّتيجة، ومن ثَمَّ يكون غاية ما هنالك أقوال تُحفظ، ثم بعد ذلك تُنسى بعد حينٍ، والله المستعان.

هذا الكتاب -كما سبق في المجلس الماضي- يشتمل على مقدّمة في علوم القرآن، وهذه المقدّمة تصلح أن تُدرَّس على سبيل الاستقلال، يعني: كأنَّها دورة في علوم القرآن.

والقسم الثاني -المقدمة الثانية- هي في غريب القرآن، وهذه أيضًا بمنزلة كتابٍ في الغريب، حيث إنَّ المؤلف -رحمه الله- ذكر ما يقرب من ستمئة لفظة في الغريب، والباقي مبثوثٌ في الكتاب، يعني: لو أردت أن تُكمِّل هذه المقدمة في الغريب من الكتاب لخرج من ذلك مادة كاملة في غريب القرآن، على دقّة المؤلف -رحمه الله-، فتستطيع أن تضم إلى المقدّمة أشياء مبثوثة في الكتاب مُفرّقة، ثم بعد ذلك يكتمل عندك مادة جيدة في الغريب؛ لأنَّ المؤلف -رحمه الله- في هذه المقدمة ذكر الألفاظ التي يكثُر دورانها، والباقي في مواضعه في الكتاب.

وأحد العلماء من الشَّناقطة نظم هذه الألفاظ من الغريب، وعليها تعليق وشرح، وعندي نسخة منها، لم تُطبع، لكنَّه ليس بالنَّظم السَّلس الذي يصلُح أن يحفظه طالبُ العلم، يعني: لو أنَّه حفظها هكذا أسهل من حفظ ذلك النَّظم، لكنَّه موجود، مَن أراده يمكن أن يُصوَّر.

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي هدانا للإسلام، وعلّمنا الحكمة والقرآن، وصلَّى الله وسلَّم وبارك على عبده ورسوله محمدٍ، وعلى آله وصحابته الطّيبين الطَّاهرين، اللَّهم اغفر لنا، ولوالدينا، ولشيخنا، وللمُستمعين.

أما بعد: فيقول الإمامُ محمد بن أحمد بن جزي، الكلبي، الغرناطي، المالكي:

"الحمد لله العزيز الوهّاب، ملك الملوك، وربّ الأرباب: الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ [الكهف:1]، هُدًى وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ [غافر:54]، وأودعه من العلوم النَّافعة، والبراهين القاطعة، والأنوار السَّاطعة غاية الحكمة، وفصل الخطاب، وخصَّه بالخصائص العلية، واللَّطائف الخفية، والدَّلائل الجلية، والأسرار الربانية العجب، بكل عجبٍ عُجاب، وجعله في الطبقة العليا من البيان، حتى أعجز الإنسان والجانّ، واعترف علماءُ أرباب اللِّسان بما تضمّنه من الفصاحة والبراعة والبلاغة والإعراب والإغراب، ويسر حفظه في الصُّدور، وضمن حفظه من التَّبديل والتَّغيير، فلم يتغير، ولا يتغير على طول الدُّهور، وتوالي الأحقاب.

وجعله قولًا فصلًا، وحكمًا عدلًا، وآيةً باديةً، ومُعجزةً باقيةً، يُشاهدها مَن شهد الوحي ومَن غاب، وتقوم بها الحجّة للمؤمن الأوَّاب، والحجّة على الكافر المرتاب.

وهدى الخلق بما شرع فيه من الأحكام، وبيّن من الحلال والحرام، وعلَّم من شعائر الإسلام، وصرَّف من النَّواهي والأوامر والمواعظ والزَّواجر، والبشارة بالثواب، والنّذارة بالعقاب، وجعل أهلَ القرآن أهل الله وخاصّته، واصطفاهم من عباده، وأورثهم الجنةَ ونعيمها وحُسن المآب.

فسبحان مولانا الكريم الذي خصَّنا بكتابه، وشرَّفنا بخطابه، فيا له من نعمةٍ سابغةٍ، وحُجَّةٍ بالغةٍ، أوزعنا الله الكريم القيام بواجب شُكرها، وتوفية حقّها، ومعرفة قدرها: وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ [هود:88]، هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ [الرعد:30].

وصلاة الله وسلامه، وتحيّاته وبركاته وإكرامه على مَن دلّنا على الله، وبلّغنا رسالةَ الله، وجاءنا بالقرآن العظيم، وبالآيات والذكر الحكيم، وجاهد في الله حقَّ الجهاد، وبذل جهده في الحرص على نجاة العباد، وعلّم ونصح، وبيَّن وأوضح، حتى قامت الحجّة، ولاحت المحجّة، وتبين الرشد من الغيِّ، وظهر طريقُ الحقِّ والصَّواب، وانقشعت ظُلمات الشَّك والارتياب، ذلك سيدنا ومولانا محمد النبي الأمي، القرشي، الهاشمي، المختار من لباب اللباب، والمصطفى من أطهر الأنساب، وأشرف الأحساب، الذي أيَّده الله بالمعجزات الظَّاهرة، والآيات الباهرة، والجنود القاهرة، والسيوف الباترة الغضاب، وجمع له بين شرف الدنيا والآخرة، وجعله قائدًا للغُرّ المحجّلين، والوجوه النَّاضرة، فهو أوّل مَن يشفع يوم الحساب، وأوّل مَن يدخل الجنةَ ويقرع الباب، فصلَّى الله عليه، وعلى آله الطيبين، وأصحابه الأكرمين، خير أهلٍ، وأكرم أصحاب، صلاةً زاكيةً، ناميةً، لا يحصر مقدارها العدُّ والحساب، ولا تبلغ إلى أدنى وصفها ألسنة البُلغاء، ولا أقلام الكُتَّاب.

