الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
أما بعد:
هذا لا إشكالَ فيه، فهو واضح، فالقرآن نزل بلغات العرب، ففيه من أنواع المخاطَبات التي جرت على سَنَن العرب في وجوه مُخاطباتها، هذا بالإضافة إلى ما ذكر من الغريب، وما إلى ذلك، فلا بدَّ من معرفة اللُّغة؛ ولذلك نجد بعض العبارات الواردة عن السلف كالحسن البصري -رحمه الله-، حينما يُعلِّقون على بعض الانحرافات في الفهم والتفسير، يقولون: "أهلكتهم العُجْمَة"[1]، بل إنَّ الشاطبي -رحمه الله- حينما تحدّث عن الاجتهاد كاد أن يحصره بأمرين، يعني: في مُتطلباته وأدواته، وشروط الاجتهاد التي يذكرها الأصوليون، شروط كثيرة، الشَّاطبي -رحمه الله- اقتصر أو كاد على شرطين اثنين:
الشرط الأول: هو معرفة مقاصد الشَّريعة.
والأمر الثاني: اللغة، وقال بأنَّه لا يجوز الاستنباط إلا لمن كان عربيًّا، أو مَن هو بمنزلة العربي في الفَهم لكلام العرب[2]، وجعل هذا من الشروط الأساسية، باعتبار أنَّ الأشياء الأخرى التي يذكرونها مثل: علم الحديث، يقولون: يُرجع إلى أهله، وهكذا في بقية الشُّروط.
"وأمَّا النَّحو فلا بدَّ للمُفسّر من معرفته؛ فإنَّ القرآن نزل بلسان العرب، فيحتاج إلى معرفة اللِّسان، والنَّحو ينقسم إلى قسمين:
أحدهما: عوامل الإعراب، وهي أحكام الكلام المركّب.
والآخر: التَّصريف، وهو أحكام الكلمات قبل تركيبها".
هو علم اللُّغة في إطلاقه الواسع يدخل فيه علوم متنوعة، من جُملتها هذه المذكورات، وقد يُطلَق بإطلاقٍ أضيق، وهو ما أراده المؤلف -رحمه الله- حينما ذكره أولًا، ثم جعل النَّحو قسيمًا له، وجعله على قسمين:
الأول: عوامل الإعراب، وهي أحكام الكلام المركّب، فبهذا الاعتبار يُقال: هو العلم بالقواعد التي تُعرف بها أحوال أواخر الكلم إعرابًا أو بناءً، والإعراب: هو تغيير أواخر الكلم باختلاف العوامل الدَّاخلة عليها لفظًا أو تقديرًا.
أمَّا علم التَّصريف، يقول: "فهو أحكام الكلمات قبل تركيبها"، يعني: بصرف النَّظر عن موقع هذه اللَّفظة في الجملة، فتتغير أحكامها بحسب موقعها، أو بحسب العوامل الدَّاخلة عليها، هذا ما يتعلّق بالنحو، الذي هو الإعراب، تتغير رفعًا، أو نصبًا، أو جزمًا.
لكن علم التَّصريف: علمٌ بأحكام الكلمات قبل تركيبها، فهو علمٌ بقواعد تُعرف بها أحوال أبنية الكلمة التي ليست بإعرابٍ، ولا بناء، كيف تُبنى هذه الكلمة؟
يعني مثلًا: حينما نقول: وصَلَ أو وصِل؟ أو حفَظَ أو حفِظ؟ هذا ليس له علاقة بالإعراب، هذا يرجع إلى علم التَّصريف.
بعض الناس يقول: فلان نَحَوي، هذه ليس لها علاقة بالإعراب، وهو غير صحيحٍ، والصواب أن يُقال: نَحْوي، فمثل هذه الأشياء التي تعرف بها أبنية الكلمات، هذا يرجع إلى علم التَّصريف.
وهل يقال: فلان لُغُوي أو لَغَوي؟
هذا أيضًا لا علاقةَ له بالإعراب والنَّحو، فهذا يحتاج فيه إلى التَّصريف؛ ولهذا يُقال له: النَّحو والصَّرف، وسيأتي كلامٌ على هذا -إن شاء الله تعالى- في اختلاف المفسّرين، مثلًا: هناك اختلافات أحيانًا ترجع إلى اللُّغة، وكذلك في طرق التَّرجيح أشياء ترجع إلى اللُّغة، وأحيانًا ترجع إلى الإعراب، وأحيانًا ترجع إلى التَّصريف، وسيأتي في أمثلةٍ -إن شاء الله تعالى-، حتى في بعض كلام أهل البدع: وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى [طه:١٢١]، هل ذلك من قولهم: غَوي أو غوى؟ هذا يرجع إلى الاشتقاق، وكذلك أيضًا التَّصريف في أحوال الكلمة.
يعني: هنا يقول أنَّه سيذكر من الإعراب ما تدعو إليه الحاجة، وهذا هو اللَّائق بالمفسّر، ولكلٍّ وجهة، يعني: بعض المفسّرين غلب عليه جانب الإعراب؛ لأنَّه وضع ذلك هدفًا له، فتجدون في مثل تفسير أبي حيان، مع أنَّه لا يقتصر على الإعراب، لكن تجدون فيه الكثير من هذا، وتجدون أكثر من ذلك في كتاب (الدّر المصون) للحلبي، فهو يذكر الوجوه التي يذكرها أبو حيان وزيادة، ولا يكاد يتكلم على التفسير، لكنَّه يتكلم على قضايا تتصل بالقراءات وتوجيهها، وأيضًا قضايا تتعلّق باللغة والتَّصريف، وما إلى ذلك، لكنَّه لا يُعنى بالتفسير بمعناه ومفهومه المعهود، وهو من أوسع الكتب في هذا.
وبعضهم يقتصر على الـمُشْكِل، مثل: ابن الأنباري، فهؤلاء يُؤلِّفون كتبًا خاصةً في هذا، وهناك مُؤلّفات تُعرب جميع ألفاظ القرآن، وهذه تصلح للتَّعليم، ومن الكتب المعاصرة في هذا كتاب (الجدول في إعراب القرآن) للصَّافي، وكتاب (إعراب القرآن) لمحي الدين درويش، فهذه الكتب تذكر الإعراب، ويذكرون أيضًا الجوانب البلاغية، فهي كتب تعليمية، وإن كانت هذه الكتب مُتفاوتة أيضًا في مستواها، وكتاب درويش سهل ومُبسط، يصلح للتَّعليم والتَّدريب على الإعراب.
