الأربعاء 11 / جمادى الأولى / 1446 - 13 / نوفمبر 2024
(04- ا) من قوله " الباب الرابع في فنون العلم التي تتعلق بالقرآن ..."
تاريخ النشر: ١٦ / رجب / ١٤٣٥
التحميل: 2212
مرات الإستماع: 1617

الحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحابته الطّيبين الطاهرين.

أما بعد: فاللهم اغفر لنا، ولوالدينا، ولشيخنا، وللمُستمعين.

يقول الإمامُ ابن جزي -رحمه الله-:

"الباب الرابع: في فنون العلم التي تتعلّق بالقرآن:

اعلم أنَّ الكلام على القرآن يستدعي الكلام في اثني عشر فنًّا من العلوم، وهي: التفسير، والقراءات، والأحكام، والنَّسخ، والحديث، والقصص، والتَّصوّف، وأصول الدِّين، وأصول الفقه، واللُّغة، والنَّحو، والبيان.

فأمَّا التفسير فهو المقصود بنفسه، وسائر هذه الفنون أدوات تُعين عليه، أو تتعلّق به، أو تتفرّع منه.

ومعنى التفسير: شرح القرآن، وبيان معناه، والإفصاح بما يقتضيه بنصِّه، أو إشارته، أو فحواه".

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.

أما بعد: فقد مضى الكلامُ على صدر هذا الباب، وذلك أنَّ هذه العلوم المتعلّقة بالقرآن عدَّ منها المؤلف -رحمه الله- اثني عشر علمًا، وهذا يختلف؛ فمن أهل العلم مَن يذكر أكثر من ذلك، فالزركشي -رحمه الله- في كتابه: "البرهان" عدَّ سبعةً وأربعين نوعًا، وزاد عليه السيوطي في "الإتقان" ما يقرب من الضِّعف، فأوصلها ثمانين، وفي كتابه الآخر: "التَّحبير" -وهو أصغر من "الإتقان"- ذكر اثنين ومئة من الأنواع.

والعلماء -رحمهم الله- يُعددون أنواعًا، فمن مُكثرٍ مُشققٍ للموضوعات، ومن مُتوسطٍ، ومن مُقِلٍّ، وهذه التي ذكرها ابن جُزي -رحمه الله- تُعدّ قليلةً إذا ما قُورنت بما يذكره السيوطي أو الزَّركشي.

هذه الأنواع سيتحدّث عنها، وبدأ بالمقصود الأساس وهو التفسير، يقول: "فهو المقصود لنفسه، وسائر هذه الفنون أدوات تُعين عليه".

"تعين عليه": الذي يُعين على التَّفسير من هذه المذكورات قبله، مثل: أسباب النزول، فإنَّ سببَ النزول يُعين على فهم المعنى، وسبب النزول ليس على مرتبةٍ واحدةٍ من هذه الحيثية، فأحيانًا قد يتوقف فهمُ المعنى على معرفة سبب النزول، وأحيانًا يزول الإشكال بمعرفة سبب النزول، وأحيانًا يكون ذلك من باب زيادة الإيضاح، وأحيانًا يكون معرفة سبب النزول فَضْلة، يعني: لا يؤثر في فهم المعنى، المعنى يُفهم وإن لم يُعرف سبب النُّزول.

تأمّل مثلًا في جملةٍ من الأمثلة: عروة بن الزبير -رحمه الله- استشكل قوله -تبارك وتعالى- في السَّعي: فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا [البقرة:١٥٨]، يعني: الصَّفا والمروة[1]: فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ، ففهم أنَّ رفع الجُناح بمعنى: رفع الحرج، أنَّ الحرج مرفوعٌ على مَن سعى بين الصَّفا والمروة، لا حرجَ عليه، ففهم أنَّ ذلك يدلّ على أنَّ السَّعي غير واجبٍ.

وذكر هذا لعائشةَ -رضي الله تعالى عنها وأرضاها- فردّت عليه هذا الفهم، وبيّنت له سبب النزول، وأنَّ هذه الآية جاءت في سياق رفع الحرج الذي وُجِدَ حينما تحرّج مَن تحرّج من السَّعي بين الصَّفا والمروة، كما دلّت عليه بعضُ الرِّوايات من أنهم ظنّوا ذلك من شعائر الجاهلية على ما كانوا يفعلونه قبل الإسلام، على الصَّفا أصنام، ظنوا أنَّ هذا السَّعي من شعائر الجاهلية، فجاء هذا لرفع الحرج: فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا، فهما من شعائر الله -تبارك وتعالى-، وأنَّه لو كان على ما فهم لقال: (فلا جناح عليه ألَّا يطوف بهما)، فهنا سبب النزول رفع هذا الإشكال.

في قوله -تبارك وتعالى-: وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا، وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَن تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا [البقرة:١٨٩]، قد لا يُفهم المراد، أو يبقى لدى البعض إشكالٌ في فهم الآية، لا تُؤتى البيوت من ظهورها، ولكن من جهة الأبواب، ما المراد بذلك؟

لكن مَن عرف سبب النزول وهو: أنَّ من محظورات الإحرام عند بعض العرب –كالأنصار- أنَّه إذا أحرم فإنَّه لا يستظلّ بسقفٍ، ولا يدخل بيتًا، فإن احتاج فإنَّه يدخله من ظهره، ولا يأتي البيتَ من بابه، فبيّن الله أنَّ هذا ليس من البرِّ، ليس مما يُتقرّب به إلى الله -تبارك وتعالى- أن تُؤتى البيوت من ظهورها، فهذا قد يتوقف عليه المعنى.

لكن حينما يُقال للنبي ﷺ: صفْ لنا ربَّك، أو يُطلب منه ﷺ أن ينسب ربَّه، فينزل على النبي ﷺ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ۝ اللَّهُ الصَّمَدُ ۝ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ ۝ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص][2]، المعنى ليس فيه خفاء إطلاقًا، وسبب النزول لا يزيده إيضاحًا، فهو واضحٌ.

إذن أسباب النزول لها تعلّق بالتَّفسير من جهة أنها تُعين على فهم الآية، بل قد يتوقف الفهمُ الصحيحُ على معرفة سبب النزول، أو يرتفع الإشكالُ إذا عُرف سبب النُّزول.