أما بعد: فإنَّ علم القرآن العظيم هو أرفع العلوم قدرًا، وأجلّها خطرًا، وأعظمها أجرًا، وأشرفها ذكرًا، وإنَّ الله أنعم عليَّ بأن شغلني بخدمة القرآن وتعلّمه وتعليمه، وشغفني بتفهم معانيه، وتحصيل علومه، فاطلعتُ على ما صنَّف العلماءُ في تفسير القرآن من التَّصانيف المختلفة الأوصاف، المتباينة الأصناف، فمنهم مَن آثر الاختصار، ومنهم مَن طوّل حتى أكثر الأسفار، ومنهم مَن تكلّم في بعض فنون العلم دون بعض، ومنهم مَن اعتمد على نقل أقوال الناس، ومنهم مَن عوّل على النَّظر والتَّحقيق والتَّدقيق، وكل أحدٍ سلك طريقًا نحاه، وذهب مذهبًا ارتضاه: وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى [النساء:95].

فرغبتُ في سلوك طريقهم، والانخراط في سلك فريقهم، وصنَّفتُ هذا الكتاب في تفسير القرآن العظيم، وسائر ما يتعلّق به من العلوم، وسلكتُ مسلكًا نافعًا؛ إذ جعلته وجيزًا جامعًا، قصدتُ به أربعة مقاصد، تتضمن أربع فوائد".

هذه المقدّمة في بعض الطّبعات القديمة ابتدأها الناسخُ بجملةٍ فيها شيءٌ من العبارة التي تُخلّ بالاعتقاد، وقد أشرتُ إلى ذلك في المرة الماضية، إذا كان مع أحدٍ منكم الطبعة القديمة، أو شيء من الطبعات القديمة، فقد يجد في بعض هذه الطبعات كلامًا للناسخ يتوسّل فيه بالنبي ﷺ.

وعلى كل حالٍ، فيما يتّصل بالمقدمات: ينبغي أن يعلم طالبُ العلم أنَّ شرح مثل هذه العبارات الواضحة، أو شرح البسملة والحمدلة، وما إلى ذلك مما يُطوَّل به الشرح؛ أنَّ هذا غير صحيحٍ، فهذا يقطع على طلاب العلم الزمان، ويُطول عليهم المدّة في دراسة العلوم، وتتحول الكتب المختصرة إلى مُطولات مُوسّعة، يُشرح فيها ما هو خارج عن المقصود، فهذا غير صحيحٍ، وإنما يُشرح ما يحتاج إلى شرحٍ.

فتكلّم المؤلف -رحمه الله- هنا عن شرف علم التفسير، وأنَّ علم القرآن هو أرفع العلوم قدرًا، وأجلّها خَطَرًا، وأعظمها أجرًا، وأشرفها ذكرًا.

فهذه الكلمات يُعبِّر بها عن شرف هذا العلم الذي قد أعرض عنه أكثرنا، فنجد أنَّ طلاب العلم يُعنون بدراسة المتون في مختلف العلوم، ويتفحّصونها، ويستشرحون كلّ عبارةٍ فيها، ولكن إذا نظرت إلى الحال مع القرآن تجد أنَّ ذلك في غاية التَّقصير، وأنَّ العمر يذهب من أوَّله إلى آخره وربما لم يدرس الواحدُ منا كتابًا مُختصرًا في تفسير القرآن، وهذا ليس له تفسيرٌ فيما أفهم إلا أنَّ ذلك من عمل الشيطان.

مع أنَّ المعرفة بالقرآن لها شأنٌ، وفي قوله -تبارك وتعالى-: يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ [البقرة:٢٦٩] يقول ابنُ عباسٍ -رضي الله عنهما-: "المعرفة بالقرآن: بناسخه ومنسوخه، ومُحكمه ومُتشابهه، ومُقدَّمه ومُؤخّره، وحلاله وحرامه، وأمثاله"[1]، وجاء عنه: وَمَن يُؤْتَ الحِكْمَةَ يعني: تفسيره[2]، أي: القرآن.

وجاء عن أبي الدَّرداء أنه قال: "قراءة القرآن، والفكرة فيه"[3]، وجاء هذا عن جماعةٍ من السلف: كمُجاهد، وأبي العالية، وقتادة.

والله -تبارك وتعالى- يقول: وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ [العنكبوت:٤٣]، يقول عمرو بن مُرَّة -رحمه الله-: "ما مررتُ بآيةٍ في كتاب الله لا أعرفها إلا أحزنتني؛ لأني سمعتُ الله يقول: وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ"[4].

وجاء أيضًا عن الحسن البصري -رحمه الله-: "والله ما أنزل اللهُ آيةً إلا أحبّ أن يعلم فيمَن أُنزلت، وما يعني بها"[5].

وجاء أيضًا عن ابن عباسٍ -رضي الله تعالى عنهما- أنَّه قال: "الذي يقرأ ولا يُفسّر كالأعرابي الذي يهذ الشعر"[6]، وكلام أهل العلم في هذا كثيرٌ.

والأصبهاني -رحمه الله- يذكر أنَّ أشرف صناعةٍ يتعاطاها الإنسانُ هي تفسير القرآن[7]، ثم يبين ذلك بأنَّ "شرف الصِّناعة: إمَّا بشرف موضوعها، مثل: الصياغة، فهي أشرف من الدِّباغة؛ لأنَّ موضوع الصياغة: الذهب والفضّة، وهما أشرف من موضوع الدِّباغة الذي هو جلد الميتة.

وإمَّا بشرف غرضها، مثل: صناعة الطبّ، فإنها أشرف من صناعة الكُناسة؛ لأنَّ غرضَ الطبّ إفادة الصحّة، وغرض الكناسة تنظيف المستراح"[8] -أعزكم الله-.

قال: "وإمَّا لشدّة الحاجة إليه، كالفقه، فإنَّ الحاجة إليه أشدّ من الحاجة إلى الطبّ؛ إذ ما من واقعةٍ من الكون في أحدٍ من الخلق إلا وهي مُفتقرة إلى الفقه؛ لأنَّ به انتظام صلاح أحوال الدنيا والدِّين، بخلاف الطبّ، فإنَّه يحتاج إليه بعضُ الناس في بعض الأوقات".

