الأحد 09 / ربيع الآخر / 1446 - 13 / أكتوبر 2024
(04- ب) من قوله " وأحدها اختلاف في العبارة مع اتفاق المعنى" إلى قوله " في قواعد أصول القراءات "
تاريخ النشر: ١٦ / رجب / ١٤٣٥
التحميل: 2325
مرات الإستماع: 1592

قوله: "واعلم أنَّ التفسير منه مُتّفقٌ عليه، ومُختلفٌ فيه.

ثم إنَّ المختلف فيه على ثلاثة أنواع:

الأوّل: اختلاف في العبارة، مع اتِّفاق في المعنى: فهذا عدَّه كثيرٌ من المؤلفين في التفسير خلافًا، وليس في الحقيقة بخلافٍ؛ لاتِّفاق معناه، وجعلناه نحن قولًا واحدًا، وعبّرنا عنه بأحد عبارات المتقدّمين، أو بما يقرب منها، أو بما يجمع معانيها".

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.

أما بعد: فالمؤلف -رحمه الله- ذكر أنَّ أنواع الاختلاف في التفسير ثلاثة، والواقع أنَّ الأول والثاني هي من قبيل اختلاف التَّنوع؛ ولهذا فإنَّ أهل العلم قد جرت عادتهم في تقسيم الاختلاف في التفسير أن يجعلوه على قسمين:

القسم الأول: الذي هو اختلاف التَّنوع، والمقصود باختلاف التنوع يعني: أنَّ الأقوال والعبارات متعددة، ولكن ذلك يرجع إلى شيءٍ واحدٍ، وهذا يدخل تحته صور متعددة، والمؤلف -رحمه الله- ذكر الأول والثاني، والأول والثاني داخلان في اختلاف التنوع، جعل كل الاختلاف ثلاثة أنواع: الأول، والثاني، والثالث هو اختلاف التَّضاد.

والتقسيم الشَّائع: أنَّ اختلاف التنوع هو ما ترجع فيه الأقوال إلى قولٍ واحدٍ، واختلاف التَّضاد هو الاختلاف الحقيقي، لكن هنا أمرٌ نحتاج أن نتنبّه إليه فيما يتّصل بالاختلاف بنوعيه: اختلاف التنوع، واختلاف التَّضاد، أنَّكم تجدون بعض الأمثلة حائرة: تارةً تُذكر في اختلاف التنوع، وتارةً تُذكر في اختلاف التَّضاد، فيلتبس على طالب العلم، بمعنى: أنَّك لو نظرتَ إلى المضمون فهو في الواقع اختلاف تضاد، هي أقوال مُتعددة تحمل معانٍ مختلفة، فهذا بالنَّظر إلى ذاته يُعتبر من اختلاف التَّضاد، إذا كان المدلولُ مختلفًا، وبالنَّظر إلى مآله فهو على نوعين:

النوع الأول: يمكن جمع الأقوال فيه، فيرجع إلى اختلاف التَّنوع، فأحيانًا هذا النوع يذكرونه ضمن اختلاف التنوع، وأحيانًا يذكرونه ضمن اختلاف التَّضاد، فهذا هو المأخذ: أنَّه بالنظر إلى ذاته -هذا النوع الوسط: بين بين- هو اختلاف تضاد؛ ولهذا يمكن أن نقول بعبارةٍ أخرى: أنَّ الاختلاف الواقع في التفسير منه ما يكون بمعنى واحدٍ، وإن اختلفت فيه الألفاظ والعبارات، وهذا تحته صور، فهذا لا إشكالَ أنَّه اختلاف تنوع.

النوع الثاني: هو ما كان من قبيل الاختلاف الحقيقي، اختلاف تضاد، هذا قول، وهذا قول يُخالفه، هذا معنى، وهذا معنى يُخالفه، فهذا على نوعين -اختلاف التَّضاد-:

  • نوع يمكن جمع الأقوال فيه، فيؤول إلى اختلاف التنوع.
  • ونوع يحتاج إلى ترجيحٍ.

فلو تعاملنا مع المنقولات، مع المادة العلمية الموجودة في كتب التفسير من الأقوال، فسنجد أنَّ كثيرًا منها هو من قبيل اختلاف التنوع -النوع الأول-، فهذا لا يصحّ أن يُذكر على أنَّه اختلاف، فيُقال: القول الأول، القول الثاني، القول الثالث، إلى آخره.

وإذا أردت أن ترى أمثلةً لهذا كثيرة يُذكر فيها النوعان: الاختلاف الحقيقي، والاختلاف الصوري، انظر إلى مثل كتاب: "زاد المسير" لابن الجوزي، هذا الكتاب يذكر في الآية نحو سبعة أقوال، أو أقلّ، أو أكثر، وإذا نظرتَ إلى كثيرٍ من هذه الأقوال يمكن أن تلتئم تحت معنًى أو قولٍ واحدٍ، فهذا من هذه الحيثية يُشتت طالب العلم المبتدئ الذي لا يستطيع أن يُميِّز؛ ولهذا لا يحسُن أن يقرأ فيه مَن لا بصرَ له في التفسير، يعني: من الناس مَن ينظر إلى الأقوال مُرتّبة؛ القول الأول، الثاني، الثالث، الرابع، فيقول: هذا سهل، والواقع أنَّه ليس كذلك.

أولًا: المبتدئ ليس بحاجةٍ إلى هذه الأقوال.

ثانيًا: أنَّ هذه الأقوال هي في الواقع يرجع جملةٌ منها إلى قولٍ واحدٍ.

إذن لو أننا تعاملنا مع الأقوال التي في التفسير بهذه الطَّريقة، وكان من قبيل اختلاف التنوع -النوع الأول-، فعبّرنا عنه بعبارةٍ ضافيةٍ تجمع أقوال السَّلف، ونظرنا في النوع الثاني: اختلاف التَّضاد، ما يمكن جمع الأقوال فيه، فألحقناه بالنوع الأول، سينتفي كثيرٌ مما يُذكر على أنَّه اختلافٌ في التفسير.

وهذه القدرة في الجمع تجدها لدى المحققين من المفسّرين، أمثال: ابن جرير، ابن كثير، شيخ الإسلام ابن تيمية، ابن القيم، ما جُمع لهم من الكلام في التفسير، وابن القيم يُبدع في هذا.

وكذلك من المعاصرين الشيخ محمد الأمين الشنقيطي، فهذه كتب تُعالج هذه القضايا، ولا تُشتت القارئ بين هذه الأقوال.

وهناك من المختصرات ما رُوعي فيه هذا الجانب، مثل كتاب: "التفسير الميسر"، وهو كتاب جيد، رُوعي فيه هذه الناحية؛ أن يُعبَّر بعبارةٍ تجمع أقوال السَّلف فيما يمكن أن يجتمع ذلك فيه.