وهكذا أيضًا من هذه العلوم التي ذكرها: القراءات، يُعين على فهم الآية؛ لأنَّ هذه القراءات –كما ذكرنا في مناسبةٍ سابقةٍ- القراءة الأُحادية إذا صحَّ سندها فإنَّه يُفسَّر بها القراءة المتواترة، فهذا يُحتاج إليه.

ومن العلوم التي ذكرها: أصول الفقه، فهو مُعينٌ على فهم التَّفسير؛ لأنَّه إذا عرف أصول الفقه فإنَّه يعرف طرق الاستنباط، وطرق الدّلالة -أنواع الدّلالة-، إلى غير ذلك مما هو معلومٌ، يعني: الأبواب التي في الفقه يذكرونها في الأصل الأول الذي هو القرآن؛ لأنَّ أصول الفقه دلائل الفقه إجمالًا، هذه هي أصول الفقه، ثم بعد ذلك كيفية الاستفادة منها، هذا في حال التَّعارض، التي هي أبواب التَّعارض والتَّرجيح، أمَّا حال المستفيد فهذه من التَّوابع، وليست من أصول الفقه التي هي ما يتعلّق بالفتوى والتَّقليد والاجتهاد، وما إلى ذلك، فهي ليست من صلب أصول الفقه، وإنما هي من لواحقه وتوابعه، وإلا فأصول الفقه في الواقع هي الأدلة الإجمالية، فأول هذه الأدلة: الكتاب –القرآن-، وكثيرٌ من الأصوليين يذكرون تحت هذا الأصل الأول كثيرًا من التَّفاصيل المتعلقة بفهم القرآن، وبعضهم يذكر ذلك في مباحث الألفاظ في بابٍ مُستقلٍّ، وأصول الفقه لا شكَّ أنها مُعينة على التَّفسير.

كذلك أيضًا اللُّغة، والنَّحو، والبيان، كلّ هذا مما يُعين عليه.

يقول: "وتتعلّق به"، يعني الآن مثل: المكي والمدني يتعلّق بالتفسير، كذلك أيضًا النَّاسخ والمنسوخ.

"أو تتفرع منه"، تتفرع منه مثل: الأحكام التي ذكرها هنا، وهي الثالثة في جملة ما ذكر.

كذلك أيضًا ما سمَّاه بالتَّصوف، وسيأتي الكلامُ على هذا؛ لأنَّ المؤلف سيُوضِّحها، ويقصد به السّلوك.

نحن لا نُقرّ مثل هذه التَّسميات الـمُحدَثة، لكن هو يُريد علم السُّلوك، فمثل هذا هو مما يكون متفرعًا منه.

وقوله: "ومعنى التَّفسير: شرح القرآن، وبيان معناه، والإفصاح بما يقتضيه بنصِّه، أو إشارته، أو فحواه".

يقول: بأنَّ التفسير هو شرح القرآن، وبيان معناه.

شرح القرآن باعتبار أنَّ التفسير من الفسر، وهو الكشف والإظهار، وهذا يكون في الأمور الحسيّة: فَسَرتُ عن ذراعي، وكذلك يكون في المعنى، يقول: فَسّر الكلام، بمعنى: كشف عن معناه، أظهر معناه، فهو الكشف والبيان والإظهار. هذا معنى التَّفسير من جهة اللُّغة.

يقول: "شرح القرآن، وبيان معناه"، هل هو هذا القدر فقط؟ وإلى أيّ حدٍّ يكون بيان المعنى الذي تضمّنه القرآن أو دلَّ عليه؟

المؤلف -رحمه الله- من المفسّرين المحققين في التَّفسير.

يقول: "والإفصاح بما يقتضيه بنصِّه، أو إشارته، أو فحواه".

هنا ذكر ثلاثة أشياء، يعني: غير شرح القرآن وبيان معناه، قال: "الإفصاح بما يقتضيه بنصِّه"، النَّص يُطلق عدّة إطلاقات، يُطلق على الدَّليل السَّمعي، يُقال: النَّص والقياس مثلًا، ويُطلق أيضًا بإطلاقٍ آخر، يُطلق على ما دلَّ عليه الدليل من المعنى، من غير احتمال الدّلالة النَّصية، هي التي تكون قاطعةً من غير احتمالٍ: تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ [البقرة:١٩٦]، دلالة من هذا النوع.

المتكلّمون، يعني: الذين ألَّفوا في أصول الفقه أكثرهم من المتكلمين، من المعتزلة والأشاعرة، وهم يُوهّنون الأدلة، ويُضعّفونها بطرقٍ كثيرةٍ –للأسف-، الأدلة النَّقلية، من هذه الطرق التي يُوهنون بها الأدلة أنهم يقولون: هي ظنيّة من جهة الثبوت بالنسبة للسّنة، والمتواتر قليل، ومن جهة الدّلالة يقولون: عامّة دلائل الكتاب والسُّنة هي ظنية، وهذا كلامٌ غير صحيحٍ.

يقولون: إنما القطعي في دلالة النَّص بهذا المعنى الخاصّ، وهو أن يدلّ على معنًى من غير احتمالٍ لغيره، فهذا يقولون: قليل، والواقع أنَّ هذا ليس بقليلٍ، بل هو كثيرٌ، هم يمثّلون عليه بمثل قوله: تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ.

والواقع أنَّ دلالة النص التي تكون من غير احتمالٍ على نوعين:

نوع يدلّ بمفرده على معنًى لا يحتمل غيره.

والنوع الآخر: أن تتوارد الأدلة على تقرير معنًى، بحيث يكون من مجموعها القَطع بأنَّ هذا المعنى هو المراد، وهذا كثيرٌ جدًّا، ولكن المتكلمين لا يذكرون هذا، أو أنَّ أكثرهم لا يذكره.

فالمقصود أنَّ النص يُطلق على ما دلَّ على معنًى من غير احتمالٍ، ويُطلق على ما هو أوسع من ذلك أيضًا بإطلاقٍ ثالثٍ، يُطلق على ما دلَّ عليه باعتبار وضعه، واعتبار سَوْقِه أيضًا على المعنى، فيدخل فيه الظَّاهر بهذا الإطلاق الثالث، فيُقال: النَّص -دلالة النَّص- يعني: ما دلَّ على معنًى من غير احتمالٍ، وما دلَّ على معنًى دلالة راجحة يُسمّونه: الظاهر، يعني: في التَّقسيم من حيث قوة الدّلالة، يقولون: النَّص رقم واحد، يعني: ما دلَّ على معنًى من غير احتمالٍ.