وهناك كتب كثيرة للمُتقدمين، مثل: كتاب النّحاس، وأيضًا (معاني القرآن وإعرابه) للزجاج، وللفرّاء، وغير هؤلاء كثير.
وأحيانًا يتوقف المعنى على معرفة الإعراب، يعني: هذه الكلمة أو الجملة ما موقعها من الناحية الإعرابية؟ وهل هذه جملة استئنافية، أو مُرتبطة بما قبلها؟
ولهذا المعنى والإعراب بينهما ارتباط كبير؛ ولهذا يقولون: الإعراب تحت المعنى، لكن هناك أمور تُراعى في موضوع الإعراب، فإنَّ بعض المشتغلين بهذا ربما يجترئ على ردِّ بعض القراءات بحجّة أنها من جهة الإعراب عنده ليست مُتَّجهةً، وهي قراءة مُتواترة، وأحيانًا تُردّ أقوال السَّلف باعتبار أنَّ هذا لا يتأتى من جهة الإعراب، وهذا غير صحيحٍ.
والعجيب أنَّ مثل هؤلاء يحتجّون على أنَّ هذه لغة بقول شاعر مجهول أحيانًا، لا يُعرف مَن هو؟! لكن يقولون: إنه في زمن الاحتجاج، وإذا جاء القولُ عن أئمّة السلف: كابن عباسٍ -رضي الله عنهما-، وهم في زمن الاحتجاج، عرب فُصحاء، يقولون: هذا القول لا يتأتّى من جهة الإعراب مثلًا، أو يخالف القاعدة الفلانية! فأين هذا من قول شاعر مجهول؟! وقد يكون البيت مصنوعًا، ولم يقله شاعر، أو حُرّفت فيه لفظة من أجل أن يصلح شاهدًا لهذه اللغة، أو لهذا الإعراب.
وعلى كل حالٍ سيأتي الكلامُ على هذا -إن شاء الله- في الباب العاشر من هذه المقدّمات، أفرد له بابًا خاصًّا، وبعض المفسّرين يُعنون بهذا، وبالجوانب البلاغية، على تفاوتٍ فيما بينهم.
ومن أشهر الكتب التي تُعنى بهذا الجانب -كما هو معلوم- تفسير الزمخشري، وهناك كتب أخرى لها عناية أيضًا بهذا الجانب، مثل: تفسير البيضاوي، وأبي السعود، والرازي أيضًا يُعنى بهذه الجوانب، وإن كان لا يختصّ بها، وكذلك أيضًا تفسير الألوسي، وإن كان يغلب عليه جانب الصّنعة، يعني: مثل هذا يصلح للمُتخصصين في البلاغة؛ حيث توسّع في الكلام على هذه القضايا، ووجوه الاستعمال البلاغية.
وكذلك أيضًا من الكتب المشهورة التي تُعنى بهذا الجانب عناية فائقة كتاب (التحرير والتنوير) للطاهر بن عاشور، وهو من أنفع هذه الكتب.
أسباب الخلاف: مضى الكلامُ على اختلاف التنوع، وقلنا: هو اختلاف صوري غير حقيقي، إنما هو اختلاف في العبارة، ونحو ذلك، ولكنَّه يرجع إلى شيءٍ واحدٍ، وهو هنا يتحدّث عن أسباب الاختلاف الذي هو اختلاف التَّضاد، وقد سبق أن قلتُ: إنَّ من اختلاف التَّضاد ما يمكن الجمع فيه بين الأقوال، فيؤول إلى اختلاف التنوع، ولعله -إن شاء الله تعالى- تأتي أمثلة تُوضّح ذلك.
هنا ذكر اثني عشر سببًا من أسباب اختلاف التَّضاد، وغيره يذكر أكثر من هذا، فالذين يذكرون أسباب الاختلاف منهم مَن يذكرها سردًا هكذا، كما فعل المؤلف، والشَّاطبي -رحمه الله- في (الموافقات) ذكر أشياء مهمّة في هذا الباب، وبعض المعاصرين في رسائل جامعية، وكتب أيضًا أخرى في أسباب الاختلاف يذكرونها سردًا، ومنهم مَن يُرجع ذلك إلى أسباب كُليّة، تتفرع منها أسباب أخرى، يعني: بعضهم يُرجع أسباب الاختلاف إلى سببين رئيسين، مثل: شيخ الإسلام -رحمه الله- في مُقدّمته في أصول التفسير، جعل ذلك يرجع إلى سببين: ما كان من جهة النَّقل، وما كان من جهة الاستدلال[3]؛ فما كان من جهة النَّقل تدخل فيه أسباب متنوعة، تتفرع منه، ومن جهة الاستدلال كذلك.
وبعضهم يُرجع ذلك إلى ثلاثة أنواع رئيسة، أو ثلاثة أسباب كُلية، مثل: النَّقل، والاستدلال، وأمور جرت بها التوسعة مثلًا، وبعضهم يذكر في الأسباب الكلية أكثر من هذا، ثم يُفرِّع عنها.
يعني: لو أردنا مثلًا أن نستعرض أسبابًا نُرجعها إلى أسباب كلية، نقول مثلًا:
الأول: ما يتعلق باحتمال النص، هذا سبب كُلي، لو أردنا أن ننظر بعد قليلٍ في الأشياء التي ذكرها المؤلف سنجد أنها ترجع إلى هذه الأسباب الكُلية.
(احتمال النَّص) إمَّا أن يكون في نفسه، وهذا تدخل تحته أسباب كثيرة؛ منها ما يتعلّق بالقراءات، وهو ما أشار له المؤلف، وسيأتي إيضاحه -إن شاء الله-.
ومنها ما يرجع إلى الاشتراك، يعني: اللفظة التي وردت في النَّص هي لفظة من قبيل المشترك، لفظ واحد له أكثر من معنى في اللغة، فيكون ذلك سببًا للاختلاف، وسيأتي إيضاح ذلك.