يقول: "إذا عُرف ذلك فصناعة التَّفسير قد حازت الشرف من الجهات الثلاث؛ أمَّا من جهة الموضوع: فلأنَّ موضوعه كلام الله تعالى، الذي هو ينبوع كل حكمةٍ، ومعدن كل فضيلةٍ"[9]، إلى أن يقول: "وأمَّا من جهة الغرض: فلأنَّ الغرض منه هو الاعتصام بالعروة الوثقى، والوصول إلى السَّعادة الحقيقية التي لا تفنى، وأمَّا من جهة شدّة الحاجة: فلأنَّ كلَّ كمالٍ ديني أو دُنيوي، عاجل أو آجل؛ مُفتقرٌ إلى العلوم الشَّرعية، والمعارف الدِّينية، وهي مُتوقفة على العلم بكتاب الله تعالى"[10].

ويقول الشَّعبي -رحمه الله-: "رحل مسروق بن الأجدع إلى البصرة في تفسير آيةٍ، فقيل له: إنَّ الذي يُفسّرها رحل إلى الشَّام، فتجهز ورحل إليه، حتى علم تفسيرها"[11].

ويقول صاحبُ "البرهان": "وإنما يفهم بعض معانيه، ويطلع على أسراره ومبانيه؛ مَن قوي نظره، واتَّسع مجاله في الفكر وتدبّره، وامتدّ باعه، ورقّت طباعه، وامتدّ في فنون الأدب، وأحاط بلغة العرب ..."[12]، في كلامٍ طويلٍ يُرجع إليه في مقدّمته لكتاب "البرهان".

كما يذكر أيضًا الحرالي -رحمه الله- أنَّ "أكمل العلماء مَن وهبه الله تعالى فهمًا في كلامه، ووعيًا عن كتابه، وتبصرةً في الفرقان، وإحاطةً بما شاء من علوم القرآن"[13]، إلى أن يقول ناقلًا قول الإمام الشَّافعي -رحمه الله-: أنَّ جميع ما تقوله الأمّة شرح للسنة، وجميع السُّنة شرح للقرآن، وجميع القرآن شرح لأسماء الله الحسنى، وصفاته العُليا ...، إلى آخر ما ذكر[14].

ونقل عن سفيان بن عيينة في قوله -تبارك وتعالى-: سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ[الأعراف:١٤٦]، قال: "أحرمهم فهم القرآن"[15].

ويقول سفيان الثوري -رحمه الله-: "لا يجتمع فهمُ القرآن والاشتغالُ بالحطام في قلب مؤمنٍ أبدًا"[16].

وجاء عن عبدالعزيز بن يحيى الكناني -رحمه الله-: "مَثَلُ علم القرآن مثل الأسد، لا يُمكِّن من غِيلِه سواه"[17]، وغيل الأسد: هو المكان الذي يأوي إليه، شجر مُلتفّ يأوي إليه الأسد.

ويقول ذو النون المصري: "أبى الله إلا أن يحرم قلوب البطّالين مكنون حكمة القرآن"[18].

وجاء عن الحسن -رحمه الله-: "علم القرآن ذَكَر، لا يعلمه إلا الذكور من الرجال"[19]، وكلام أهل العلم في هذا كثيرٌ، لكن ما ذُكِرَ فيه الكفاية.

فالإقبال على القرآن، والاشتغال به، وبتدبّره، وبتفهمه، والنَّظر في تفسيره، ينبغي أن يكون هو المقدَّم، ولا يحسُن بالمؤمن -فضلًا عن طالب العلم- أن يكون خالي الوفاض من علم القرآن، ومن معانيه، وتفسيره، وألا يكون من برامجه اليومية القراءة لكتاب الله -تبارك وتعالى-، والتَّدبر والتَّفهم، والله المستعان.

هنا يقول المؤلف -رحمه الله- عن المؤلفين في التفسير: "فمنهم مَن آثر الاختصار"، وهو يتحدّث عن المفسرين الذين كانوا قبله: "فمنهم مَن آثر الاختصار"، هذا كما فعل الواحدي -رحمه الله- في كتابه "الوجيز"، والواحدي توفي 468 للهجرة، وله ثلاثة كتبٍ في التفسير: له كتاب مُختصر، وله كتاب مُتوسط، وله كتاب توسّع فيه.

يقول: "ومنهم مَن طوّل حتى أكثر الأسفار"، يعني: ألّف المجلدات، وهؤلاء كثير، كالقرطبي، المتوفى سنة إحدى وسبعين وستمئة، وكتابه مشهور ومعروف.

يقول: "ومنهم مَن تكلّم في بعض فنون العلم دون بعضٍ"، يعني: تكلّم على جوانب معينة، كمَن تكلّم مثلًا على أحكام القرآن، والذين ألَّفوا في أحكام القرآن كثر، وكثيرٌ من هؤلاء يقتصرون على الآيات المباشرة في الأحكام.

فالقرطبي -رحمه الله- ألَّف "الجامع لأحكام القرآن"، لكنَّه لم يقتصر على آيات الأحكام، بل فسَّر القرآن كلّه، ولكن من هؤلاء مَن اقتصر على آيات الأحكام، كالجصّاص، المتوفى سنة سبعين وثلاثمئة.

وكذلك أيضًا الذين ألَّفوا في جوانب معينة مما يتصل بالقرآن وتفسيره، أو معانيه، مثل: أصحاب معاني القرآن، أمثال: الفرّاء، والزّجاج، وغير هؤلاء.

يقول: "ومنهم مَن اعتمد على نقل أقوال الناس"، يعني: مثل أولئك الذين ذكروا الأقوال، وأكثروا منها في كتبهم، كالكتب المتقدمة التي تذكر الرِّوايات فقط: كتفسير عبدالرزاق الصّنعاني -رحمه الله-، المتوفى سنة ٢١١ه.

وأيضًا ابن الجوزي -رحمه الله- في كتابه "زاد المسير" يجمع في الآية الواحدة أقوالًا كثيرةً، وإن كان لا يُعنى بذكر الروايات، ولكنَّه يُعنى بجمع الأقوال، ولو كانت هذه الأقوال من قبيل اختلاف التنوع، يعني: لو كانت ترجع إلى معنًى واحدٍ.