وكذلك أيضًا: "التفسير المختصر" الذي صدر عن مركز تفسير، حاولوا أن يُراعوا هذا الجانب، فهذه طريقة حسنة في التفسير.

وأمَّا الأخذ بعبارةٍ من عبارات السَّلف، والتَّعبير بها عن المعنى، فهذا كثيرًا ما يكون من قبيل التفسير بدلالة التَّضمن، وهي دلالة اللَّفظ على بعض المعنى، فالسلف أحيانًا يُفسّرون بالمثال للتَّقريب، وليس للحصر.

وأحيانًا يُعبّرون بعبارات مُقاربة؛ لأنَّهم لا يشقون الشّعرة والشّعيرة، ويُنقّرون كما نُنقّر، وإنما على طريقة العرب في الخطاب؛ يُلقون الكلام على عواهنه، كما يقول الشَّاطبي[1] -رحمه الله-، فتجد أنَّهم يُعبرون بعبارات مُقاربة، وأحيانًا يُعبرون عن لازم المعنى، وأحيانًا يُعبرون بعبارةٍ قد يغفل عنها السَّامع، تدلّ على معنًى قد يغفل عنه كثيرٌ من الناس، ويُشيرون إليه، إلى غير ذلك من مقاصدهم وطرائقهم في التَّعبير عن المعاني.

فإذا نظرنا الآن إلى النوع الأول الذي ذكره، وهو: اختلافٌ في العبارة، مع اتِّفاق المعنى، يقول: "نحن جعلناه قولًا واحدًا"، هذا جيد، لكنَّه يقول: "وعبّرنا عنه بأحد عبارات المتقدمين، أو بما يقرب منها، أو بما يجمع معانيها"، ذكر ثلاثة احتمالات، الأفضل والأجود هو الأخير: أن يُعبّر بعبارةٍ تجمع معانيها؛ لأنَّه إذا عبّر بأحد عبارات المتقدمين لا يُقال: هذا خطأ، لكنَّه قد يفهم القارئ أنَّ هذا فقط هو المراد، مع أنَّ السلفَ ما قصدوا حصر المعنى بهذا المثال الذي ذكروه مثلًا في التفسير، فيقرأ مَن يقرأ في هذا التفسير ويظنّ أنَّ هذا هو المراد، أنَّ هذا هو المعنى، وهذه مشكلة؛ ولذلك تجد في كتاب: "زبدة التفسير" الذي هو اختصار لـ"فتح القدير" ما رُوعي فيه لَمّ هذه المعاني وجمع عبارات السلف، والتَّعبير عنها بعبارةٍ تجمع شتاتها، وإنما عُبّر بأحد هذه العبارات؛ ولذلك لا يُقاس هذا التفسير "زبدة التفسير" بمثل كتاب "التفسير الميسر"، "التفسير الميسر" أفضل وأنفع بكثيرٍ لهذا السبب.

وحينما يُعبّرون بعبارات متنوعة مع اتِّفاق المعنى يقولون: الصِّراط المستقيم: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:٦]، وحين يقول قائلٌ: الإسلام هو الصِّراط المستقيم. هل في هذا إشكال؟ لا.

آخر يقول: اتباع الكتاب والسُّنة. هل في هذا إشكال؟ لا.

ثالث يقول: الصِّراط المستقيم هو القرآن. هل في هذا إشكال؟ لا.

رابع يقول: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ هو طاعة الله وطاعة رسوله ﷺ، مثلًا. هل في هذا إشكال؟ لا.

فهذه العبارات جميعًا ترجع إلى شيءٍ واحدٍ، فلا نحتاج أن نقول فيها خمسة أقوال، ونُعدد هذه التي سمعتم، هذا ليس من الاختلاف الحقيقي، فهذا يرجع إلى شيءٍ واحدٍ.

السلوى مثلًا طائر، فهذا يقول: طائر في الهند أحمر المنقار، وهذا يقول: طائر أكبر من العصفور، وأصغر من الحمام، إلى غير ذلك من العبارات المقاربة، فهذا ليس اختلافًا، فقد يذكر هذا صفة، وهذا صفة، لكن الموصوف واحد.

وذكر النوع الثاني، والنوع الثاني في الواقع داخلٌ في اختلاف التنوع، فلو أنَّه جعل الجميع على قسمين لكان أولى من جَعْلِه على ثلاثة أقسام؛ لأنَّ الأول والثاني يرجعان إلى قسمٍ واحدٍ.

قوله: "النوع الثاني: اختلاف في التَّمثيل؛ لكثرة الأمثلة الدَّاخلة تحت معنًى واحدٍ، وليس مثال منها على خصوصه هو المراد، وإنما المراد المعنى العامّ التي تندرج تلك الأمثلة تحت عمومه.

فهذا عدَّه أيضًا كثيرٌ من المؤلفين خلافًا، وليس في الحقيقة بخلافٍ؛ لأنَّ كلَّ قولٍ منها مثال، وليس بكل المراد، ولم نعدّه نحن خلافًا، بل عبّرنا عنه بعبارةٍ عامّةٍ تدخل تلك تحتها، وربما ذكرنا بعض تلك الأقوال على وجه التَّمثيل، مع التَّنبيه على العموم المقصود".

وهذا أمرٌ في غاية الأهمية، تتميز فيه كتب التفسير وتتفاضل، هنا اختلاف في المثال، يعني مثلًا: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ [فاطر:٣٢]، حينما تنظر إلى عبارات السلف تجد أنهم يُمثلون بأمثلةٍ، مثلًا: مَن يقول: الظالم لنفسه، والمقتصد، والسَّابق.

الظالم: هو الذي يُؤخّر الصلاة خارج الوقت.

والمقتصد: هو الذي يُصليها لكن ليس في أول الوقت.

والسابق: يُصليها في أول الوقت، مثلًا.

أو الظالم: هو الذي يضيع بعض حقوقها، أو شروطها، أو أركانها، أو مواقيتها.

والمقتصد: هو الذي يُصليها كما أُمِرَ ويقتصر عليها.

والسابق: هو الذي يُصلي الفرائض والنَّوافل والرَّواتب. هذا مثال.

وآخر يقول: الظالم لنفسه: هو الذي يمنع الزكاة.

والمقتصد: هو الذي يُخرج الزكاة المفروضة.

والسابق بالخيرات: هو الذي يُخرج الزكاة والصَّدقة، يتصدّق.

وهكذا حينما يُقال: الظالم: هو الذي لا يصوم -مثلًا- رمضان، أو يُفطر في بعض أيامه، أو يخلّ به.

والمقتصد: هو الذي يقتصر عليه.

والسابق: هو الذي يصوم الفرض ويتطوع.