أحيانًا يكون بسبب الإجمال، نفس اللَّفظة مُجملة، أو التركيب فيه إجمال، فلا يتّضح المراد، يعني: في قوله تعالى مثلًا: وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ [الأنعام:١٤١]، ما هذا الحقّ؟ وما مقداره؟ ومن أي الأنواع؟ هل هو الزكاة، أو شيء خارج عن الزكاة؟ يختلفون في هذا؛ لماذا؟ لأنَّ النَّص مُحتمل، ولا أقصد بالنَّص هنا: ما دلَّ على معنًى لا يحتمل غيره، ولكن كما قلنا: أنَّ النص يُطلق بإطلاقات، منها: الدليل، يُقال: النص والقياس، يعني: الدليل النقلي.
وأحيانًا بسبب الإبهام: وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ [الأحقاف:10]، فمَن هذا الشَّاهد؟ هل هو موسى ، أو عبدالله بن سلام ؟ هنا مُبهم.
وأحيانًا بسبب احتمال الكلام للحقيقة والمجاز، عند القائل بالمجاز، وهم الأكثر، يعني: في قوله -تبارك وتعالى- مثلًا: وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ [المسد:٤]، هل المقصود أنها كانت تحمل حطبًا وشوكًا ونحو ذلك، وتُلقيه في طريق النبي ﷺ، أو أنها تمشي بين الناس بالنَّميمة والغيبة؟ والذي يمشي بين الناس بالنَّميمة يشعل النار، وهي العداوة بينهم، فهي بمثابة حمَّالة الحطب التي تُوقد نار الفتنة، وهذا تُعبّر به العرب عمَّن يمشي بين الناس بالنَّميمة، فهذا يحتمل.
وكذلك أيضًا احتمال التَّقديم والتَّأخير، وسيأتي إيضاحه -إن شاء الله-.
وكذا التَّقدير والحذف، هل في الكلام محذوف أو لا؟ وسيأتي إيضاحه.
وكذلك الاحتمال في موضع الوقف والابتداء، أين يبدأ؟
وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ [آل عمران:٧]، يتغير المعنى، فيختلفون بسبب ذلك.
وكذلك الاحتمال في وجوه الإعراب، وسيأتي إيضاحه -إن شاء الله-.
والاحتمال في مرجع الضَّمير: يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ [البقرة:٢٥٥] من علم الله، أو علم مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ؟
يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ [الانشقاق:٦]، الضَّمير يرجع إلى أقرب مذكور، يعني: مُلاقٍ كدحك. ويحتمل أن يكون: مُلاقٍ ربّك، فهذان معنيان بسبب احتمال مرجع الضَّمير.
وهكذا احتمال اللَّفظ لأكثر من معنًى، وإن لم يكن مُشتركًا، يعني مثلًا في قوله: وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا [الفرقان:٣٠]، هل هجروه بالإعراض عنه فصار مهجورًا، أو أنَّهم قالوا فيه هُجْرًا؟ يعني: قالوا فيه كلامًا قبيحًا، أو جعلوه هُجْرًا من الكلام، وهو ما لا نفعَ فيه من العبث والهذيان، ونحو ذلك، فهذا ليس من قبيل المشترك.
أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ [الجاثية:٢٣]، هل المراد على علمٍ من الله، أو على علمٍ من العبد بضلاله؟ إلا إذا توسّعنا في إطلاق المشترك، وقلنا: الاشتراك يكون في الاسم، والفعل، والحرف، والاشتراك الواقع من جهة تركيب الكلام ممكن، فالأمر في هذا يسير، وهذا مقام بيانٍ وتعليم وتفصيل.
وكذلك احتمال الزيادة عند مَن يقول بها، كقوله مثلًا: لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ [البلد:١]، (لا) هذه زائدة في القسم، أو (لا) لها معنى معين، وهكذا.
واحتمال كون الاستثناء متّصلًا، أو مُنقطعًا، كقوله لما ذكر المحرّمات: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ [المائدة:٣] إلى آخره، ثم قال: إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ [المائدة:٣] يعني: هذه التي سقطت من أعلى السَّطح مثلًا، أو في بئرٍ، أو صدمتها سيارة، إذا أدركوها قبل الوفاة، وهي في الرَّمق الأخير، هل تحلّ؟
إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ إذا قلنا: الاستثناء متّصل: ما أدركتم قبل موته فذكيتموه يحلّ، أو الاستثناء مُنقطع: (لكن ما ذكيتم) معناه: أنَّ هذه التي في الرَّمق الأخير ذُبحت، لا تحلّ.
فهذه ثلاثة عشر سببًا كلّها ترجع إلى شيءٍ واحدٍ الذي هو النَّقل، من جهة كون النص مُحتملًا.
يبقى الجانب الثاني: علاقة النَّص بغيره، هذا كلّه يرجع إلى النَّقل، وإلى النَّص، علاقة النَّص بغيره يدخل تحتها أشياء: العموم والخصوص؛ هذا عامّ، وهذا خاصّ، فيُحْمَل هذا على هذا مثلًا، والإطلاق والتَّقييد؛ هذه مُطلقة، وهذه مُقيدة، فهل نربط بين هذه وهذه، فنحمل المطلق على المقيد؟
الإحكام والنَّسخ؛ هذه ناسخة، وهذه منسوخة، والإفراد والتركيب الذي يُسمّى: مُوهِم الاختلاف، الآيات التي مثلًا يستدلّ بها الجبرية، والآيات التي يستدلّ بها القدرية الذين يقولون: الإنسان مُجبر، والذين يقولون: لا قدرَ، هؤلاء يأخذون جزءًا من النصوص، وهؤلاء يأخذون جزءًا منها، وقل مثل ذلك في: المعتزلة، والوعيدية (الخوارج)، فالمعتزلة الذين يقولون: إنَّ فاعل الكبيرة مُخلّدٌ في النار، والخوارج يقولون: كافر، والمعتزلة يقولون: في منزلةٍ بين المنزلتين. هذه التي يُسمّونها: مسائل الأسماء، يعني: ماذا نُسمّيه؟ والأحكام يعني: هل هو مُخلّد في النار، أو غير مُخلّد في النار؟
ومثل هذا الإفراد والتركيب: كيف نتعامل مع هذه النُّصوص، ونجمع ذلك جميعًا، ونخرج بالمعنى الصَّحيح؟
فأحيانًا يكون ذلك من قبيل اختلاف الرِّواية المنقولة عن السَّلف -كما سيأتي إن شاء الله-، أو اختلاف اللُّغويين في معنى الكلمة -وسيأتي إن شاء الله-، فهذه ستة أسباب ترجع إلى علاقة النَّص بغيره، وهذه ممكن أن تُسرد جميعًا -كما فعل المؤلف- سردًا؛ الأول والثاني ... إلى آخره، لكن ممكن أن نُرجِعها إلى هذه الأسباب الكُلية، هذا الأمر الأول الذي هو من جهة النَّص.