يقول: "ومنهم مَن عوّل على النَّظر والتَّحقيق والتَّدقيق"، مثل: ابن عطية في كتابه "المحرر الوجيز"، فابن عطية توفي سنة ٥٤٢، وإذا قرأتَ في هذا الكتاب تجد في نفسك انبعاثًا لا تستطيع ردّه أنَّ هذا الكتاب يصلح أن يُسمّى "المحرر الوجيز"، على ما فيه من مُخالفات في الاعتقاد، لكنَّه حرر العبارة، وكتبه بطريقةٍ دقيقةٍ، لم يتوسع في جانبٍ من الجوانب، وإنما جاء به في حالٍ من الاعتدال، مع اختصار العبارة.

يقول: "وكل أحدٍ سلك طريقًا نحاه، وذهب مذهبًا ارتضاه"، يعني: هذا من أدب ابن جزي -رحمه الله- مع العلماء الذين سبقوه في التأليف في التفسير، يقول: "وكلًّا وعد اللهُ الحسنى".

ثم ذكر أنَّه صنَّف هذا الكتاب في تفسير القرآن، وسائر ما يتعلّق به من العلوم، علوم ماذا؟ علوم القرآن؛ لأنَّه يقول بعد ذلك في الصَّفحة المقابلة: "ولقد أودعتُه من كل فنٍّ من فنون علم القرآن اللباب المرغوب فيه"، يعني: أنَّك تجد في هذا الكتاب التفسير، وتجد فيه أيضًا علوم القرآن، وهذا ما أشرتُ إليه في البداية، لو أنَّ هذه جُمعت فإنَّك تخرج من ذلك بفوائد كثيرة ومتنوعة في أبواب شتى من أبواب علوم القرآن، وهو يذكر هذه العلوم في المقدّمة، وسيأتي ذلك -إن شاء الله-، فالمؤلف يُعنى في هذا الكتاب بأمرين: بالتفسير، كما يُعنى أيضًا بعلوم القرآن.

"الفائدة الأولى: جمع كثيرٍ من العلم في كتابٍ صغير الحجم؛ تسهيلًا على الطالبين، وتقريبًا على الراغبين، فلقد احتوى هذا الكتاب على ما تضمنته الدّواوين الطويلة من العلم، ولكن بعد تلخيصها وتمحيصها، وتنقيح فصولها، وحذف حشوها وفضولها.

ولقد أودعته من كل فنٍّ من فنون علم القرآن اللباب المرغوب فيه، دون القشر المرغوب عنه، من غير إفراطٍ، ولا تفريطٍ.

ثم إني عزمتُ على إيجاز العبارة، وإفراط الاختصار، وترك التَّطويل والتَّكرار".

الفائدة الأولى: أن يجمع كثيرًا من العلم في كتابٍ يختصره، ويُقرّبه لطلاب العلم، وهذا كما أراد الواحدي -رحمه الله- من كتابه "الوجيز" الذي أشرتُ إليه آنفًا، حيث قصد الواحدي إلى إيجاز كتابٍ في التفسير، كما يقول: "يقرُب على مَن تناوله، ويسهُل على مَن تأمّله، مِن أوجز ما عُمِلَ في بابه، وأعظمه فائدة على مُتحفّظيه وأصحابه"[20]، يقول: "وهذا كتابٌ أنا فيه نازلٌ إلى درجة أهل زماننا –يعني: في الأسلوب-؛ تعجيلًا لمنفعتهم، وتحصيلًا للمثوبة في إفادتهم، ما تمنّوه طويلًا، فلم يُغنِ عنهم أحدٌ فتيلًا"[21]، يقول: الناس من زمانٍ يتمنون أن يحصلوا على مُختصرٍ في التفسير قريب التناول، فحققتُ لهم هذه الأمنية.

وابن جزي -رحمه الله- في هذه الفائدة الأولى ذكر فيها مقصوده من تأليف الكتاب، وهو أنَّه ألّف ليختصر، ويقرب لطلاب العلم.

"الفائدة الثانية: ذكر نكت عجيبة، وفوائد غريبة، قلّما توجد في كتابٍ؛ لأنها من بنات صدري، ونتائج فكري، ومما أخذتُه عن شيوخي ، أو مما التقطته من مُستظرفات النَّوادر الواقعة في غرائب الدَّفاتر".

وقد ذكرتُ لكم في المجلس الماضي بعضَ اللَّطائف من الكتاب، وبعض ما يُستملح، من ذلك مثلًا: في قوله -تبارك وتعالى- عن يوسف في ذكر مِنّة الله عليه، قال: أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ [يوسف:١٠٠]، ولم يقل: من الجُبِّ؛ مُراعاةً لشعور إخوته؛ لأنَّهم هم الذين ألقوه في الجبِّ.

وهكذا أيضًا وجه التَّعبير في قصّة هود وشُعيب -عليهما السلام- بقوله: وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا [هود:٥٨- ٩٤]، وفي قصّه صالح ولوط قال: فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا [هود:٦٦- ٨٢]، هذا يُسمّونه: المتشابه اللَّفظي، وهو أن يكون الموضعُ فيه تشابه في اللَّفظ، إلا أنَّه توجد فروقات يسيرة.

وأيضًا كقوله -تبارك وتعالى-: فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا [الكهف:٩٧]، فلماذا في الصُّعود والتَّسلق على السدِّ قال: فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ، وفي النَّقب قال: وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا؟

وكذلك أيضًا في قوله -تبارك وتعالى- عن الخضر مع موسى حينما قال له: إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا [الكهف:٦٧]، وقال له: أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا [الكهف:٧٢]، وقال له: سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا [الكهف:٧٨]، وقال بعد أن أخبره: ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا [الكهف:٨٢] فحُذِفَت التاء، ما وجه ذلك؟

وفي قوله -تبارك وتعالى- في سورة الأنفال: وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [الأنفال:١٠]، وقال في آل عمران: وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ [آل عمران:١٢٦]، لماذا اختلف التعبيرُ بين آية الأنفال وآية آل عمران؟

وهكذا في أمثلةٍ كثيرةٍ، كقوله: وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ [الإسراء:٣١]، وفي الأنعام: وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُم مِّنْ إِمْلَاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ [الأنعام:١٥١]، فما وجه ذلك؟

هذا يُسمّونه: المتشابه اللَّفظي، يعني: تشابه في الألفاظ.