هذه الآن الأقوال، هل نحتاج أن نقول: القول الأول: مَن يُصلي في أول الوقت، وفي القول الثاني: هو الذي يُزكِّي ويتصدّق، إلى آخره؟

هذا لا يُعدّ من الاختلاف، فهذا من قبيل التفسير بالمثال، ويدخل فيه قولهم: "نزلت هذه الآية في كذا"، فهم يقصدون بذلك -غالبًا- أنَّ ذلك مما يدخل في معناها؛ لأنَّ ما يُذكر في أسباب النزول على نوعين:

نوع صريح: أن يقول: سبب نزول هذه الآية كذا، أو أن يذكر سببًا أو واقعةً أو سؤالًا، فيقول: فأنزل الله كذا وكذا. فهذا يُسمّى: صريحًا، هذا سبب النزول، وهذا الذي له حكم الرَّفع.

وأمَّا قولهم: نزلت هذه الآية في كذا، في الرجل يعمل كذا. يقصدون أنَّه مما يدخل في المعنى، مما يدخل تحتها، فهذا ليس باختلافٍ.

الآن إذا تبين هذا من خلال هذين النوعين، لو أردنا أن نذكر الصور المتنوعة التي يمكن أن تُعدّ في اختلاف التنوع سنجد أكثر من هذا من الأنواع، وكلّها ترجع إلى اختلاف التنوع، من ذلك مثلًا: تنوع الأسماء والأوصاف، كلّ واحدٍ يُعبِّر بعبارةٍ غير عبارة الآخر، لكنَّها تدلّ على معنى في المسمّى غير المعنى الآخر، مع اتِّحاد المسّمى، غير عبارة الآخر، لكن كلّ عبارةٍ تدلّ على معنى في المسمّى.

فإذا قيل مثلًا: أسماء السيف: الصارم، والمهند، واليماني، فالمسمّى واحد، لكن كل عبارة دلَّت على معنى أو صفة في المسمّى لا توجد في العبارة الأخرى؛ فالمهند: بناءً على منشئه وهو الهند، واليماني: بناءً على منشئه وهو اليمن، والصارم: بناءً على أثره وهو الصّرم. فهذا اختلاف تنوع، وليس باختلاف تضاد.

وأحيانًا يكون ذلك من قبيل التفسير بالمثال، كما في: وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ، أو قولهم: نزلت هذه الآية في كذا.

وأحيانًا يُعبّرون عن المعنى المراد بعبارات مُتقاربة، يعني: السلف لا يُدققون ويُنقّرون في الألفاظ كما يتكلّف المتأخّرون، فيُفسّرون ذلك، يقول لك مثلًا: الوحي، ما معنى الوحي؟

يقول لك: هو الإعلام، مجرد الإعلام، هكذا. لكن الوحي هو إعلامٌ خاصّ.

مثلًا: على قول كثيرٍ من أهل العلم: يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا [الطور:٩]، الـمَوْر، يقول: الحركة، تتحرك، بينما المور: حركة خاصَّة، حركة باضطرابٍ، فهم يُعبّرون بعبارات مُقاربة، فهذا لا يُعدّ من الاختلاف.

كذلك أيضًا أن يُبنى أحد التَّفسيرات على أصل الوضع اللُّغوي، والآخر يُراعى فيه المعنى في الاستعمال، مع أنهما يرجعان إلى شيءٍ واحدٍ.

الآن حينما يقول الله مثلًا: تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ [الرعد:31]، القارعة في كلام العرب: الدَّاهية التي تفجؤهم.

بعض المفسّرين يقولون: سرية من سرايا رسول الله ﷺ تنزل بساحتهم. هل هذا اختلاف تضاد، أو اختلاف تنوّع؟

اختلاف تنوّع، فهنا ذلك يرجع إلى معنًى واحدٍ، لكن الأول فسّر على أصل المعنى اللُّغوي: القارعة هي الدَّاهية، تقرعهم: تفجؤهم، والثاني فسّرها باعتبار المعنى.

هناك أيضًا -وهو الخامس-: ألا يتوارد الخلاف على محلٍّ واحدٍ، يعني: كما قلتُ لكم، كما أشرتُ مثلًا: أنَّ هذا ينظر إلى زاويةٍ، وهذا ينظر إلى زاويةٍ، والواقع أنهما مُتَّفقان، يعني: الآن هل مثلًا المفهوم له عموم، أو ليس له عموم؟

أكثر ما تجدون في كتب أصول الفقه، يُعرّفون العامّ يقولون: هو اللَّفظ المستغرق ما يصلح له دفعةً بلا حصرٍ من اللفظ.

وهذا فيه نظر؛ لأنَّهم جعلوا العمومَ من عوارض الألفاظ: "اللَّفظ المستغرق"، والأقرب والأرجح -والله أعلم- أنَّ العامّ هو ما استغرق، فتدخل فيه الألفاظ.

ويُعرَّف أيضًا العموم من جهة المعنى، المعنى مثل المفهوم، المفهوم ليس بمنطوقٍ، مسكوت عنه، فهل المفهوم له عموم، أو ليس له عموم؟

وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة:٢٢٨]، وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [الطلاق:٤]، فهذه الجُمَل لها مفاهيم: فالأولى في المطلّقات، عدّة المطلّقة، المطلّقة ذات الأقراء، والثاني في الحامل، فحينما ننظر إلى الثاني مثلًا: وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ، معناها: أنَّ غير الحامل ليست كذلك، طيب، غير الحامل ما حكمها؟ هل لهنّ حكمٌ واحدٌ، أو يختلف؟ لكن له عموم فيما عدا المنطوق. يعني: كل مَن ليست بحاملٍ فليست عدّتها وضع الحمل، فخرج منها المنطوق: أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ، فالذين قالوا: "المفهوم لا عمومَ له"، نظروا إلى المنطوق أنَّه لا يدخل فيه.

والذين قالوا: "له عموم"، قالوا: نقصد العموم فيما عدا المنطوق، حينما يقول: وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ، أجل الحامل أن تضع حملها، وغير الحامل ليست كذلك، كل مَن ليست بحاملٍ -سواء كانت آيسةً أو صغيرةً أو ذات أقراء- ليست كذلك، فهذا له عمومٌ، لكن الذين منعوا من العموم قصدوا أنَّ المنطوق غير داخلٍ فيه، قالوا: أين العموم؟

والذين قالوا: له عموم، قالوا: لا نقصد المنطوق، نقصد المسكوت عنه فيما عدا المنطوق.

فهنا هذا ليس باختلافٍ حقيقي، لكن كل واحدٍ نظر من زاويةٍ، من جانبٍ مُعينٍ، وهكذا.

أيضًا من أنواع اختلاف التنوع -وهو السادس-: أن تُنقل الأقوال عن قائلٍ واحدٍ ربما يكون قد رجع عن بعضها، يعني: يُنقل عنه قولان، فهل نقول: في الآية قولان: الأول: قال ابن عباسٍ كذا. الثاني: قال ابن عباسٍ كذا -رضي الله عنهما-؟

الجواب: لا؛ لأنَّ أحد القولين -لو صحَّ ذلك جميعًا عنه- يكون قد رجع عنه، فهذا لا يُعدّ من الاختلاف.