والأمر الثاني: الـمُستدِلّ، الذي هو المفسّر مثلًا هنا، أو المجتهد، فهذا أيضًا تتفرع منه أسباب، كأن يكون لم يبلغه التَّفسير، فمثلًا: عدّة الحامل المتوفى عنها زوجها كم هي؟
ذهب عليٌّ وابنُ عباسٍ إلى أنها تعتدّ بأطول الأجلين: أربعة أشهر وعشرة أيام، والحوامل: أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [الطلاق:٤]، طيب، لو ولدت بنفس اليوم الذي مات زوجُها فيه؟ كأن يكون بعد وفاته جاء الخبرُ، فولدت، أو أسقطت حملًا، واستبان أنَّه إنسان، يعني: قد ظهر فيه التَّخليق، فتنقضي عدّتها، فهذا قول الجمهور، لكن عليًّا وابن عباسٍ يقولان: تعتدّ بأطول الأجلين.
ننظر ما هو الأطول؟ إن كانت في الشَّهر الأول، وتبقى لها ثمانية أشهر، نقول: اجلسي هذه المدّة إلى أن تضعي الحمل، وإذا كان الباقي لها شهرًا في الحمل، نقول لها: اجلسي أربعة أشهر وعشرة أيام، فهذا: وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [الطلاق:٤]، مع قوله: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا [البقرة:٢٣٤].
فنجد ابن مسعود وأُبي بن كعب وآخرين يقولون: أنَّ العِدّة تنقضي بوضع الحمل، وهذا يشهد له حديثُ سُبيعة الأسلمية، حينما تُوفي عنها زوجُها سعد بن خولة في حجّة الوداع، وهي حامل، فسألت النبي ﷺ، فأفتاها بأنها قد حلَّت[4]، يعني: حلَّت قبل أطول الأجلين.
فهنا يُقال: لم يبلغهم ذلك، وهذا له أمثلة أخرى، قد يكون بلغه، لكنَّه لم يثبت عنده، أو رأى له مُعارضًا آخر.
وكذلك أيضًا هناك من الأسباب الرئيسة الكُلية ما يرجع إلى الاستدلال، نحن قلنا: النَّص هذا أول شيءٍ، والثاني: المستدلّ، والثالث: الاستدلال، مثل: الأمور المختلف في حُجّيتها، وهو نوعان:
الأول: أمور من المنقول: هل القراءة الأُحادية مثلًا يُعْمَل بها؟ وهل تُفَسَّر بها القراءة المتواترة؟ وهل يُعْمَل بها بالأحكام؟ كقراءة: (صيام ثلاثة أيام مُتتابعات) هل يُعمل بهذا أو لا، إذا صحَّ السند؟
وتفسير الصحابي هل هو حُجّة أو لا؟ وما حال المرويات الإسرائيلية؟ وهل يُفسَّر بها القرآن؟
وهناك أيضًا بعض القواعد الأصولية واللُّغوية، يعني: الآن هذه الأمور الـمُخْتَلَف في حُجّيتها نوعان:
الأول: أمور من المنقول، مثلما ذكرت: القراءة الأحادية، وتفسير الصَّحابي، والإسرائيليات.
وهناك بعض القواعد والقضايا الأصولية واللُّغوية وغيرها، مثل: الحقيقة والمجاز، هل يوجد مجاز أو لا؟ التَّرادف هل هو موجود في القرآن أو لا؟ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا [المائدة:48]، ما الفرق؟ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ [التوبة:78]، لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ [المدثر:28]، ما الفرق؟ هل هذا مُترادف؟ أو يُقال: لا يوجد ترادف في القرآن؟
بعض العُلماء يقول: لا يوجد ترادف أصلًا، فيُحاول أن يُوجد فروقات، وأحيانًا يكون بلونٍ من التَّكلف؛ لأنَّه يعتقد أنَّه لا يوجد ترادف، وهذا مذهبٌ لبعض أهل اللُّغة. وبعضهم يقول: يوجد في اللغة، ولا يوجد في القرآن. وبعضهم يقول: لا يوجد حتى في اللغة. وشيخ الإسلام يقول: هو في اللغة قليل أو نادر في القرآن.
فهنا أيضًا شرع مَن قبلنا: وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا [يوسف:١٠٠] مثلًا، سجود تكريم.
ودلالة الاقتران هل هي حُجّة أو لا؟
وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً [النحل:٨]، ما حكم أكل لحوم الخيل؟ ذُكِرَتْ مع البغال والحمير في سياقٍ واحدٍ، هل دلالة الاقتران حُجّة أو لا؟ وهي أنواع.
ومرجع الاستثناء: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا [النور:٤]، حكم عليهم بالفسق، ثم قال: إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا [النور:٥]، فهل هذا الاستثناء يرجع إلى الأخير، أو يرجع إلى الجميع؟
وهو الاستثناء الذي تَعَقّب جُمَلًا، هذا فيه خلافٌ بين الجمهور والأحناف، فالأحناف يقولون: يرجع إلى الأخير فقط، والجمهور يقولون: يرجع إلى الجميع إلا لدليلٍ.
وهكذا كثيرٌ من قواعد العلوم الحديثية ذات العلاقة: كقبول الرِّوايات وردّها، والمرسل: هل هو حُجّة أو لا؟ وما الذي يُحتجّ به من المراسيل؟ وهكذا، وقد ذكر هنا اثني عشر سببًا.
"فأمَّا أسباب الخلاف فهي اثنا عشر:
الأول: اختلاف القرآن.
الثاني: اختلاف وجوه الإعراب، وإن اتَّفقت القراءات".