ثانيًا: يليه في القوّة الذي يُسمّونه: الظاهر، يعني: ما دلّ على معنًى دلالة قوية، راجحة، مع وجود احتمالٍ.

والنوع الثالث: الذي يُسمونه: المؤول، وهي الدلالة المرجوحة، يقولون: إذا وُجدت قرينة فإنَّه يُصرف إليها، ومن غير قرينةٍ فإنَّه لا يصحّ حمل الكلام على المعنى المرجوح، الاحتمال الضَّعيف، هذا هو المؤول، وصرف الكلام إليه هو التَّأويل، والكلام عندهم من هذه الحيثية من حيث قوة الدّلالة على ثلاث مراتب: نصّ، وظاهر، ومُؤول.

والمقصود هنا أنَّ المؤلف يقول: "والإفصاح بما يقتضيه بنصِّه"، فالذي يظهر -والله أعلم- أنَّه يقصد بنصِّه النوعين: ما دلَّ دلالة على معنًى من غير احتمالٍ، وما دلَّ على معنى دلالة راجحة، وإن وُجِدَ الاحتمال، يعني: الذي يُسمّى بالظَّاهر.

وقلنا: أنه يقصد هذا المعنى؛ لأنَّه قابله بالإشارة والفحوى، قال: "أو إشارته، أو فحواه".

فالحاصل أنَّ إطلاقَ النَّص على الدليل السَّمعي هذا الإطلاق الأول، الدَّليل السَّمعي مطلقًا، قال: دلَّ على هذا النَّص والقياس، هذا اصطلاح الجدليين، وأمَّا إطلاقه على المعنى الثالث الواسع الذي يدخل فيه ما دلَّ على معنى دلالة قطعية ودلالة راجحة، على معنى لا يحتمل، وعلى معنى راجح، فهذا هو الذي عليه عامَّة أهل العلم من غير المتكلمين؛ لأنَّ المتكلمين يُطلقون النَّص ويُريدون به ما دلَّ على معنى دلالة قطعية من غير احتمالٍ، لكن هذا المعنى الثالث الذي ذكرنا يدخل فيه الظَّاهر، كما يقول الإمام الشَّافعي -رحمه الله- في كتاب "الرسالة" في أصول الفقه، وهي أول ما أُلِّف في أصول الفقه على طريقة أهل العلم -أهل السُّنة والجماعة-، بعيدة عن اللّوثات الكلامية، ثم بعد ذلك تسلط أهلُ الكلام على العلوم الشَّرعية، ومن ذلك أصول الفقه، فأدخلوا فيه أشياء كثيرة من علم الكلام.

فالشَّافعي -رحمه الله- كتابه نقيٌّ، نظيفٌ من هذه العلوم الكلامية، يقول: النَّص: "كل خطابٍ عُلِمَ ما أُريد به من الحكم"[3]، فيدخل فيه الظَّاهر، ويُقابل ذلك المجمل والمتشابه. يُقابل ذلك المجمل، المجمل: لم يُعلم المراد به.

أمَّا على المعنى الثاني الذي عند المتكلمين فكما سبق، يقولون: الدّلالة إمَّا أن تكون بالنَّص، أو الظاهر، أو المؤول.

وقول المؤلف: "أو إشارته"، المقصود بالإشارة هنا: الإشارة عند الأصوليين، وليست ما سيأتي الكلامُ عليه من التفسير الإشاري الذي اشتُهر عند الصُّوفية، الإشارة هنا كما قال صاحبُ "المراقي":

فأول إشارة اللَّفظ لما لم يكن القصدُ له قد عُلِمَا[4]

يعني: أن الكلام ما سيق من أجل هذا المعنى، وإنما عُرِفَ ذلك بطريق الإشارة، يعني: هي دلالة اللَّفظ على معنًى ليس مقصودًا باللَّفظ في الأصل، ولكنَّه لازمٌ للمقصود، فكأنَّه مقصود بالتَّبع، لا بالأصل، يعني: دلالة الإشارة عند الأصوليين هي دلالة اللَّفظ على معنى غير مقصودٍ من سياقه، لكنَّه لازمٌ؛ لما يُفهم من عبارة النص، وقد يكون التَّلازم بين العبارة والإشارة ظاهرًا، وقد لا يُدرك إلا ببحثٍ وتأمّلٍ يحتاج إلى استنباطٍ ودقّةٍ، وقد يكون ذلك من دليلٍ واحدٍ، وقد يكون ذلك من مجموع دليلين.

فمن دليلٍ واحدٍ مثل: ما جاء في آية الصِّيام: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ [البقرة:١٨٧]، هنا أباح المباشرة ليلة الصيام، وأيضًا: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا، المباشرة والأكل والصّوم إلى متى؟ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ، بمعنى: أنه يجوز الأكل والشُّرب والجماع إلى آخر جزءٍ من الليل، فالآية سِيقت لبيان هذا المعنى؛ لأنَّ ذلك كان يحرُم عليهم في أول شرع الصوم، فالصوم شُرع على مراحل، فكان من مراحله: أنَّه لا يجوز له الجماع في ليالي الصوم، وكذلك الأكل والشرب إذا نام بعد غروب الشمس، أفطر أو لم يُفطر، فأُبيح لهم ووُسِّع عليهم في هذه الأمور المذكورة.

طيب، هذا الذي سِيقت الآيةُ من أجل تقريره؛ إباحة الأكل والشُّرب والجماع ليالي الصوم إلى آخر جزءٍ من الليل، هذه تُسمّى: دلالة نصيّة، وكذلك تستطيع أن تقول: هي دلالة مُطابقة، إذا حَمَلت ذلك على هذه المفطرات المذكورة في الآية، فهي دلالة مُطابقة، إذا حملته على واحدٍ منها مثلًا في التَّفسير، إذا ذكرتَ واحدًا منها، أو قصدتَ واحدةً منها تقول: دلّت الآيةُ على إباحة الجماع ليلة الصيام، هذه دلالة تضمّن؛ لأنَّ دلالة التَّضمن هي دلالة اللَّفظ على بعض معناه، جزء المعنى.