وهناك كتبٌ مُختصّةٌ تُوجّه مثل هذه المتشابهات، كما فعل الكرماني في كتابه "البرهان في مُتشابه القرآن"، والغرناطي في كتابه "مِلاك التأويل"، والإسكافي في كتابه "درّة التنزيل وغرّة التأويل"، وزكريا الأنصاري له كتابٌ في مُتشابه القرآن.

وهناك من المفسرين مَن يُعنَون بهذا، والعادة أنَّ الذين يُعنون به هم مَن يكون لهم عناية بالجوانب البلاغية.

وابن جزي -رحمه الله- يتطرق لمثل هذه الأشياء، فهو يقول: "أودعته هذه اللَّطائف"، وذكرتُ لكم بعض الأمثلة الأخرى غير البلاغية، كقوله: وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ [يس:٤٠]، يقول: "تُقرأ بالمقلوب أيضًا"، فلو بدأت من الحرف الأخير: (كُلٌّ فِي فَلَكٍ)، اقرأها من آخر حرفٍ: (كُلٌّ فِي فَلَكٍ).

وهكذا أيضًا: وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ [المدثر:٣]، إذا قرأتها من الحرف الأخير كانت نفس النتيجة، فهذا من هذه اللَّطائف التي يُشير إليها.

"الفائدة الثالثة: إيضاح المشكلات: إمَّا بحلِّ العقد المقفلات، وإمَّا بحُسن العبارة، ورفع الاحتمالات، وبيان المجملات".

هذا تجده ظاهرًا في هذا الكتاب، وإن شاء الله تعالى ونحن نقرأ في تفسير الآيات سنقف على مواضع كثيرةٍ مما يذكره، أو يُشير إليه في هذه المقدّمة.

والذي يقرأ من كلام المفسرين واختلافهم وأقاويلهم، ثم ينظر في عبارة ابن جزي في كثيرٍ من المواضع، يجد عبارته في غاية الدّقة؛ من حيث التعبير عن المعنى، وتفصيل الأقاويل، وتوضيح المواضع المشكلة، كلّ ذلك بعبارات وجيزة.

ولو ضربنا لذلك مثلًا: الآية التي يذكر العلماء أنها الأكثر إشكالًا من جهة الإعراب والمعنى، وهي آية المائدة في الشَّهادة على الوصية في السَّفر: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ [المائدة:١٠٦]، فمَن يرجع إلى كلامه في هذه الآية، وينظر كيف فصّل وذكر الأقوال، ثم بعد ذلك يُرجّح، يجد عجبًا.

"الفائدة الرابعة: تحقيق أقوال المفسّرين، والتَّفرقة بين السَّقيم منها والصَّحيح، وتمييز الراجح من المرجوح، وذلك أنَّ أقوال الناس على مراتب: فمنها الصَّحيح الذي يُعوّل عليه، ومنها الباطل الذي لا يُلتفت إليه، ومنها ما يحتمل الصحّة والفساد، ثم إنَّ هذا الاحتمال قد يكون مُتساويًا، أو مُتفاوتًا، والتَّفاوت قد يكون قليلًا أو كثيرًا".

فهذه الأقوال يذكرها في كتابه هذا، ويُرجّح غالبًا، وإن كان في بعض المواضع لا يُرجّح، وقد لا يكون من اليسير على العالِم أن يُرجِّح في كل موضعٍ؛ لأنَّه -كما سترون- تبقى بعض الأقوال أحيانًا مُتقاربة في القوة والاحتمال، وربما نجد أنَّ بعض الأقوال له ما يُؤيّده من القرائن أو السياق، وللقول الآخر أيضًا مثل ذلك، مما يصعُب معه الترجيح، وقد لا يمكن في الوقت نفسه الجمع بين هذه الأقوال.

"وإني جعلتُ لهذه الأقسام عبارات مختلفة، يعرف بها مرتبة كل قولٍ، فأدناها ما أُصرّح بأنَّه خطأ، أو باطل، ثم ما أقول فيه: إنَّه ضعيف، أو بعيد، ثم ما أقول: إنَّ غيره أرجح منه، أو أقوى، أو أظهر، أو أشهر، ثم ما أُقدّم غيره عليه؛ إشعارًا بترجيح المتقدّم، أو بالقول فيه: قيل كذا؛ قصدًا للخروج من عُهدته، وأمَّا إذا صرّحت باسم قائل القول، فإني أفعل ذلك لأحد أمرين".

هذه اصطلاحاته التي أشرتُ إليها في أول الكلام، فمثل هذا لو أنَّه رُوعي وضُبِط أثناء القراءة، وأُحيل إليه تطبيقات وأمثلة، يعني: مثلًا حينما يقول: "فأدناها ما أُصرِّح بأنَّه خطأ، أو باطل"، يعني: إذا قال: "هذا خطأ، أو باطل"، فمعنى ذلك: أنَّه في غاية الضَّعف عنده، فهذا الذي يكون بهذه المثابة معناه: أنَّه في غاية الاستبعاد، ومن ذلك على سبيل المثال: في قوله تعالى: مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ [النساء:٣]، يقول: "وقال قومٌ لا يُعبأ بقولهم"، وذكر القول، ثم قال: "وهذا خطأ؛ لقوله -تبارك وتعالى- في نكاح زوجات الآباء: إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا [النساء:٢٢]"، يقول: "وقال المبرد: هي زائدة، وذلك خطأ"، يقصد (كان) زائدة، فالمبرد يقول: (كان) هذه زائدة، يعني: إعرابًا، يعني: إنَّه فَاحِشَةٌ وَسَاءَ سَبِيلًا، فيقول: "هذا خطأ".