تستطيعون أن تُرجعوا هذه الأسباب إلى أسباب كُلية -كما أشرتُ-، فاختلاف القراءات منه ما لا يُغيّر المعنى، وهذه يُعرض عنها كثيرٌ من المفسّرين، يقول: أنا لا أذكر من القراءات إلا ما يُؤثر في المعنى، وما لا يُؤثر في المعنى، مثل: القضايا المتعلقة بالأداء، كمثل قوله: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:٦]، الصاد أو السين[5]، أو غير ذلك مما جاء في وجوه القراءة بهذا الموضع: (علِيهِم)، (عليهُم)، وكذلك في مثل: (القُدُس)، وبالإسكان أيضًا: (القدْس)، هذا ما يُؤثر في المعنى، وإنما هو مجرد اختلاف في اللَّفظ.
وأحيانًا يكون الاختلافُ في اللفظ والمعنى، لكنَّهما يجتمعان في شيءٍ واحدٍ، كقوله: ملك يوم الدين ومالك يوم الدين، اللفظ مُختلف، والمعنى مُختلف، لكن ذلك جميعًا يرجع إلى الله -تبارك وتعالى-، فهذا كلّه من أسمائه.
وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا [البقرة:259]، وورد (ننشرها)[6]، فكلّ ذلك يرجع إلى العظام، فبالراء (ننشرها): نُحييها، من النُّشور، وبالزاي: نرفع بعضَها على بعضٍ حتى تلتئم، فهذا المعنى يختلف.
وأحيانًا يختلف اللَّفظ والمعنى، ولا تجتمع القراءتان في شيءٍ واحدٍ، كقوله: حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا [يوسف:١١٠]، والقراءة الأخرى: (أَنَّهُمْ قَدْ كُذِّبُوا)، فهنا لا يرجع إلى شيءٍ واحدٍ، فـ(قَدْ كُذِبُوا) هذه القراءة معناها مُشْكِل، وكلام أهل العلم في هذا كثير، وهذه القراءة أنكرتها عائشة -رضي الله عنها-، قالت: "معاذ الله أن يتطرق ذلك إلى الرسل"[7]، (كُذِبُوا) أي: تخلّف الوعدُ بالنصر، كيف الرّسل تظنّ هذا بربها؟!
فهذا موضع الإشكال، ولكن إذا فُهم المراد انتفى الإشكال، فأقرب ما يمكن أن يُفَسّر به هذه القراءة، ويرتفع به الإشكال: أنَّ ذلك من قبيل الواردات والخواطر في أوقات الشّدة، التي ترد على القلب، وما يلبث المؤمنُ أن يدفعها، فلا تضرّه، فهي عارض، فيدفعه، فهذا في أوقات الشّدة العصيبة يعرض للقلب، لكن يدفعه المؤمن.
وعلى القراءة الثانية: (أَنَّهُمْ قَدْ كُذِّبُوا) هذه واضحة، يعني: أنَّ قومهم قد كذَّبوهم، سواء قلنا: الأتباع، أو الأعداء والخصوم الذين وُعِدُوا بالعذاب، يقولون: أين العذاب؟ وأين النَّصر الذي تقولون: إنَّكم ستُنصرون؟ فكذَّبهم قومُهم بسبب تأخّر النصر.
فهاتان القراءتان لا ترجعان إلى شيءٍ واحدٍ، فهذه ترجع إلى الأتباع، أو إلى قومهم، والأولى إلى الرسل، وهذه معنى آخر تمامًا.
فمن ذلك أيضًا القراءات الشَّاذة: فـ(صيام ثلاثة أيام مُتتابعات)، فهذه هل يُقال: أنها تُفسّر القراءة المتواترة؟ ونقول: لا بدَّ من هذا القيد، والمطلق محمولٌ على المقيد، وفي هذه الصُّورة تكون أعلى الصور الأربع في أحوال المطلق مع المقيد، التي هي: ما اتَّحد فيه الحكم والسَّبب، لكن هذا مبناه: هل نعمل بالقراءة الأحادية؟ كما قلت لكم في إرجاع الأسباب إلى أسباب كُلية، يرجع هذا إلى هذا السَّبب، هل هناك أشياء؟ هل يُعمل بها، أو لا يعمل بها أصلًا؟ كالقراءة الأُحادية هذه.
ونحن نقول: القراءة الأُحادية يُستفاد منها ثلاث فوائد على الراجح: أنَّه يُفَسَّر بها القراءة المتواترة -طبعًا إذا صحَّ السَّند-، ويُعمل بها في الأحكام، ويُحتجّ بها في اللغة.
يعني: نحن نقول: أقلّ أحوال هذه القراءة الأحادية أنها بمنزلة الحديث النبوي، فهي لم تنطبق عليها كل شروط القراءة.
فمثل هذا الآن كلّه يرجع إلى القراءات، لكن لو تأمّلنا الآن في كون القراءات من أسباب اختلاف المفسّرين، هل هذا بإطلاقٍ؟
يعني مثلًا: هذه القراءات التي لا يختلف معها المعنى، هل هذا يكون سببًا للاختلاف؟
الجواب: لا، ويُستبعد هذا النوع، وما كان يرجع إلى شيءٍ واحدٍ مثلًا، فهذا قد يكون سببًا في بعض صوره.
وكذلك ما يرجع إلى شيئين -كما مثّلت آنفًا-.
فهذه القراءات المتنوعة منها ما يكون من قبيل الاختلاف في اللَّفظ فقط من غير تعلّق بالمعنى، وأحيانًا تكون كل قراءةٍ لها معنًى واضح، فلا يكون ذلك سببًا لاختلاف المفسّرين، يعني: عندنا القاعدة: أنَّ تنوع القراءات بمنزلة تعدد الآيات.
قاعدة: إذا كان للآيات قراءتان فأكثر، كل قراءةٍ لها معنًى، فذلك بمنزلة تعدد الآيات، كأنَّ كلّ قراءةٍ آية مُستقلّة، فمثل هذا تُفسَّر هذه بمعنى، وهذه بمعنى، ولا يكون ذلك سببًا للاختلاف، لكن أحيانًا يختلفون بسبب القراءات، يعني: نحن لا ننفي هذا بإطلاقٍ، لكن نقول: إنَّ الكثير من الصور الدَّاخلة تحت اختلاف القراءات لا يكون سببًا لاختلاف المفسّرين: إمَّا لأنَّه اختلاف بمجرد اللَّفظ، وإمَّا أنَّه لكل قراءة معنًى يخصّها، فيُفسّرونها على هذا بمعنى، وعلى هذا بمعنى، وإن اختلفوا في القراءة المعينة ما معناها؟ لكن لا يكون منشأ ذلك هو القراءات.