دلالة الإشارة: هي دلالته على لازم معناه، يعني: الكلام ما سِيق من أجل تقرير هذا. فدلالة الإشارة هنا ما هي؟

أنَّ مَن أصبح جُنُبًا فإنَّ صومه صحيحٌ، يعني: يجوز تأخير الغُسل من الجنابة إلى ما بعد طلوع الفجر، فالآية لم تُسق لأجل بيان هذا الحكم، وهذا فهمناه من لازم المعنى:

فأول إشارة اللَّفظ لما لم يكن القصدُ له قد عُلِمَا

يعني: ما قصد تقريره من سياق النص، ولكن ذلك من لازمه، من لازم معناه: أنَّ مَن أصبح وهو جنبٌ، أو أخَّر الغُسُل؛ لأنَّه إذا جامع إلى آخر لحظةٍ من الليل فسيكون الاغتسالُ من الجنابة قطعًا بعد طلوع الفجر، فهذا النوع من الدّلالة صحيحٌ، هذا النوع من الدّلالة لا إشكالَ فيه.

وقد يكون من مجموع دليلين، مثلًا: وجوب إعفاء اللّحية، هارون قصَّ الله علينا خبرَه مع أخيه موسى قال: لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي [طه:٩٤]، هذا واحدٌ، وفي سورة الأنعام قال: وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ [الأنعام:٨٤]، وذكر هارون إلى أن قال: أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ [الأنعام:٩٠]، فمِن هُداهم الذي دلَّ عليه القرآن إطلاق وإعفاء اللّحية، وأنَّ اللحية هذه كثّة طويلة، ما كان يُقصقصها بحيث إنه لا يمكن القبضُ عليها: لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي، هذا دليلٌ من القرآن على وجوب إعفاء اللّحية، استخرجناه من مجموع دليلين.

ما نوع هذه الدّلالة؟ يعني: هل الآية الأولى: لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي سِيقت لبيان وجوب إعفاء اللّحية؟

الجواب: لا.

وهل الآية الثانية: أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ سِيقت لبيان وجوب إعفاء اللّحية؟

الجواب: لا، من مجموع الدّليلين.

أقلّ مدّة الحمل: وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا [الأحقاف:١٥]، والآية الأخرى: وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ [لقمان:١٤]، فالفصال هو الفطام: فِي عَامَيْنِ، وهنا: وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا، فالعامان: أربعة وعشرون شهرًا، كم بقي إلى الثلاثين؟

ستة، فدلّ على أنَّ أقلّ مدّة الحمل ستة أشهر، يمكن أن تلد المرأةُ لستة أشهر وَلَدًا تامًّا ويعيش، هل الآية الأولى أو الثانية سِيقت من أجل بيان أقلّ مدّة الحمل؟

الجواب: لا، عرفنا ذلك من مجموع الدّليلين، هذه تُسمّى: دلالة الإشارة، النَّص ما سِيق لتقرير هذا المعنى، ولكنه فُهِمَ من لازم معناه.

هذا ما يتعلّق بدلالة الإشارة: "بنصِّه، أو إشارته، أو فحواه"، الفحوى من دلالة النَّص عند طائفةٍ من أهل العلم، وبعضهم يُسميه: قياسًا، والمقصود به مفهوم الموافقة، أي: مفهوم الموافقة الأولوي، فهذا هو فحوى الخطاب.

وأمَّا المساوي فهو الذي يُسمّونه: بلحن الخطاب، مع أنَّ بعضهم يُطلق ذلك على غير ما ذكرت، لكن هذا الذي مشى عليه جماعةٌ، ومنهم صاحب "المراقي".

فهنا يقول: "أو فحواه"، فالكلام منطوقٌ ومفهومٌ، المنطوق: ما دلَّ عليه اللَّفظ في محلِّ النُّطق، نحتاج هذا الكلام حتى نفهم قضية تتعلّق بالتفسير، ما التَّفسير؟

الكلام منطوقٌ ومفهومٌ، الكلام –يعني- الآن أيّ كلامٍ، كلام الله ، القرآن، وأيضًا غيره، منطوق ومفهوم.

المنطوق: ما دلَّ عليه اللَّفظ في محل النُّطق.

المفهوم: ما دلَّ عليه من جهة السُّكوت، يعني: المسكوت عنه، واضح؟

لما سكت عنه فهمنا المعنى أو الدّلالة.

فهذا المنطوق ينقسم إلى ثلاثة أقسام رئيسة، هي:

القسم الأول: دلالة المطابقة، والمطابقة: هي دلالة اللَّفظ على تمام المعنى، وذكرنا هذا كثيرًا في الكلام على الأسماء الحسنى، فإذا قلتَ مثلًا: العزيز من أسماء الله ، إذا أُريد به الذَّات والصِّفة فهذه تُسمّى: دلالة مُطابقة، إذا أريد به الصِّفة فقط، فهذه دلالة تضمّن، هذه المطابقة.

القسم الثاني: دلالة التَّضمن، وهي دلالته على بعض معناه.

القسم الثالث: دلالة الاقتضاء.

فالأنواع الرئيسة: المطابقة، والتضمن، والالتزام، ودلالة الالتزام هذه يدخل تحتها ثلاثة أنواع:

الأول: دلالة الاقتضاء بأنواعه الثلاثة: الاقتضاء الشَّرعي، والاقتضاء العادي، والاقتضاء اللُّغوي.

مثلًا يقولون: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ [النساء:٢٣]، يقولون: التَّحريم ما يتعلّق بالذوات، حُرِّم عليكم نكاح أمّهاتكم. هذا اقتضاء.

الآن: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ [المائدة:٣] يعني: أكل الميتة، هل المحرم هو لمس الميتة؟ هل المحرم النَّظر إلى الميتة؟

فهذا دلالة اقتضاء: فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة:١٨٤] يعني: فأفطر، إذا ما أفطر لا يُطالب بالقضاء، هذه تُسمّى: دلالة اقتضاء.

فدلالة الالتزام يدخل تحتها ثلاثة أنواع:

الأول: دلالة اقتضاء.

الثاني: دلالة الإيماء والتَّنبيه: أن يُقرن الحكم بوصفٍ، لو لم يكن ذلك الوصف عِلّة لهذا الحكم لكان ذلك عيبًا عند العقلاء، مثال: نقول في كلامنا مثلًا: سها فسجد، فعِلّة السجود السَّهو، فلو قال: لا، عِلّة السّجود أنه سجد شكرًا، يُقبل هذا الكلام؟ يُقال: لماذا تذكر الوصف تقول: سها؟ قُرن الحكم: سجد، بوصفٍ: سها. فدلّ على أنَّ السهو عِلّة للسجود، ورُتّب عليه بالفاء الدّالة على التَّعليل وترتيب ما بعدها على ما قبلها: سها فسجد، لا يمكن لأحدٍ أن يقول: هذا سجود شكرٍ، أو سجود تلاوةٍ. فذكر الوصف قبله.