طبعًا هو حينما يقول: هذا خطأ، أو هذا باطل، أو هذا ضعيف، أو غير ذلك، عادةً يُعلل بعده، فيقول: لأنَّه مثلًا كذا ...، يعني: مثلًا في هذا الموضع ماذا يقول؟

يقول: لأنَّ الأصل عدم الزيادة. فهو يُعلل دائمًا، ولا يحكم فقط بالضَّعف، ويترك القارئ يبحث عن عِلَّة ذلك.

ومثال ما قال أنَّه باطل: لـمَّا تكلّم عن سبب أكل آدم من الشَّجرة، وما الذي دعاه إلى الأكل من الشجرة؟ ذكر كلامًا، فقال: "وقيل: بأنَّه سَكِر من خمر الجنة، فأكل من الشَّجرة ولم يشعر"، يقول: "وهذا باطلٌ"، ويُعلل فيقول: "لأنَّ خمر الجنّة لا يُسكر".

وكذلك أيضًا في قوله -تبارك وتعالى-: الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ [الأنعام:٢٠]، فما موقع: الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ؟ هل هو مُنادى؟

ذكر قول مَن قال بأنَّه مُنادى، ثم قال: "وهو باطل".

لاحظ: المثال السابق أنَّ آدم سكر من خمر الجنة، قال: "وهذا باطل"، وهذا أيضًا قال فيه كذلك.

يقول: "ثم ما أقول فيه: إنَّه ضعيف"، مثاله: لـمَّا تكلّم على ترتيب السور في المقدّمات قال: "وقد قيل: إنَّه من فِعل رسول الله ﷺ؛ وذلك ضعيفٌ، تردّه الآثار الواردة في ذلك"، وسيأتي الكلام على هذا -إن شاء الله- في مسألة ترتيب السور: هل هو توقيفي، أو أنَّه اجتهادي؟ فهو يقول: "هذا ضعيفٌ، تردّه الآثار الواردة في ذلك".

وفي كلامه على قوله -تبارك وتعالى-: فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا [البقرة:٧٣]، والمؤلف مالكي -رحمه الله- يقول: "استدلّ المالكية بهذه الآية على قبول قول المقتول: فلان قتلني، وهو ضعيفٌ"، فحكم عليه بالضّعف، يعني: المالكية يقولون: إنَّ هذا الرجل الذي يتشحّط في دمه، حينما يقول وهو في رمقه الأخير: فلان قتلني، تكون الدنيا قد جعلها خلف ظهره، فهو لا يتحرّى في هذا الموضع الكذب، ولا يطلبه، فلن يقول إلا الحقّ.

والمالكية يستدلّون على هذا بقصّة القتيل الذي أمر موسى –عليه السلام- أن يُضْرَب بجزءٍ من البقرة، فأحياه الله ، فأخبرهم عن قاتله.

فابن جزي -رحمه الله- يردّ عليهم فيقول: "هذا ضعيفٌ"، لماذا اعتبره كذلك؟

قال: "هذا مات، وشاهد الحقائق، وعاين الأمور الـمُغيبة، بخلاف هذا الذي لم يُفارق الدنيا بعد، فإنَّ الحال تختلف".

فهذه أمثلة على هذه العبارات التي يُعبِّر بها.

يقول: "أو بعيد"، يعني: إذا قال: إنَّه ضعيفٌ، أو بعيدٌ. يعني: هذا كله بمنزلةٍ واحدةٍ.

وفي قوله -تبارك وتعالى-: وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ [البقرة:١٤]، مَن هؤلاء الشياطين؟

بعضهم يقول: شياطين الجنّ، يقول: "وهو بعيدٌ".

وفي قوله: وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ [البقرة:٥٣]، فما المراد بالفرقان؟

يقول: "وقيل: آتينا موسى التوراة، وآتينا محمدًا الفرقان"، ثم يقول: "وهذا بعيدٌ".

يقول: "ثم ما أقول: إنَّ غيره أرجح منه"، ومن أمثلته: في قوله -تبارك وتعالى-: صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [الفاتحة:٧]، يقول: "قال ابنُ عباسٍ: هم النَّبيون، والصّديقون، والشُّهداء، والصَّالحون"، ثم ذكر ابنُ جزي -رحمه الله- أقوالًا أخرى، ثم قال: "والأول أرجح".

وهكذا في قوله -تبارك وتعالى-: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ [الفاتحة:٧] ذكر أنَّ المغضوب عليهم هم اليهود، وأنَّ الضَّالين هم النَّصارى، ثم ذكر أقوالًا أخرى، ثم قال: "والأول أرجح".

يقول: "أو أقوى"، ومن أمثلته: في قوله -تبارك وتعالى-: فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا [الإسراء:٧٢]، فهل هذه صفة له: أنَّه في الآخرة يكون أعمى، فاقد البصر، أو أنها أفعل تفضيل؟ يعني: هو في الآخرة أعظم وأكثر عمًى مما كان عليه في الدنيا، حيث كان أعمى عن الهدى والحقّ، يقول: "ويجوز في أعمى الثاني أن يكون صفةً للأول، وأن يكون من الأفعال التي للتَّفضيل، وهذا أقوى"، يعني: أنَّه أكثر عمًى.

وهكذا في قوله: فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ [هود:١٤]، يقول: "فيه وجهان:

أحدهما: أن تكون مُخاطبة من الله للنبي ﷺ وللمؤمنين"، يعني: أنَّ الله -تبارك وتعالى- يقول: هؤلاء الكفَّار إن لم يستجيبوا لكم بعد هذه البراهين، فاعلموا أنتم وتيقّنوا أنَّ هذا القرآن أُنزل بعلم الله -تبارك وتعالى-، وأنَّه من عنده.

"الثاني: أن يكون خطابًا من النبي ﷺ للكفَّار"، يعني: يقول لهم: إن لم تستجب لكم هذه الآلهة التي تدعونها من دون الله، فاعلموا أنَّ القرآن حقٌّ، وأنَّه مُنزّلٌ من عند الله، يقول: "وهذا أقوى من الأوَّل".