لكن نحن أحيانًا نجد بعض الأقوال التي تُذكر على أنها من قبيل الاختلاف يمكن في بعض المواضع أن نقول: إنَّ هذا القول مُخرَّج في الواقع على قراءةٍ، وهذا القول مُخرَّج على قراءةٍ، ويُذكر على أنَّه اختلاف، يقول: قال فلان كذا، وقال فلان كذا، هذا موجود، ولعله يأتي -إن شاء الله تعالى- في ثنايا التفسير، كما كنا نذكر في التَّعليق على "المصباح المنير": أنَّ هذا القول يُخرَّج على قراءةٍ، والقول الآخر مُخرَّج على قراءةٍ أخرى.
اختلف معاوية وابن عباسٍ -رضي الله عنهما- في قوله -تبارك وتعالى-: وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ [الكهف:٨٦]، ما المراد به؟
اختلفوا على قولين: فبين قائل يقول: (عَيْنٍ حَمِئَةٍ) يعني: حارّة، وبين قائلٍ يقول: يعني: مُنتنة ومُتغيرة. فسألوا كعب الأحبار، فقال: نجدها في التوراة: (تغرب في ماءٍ وطينٍ)[8]، يعني: الطين المتغير من طول مُكث الماء فيه، يُسمّونه عندنا في العامّة: غَرَب، مُتغير، يميل إلى السَّواد، أحيانًا يكون أخضر من طول مُكث الماء فيه، فتتغير رائحته ويسودّ.
فهذا الاختلاف المنقول في (عَيْنٍ حَمِئَةٍ) كونها في ثأطٍ وطينٍ، أو حارّة، الواقع أنَّ حارّة ترجع إلى قراءة: (حامية)، وهي قراءة مُتواترة، وأنها في ثأطٍ وطينٍ، (حَمِئَةٍ) يعني: مُنتنة، مُتغيرة.
فنحن نستطيع أن نُخرِّج هذه الأقوال على القراءات، وهذا الملحظ أظنّه دقيقًا، فانتبهوا قليلًا: حينما نتعامل مع أقوال المفسّرين سنجد أنَّ البعض ذكر أقوالًا للمُفسّرين يمكن أن تخرج على أنها باعتبار القراءات؛ هذا المعنى على قراءةٍ، وهذا المعنى على قراءةٍ.
هذا الأمر يمكن أن يظهر جليًّا فيما صنعه الذين طبعوا هذا الكتاب -على سبيل المثال-، وهو على قراءة نافع من رواية قالون، والطَّبعات السَّابقة طبعوها على قراءة حفص، فلمَّا تنظر في المعنى الذي يُذكر أحيانًا تستشكل هذا، وهو على قراءة نافع، فتنزيله على قراءة حفص سيُوجد إشكالات في تركيب المعنى على القراءة، فهذا مثال بسيط.
فهكذا حينما يتوارث الناسُ الأقوال ويتناقلونها، وتُدوّن في كتب التَّفسير، قد يُتناسى أنَّ ذلك كان واقعًا على قراءةٍ، وهذا كان واقعًا على قراءةٍ أخرى، وإلا فالأصل أنَّ تنوع القراءات بمنزلة تعدد الآيات، إذًا هو لا يُورث اختلافًا، لكنه وقع الاختلاف، كيف وقع الاختلاف؟ بهذه الطَّريقة التي ذكرتُ.
وهذا هو الملحظ الذي يمكن أن يكون هو المفصل في هذه الجزئية في هذه القضية، يعني: حينما نعرف أحيانًا المأخذ نتخلص من بعض العبارات المجملة التي نقولها أحيانًا، يعني: بعضنا يقول مثلًا: إنَّ اختلاف القراءات لا علاقةَ له باختلاف المفسّرين. وهو ليس بهذه الصُّورة، وليس بهذا الإطلاق، إنما المسألة فيها تفصيل من هذه الحيثية التي ذكرتها آنفًا.
الثاني: يقول: "اختلاف وجوه الإعراب"، إذا أردتم أن تنظروا قبل أن ننتقل إلى وجوه الإعراب، وهو يتعلق أيضًا بوجوه الإعراب مع القراءات، مثال طويل: ما أصعب آيةٍ من جهة المعنى ومن جهة الإعراب؟
هي آية الوصية في السَّفر في سورة المائدة، فهنا لو رجعتم إلى مثل: "تفسير ابن جرير" عند تفسير هذه الآية، رقم (١٠٧) من سورة المائدة، ذكر القراءات فيها، وذكر الخلافَ والإعراب؛ لأنَّها أصعب آيةٍ إعرابًا ومعنًى، راجعوا كلام ابن جرير، فقد ذكر القراءات؛ قراءة أهل الحجاز، والعراق، والشَّام، قال: "واختلفت القراءة في قراءة قوله: مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ [المائدة:107]، فقرأ ذلك قرَّاء الحجاز والعراق والشام: (من الذين استُحقّ عليهم) بضم التاء.
ورُوي عن عليٍّ، وأبيّ بن كعب، والحسن البصري: أنهم قرؤوا ذلك: مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ بفتح التاء[9].
وكذلك في قوله: الْأَوْلَيَانِ هي قراءة عامَّة قُرَّاء أهل المدينة والشَّام والبصرة، وعامَّة قراءة أهل الكوفة: (الأوَّلَيْن)[10]، وجاءت قراءة شاذّة عن الحسن: (الأولان)[11]، وعلى كل قراءةٍ كلامٌ طويلٌ، لا أرى أن أذكره هنا؛ لأنَّ هذا سيأخذ منا وقتًا، ويحتاج إلى تأمّلٍ، ونتجاوز ذلك، وراجعوه في موضعه، فقد أطال الكلام على هذه القضية.