نأتي لأمثلةٍ من القرآن: قوله تعالى: إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ [الانفطار:١٣]، ما الذي أوصلهم إلى هذا النَّعيم؟

البرّ، عِلّة حصول هذا النَّعيم، عِلّة هذا الجزاء هو البرّ.

وقوله: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا [المائدة:38]، فعِلّة القطع السَّرقة، فهذه تُسمّى: دلالة الإيماء والتَّنبيه، وهي يدخل تحتها تفاصيل وصور مُتنوعة.

النوع الثالث: الإشارة التي تكلّمنا عنها قبل قليلٍ، هذه كلّها داخلة في دلالة اللزوم، دلالة الالتزام.

فعندنا دلالة مُطابقة، وتضمن، ودلالة التزام يدخل تحتها ثلاثة أنواع، فإذا اعتبرنا الأنواع الثلاثة الدَّاخلة تحتها صار المجموعُ خمسةً: الأول والثاني -التي هي دلالة المطابقة والتَّضمن- هي من قبيل الصَّريح، وما يدخل تحت اللُّزوم الثلاثة: غير صريح، منطوق غير صريح، مُطابقة، والتَّضمن: منطوق صريح، وهذا منطوق غير صريحٍ، على خلافٍ بين الأصوليين، لكن هذا النوع الأول الذي هو المنطوق.

المفهوم يدخل تحته نوعان: مفهوم مُوافقة، ومفهوم مُخالفة، مفهوم الموافقة: أن يكون المسكوتُ عنه مُوافقًا للمنطوق في الحكم، ويمثّلون له بأمثلةٍ، منها المثال المشهور: فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ [الإسراء:٢٣]، فالمنطوق هو النَّهي عن التَّأفيف، والمسكوت عنه: الضَّرب، والشَّتم، وحكمه التَّحريم، هل الضَّرب والشَّتم يُخالف حكم المنطوق الذي هو التَّأفيف، أو يُوافقه في المنع؟

يُوافقه، هذا اسمه: مفهوم مُوافقة، هو مُوافقٌ له، لكنَّه من باب أولى، يُسمّونه: أولوي، هذا يُقال له: فحوى الخطاب.

وبعض الأصوليين يقولون: هذا من دلالة النَّص، فهو قوي جدًّا، فلا يجعلونه من المفهوم.

وبعضهم يُسميه: قياس الأولى، إلى غير ذلك من أسماء يُطلقونها عليه. هذا الذي قال عنه: فحوى الخطاب.

والمساوي: لحن الخطاب، المساوي مثل: وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ [الإسراء:٣٤]، النَّهي عن قُربان مال اليتيم، فأكل مال اليتيم الذي يُعبَّر به: إنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا [النساء:١٠] هذا منطوق، والمسكوت عنه: إحراق مال اليتيم، تغريق مال اليتيم، إتلاف مال اليتيم بأي طريقةٍ كان، فحكمه عدم الجواز، وإن لم يكن أكلًا، فهو مُساوي لحكم المنطوق، ويُسمّى: مفهوم مُوافقة مُساوي، هذا الذي يُقال له: لحن الخطاب، يعني: المساوي للمنطوق، اسمه: مفهوم مُوافقة، وكل واحدٍ منهما -الأولوي والمساوي- على نوعين: قطعي، وظني.

ثم يأتي مفهوم المخالفة، وهو أنواع: مفهوم الشرط، ومفهوم الصِّفة، إلى غير ذلك، ويتفاوت في قوّته، منه ما لا يُعتدّ به، مثل: مفهوم اللَّقب، ومنه ما تكون دلالته ضعيفةً، ومنه ما تكون دلالته قويةً.

فمفهوم المخالفة يكون الحكمُ فيه أو المعنى مُوافقًا للمنطوق، أو مُخالفًا له؟

يكون مُخالفًا له، هو لم يُفهم من جهة النُّطق، وإنما من جهة السُّكوت عنه.

مثال لمفهوم المخالفة من القرآن: قوله تعالى: وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ [البقرة:١٧٨]، إذن إذا لم يكن مُتلبسًا بالاعتكاف تجوز له المباشرة، هذا عكس المنطوق.

وقوله تعالى: لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ [المائدة:٩٥] يعني: في غير الإحرام يجوز.

وأيضًا: وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا بهذا القيد، فَجَزَاءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ [المائدة:٩٥] يعني: مفهوم المخالفة: أنَّه إن لم يقتله مُتعمدًا فليس عليه شيءٌ، على خلافٍ هنا في الحكم، وليس الكلام الآن في الأحكام؛ لأنَّ مفهوم المخالفة حُجّة عند الجمهور، إلا في حالات سبع أو ثمانٍ لا يكون فيها مُعتبرًا.

وقوله تعالى: وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ [النساء:٢٣]، فِي حُجُورِكُم عند مَن قال: إنَّ ذلك مُعتبر، أن تكون في حجره، عند مَن قال بأنَّ القيد مُعتبرٌ هنا، قال: إن لم تكن في حجره فيجوز له أن يتزوجها، لكن الراجح خلاف ذلك، ليس الكلامُ في الأحكام، وإنما فقط بيان المفهوم.

مِّن نِّسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ هذا جيد؛ ولذلك صرَّح به في قوله: فَإِن لَّمْ تَكُونُوا دَخَلْتُم بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ، مِّن نِّسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ، فإذا كان عقد على امرأةٍ ثم طلَّقها قبل الدُّخول بها، فإنَّه يجوز له أن يتزوج ابنتها، هذا مفهوم المخالفة.

فإذا عرفنا هذا القدر الآن نريد أن نعرف التَّفسير.

هنا يقول في الهامش: عرّفه الزركشي بأنَّه: "علمٌ يُعرف به فَهم كتاب الله الـمُنزل على نبيه محمدٍ ﷺ، وبيان معانيه، واستخراج أحكامه وحِكَمه"[5].