أيضًا أحيانًا يكون هذا -اختلاف التنوع- من قبيل توليد الاحتمالات، يعني: ما نُسِبَ إلى قائلٍ، هذا تجدونه في كتب التفسير، يقول لك: ويحتمل كذا، ما قال به أحد، لكنَّه يحتمل، فهذا لا يُعدّ من الأقوال، لا يُقال: القول الأول كذا، والقول الثاني كذا، لا يُعدّ في الاختلاف، مع وجوده في كتب التفسير.

وهكذا أيضًا أن يقع الاختلاف الصّوري -هذا غير الحقيقي- في تنزيل المعنى الواحد؛ فبعضهم يحمله على المجاز -عند القائلين به-، وبعضهم يحمله على الحقيقة، والنتيجة واحدة في النِّهاية، يعني مثلًا: يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ [الروم:١٩]، المعنى الحقيقي على القول بالمجاز.

ليس الحديثُ الآن والنِّقاش في المجاز: هل هو واقع، أو غير واقعٍ؟ لكن في الأمثلة، لا إشكالَ أن تُمثّل بما يُوضّح المراد، فالآن: يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ على القول بالمجاز، ما المعنى الحقيقي؟

الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ، الحيّ: الفرخ من البيضة، والنَّبتة من النَّواة، حيّ من ميت، وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ البيضة من الدَّجاجة، هذا المعنى الحقيقي: حياة وموت.

المعنى المجازي: الحيّ: المؤمن من الكافر، والميت من الحيّ: الكافر من المؤمن، فالله -تبارك وتعالى- مثّل حال الكافر بالميت: أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ [الأنعام:١٢٢]، فالإيمان حياة، ومثّل حال المؤمن بالحي؛ ولهذا قال الله : اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا [الحديد:١٧]، بعض العلماء قال: يُحيي القلوب بعد موتها بالكفر، يُحييها بالإيمان.

هذا معنى حقيقي أو مجازي؟ عند القائلين بالمجاز: مجازي. واضح؟

والمعنى الحقيقي هو إحياء الأرض؛ ينزل المطر، ويخرج النبات، هل هذا اختلاف حقيقي؟

الواقع لا، فحينما نقول: يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ، المؤمن من الكافر، والبيضة من الدَّجاجة، إلى آخره، لا إشكالَ في هذا، فهذا يرجع إلى شيءٍ واحدٍ، لكن بعضهم فسّره بمعنى حقيقي، والآخر بمعنى مجازي، فالكلام على التَّنزيل: هل هذا يُنزل على الحقيقة، أو على المجاز؟ وكلّ ذلك لا إشكالَ فيه.

وأحيانًا يكون الاختلافُ في مجرد التَّعبير عن المعنى المقصود، وإلا فهو مُتّحد، لكن بماذا يُعبّرون عنه؟

يعني الآن مثلًا: كثيرٌ من الأشياء نتصور أنها واضحة جدًّا، كمعنى التَّدبر مثلًا، فمعناه الكلّ يعرفه، لكن يرد الخلاف في التَّعبير عنه، التَّعبير عنه هو الذي أشكل.

ومن الطَّريف أنَّه أُقيم مُلتقًى، مُؤتمر في التَّدبر، الملتقى الأول، ثم أُقيم الملتقى الثاني، الملتقى الأول كان في بيان حقيقة التَّدبر وما يُقاربه من التَّفكر، وما إلى ذلك، وقُدِّمَتْ فيه أوراق ومناقشات -يوم كامل- من مُتخصصين في التفسير، واللُّغة، وأصول الفقه، النَّتيجة التي خرجوا بها في النِّهاية، لم يخرجوا باتِّفاقٍ، هؤلاء أهل الاختصاص وما خرجوا باتِّفاقٍ في تفسير التَّدبر، في تعريف التَّدبر.

ثم جاء الملتقى الثاني في قضايا أخرى تتعلق بالتَّدبر؛ شروط التدبر وأمور من هذا القبيل، على أساس أنها مبنية على مفهوم التَّدبر، فوقعت اختلافات بسبب الاختلاف في تحديد مفهوم التَّدبر، فهذا لا يُعتبر اختلاف حقيقي.

وأيضًا مثل: الخبر، الكلّ يعرف معنى الخبر، وأنَّه ما يحتمل الصِّدق والكذب لذاته، لماذا قلت: لذاته؟ بصرف النظر عن القائل.

يعني: الآن المشهور أنهم يقولون: ما احتمل الصّدق أو الكذب. هنا يَرِد عليهم من كلام الله وكلام الرسول ﷺ، لا يَرِد عليه الصّدق والكذب!

فقالوا: نزيد زيادة (لذاته) يعني: من حيث هو، بصرف النَّظر عن القائل.

هذا الخبر، ولكن بعضَهم، تجدون في مثل كتاب: "شرح مُختصر التَّحرير شرح الكوكب المنير" نحو اثني عشر تعريفًا للخبر، وكل تعريفٍ عليه اعتراضات ومناقشات وإشكالات، هم متَّفقون على المراد، يعرفون ما الخبر؟ لكن كيف يُعبَّر عنه بعبارةٍ لا يرد عليها إشكالٌ؟ هل هذا يُعتبر اختلاف حقيقي في الخبر؟

لا، وإنما هو اختلاف في التَّعبير عنه، فحينما نريد أن نُعرِّف القرآن، كلنا نعرف القرآن، لكن تجد العبارات تتفاوت: كلام الله المعجِز، كلام الله المنزّل على محمدٍ ﷺ بواسطة جبريل المعجِز بأقصر سورةٍ منه. هذا تعريف، وهكذا تعريفات مُتعددة للقرآن.

تعريف التفسير: كلنا نعرف التفسير، فتجد تعريفات، فهذا لا يُعتبر من الاختلاف الحقيقي، وإنما هو اختلاف في التعبير عن المعنى.

هذه نحو تسعة أنواع الآن في اختلاف التنوع، ولو ضُمَّ إليها القسم الآخر من اختلاف التَّضاد الذي يمكن جمع الأقوال فيه؛ سنجد أنَّ ربع المادة الموجودة في كتب التفسير التي تُذكر على أنها أقوال يمكن أن تلتئم تحت معنى مُتّحد، أو تدخل في معنى الآية. هذا النوع الثاني، النوع الثالث: هذا الاختلاف الحقيقي.

قوله: "النوع الثالث: اختلاف المعنى، فهذا هو الذي عددناه خلافًا، ورجّحنا فيه بين أقوال الناس حسبما ذكرناه في خطبة الكتاب".

إذن هو يُبين لك كيف يُعالج هذه الأقوال التي يذكرها في هذا الكتاب، توجد في كتب التفسير، ينقلها، وسيأتي الكلام على هذا النوع الذي هو اختلاف التَّضاد في الباب الخامس، أفرد له بابًا خاصًّا تجدونه صفحة (٨٢) في الكلام على اختلاف المفسّرين -أسباب الاختلاف-، فنُرجئ الكلام عليه إلى ذلك الموضع.