واختلاف وجوه الإعراب وإن اتَّفقت القراءة، أحيانًا تكون القراءةُ واحدةً، وأحيانًا تختلف القراءة، وتختلف وجوه الإعراب، فمع اختلاف القراءة مثلًا في قوله -تبارك وتعالى-: فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ [المائدة:٦]، في القراءة الأخرى: (وأرجلَكم)، والقراءتان مُتواترتان، إذا أردتَ أن تنظر إلى الاختلاف مع اختلاف القراءات، هذه تحتاج إلى إعرابٍ، وهذه تحتاج إلى إعرابٍ، ويختلف وجه الإعراب، لكن افترض لو نظرنا إلى قراءةٍ واحدةٍ، يعني: الآن قراءة الجرّ: وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ، اغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ مفعول به منصوب، وَأَيْدِيَكُمْ معطوف عليه، تغسل إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ، فهو ممسوح وَأَرْجُلِكُمْ، فهنا هل يُقال: إنَّ الرِّجل ممسوحة بناءً على هذه القراءة، وهي قراءة الجرِّ؟
بعضهم يقول: إنَّ الجرَّ هنا لمجرد المجاورة، جاورت المجرور: وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ، فجاءت مجرورةً، وإلا فهي في محلِّ نصبٍ.
وبعضهم يقول: إنها جاءت مجرورةً عطفًا على (رؤوسِكم).
ولاحظ: هنا ملحظ دقيق؛ كثيرٌ من المفسّرين نقلوا عن ابن جرير، وكذلك الفقهاء قالوا: إنَّه يرى المسح على القدمين في الوضوء. وهو لا يرى هذا، هو عكس هذا تمامًا، لو تأمّلت كلام ابن جرير، خلاف ما اشتُهِرَ عنه، وهو عكس هذا تمامًا، فالمسح يقتضي الإلصاق مثلًا، فيرى أنَّ القدم لما كانت بحاجةٍ إلى مزيدٍ من الغَسْل، فتحتاج إلى إمرار اليد عليها، والدَّلك أو الفرك؛ لكثرة ما يعلق بها من الأطيان، وربما يكون فيها من الشقوق ونحو ذلك مما لا يبلغه الماء، فتحتاج إلى إمرار اليد، فيرى أنَّ الرِّجْل آكد في الغسل من بقية الأعضاء، فتحتاج إلى إمرار اليد عليها.
فهذه القراءة تختلف فيها وجوه الإعراب، بصرف النَّظر عن تعدد القراءات، قراءة وَأَرْجُلِكُمْ وحدها هذه يختلف المعنى أيضًا، إلى غير ذلك مما قيل في وجه الإعراب فيها، كقوله: إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ [طه:٦٣]، المتبادِر أن يُقال: (إن هذين)، لكنَّه قال: هَذَانِ، فجاءت مرفوعةً، ولم تأتِ منصوبةً.
فبعض العلماء ألَّف فيها رسالةً كاملةً، بل رسائل، رأيتُ عددًا من المخطوطات في الجواب عنها، ويُجيبون عنها في كتب التفسير، فما وجه الإعراب؟
ومن أقرب ما يُجاب به: أنَّ هذا على لغة مَن يُلزم المثنى الألف:
إنَّ أباها وأبا أباها | قد بلغا في المجد غايتاها[12] |
"فغايتاها" جاء بالرفع، مع أنَّه في محل نصبٍ، فهذه لغة.
هذا ما يتعلّق بوجوه الإعراب.
يعني: أهل اللغة أنفسهم يختلفون في معنى الكلمة، وهذا كما ذكرتُ لكم في الأسباب الكُلية وما يتفرع عنها من الأسباب الجزئية، مثلًا: بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ [القيامة:٤]، ما المراد بالبنان؟ وفي قوله -تبارك وتعالى-: وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ [الأنفال:١٢]، ما البنان؟
بعضهم يقول: المفاصل، وبعضهم يقول: الأصابع، فإذا قُطِعت أصابع المقاتل لا يستطيع أن يقبض السلاح، تشلّ حركته، وبعضهم يقول: اضربوا منهم كلّ مفصلٍ.
وكذلك أيضًا في قوله -تبارك وتعالى- مثلًا: يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ [المعارج:٨]، ما المقصود بالمهل؟ هل هو الزيت المغلي؟ دُرديّ الزيت مثلًا، الذي هو حُثالة الزيت، الثَّقيل الذي في أسفله، أو غير ذلك؟
وكذا قوله: مِّن قَطِرَانٍ [إبراهيم:٥٠]، ما المقصود به؟ فأهل اللغة يختلفون في هذا.
وكقوله: ادْخُلِي الصَّرْحَ [النمل:٤٤]، ما الصَّرح؟ هل هو القصر؟ فبعضهم يقول: لا، هو صحن الدَّار.
وكقوله: يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ [الواقعة:١٧]، (مخلَّدون) بعضهم يقول: على سنٍّ مُتساوية، وبعضهم يقول: لا يهرمون، وبعضهم يقول: في آذانهم الأقراط، وبعضهم يقول: لا يموتون، من الخلود، وهو البقاء الأبدي السَّرمدي، وبعضهم يقول: لا يهرمون.
وقل مثل ذلك في أمثلةٍ كثيرةٍ، فأحيانًا أهل اللغة يختلفون في تفسير الكلمة، يعني: ليست من قبيل المشترك أحيانًا، هم مُختلفون في المعنى، معنى هذه اللَّفظة في اللغة، فيختلف المفسّرون تبعًا لذلك، حتى الفقهاء، وفي السُّنة النبوية مثلًا لو مثّلنا بالنَّمص، ما المراد به؟
فقد جاء عن عبدالله بن مسعود قال: "لعن اللهُ الواشمات والمستوشمات، والنَّامصات والمتنمّصات، والمتفلجات للحُسن، المغيرات خلق الله"[13].
فالفقهاء يختلفون، فبعضهم يقول: إزالة شعر الحاجب، وبعضهم يقول: إزالة شعر الوجه مطلقًا، فما بين الحاجبين يدخل فيه، وإزالة شعر الخدِّ ... إلى آخره، باعتبار أنَّ أهل اللغة اختلفوا؛ فأهل اللُّغة بعضهم يقول: النَّمص هو إزالة شعر الوجه، وبعضهم يقول: النَّمص هو إزالة شعر الحاجب، أو حفّ الحواجب، أو نحو ذلك.
إذًا هذا اختلافٌ من قِبَل أهل اللغة، فاختلف الفقهاء بسبب هذا، والآن كثيرٌ من النساء تسأل عن إزالة شعر الوجه، أو ما بين الحاجبين ما حكمه؟ اختلاف الفقهاء يرجع إلى اختلاف أهل اللغة، وهكذا في القرآن.
الاشتراك -كما أشرتُ قبل- هو لفظٌ واحدٌ له معانٍ مُتعددة، يعني: له معنيان فأكثر في وضع اللُّغة.