الطاهر ابن عاشور يقول: "الفَسْر: الإبانة والكشف لمدلول كلامٍ، أو لفظ بكلامٍ آخر هو أوضح لمعنى الـمُفَسّر عند السَّامع"[6]، هذا في اللغة، ولكن سيأتي في كلامه ما يُبيّن عن كونه يُدخل في التفسير أشياء أكثر من مجرد كشف المعنى، بل ربما دلالة المطابقة أو التَّضمن، أنواع الدّلالة التي ذكرناها آنفًا سنحتاج إليها بعد قليلٍ.

بعضهم يُعرّف التفسير يقول: "علمٌ يُبحث فيه عن أحوال القرآن من حيث دلالته على مُراد الله -تعالى- بقدر الطَّاقة البشرية"[7]، بحيث دلالته على مُراد الله، ما مراد الله؟ ما القدر الذي يدخل تحت هذه الجملة؟ هل هو المعنى الذي يُفسَّر بمجرد إزالة ما قد يكون من قبيل الغرابة في الألفاظ أو نحو ذلك، يعني: بمجرد اللُّغة مثلًا، الكشف عن المعنى؟

ابن عاشور يقول: "بأنَّ التفسير: اسمٌ للعلم الباحث عن بيان معاني ألفاظ القرآن، وما يُستفاد منها باختصارٍ أو توسّعٍ"[8]، وقال عند بيان موضوع التفسير: "ألفاظ القرآن من حيث البحث عن معانيه وما يُستنبط منه"[9].

قال ابن جزي: "شرح القرآن، وبيان معناه، والإفصاح بما يقتضيه بنصِّه، أو إشارته، أو فحواه"، بمعنى: أنَّك تُنزِّل أنواع الدّلالة على النَّص، وإذا نزّلتها على النَّص ماذا يعني؟

إذا نزلتها على النَّص ستستخرج أنواع المعاني والأحكام والاستنباطات والهدايات، وكلّما كان النَّاظرُ في القرآن أقدر من هذه الحيثية، يعني: عنده آلة جيدة في الأصول، طرق الاستنباط؛ كلّما كان أقدر على الغوص في المعاني، واستخراج هذه الهدايات والدّلالات.

الطاهر ابن عاشور وأيضًا ابن جُزي، لاحظ: ابن جُزي لما ذكر العلوم الدَّاخلة في القرآن كم ذكر، التي ترجع إليها معاني القرآن؟

بيان العبادة والبواعث، هذا إجمالًا، ثم بعد ذلك ذكر سبعةً على سبيل التَّفصيل، وسيكون جلّ اهتمامه في هذا التفسير بها؛ لأنَّه يعتقد أنَّ القرآن جاء لتقريرها.

وكذلك أيضًا ما ذكره الطاهرُ ابن عاشور في المقدمة الرابعة من المقدمات التي وضعها بين يدي تفسيره "التَّحرير والتنوير" فيما يحقّ أن يكون غرض المفسّر، ذكر المقاصد الأصلية التي جاء القرآنُ لبيانها، وهي ثمانية:

الأول: إصلاح العقائد.

الثاني: تهذيب الأخلاق.

الثالث: التَّشريع، وهو الأحكام.

الرابع: سياسة الأمّة، يعني: الترقي بها في الكمالات؛ من جمع شتاتها، ولَمّ شملها، وتوحيد كلمتها، ونبذ أسباب الفُرقة، وما إلى ذلك من الأخذ بأسباب القوّة.

الخامس: القصص وأخبار الأمم السَّالفة؛ للتأسي بصالح أحوالهم.

السادس: التَّعليم بما يُناسِب حالة عصر المخاطَبين، وما يُؤهلهم إلى تلقي الشَّريعة ونشرها، وذلك علم الشَّرائع، وعلم الأخبار، أنَّه فتق أذهانهم للعلوم بعدما كانوا أمّة أمية، وصاروا فُقهاء، عُلماء.

السابع: المواعظ، والإنذار، والتَّحذير، والتَّبشير، فيدخل في هذا آيات الوعد والوعيد، والمحاجّة والمجادلة، والترغيب والترهيب، كلّ هذا.

الثامن: الإعجاز بالقرآن، فذكر هذه الثَّمانية، معنى ذلك أنَّه سيهتمّ بها، يرى أنها مقاصد، وأنَّ هذا مما ينبغي أن يُعنى به المفسِّر، هو هكذا يقول.

يقول: "فغرض المفسّر بيان ما يصل إليه، أو ما يقصده من مُراد الله -تعالى- في كتابه بأتمّ بيان يحتمله المعنى، ولا يأباه اللَّفظ من كلِّ ما يُوضّح المراد من مقاصد القرآن، أو ما يتوقف عليه فهمه أكمل فهمٍ، أو يخدم المقصد تفصيلًا وتفريعًا، مع إقامة الحجّة على ذلك"[10].

ثم ذكر طرائق المفسرين للقرآن، وأنها على ثلاثٍ:

"الأول: الاقتصار على الظاهر من المعنى الأصلي للتركيب، مع بيانه وإيضاحه، وهذا هو الأصل".

فالمعنى الأصلي بمعنى: أنَّ المعاني والدّلالات على نوعين: دلالات أصلية، والثاني: دلالات خادمة، دلالات أو معانٍ خادمة، معانٍ ثانوية. يعني: الترجمة حينما نُريد أن نُترجم نُترجم المعاني الأصلية، لكن لو نُريد أن نُترجم المعاني الخادمة، المعاني الثانوية، التَّكميلية، يعني: المعاني التي تُؤخذ من الألفاظ من الجوانب البلاغية والأحكام وما إلى ذلك، فهذا يمكن أن تضع كتابًا في الترجمة في مئة مجلد، وأكثر من هذا، لو تجمع ما يذكره المفسرون من غير تكرار كم سيبلغ؟

فهذه المعاني الأخرى، يعني: غير المعاني، أو غير الدّلالة الأصلية، فهو يقول هذا نوعٌ من المفسّرين.

المعنى الأصلي للتركيب، مع بيانه وإيضاحه. يقول: هذا هو الأصل، وأما استنباط معانٍ من وراء الظَّاهر تقتضيها دلالة اللَّفظ أو المقام، ولا يُجافيها الاستعمال، ولا مقصد القرآن، وتلك هي مُستتبعات التراكيب، وهي من خصائص اللُّغة العربية المبحوث فيها في علم البلاغة؛ ككون التأكيد يدلّ على إنكار المخاطب، أو تردد فحوى الخطاب، ودلالة الإشارة، أو احتمال المجاز مع الحقيقة، إلى آخره.