قوله: "فإن قيل: ما الفرق بين التَّفسير والتَّأويل؟

فالجواب: أنَّ في ذلك ثلاثة أقوال:

الأوّل: أنهما بمعنًى واحدٍ.

الثاني: أنَّ التفسير للفظ، والتَّأويل للمعنى.

الثالث -وهو الصَّواب-: أنَّ التفسير: هو الشَّرح، والتَّأويل: هو حمل الكلام على معنى غير المعنى الذي يقتضيه الظاهر، بموجب اقتضى أن يحمل على ذلك ويخرج عن ظاهره.

الآن ذكر ثلاثة أقوال، وبعضهم يذكر أضعاف هذا في الفرق بين التأويل والتفسير، يطولون في هذا جدًّا، سواء في كتب علوم القرآن، أو في كتب التفسير، أو غير ذلك من المواضع التي يتناولون فيها هذه القضية.

لكن نحن يمكن أن ندع الكلام الكثير الذي يُقال في الفرق بين التأويل والتفسير، ونقتصر على الصَّحيح من ذلك، الذي دلَّ عليه القرآن، وهو معهود السَّلف قبل ظهور العلوم الكلامية، يعني: كيف كان السلفُ يفهمون التَّفسير والتَّأويل؟ على أي شيءٍ يحملون ذلك؟

الكلام في هذه القضية يذكر كثيرًا عند قوله -تبارك وتعالى- في آية آل عمران: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ [آل عمران:٧]، فالتأويل والتَّفسير هنا في قوله: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ هذا في المتشابه، آية آل عمران هذه هي أصلٌ في هذا الباب: مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا [آل عمران:٧]، إذا وقفت على قوله: إِلَّا اللَّهُ فمعنى ذلك: أنَّ الله -تبارك وتعالى- هو الذي يختصّ بعلم المتشابه.

فهنا يُقال: المتشابه هنا هو حقائق الأمور الغيبية وما تؤول إليه الأشياء التي أخبر الله عنها، وهي في أمر الغيب، كلّ هذا يكون داخلًا فيه، وليس المعنى: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ حقائق ما أخبر به، حقائق صفات الله ، ليس المعنى، المعنى معروف، فالله خاطبنا بلغة العرب، ولا يوجد في القرآن شيءٌ لا يعرف معناه لا الرسول ﷺ، ولا أحد من الأمّة، لا يوجد؛ لأنَّ الله خاطبنا بلغة العرب: بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ [الشعراء:١٩٥]، هذا إذا وقفنا نحمله على حقائق الأمور الغيبية، وليس المعاني، وإذا وصلنا في الآية، وكلاهما صحيح، وكلاهما صحّ عن ابن عباسٍ -رضي الله عنهما-؛ الوقف والوصل[2]، فالوقف مَحْمَله على ما ذكرت، ليس المعاني.

إذن يكون المتشابه في حقائق الأمور الغيبية، وليس في المعاني، هذا يُسمّى: المتشابه المطلق، والمقصود بالتَّشابه المطلق يعني: الذي لا يعلمه إلا الله، لا يوجد أحدٌ من الخلق يعلمه، هذا لا يوجد في المعاني.

إذا وصلنا: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا، إذن الراسخون يعلمون تأويله، هذا على أي شيء يُحمَل؟ على المعنى.

طيب، بأي اعتبارٍ كان من قبيل المتشابه؟

فأهل الزيغ يتَّبعون ما تشابه، هذا في المعاني، فهو المتشابه النِّسبي، ومعنى المتشابه النِّسبي يعني: أنَّه قد يخفى على البعض، فهؤلاء الذين خفي عليهم وأشكل عليهم هو بالنسبة إليهم مُتشابه، لكن مَن علمه فإنَّه ليس من قبيل المتشابه بالنسبة إليه.

وإذا حملنا التَّأويل في قوله: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ، إذا وقفنا في الآية على قوله: إِلَّا اللَّهُ، فيكون مَحْمَل ذلك حقائق الأمور الغيبية وما تؤول إليه الأشياء التي أخبر الله  عنها، ونحو ذلك، ووقوع هذه الأخبار، كلّ هذا في الغيب، فهذا من قبيل المتشابه المطلق؛ لأنَّ هذا غيبٌ، فهنا: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ لا يكون المرادُ به المعنى.

ويمكن أن نقول: التأويل يأتي بمعنى التفسير تمامًا، سواء، إلا أنَّ اللَّفظة تنوّعت، اختلفت، وهذا كثيرٌ.

وقوله: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ على الوصل، وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يعني: يعلمون تأويله، يكون المرادُ به التفسير: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يعني: يعلمون تأويله، إذن هو التَّفسير، فالتأويل والتفسير معناهما واحد بهذا الاعتبار، بالوصل، على قراءة الوصل يكون المراد به التفسير.

وهذا تفسير ابن جرير الطبري -رحمه الله- "جامع البيان عن تأويل آي القرآن"، "تأويل" يعني: تفسير آي القرآن، هو يقول دائمًا: "القول في تأويل قوله -تعالى-"، يعني: في تفسير قوله -تعالى-.

وهذا المعنى -أنَّ التأويل والتَّفسير معناهما واحد- قال به المتقدّمون من أئمّة اللغة الذين كانوا على طريقة السَّلف، مثل: ثعلب، من أصحاب الإمام أحمد، من أئمّة أهل اللغة، وهو إمام في اللغة، وفي الفقه أيضًا، وكذلك ابن الأعرابي، بل قال به أيضًا أبو عبيدة معمر بن المثنى، وهو يُرمى بالاعتزال، فبهذا يكون التأويل والتفسير معناهما واحد.

وابن عاشور يقول: بأنَّ اللغة والآثار يشهدان لهذا[3]، وهذا صحيحٌ؛ لأنَّ التأويل مصدر أوّله، إذا أرجعه إلى الغاية المقصودة، وهي هنا من اللَّفظ: المعنى، وما أراد منه المتكلّم به من المعاني، فصار مُساويًا للتفسير، التفسير والتَّأويل، والغاية من هذا اللَّفظ هو المعنى، فحينما يُفسَّر يكون هذا التفسير أوصلك إلى مُراد المتكلم، فهذا هو الأَوْل، بمعنى: الرجوع إلى مُراد المتكلم، هذا هو التفسير.

إذن التأويل في كلام الله يأتي بمعنى التفسير: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ على الوصل بمعنى التفسير، تأويل الرُّؤيا بمعنى: التفسير: نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ [يوسف:٣٦] يعني: بتفسيره، وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ [يوسف:٦] يعني: تفسير الرُّؤَى، على القول المشهور في تفسير الآية، فهذا كلّه بمعنى التفسير، تفسير الرؤى، هذا المعنى الأول.