يقول: "أو أظهر"، ومن الأمثلة: في الاستعاذة: "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم"، "الرجيم" هنا يقول: "فعيلٌ بمعنى مفعول"، يعني: مرجوم، "ويحتمل معنيين: أن يكون بمعنى لعين وطريد، وهذا يُناسِب إبليس، والأول أظهر".

كذلك في قوله -تبارك وتعالى-: يُخَادِعُونَ اللَّهَ [النساء:١٤٢] أي: يفعلون فعل المخادِع، إلى أن قال: "وقيل: معناه: يخدعون رسولَ الله ﷺ، والأول أظهر".

يقول: "أو أشهر"، ومن أمثلته: في قوله -تبارك وتعالى-: الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ [البقرة:١٨٠]، حيث يقول: "الوصية للوالدين والأقربين كانت فرضًا قبل الميراث، ثم نسختها آيةُ المواريث، وقيل: معناها: الوصية بتوريث الوالدين والأقربين على حسب الفرائض، والأول أشهر".

هذه بعض الأمثلة لعباراته التي يذكرها في المقدّمة، وكيف يُعبّر عن الأقوال، مما يُبَيّن منزلتها من قوةٍ وضعفٍ، فهذا من كلامه -رحمه الله- وتطبيقاته في هذا الكتاب.

يقول: "ثم ما أُقدِّم غيره عليه؛ إشعارًا بترجيح المتقدِّم، أو بالقول فيه: قيل: كذا".

هنا يقول في الهامش في نسخةٍ: "أو ما أقول فيه"، هذه العبارة أوضح، مع أنَّ التي ذكرها صحيحة، لكن لو أنَّه اعتمد التي في النُّسخة الأخرى: "أو ما أقول فيه: قيل: كذا؛ قصدًا للخروج من عُهدته" يعني: يقول: أنا إذا أضفتُ القول إلى قائله، فأكون بذلك قد خرجتُ من عُهدته، هذا قال به فلان.

"وأمَّا إذا صرّحتُ باسم قائل القول، فإني أفعل ذلك لأحد أمرين: إمَّا للخروج عن عُهدته، وإمَّا لنُصرته إذا كان قائله ممن يُقتدى به، على أني لستُ أنسب الأقوال إلى أصحابها إلَّا قليلًا؛ وذلك لقلّة صحّة إسنادها إليهم، أو لاختلاف النَّاقلين في نسبتها إليهم".

هنا يقول: "على أني لا أنسب الأقوالَ إلى أصحابها إلا قليلًا"، لماذا؟ يقول: "لقلّة صحّة إسنادها إليهم، أو لاختلاف النَّاقلين في نسبتها إليهم".

أمَّا الأول: وهو قلّة صحّة الإسناد، فهذا باعتبار أنَّ كثيرًا من المرويات في التَّفسير لا تصحّ من جهة الإسناد، فهو لا يجزم بنسبتها إلى هذا القائل، وإن كانت تحمل معانٍ جيدةً، ومعانٍ صحيحةً، أو وجيهةً في كثيرٍ من الأحيان.

الأمر الثاني: قال: "أو لاختلاف النَّاقلين في نسبتها إليهم"، وهذا قليلٌ جدًّا، يعني: هذه الأشياء المنقولة عن السَّلف، حينما نتتبع قد نجد أنَّ هذا القول بعينه يُنسَب إلى آخر، لكن قد يكون مُوافقًا له، يعني: أنَّ هذا قال به، والآخر قال به.

كما أننا نجد أحيانًا أنَّ هذا القول الذي نُسِبَ إلى مُجاهد مثلًا، أو إلى قتادة، أو نحو ذلك، نجد أنَّ القول الآخر أيضًا نُسِبَ إلى مجاهد، أو قتادة، يعني: أنَّه نُسِب إليه أكثر من قولٍ.

فهنا ينبغي أن يُنظر في هذه الحال إلى الإسناد، فما صحَّ إسناده فهو قوله، والآخر لا يثبت عنه، وإذا صحَّ هذا وهذا، فإنَّه قد يكون له في الآية أكثر من قولٍ، ولا إشكالَ، وهذا موجودٌ في التفسير، وفي غيره.

"وأمَّا إذا ذكرتُ شيئًا دون حكاية قوله عن أحدٍ، فذلك إشارة إلى أني أتقلده، وأرتضيه، سواء كان من تلقاء نفسي، أو مما أختاره من كلام غيري، وإذا كان القولُ في غاية السُّقوط والبُطلان لم أذكره؛ تنزيهًا للكتاب عنه، وربما ذكرتُه تحذيرًا منه".

يقول: إنَّه إذا ذكر القول السَّاقط، فمعنى ذلك أنَّه سيُنبّه عليه، يقول: هذا قولٌ ساقطٌ، أو هذا قولٌ لا يُلتفت إليه، لكن ما سكت عنه، ولم ينسبه لأحدٍ، فمعنى ذلك أنَّه يتبنَّاه.

"وهذا الذي ارتكبت من الترجيح والتَّصحيح مبنيٌّ على القواعد العلمية، أو على ما تقتضيه اللغة العربية".

فهنا يذكر طريقة الترجيح عنده: أنَّه يُرجّح بالقواعد، أو ما تقتضيه اللغة، وهذا تجده في الكتاب كثيرًا.

وكما قلتُ: هذه الطَّريقة لا شكَّ أنها تُؤصّل طالب العلم، وتُنمّي عنده الـمَلَكة في التفسير.

فلو جمعت مثلًا طرق الترجيح في هذا الكتاب عند ابن جزي ستخرج بثروةٍ غير قليلةٍ.

أنا أعجب من الذين يبحثون عن الموضوعات في الماجستير والدكتوراه، والذي يقرأ في هذه الكتب تبدو له موضوعات مُتعددة في الساعة الواحدة.