فهذه كلّها من باب زيادة فَهم المعنى، وهي من العلوم التي تتعلّق بمقصدٍ من مقاصد المفسّر، وذكر أمثلةً عليها كثيرة.

يقول: "ففي الطَّريقة الثانية قد فرّع العلماءُ وفصّلوا في الأحكام، وخصّوها بالتآليف الواسعة، وكذلك تفاريع الأخلاق والآداب، فلا يُلام المفسّر إذا أتى بشيءٍ من تفاريع العلوم مما له خدمة للمقاصد القرآنية"، المقاصد التي ذكرها، "وله مزيد تعلّق بالأمور الإسلامية"[11]، إلى آخره.

يقول: كما لو أنَّه فَسَّر ما حكاه الله -تعالى- في قصّة موسى مع الخضر بكثيرٍ من آداب المعلم والمتعلم مثلًا، وذكر أشياء، ثم يقول: "فهذا كونه من غايات التَّفسير واضح"[12].

فهذا كلام ابن عاشور، وعندنا كلام ابن جزي، وعندنا التَّعريفات: تعريف الزركشي، والتعريف الآخر الذي ذكرتُه لكم، وهو مشهورٌ أيضًا، وعندنا أيضًا صنيع المفسّرين عبر هذه القرون: استنباطات الصَّحابة إلى يومنا هذا، واستنباطات التَّابعين، والتفاسير التي ألَّفها العلماءُ عبر القرون المتطاولة، فإنهم ما زالوا يستخرجون أنواع الحكم والهدايات والمعاني والأحكام في كتبهم المصنّفة في التفسير، فماذا يُقال عن هذا؟ هل يُقال عن هذا –يعني- بأنَّ كلّ ما خرج عن بيان المعنى الأصلي فهو خارج عن التفسير، ولا صلةَ له بالتفسير، وأنَّ الاستنباط لا علاقةَ له بالتفسير؟ بعد هذا البيان الآن، وعرفنا أنواع الدّلالة: المنطوق، والمفهوم، والمنطوق الصَّريح، وغير الصَّريح، هل يُقال أنَّ هذا خارج عن التفسير؟

الجواب: لا، هذا كلّه داخلٌ فيه؛ لأننا حينما نُفسِّر نكشف عن المعنى إلى أي حدٍّ؟ هل يكون هذا الكشف كشفًا سطحيًّا؛ المعنى الأولي، أو أنَّ هذا الكشف يكون عميقًا؟

فالعلماء يغوصون ويستخرجون من المعاني والهدايات أشياء كثيرة جدًّا، ومثل هذا يُقال في التَّدبر، يعني: قد يقول بعضنا أنَّ هذه الاستخراجات من اللَّطائف والدَّقائق واللّفتات هذه لا علاقةَ لها بالتَّدبر.

نقول: لا، بل هي من التَّدبر.

والاستنباط؟

بعضنا يقول: الاستنباط لا علاقةَ له بالتَّدبر. بل له علاقة بالتَّدبر، فإنَّ هذا الاستنباط لا يُتوصّل إليه إلا بالتَّدبر، وهذه اللَّطائف والدَّقائق لا تُستخرج إلا بالتَّدبر، فهي لطائف تدبرية، لكن لا يُقال: إنَّ التَّدبر ينحصر فيها، فإن مطالب المتدبرين متنوعة، فالمتدبر تارةً يتدبر القرآن من أجل أن يُرقِّق قلبَه.

فحينما نقول للناس: تدبّروا القرآن، نحن لا نحملهم على استخراج المعاني الدَّقيقة التي لا يُحسنونها، إنما يُرقق قلبَه بالقرآن، هذا مطلب.

كذلك أيضًا من مطالب المتدبرين: أنَّه يَعرِض نفسَه على القرآن: هل هو مُتَّصفٌ بصفات أهل الإيمان، صفات أهل السَّعادة، أو مُتَّصفٌ بخلاف ذلك؟

من مطالب المتدبرين: معرفة حدود ما أنزل الله على رسوله ﷺ.

من مطالب المتدبرين: معرفة القصص والأخبار والأمثال التي لا يعقلها إلا العالمون.

من مطالب المتدبرين: معرفة مصدر القرآن، قد يكون الإنسانُ عنده شكٌّ، قد يكون مُكذِّبًا، فينظر: هل فيه تناقض؟ هل فيه تعارض؟ هل فيه ما يُعاب، أو يُنتقد، أو يُنتقص في ألفاظه أو معانيه؟

فبعض الناس ينظر بهذا النَّظر فيدخل في الإسلام.

من مطالب المتدبرين: استخراج الأحكام.

من مطالب المتدبرين: استخراج المعاني البلاغية، ونواحي الإعجاز يتتبعها، إلى غير ذلك من المطالب.

فحينما نقول للناس: تدبّروا القرآن، ليس بالضَّرورة أن يغوص العوامّ فيما لا يُحسنون الغوصَ فيه، ثم بعد ذلك يأتون بغرائب المعاني، واستنباطات مُنكرة لا تقوم على أساسٍ ولا أصلٍ صحيحٍ، فيكون الإنسانُ قائلًا على الله وعلى كتابه بلا علمٍ!

ليس هذا هو المراد، فهذا كلّه من التَّدبر، لكن نحن نحتاج أن ننظر إلى هذه القضايا من الزوايا المتعددة، لا ننظر من زاويةٍ واحدةٍ، ثم بعد ذلك نقول: لا، هذا ليس بتدبرٍ، هذا استنباطٌ.

الاستنباط كيف يُوصَل إليه؟

لا يمكن أن يُستنبط إلا بالتَّدبر، فالطريق إلى الاستنباط هو التَّدبر، يتدبر ليستنبط، هذا أحد المقاصد.

وهنا حينما نتكلم عن التفسير فبعضنا يقول: التفسير هو الكشف عن المعنى الأصلي، بعيدًا عن الاستنباطات، بعيدًا عن اللَّطائف البلاغية، بعيدًا عن الجوانب التربوية والسّلوكية والأخلاقية، إلى آخره.

يعني: كلّ ما ذكره ابن جُزي هنا، أو ابن عاشور هناك، أو في التَّعريفات؛ تعريفات التَّفسير عند العلماء، هذا كلّه لا علاقةَ له بالتفسير!