المعنى الثاني المستعمل أيضًا في اللغة وعند السلف، وجاء في القرآن: وهو التأويل بمعنى: ما يؤول إليه الكلام مثلًا، أو الشيء في ثاني حال، فتأويل الخبر: هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يعني: وقوع ما أخبر به، يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يعني: يقع ما أخبر به، يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا [الأعراف:٥٣] الآية، وقوع ما أخبر به، حصول الشيء، وقوع الشيء، الأَوْل: الرجوع، وقوعه في ثاني حالٍ، فتأويل الخبر: وقوع المخبَر به، تأويل الأمر: فعل المأمور به.

تقول عائشةُ -رضي الله عنها-: كان ﷺ يُكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي، يتأوّل القرآن[4].

"يتأوّل القرآن" يعني: يمتثل ما جاء في قوله -تعالى-: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا [النصر:٣]، إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ۝ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا ۝ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا [النصر]، فكان يقول في ركوعه وسجوده: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي، يتأوّل القرآن. فتأويل الأمر: فعل المأمور به.

فهذان معنيان صحيحان في الكتاب والسُّنة، لا ثالثَ لهما.

وهنا المؤلف -رحمه الله- ذكر ثلاثة أقوال:

الأول: أنهما بمعنى واحدٍ، وهذا صحيحٌ، ولا يحتاج أن يكون قولًا برأسه، وإنما هو شطر من القول الصواب في هذه المسألة؛ أنه يأتي لمعنيين، هذا أحد المعنيين، ولا ينحصر به.

الثاني: أنَّ التفسير للفظ، والتَّأويل للمعنى. هذا يذكره كثيرٌ ممن تكلّموا على التَّأويل، ماذا يقصدون به؟

يقصدون أنَّ التفسير للفظ، يعني: بيان الألفاظ، بيان الغريب، فيقولون هذا الذي يتكلّمون فيه ويقولون إنما يُؤخذ من جهة النَّقل، تجدون عبارات لهم حول هذا، يقولون: التَّفسير إنما يُعرف من جهة النَّقل، وأمَّا التَّأويل فمن جهة الاستنباط، يعني: هذا رواية، والثاني دراية، يقولون: التَّفسير لا يُعرف، لا يجوز لأحدٍ أن يتكلم بالتفسير -ويُشددون في هذا- إلا من جهة الرِّواية، نقل فقط، وأمَّا التأويل فوجوه الاستنباطات، وهذا المعنى لا أصلَ له، هذا تفريقٌ ذكره جماعةٌ، ولكن لا أساسَ له، ليس له أصلٌ.

والمعنى الثالث الذي ذكره هو قول المتكلمين من المعتزلة والأشاعرة ومَن نحا نحوهم، يقولون: التأويل: هو صرف الكلام من المعنى الراجح إلى المعنى المرجوح.

ومعلوم أنَّ الكلام: إمَّا نصّ، أو ظاهر، أو مُؤول، والنَّص يقولون: ما دلَّ على معنى من غير احتمالٍ، والظاهر: دلَّ على معنى دلالة راجحة، غالبة، والمؤول: هو المعنى المرجوح.

يعني: لو جئنا بالنِّسَب المئوية مثلًا، لو قلنا: ما دلَّ على معنى مئة بالمئة فهذا نصٌّ، دلَّ على ما فوق الخمسين، ودون المئة، فهذا يُسمّونه: ظاهر.

المؤول: هو النسبة الضَّعيفة، يدلّ على هذا المعنى، أقلّ من خمسين بالمئة.

فهذا إذا حملت اللَّفظ عليه، لا يجوز حمل الكلام على المعنى المرجوح، وإنما على المعنى الظاهر.

وهذه قاعدة يُرددها ابنُ جرير في تفسيره مرات كثيرة جدًّا، لكن يقولون: بقرينة، إن حُمِل على المعنى المرجوح بقرينة هذا هو التَّأويل عندهم، ويجعلون ذلك من قبيل المجاز، فهذا المجاز والتَّأويل قرينان، هذه التَّأويلات هي في الواقع على أنواع: منها تأويلات قريبة -كما يقولون-، ومنها من قبيل التَّأويل البعيد، ومنها ما يُسمّونه باللّعب، يعني: العبث بالنصوص، فيجعله الأصوليون على ثلاثة أنواع بحسب ما يقوم عليه دليلٌ أو قرينة تصرفه عن المعنى الظَّاهر إلى معنى آخر مرجوح بقرينةٍ، هكذا يقولون، وهذا المعنى غير معروفٍ عند السَّلف.

المعنى الثالث: هذا هو الذي ركّبوا عليه المجاز، واجترأ المتكلّمون على النصوص في باب الصِّفات وغيرها، فأوّلوها وحملوها على معانٍ مجازية، وقالوا: الظاهر غير مراد. أو أوّلوا كثيرًا منها، قالوا: "استوى": استولى، "يد الله" أي: النِّعمة أو القوة، "الرحمة": إرادة الإحسان، "الغضب": إرادة الانتقام، "الوجه"، يعني: الذَّات. هكذا زعموا، وهذا باطلٌ.

كل هذا من قبيل التأويل، فجعلوها في معانٍ مجازية، قالوا: هذه استعمالات مجازية، فليست مُرادة هذه الظَّواهر، وجاءت طوائف -غير هؤلاء المتكلمين- من الصوفية، وطوائف من الباطنية، وهؤلاء الصوفية كثيرٌ منهم برزخ بين هؤلاء وهؤلاء، وجاءت الصوفية، وصاروا يُؤولون ويحملون على غير الـظواهر بما يُسمونه بالتفسير الإشاري، وسيأتي الكلام عليه: قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ [التوبة:١٢٣]، قالوا: هي النفس تُذبح بسكين الطَّاعة، إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُوا بَقَرَةً [البقرة:٦٧] قالوا: هي النفس، وهكذا.

وجاء الباطنية وأوَّلوا نصوص المعاد والحقائق الشَّرعية، وقالوا: الصيام المراد به: كتم أسرار المذهب الفاسد. هذا مذهبهم، والعمرة: هي الزيارة للولي، والحج: قصد الولي، والصَّفا: النبي، والمروة: علي، وهكذا.

وسيأتي كلامٌ على هذا -إن شاء الله-.

فهذه كلّها تأويلات، كأنَّهم يقولون لهؤلاء المتكلمين: لستم بأحقّ منا، أنتم تُؤوّلون هذه النصوص في الصِّفات ونحوها، ونحن سنُؤوّل الكلام على الآخرة وحقائق الشرع وما إلى ذلك، فصار العبثُ بنصوص الشريعة، وحُرّفت حقائق الدِّين، وأُفْرِغ من معناه.