"وسنذكر بعد هذا بابًا في مُوجبات الترجيح بين الأقوال -إن شاء الله تعالى-.

وسميتُ هذا الكتاب: كتاب "التَّسهيل لعلوم التنزيل"، وقدّمتُ في أوّله مُقدّمتين: إحداهما في أبوابٍ نافعةٍ، وقواعد كُليّة جامعة".

هذه ذكر فيها اثنا عشر بابًا في علوم القرآن، وأصول التفسير، والثانية في غريب القرآن.

"والأخرى فيما كثر دوره من اللُّغات الواقعة.

وأنا أرغب إلى الله العظيم الكريم أن يجعل تصنيف هذا الكتاب عملًا مبرورًا، وسعيًا مشكورًا، ووسيلة توصلني إلى جنات النَّعيم، وتُنقذني من عذاب الجحيم، ولا حولَ ولا قوةَ إلَّا بالله العلي العظيم".

هذه المقدّمات التي ذكرها هي من المقدّمات النافعة في علوم القرآن، ويذكرها -وإن لم تكن بعينها- جماعةٌ من المفسرين، يعني: ممن ذكروا مقدّمات في أوائل كتبهم في التفسير جماعة، منهم: ابن جرير الطبري -رحمه الله-، والقرطبي، وقبله ابن عطية، والطاهر ابن عاشور، والقاسمي، فكلّ هؤلاء ذكروا مُقدّمات، وإن كانت تتفاوت في قَدْرِها وأهميتها، فبعض هذه المقدّمات الغالب عليها أنها نقولات طويلة من بعض الكتب، وبعض هذه المقدّمات دقيقة، تحتاج إلى دراسةٍ وتأمّلٍ.

ومن هذه المقدّمات المفيدة النَّافعة الدَّقيقة: مقدّمات ابن جزي هذه.

وبعضهم يقول: أنَّ ابن جزي استفاد ذلك من ابن عطية، والواقع: أنَّه ليس كذلك، هو يُصرّح بأنَّه استفاد من ابن عطية، وينقل من ابن عطية، ويرجع إليه، وكما ذكرنا من قبل: أنَّ ابن عطية يمكن أن نعتبره المصدر الرئيس، أو المصدر الأكثر مع تفسير الزمخشري مما رجع إليه المؤلف، لكن المؤلف -رحمه الله- لم يكن ينقل من ابن عطية، وإذا قارنت هذه المقدّمات مع المقدّمات التي ذكرها ابنُ عطية، تجد الفرقَ واضحًا.

يعني: هنا في هذا الكتاب ذكر اثنتي عشرة مُقدّمة، وابن عطية ذكر تسع مُقدّمات، والتَّوافق في العناوين الرئيسة في أربع: فيما ورد عن النبي ﷺ، والصحابة، والعلماء -رحمهم الله- في فضل القرآن، والاعتصام به ... إلى آخره، هذه عند ابن عطية، والذي عند ابن جزي تكلّم عن فضائل القرآن، لكن قال: سأذكر الأحاديث الصَّحيحة. وذكر مجموعةً من الأحاديث، ولم يتوسّع، ولم يذكر غيرها، وابن عطية -رحمه الله- ذكر أحاديث صحيحة، وضعيفة، وذكر من الآثار والنقولات عن أهل العلم في فضل القرآن، وما يتّصل بالاعتصام به.

ففرقٌ كبيرٌ بين ما ذكره ابنُ عطية وابنُ جزي.

ومما وافقه في أصل الموضوع: في فضل تفسير القرآن، والكلام على لُغته، والنَّظر في إعرابه، ودقائق معانيه.

كذلك أيضًا إذا نظرت إلى أسلوب الكتابة التي كتبها ابنُ جزي تجد الاختلاف الواضح مع ابن عطية.

وهكذا في الكلام على جمع القرآن، وشكله، ونقطه، وتحزيبه، وتعشيره، وكذلك في تفسير أسماء القرآن، وذكر السورة والآية، هنا فيه توافق من جهة الأسماء التي ذكرها ابن عطية، هي نفس الأسماء الأربعة التي ذكرها ابنُ جزي.

وهناك موضوعات فرعية في الكلام على مراتب المفسرين، ونحو ذلك، وأيضًا الكلام على الإعجاز، فهذه موضوعات فرعية.

فالفرق واضحٌ بين ما ذكره ابنُ جزي، وما ذكره ابنُ عطية، فليس بصحيحٍ أنَّ ابن جزي استفاد هذه المقدّمات من ابن عطية، إطلاقًا، هو استفاد منه في أشياء منها، ولكن هناك فروقات كبيرة بين هذه المقدّمات، والله أعلم.

  1. "تفسير الطبري = جامع البيان" ت: شاكر (5/576).
  2. "الدر المنثور في التفسير بالمأثور" (2/66).
  3. "تفسير ابن أبي حاتم" مُحققًا (2/533).
  4. "تفسير ابن أبي حاتم" مُحققًا (9/3064).
  5. "تفسير ابن عطية = المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز" (1/40).
  6. "تفسير ابن عطية = المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز" (1/40).
  7. "تفسير الراغب الأصفهاني" (1/36).
  8. "تفسير الراغب الأصفهاني" (1/36).
  9. "تفسير الراغب الأصفهاني" (1/36).
  10. "تفسير الراغب الأصفهاني" (1/36).
  11. "تفسير ابن عطية = المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز" (1/40).
  12. "البرهان في علوم القرآن" (1/5).
  13. "تراث أبي الحسن الحرالي المراكشي" (ص25).
  14. "تراث أبي الحسن الحرالي المراكشي" (ص25).
  15. "تفسير الثعلبي = الكشف والبيان عن تفسير القرآن" (4/284).
  16. "البرهان في علوم القرآن" (1/6).
  17. "البرهان في علوم القرآن" (1/7).
  18. "البرهان في علوم القرآن" (1/7).
  19. "البرهان في علوم القرآن" (1/7).
  20. "الوجيز" للواحدي (ص85).
  21. "الوجيز" للواحدي (ص85).

مواد ذات صلة