هذا الكلام فيه نظر، لكن: قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ [البقرة:٦٠]، فالـمُفسِّر يذكر مُراده في البداية، يضع له هدف، يُحدد الهدفَ: ماذا يُريد في تفسيره هذا؟ ثم يمشي عليه، يبني عليه، ولا يُلام، فقد يقول: أريد أن أُركز على جوانب الإعجاز والجوانب البلاغية. وآخر يقول: أريد أن يكون شاملًا. وكتب العلماء هي بهذه الطَّريقة، ولا يُقال: إنَّ ذلك خارج عن التَّفسير.

أرجو أن تكون هذه القضية اتَّضحت؛ لأنه ينبني عليها فهم التَّفسير ما هو؟ ثم بعد ذلك هل المؤلف خرج عن التفسير، أو لا زال في سياقه وحدوده لم يخرج عنها؟ هذا لا بدَّ منه.

وهذه القضية حينما يُدرس التَّفسير في الجامعات، أو غير ذلك، لا تكاد تجد مناقشة للقضية بطريقة علمية مبنية على النظر الأصولي الذي يُفْهَم من خلاله الكلام، سواء كان هذا الكلام من كلام الله ، أو من كلام النبي ﷺ، أو حتى من كلام الناس.

كيف نفهم الكلام؟ إلى أيّ حدٍّ؟ ما الحدود في تنزيل أنواع الدّلالة على النَّص؟

النص أقصد ما هو أوسع مما دلَّ على معنى دلالة لا يحتمل سواها، هذا في غاية الأهمية.

وإذا فُهِمَ هذا القدر أرجو أن يكون هذا سببًا لفسح النَّظر في هذا الباب، والاعتذار للعلماء في مُؤلفاتهم في التفسير، وكلامهم فيه قديمًا وحديثًا، وأنهم لم يخرجوا عن المقصود.

أطلتُ في هذه القضية، لكنَّها تستحقّ أكثر من هذا، وأحجمتُ عن بعض الكلام خشيةً من كون بعض الإخوان قد يصعب عليه بعض ما يُقال.

كأني ببعض الوجوه يقولون في الكلام الذي في أول هذا المجلس، التَّفصيل في القضايا الأصولية، لربما بعضهم يقول: لم أفهم شيئًا! لكن هذا لا بدَّ منه، وهذه المقدّمات مهمّة.

قوله: "واعلم أنَّ التفسير منه متَّفقٌ عليه، ومُختلفٌ فيه، ثم إنَّ المختَلَفَ فيه على ثلاثة أنواع".

المتّفق عليه يعني: ما أجمعوا عليه، الإجماع في التَّفسير متّفقٌ عليه، فهذا كثيرٌ، يذكر المفسّرون أنَّ هذا مما أجمع عليه المفسّرون، مما اتَّفقوا عليه، بصرف النَّظر عن دقّة هذه الإطلاقات.

يعني: ابن جرير الطَّبري -رحمه الله، إمام المفسّرين- يذكر في كتابه كثيرًا الإجماع، هذا الإجماع الذي يذكره يُريد به قول عامّة المفسرين، قول الجمهور، لا يريد الإجماع بمعنى: قول الجميع، فهذا اصطلاحٌ خاصٌّ به.

وقد مشى على هذا الاصطلاح بعضُ مَن يذكر الإجماع حتى في الفقه، وابن عبدالبرّ -رحمه الله- في كتبه؛ كـ"التَّمهيد"، و"الاستذكار"، يذكر هذا ويحتجّ به.

وهذا الإجماع الذي يذكرونه سواء قصدوا به قول الجمهور، كما يفعل ابنُ جرير، أو قُصِدَ به قول الجميع -جميع المفسّرين-، هذا كثيرٌ في كتب التفسير، ابن جرير يُرجّح به كثيرًا؛ يُرجّح به الأقوال، ويُرجّح به القراءات، ويُرجّح به وجوه الإعراب، ويُرجّح به المعاني اللُّغوية.

هناك رسالة ماجستير مُفيدة: "الإجماع في التَّفسير" للدكتور محمد الخضيري، هذه رسالة مُفيدة وجيدة، حاول أن يتتبع الإجماعات في كتبٍ محددةٍ، الإجماعات التي يُذكر فيها إجماع المفسّرين، فجمع مئةً وسبعًا وسبعين إجماعًا، مطبوعة في مجلد.

ونُوقشت رسالة أخرى في الجامعة الإسلامية قريبًا في إجماع المفسّرين، فاستدرك على الرسالة الأولى مواضع ليست كثيرة فاتت، لكنَّه جاء بكتبٍ أخرى يتتبع منها الإجماع، فزاد على الأولى ثلاثمئة وأربعين إجماعًا.

الأول مئة وسبع وسبعون، زاد عليها صاحبُ الرسالة الثانية، اسمه: "عمَّار الجماعي"، هذه الرِّسالة لم تُطبع، زاد عليها ثلاثمئة وأربعين إجماعًا، يعني: أكثر من الضِّعف، بل أكثر من ضعفيها.

  1. متفق عليه: أخرجه البخاري: كتاب الحج، باب وجوب الصَّفا والمروة، وجُعِلَ من شعائر الله، برقم (1643)، ومسلم: كتاب الحج، باب بيان أنَّ السَّعي بين الصَّفا والمروة ركنٌ لا يصحّ الحج إلا به، برقم (1277).
  2. أخرجه الترمذي: أبواب تفسير القرآن عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، باب ومن سورة الإخلاص، برقم (3364)، وأحمد في "المسند"، برقم (21219)، والحاكم في "المستدرك"، برقم (3987)، وقال: "هذا حديثٌ صحيحُ الإسناد ولم يُخرجاه"، وحسَّنه الألباني في "صحيح سنن الترمذي"، برقم (2680).
  3. "البحر المحيط في أصول الفقه" (2/204).
  4. "نشر البنود على مراقي السعود" (1/92).
  5. انظر: "البرهان في علوم القرآن" (1/13)، و"الإتقان في علوم القرآن" (4/195).
  6. "التحرير والتنوير" (1/10).
  7. "التحرير والتنوير" (1/671).
  8. "التحرير والتنوير" (1/11).
  9. "التحرير والتنوير" (1/12).
  10. "التحرير والتنوير" (1/41).
  11. "التحرير والتنوير" (1/42).
  12. "التحرير والتنوير" (1/43).

مواد ذات صلة