إذن الذي يصحّ من هذه المعاني الثلاثة الأول، والذي بقي من الصَّحيح مما لم يذكره، يقال: على ما يؤول إليه الشيء في ثاني حال، تأويل الخبر: وقوع المخبر به، تأويل الأمر: فعل المأمور، هذا ما ذكره.

قوله: "وأمَّا القراءات: فإنها في القرآن بمنزلة الرِّواية في الحديث، فلا بدَّ من ضبطها كما يضبط الحديث بروايته.

ثم إنَّ القراءات على قسمين: مشهورة، وشاذّة.

فالمشهورة: هي القراءات السبع، وما جرى مجراها: كقراءة يعقوب، وابن محيصن. والشاذّة ما سوى ذلك".

قبل أن نتجاوز الكلام على التأويل والتفسير، حينما يقول بأنَّ التفسير للفظ، والتأويل للمعنى، هذا المعنى قلنا: غير صحيحٍ، لكن: يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ [الروم:١٩]، إذا قيل: الطّير من البيضة، الفرخ من البيضة، فهذا عندهم تفسيرٌ على الظاهر. وإذا قيل: المؤمن من الكافر، حملُهُ على المعنى المجازي، يقولون: هذا تأويل. هكذا يقول بعضُهم.

يقول: "وأمَّا القراءات" هو يتحدث عن العلوم المتعلّقة بالتفسير، "وأمَّا القراءات فإنها في القرآن بمنزلة الرِّواية في الحديث"، منزلة الرِّواية في الحديث من أي جهةٍ؟

من جهة أنَّ الطريق فيهما النَّقل، من هذه الحيثية: الطريق النَّقل، الرِّواية والنَّقل فقط، فكما أنَّ الحديثَ يُروى بالأسانيد، فهكذا أيضًا هذه القراءات، فلا بدَّ من ضبطها كما يُضبط الحديث بروايته، مع وجود الفارق؛ الحديث يُروى بالمعنى على قول الجمهور بشروطٍ، وأمَّا القراءات فإنَّها لا تُنْقَل بالمعنى، بل لا بدَّ من التَّدقيق في الألفاظ، حتى الأداء لا بدَّ من مُراعاته.

يقول: "ثم إنَّ القراءات على قسمين: مشهورة، وشاذّة"، هذا تقسيم، بعض العلماء يُقسّمون إلى قسمين، وبعضهم يُقسّمون إلى ثلاثة أقسام، وبعضهم يُقسّمون إلى أربعة أقسام، وبعضهم يُقسّم إلى أكثر من هذا، والمسألة اصطلاح.

"مشهورة، وشاذّة"، فهنا ما عبّر بالمتواترة، وإنما قال: المشهورة، والمسألة أيضًا اصطلاحٌ، استعمال لفظة "مُتواترة" كثُر عند المتأخّرين، لكن عند المتقدمين يقولون: القراءة المستفيضة، القراءة المشهورة التي تُلقّيت بالقبول، تلقّوها بالقبول؛ ولذلك فإنَّ التعبير بالتواتر قد يكون في تنزيله نوع إشكالٍ أو اختلاف، يعني: هل التواتر في القراءة هو نفس التواتر عند المحدثين؟ بالتَّعريف المشهور للتواتر؛ وهو أنَّه ما يرويه جمعٌ عن جمعٍ تُحيل العادة تواطؤهم على الكذب لكل طبقةٍ من طبقات الإسناد، ويكون مُستند نقلهم الحسّ، مُستند الخبر الحسّ.

هل هذا هو المراد بالنسبة للقراءات، أو أنَّ القراءات ليست كذلك؟

بمعنى: أنَّه يكفي فيها صحّة الإسناد، مع الاستفاضة، كونها مُتلقّاة بالقبول عند أهل الشَّأن.

ويذكرون شرطين آخرين -سيأتي الكلامُ عليهما إن شاء الله- ما يتعلّق بمُوافقة الرسم، ولو احتمالًا، يقولون: ومُوافقة اللُّغة ولو بوجهٍ، يعني: بوجهٍ صحيحٍ.

وهذه الشروط أيضًا تحتاج إلى مناقشةٍ، لكن الأصل في القراءة هو الرِّواية والنَّقل، وسيأتي له كلامٌ على هذا في صفحة تسعٍ وتسعين ومئة، على هؤلاء القُرَّاء الثلاثة الذين ذكرهم.

فيقول: "مشهورة، وشاذّة، فالمشهورة: هي القراءات السبع وما جرى مجراها".

"جرى مجراها" يعني: ما له حكمها.

قال: "كقراءة يعقوب" بن إسحاق البصري، المتوفى سنة مئتين وخمسة، هذا سمع من حمزة الزيات -القارئ الإمام المعروف-، وهو من القُرَّاء العشر.

"وابن مُحيصن" وهو محمد بن عبدالرحمن، هذا شيخ أبي عمرو ابن العلاء، المتوفى سنة مئة واثنين وثلاثين.

قال: "وابن محيصن"، ذكر هنا اثنين، لكن الذين يُمثّلون العشرة هم السبعة، بالإضافة إلى يعقوب، وأبو جعفر المدني المتوفى سنة مئة وثلاثين للهجرة، وقيل: مئة وثمان وعشرين، والثالث هو الذي يُقال له: خلف العاشر، خلف بن هشام البزار، الكوفي، المتوفى سنة مئتين وتسعٍ وعشرين للهجرة.

فهؤلاء الثلاثة هم الذين يُكمّلون العشرة، وليس منهم ابن محيصن: خلف بن هشام هو أحد راويي حمزة، وهو إمامٌ في القراءة، هذا يقول: "أشكل عليَّ بابٌ من النحو، فأنفقت -الله المستعان- ثمانين ألف درهم حتى حذقته"، باب واحد من النَّحو أنفق فيه ثمانين ألف درهم حتى ضَبَطَه.

تراجم هؤلاء الأئمة فيها أشياء عجيبة في عبادتهم، وفي ضبطهم، وإتقانهم، وصبرهم، وجَلَدهم.

يقول: "والشَّاذّة ما سوى ذلك".

طبعًا هنا ذكر قراءة ابن محيصن، وهي من القراءات الشَّواذ، هي من الأربع التي بعد العشر، وذَكَر يعقوب، وذَكَرْنا خلف وأبا جعفر، فهؤلاء الثلاثة الذين ذكرناهم يكملون العشرة. فكونه هنا يقول: "وما جرى مجراها، كقراءة ..." الذي يظهر أنَّه ما قصد الحصر؛ بدليل أنَّه في الموضع الآخر فيما بعد ذكر أبا جعفر، ولكنَّه لم يذكر خلف بن هشام، وإنما ذكر ابن محيصن، فهو حينما يقول: "والشاذّة ما سوى ذلك"، هو لا يقصد الحصر بهذين اللَّذين ذكر، يعني: لا يقصد القراءات المشهورة هي التسع مثلًا، السبع مع اثنين، يعني: ابن محيصن ويعقوب، هو لا يقصد هذا، لكن الشَّاذة كثيرٌ من أهل العلم يقولون: هي الأربع الزائدة على العشر، وهي قراءة الحسن، وابن محيصن، واليزيدي -يحيى-، والأعمش، هذه الشَّواذ.

وبعضهم يذكر غير هذا في الأسماء، أسماء هذه القراءات وتصنيفها، ولا مُشاحةَ في الاصطلاح.

قوله: "وإنما بنينا هذا الكتاب على قراءة نافع المدني لوجهين".

نافع المدني هو أحد القُرَّاء السبعة، المتوفى سنة مئة وسبعة عشر، وهنا بنى هذا الكتاب على قراءة نافع من رواية قالون، وقالون هو عيسى بن مينا الزّرقي، هذا كان ربيبًا لنافع -رحم الله الجميع-، والإمام نافع هو الذي لقّبه بقالون، قالون: أعجمية؛ لجودة قراءته وإتقانه.

كان قالون -رحمه الله- لَزِم نافعًا مُلازمةً طويلةً، حتى قرأ عليه مدّةً طويلةً، ختمة بعد ختمة، حتى قيل له: كم قرأت على نافع؟ قال: ما لا أُحصيه كثرةً، إلا أني جالستُه بعد الفراغ عشرين سنةً، يعني: بعدما قرأ عليه ختمات كثيرة لازمه عشرين سنةً.

هؤلاء ما كانوا يتتلمذون أربع سنوات، أو ثلاث سنوات، أو سنة ونصف، ثم بعد ذلك يملّون.

يقول: قال لي نافع: كم تقرأ عليَّ؟ يقول: يعني إلى متى؟ من كثرة ما قرأ عليه، كم تقرأ عليَّ؟ اجلس إلى أسطوانة حتى أُرسل إليك مَن يقرأ عليك. يقول: أنت الآن مُؤهل للإقراء.

والراوي الآخر عن نافع هو ورش، ولقّبه بذلك أيضًا نافع، قيل: لشدّة بياضه، وقيل: لجودة قراءته، أنَّه بالرومية: ورش، والله المستعان.

قالون -رحمه الله- كان أصمّ، شديد الصّمم، وكان يُقرئ ويُجيب عمَّن يُخطئ بالنَّظر إلى شفته، والله المستعان.

هذه قراءة أهل المدينة، قراءة الإمام نافع، المحقق لهذه الطّبعة التي بين أيدينا -طبعة دار الضياء- اعتمد قراءة نافع برواية قالون، ومحقق الطبعة الأخرى -التي هي دار البيان- اعتمد قراءة نافع برواية ورش، فهذه أفضل من هذه الحيثية؛ لأنَّ المؤلف وضعه على قراءة نافع من رواية قالون.

أما الطَّبعات الأخرى القديمة فوضعوه على قراءة حفص، لكن قراءة قالون هي التي كان الإمامُ نافع -رحمه الله- يُقرئ بها، فقالون قرأ عليه بقراءة العامّة التي كان يُقرئ بها نافع -رحمه الله-، يُقرئ أهل المدينة.

وأمَّا ورش فعرض ما عنده على نافع، فلم تكن هي قراءة العامّة، لكن القراءة التي ارتضاها الإمامُ نافع، وكان يُقرئ بها هي رواية قالون.

قوله: "أحدهما: أنها القراءة المستعملة في بلادنا بالأندلس وسائر المغرب".

هذه القراءات انتشرت هناك؛ لأنَّ قراءة أهل المدينة هي قراءة نافع، ومذهب الإمام مالك كان هو السَّائد في بلاد الأندلس والمغرب، ومن ثمَّ كانوا يقرؤون بقراءة نافع.

الإمام أحمد -رحمه الله- لما سُئِلَ عن القراءة: أيّ القراءة أحبّ إليه؟ قال: قراءة أهل المدينة[5]. قراءة نافع.

قوله: "والأخرى: اقتداء بالمدينة -شرَّفها الله-؛ لأنها قراءة أهل المدينة.

وقال مالك بن أنس: قراءة نافع سنة.

وذكرنا من سائر القراءة ما فيها فائدة في المعنى، والإعراب، وغير ذلك، دون ما لا فائدةَ فيه زائدة".

يعني: هو الآن يُبين لك منهجه في ذكر القراءات في هذا الكتاب: أنَّه لا يتتبّع القراءات دائمًا ويلتزم بإيرادها إلا ما تترتب عليه فائدة من جهة المعنى فقط، هذا مهمّ، لو أردتَ أن تدرس هذا الكتاب مثلًا، تقول: والله يذكر القراءات أحيانًا، ويترك أحيانًا! نقول: هو قال هذا في المقدمة.

لكن لك أن تقول مثلًا: هناك قراءات تتبعتُها يترتب عليها تغيُّر المعنى ولم يُوردها! هذا نعم؛ ولذلك مثل هذه القراءة ينبغي أن تكون قراءة فاحصة، قراءة تخرج منها بفوائد متنوعة، تُدوِّن ما يمرّ بك، ستمرّ بك أشياء كثيرة في ثنايا التفسير، ستكون عندك ثروة من الأمثلة في أنواع قواعد التفسير وعلوم القرآن، أشياء ظاهرة، وأشياء يمكن بلطافة الذهن -إن كان له بصرٌ في هذا- يستطيع أن يُوظّفها في أشياء، لو أنَّك بحثتَ عنها حينما يكون الإنسانُ خالي الذهن يصعُب عليه أن يجدها.

قوله: "واستغنينا عن استيفاء القراءات؛ لكونها مذكورة في الكتب المؤلّفة فيها، وقد صنّفنا فيها كتبًا نفع الله بها".

هو له كتاب اسمه: "المختصر البارع في قراءة نافع"، ذكرنا هذا من قبل في التعريف بالمؤلف، وكتاب: "أصول القراءات السّت غير نافع".

قوله: "وأيضًا فإنا لما عزمنا في هذا الكتاب على الاختصار حذفنا منه ما لا تدعو إليه الضَّرورة، وقد ذكرنا في هذه المقدّمات بابًا في قواعد أصول القراءات".

هو هذا، وسيأتي الكلامُ عليه -إن شاء الله تعالى-.

  1. "الموافقات" (1/70).
  2. انظر: "تفسير ابن كثير" ت: سلامة (2/10)، و"تفسير القرطبي" (4/16).
  3. انظر: "التحرير والتنوير" (1/16).
  4. متفق عليه: أخرجه البخاري: كتاب الأذان، باب التَّسبيح والدُّعاء في السجود، برقم (817)، ومسلم: كتاب الصلاة، باب ما يُقال في الركوع والسجود، برقم (484).
  5. انظر: "مسائل الإمام أحمد، رواية أبي داود السّجستاني" (ص381)، برقم (1841)، و"الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف" للمرداوي (2/58).

مواد ذات صلة