وهذا الاشتراك أنواع؛ منه ما يكون في موضوع اللَّفظة المفردة، سواء كانت اسمًا أم حرفًا، وهذا نوعان من حيث ما يدلّ عليه، أو ما يجمعه من المعاني: تارةً تكون هذه المعاني مُتضادة، وتارةً تكون مختلفةً غير مُتضادة، وإن شئتَ أن تقول ثلاثة معانٍ:
الأول: أن يجمع معانٍ مُتناقضة.
الثاني: أن يجمع معانٍ مُتضادة.
الثالث: أن يجمع معانٍ مختلفة، غير مُتضادة.
فالمشترك أحيانًا تكون معانٍ مُتناقضة، والنَّقيضان يقولون: لا يجتمعان، ولا يرتفعان في ذاتٍ واحدةٍ، في وقتٍ واحدٍ، مثل: الحياة والموت، يعني: لا يمكن أن ننفي الحياة والموت –الأمرين-، فنقول: لا حيّ ولا ميت، ولا نُثبت الأمرين في ذاتٍ واحدةٍ، وفي وقتٍ واحدٍ، ونقول: حيّ، ميّت.
ومثل: الليل والنَّهار، لا ليل، ولا نهار، ليل، نهار، ما يمكن! هذا النَّقيضان.
والضّدان لا يجتمعان في ذاتٍ واحدةٍ، لكن يمكن ارتفاعهما، مثل: السواد والبياض، لا نقول: أسود، أبيض، لكن يمكن أن نقول: لا أسود، ولا أبيض، يمكن نفيهما ورفعهما، فنقول: أصفر، فهذان الضّدان.
هذه يُسمّونها النِّسَب الأربع: النَّقيضان: تناقض. والضّدان: لا يجتمعان، ويمكن ارتفاعهما. والخلافان: مثلما تقول: قلم، ساعة، إنسان، فرس. فهذه ليست مُتناقضة، وليست مُتضادة، لكنَّها مختلفة. والمثلان: نسبة التَّماثل، هذه لا علاقةَ لها بموضوعنا في أسباب الاختلاف، فتبقى النِّسب الثلاث، فالمشترك أحيانًا يحمل معانٍ مُتناقضة، وأحيانًا يحمل معانٍ مُتضادة، وأحيانًا يحمل معانٍ مختلفة.
التناقض: معانٍ متناقضة، أو متضادة، أو مختلفة، كل واحدٍ من هذين له فرعان، يعني: أحيانًا يمكن جمع الأقوال، فهذا يؤول إلى اختلاف التنوع الذي أشرنا إليه من قبل باختلاف التَّضاد، منه ما يمكن جمع الأقوال فيه، فيؤول إلى اختلاف التنوع، نقول: كلّ هذه المعاني صحيحة، وداخلة تحت الآية.
وأحيانًا لا يمكن الجمع بين هذه الأقوال، فلا بدَّ من الترجيح، هذا في النَّقيضين، وفي الضّدين، وفي المختلفين، في هذه الأنواع الثلاثة، كل واحدٍ يتفرع منه اثنان.
ولو أردنا أن نُمثِّل -وأعطوني من أي الأنواع هذه الأمثلة؟-: وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ [التكوير:١٧]، (عَسْعَسَ) بمعنى: أقبل وأدبر، فمن أي الأنواع هي؟ تدلّ على معنيين، هل هما نقيضان، أو ضدّان، أو خلافان؟
الذي يقول: نقيضان، معناها: لا يجتمعان، ولا يرتفعان، يمكن أن نقول: لا أقبل، ولا أدبر، لكنه جلس؛ إذًا ليسا بنقيضين، هما ضدّان على هذا الاعتبار، إذا نظرنا إليه بهذا الاعتبار هما ضدّان.
وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (الليل) أقسم اللهُ به حال إقباله، أو حال إدباره؟
بعض المفسّرين يقولون: وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ أي: أقبل. وهذا الذي رجّحه بعضٌ من أهل العلم، ومنهم الحافظ ابن القيم[14]، باعتبار أنَّ الآيات تتحدّث عن إقبال الليل: وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى [الليل:١]، وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى [الضحى:٢]، عمَّ بظلامه.
وبعضهم يقول: أدبر، ويحتجّ بقوله: وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ [المدثر:33].
وبعض أهل العلم يقول: يمكن الجمع بين المعنيين؛ فنقول: أقسم الله بالليل في حالتيه؛ في حال إقباله، وفي حال إدباره، فذلك كلّه يدل على عظمة الله وقُدرته في تصريف هذا الكون وأحواله، فهما مظهران تتجلى فيهما عظمة الله : وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى يغشى بظلامه.
فهنا على هذا الاعتبار يكون من قبيل المشترك الذي يحمل معنيين مُتضادين، يمكن الجمعُ بينهما على هذا الأساس، لكن وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة:٢٢٨]، (القُرء) يأتي بمعنى: الحيض، ويأتي بمعنى: الطُّهر، ما النِّسبة بينهما: التناقض، أو التضاد، أو الاختلاف؟
إذا قلتَ: التَّناقض، معناها: أنَّ المرأة لا بدَّ أن تكون حائضًا، أو طاهرًا، طيب، والنُّفَساء؟
إذا ألحقت النِّفاس بالحيض قلتَ: هذا من قبيل التَّناقض، أو النَّقيضان، فالنُّفساء هي مُلحقة بالحائض: يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ، فهي إمَّا ذات أقراء، وإمَّا آيسة، أو صغيرة.
فذات الأقراء التي تحيض، فهي ثلاث حيضات، أو ثلاثة أطهار، على خلافٍ في تفسير القُرء، فهو يُطلق على الحيض، ويُطلق على الطُّهر، والخلاف مشهورٌ في العدّة؛ بناءً على أنَّ اللفظ مُشترك.
هنا هل يمكن الجمع بين القولين، فنقول: تتربص ثلاثة أطهار وثلاث حيض في نفس الوقت؟! يمكن هذا؟
ما يمكن، لا بدَّ من الترجيح، هذان لا يجتمعان، لا يمكن الجمعُ بينهما، فلا بدَّ أن نُرجّح، ما سبب الاختلاف بين المفسّرين؟
أنَّ اللفظ مُشترك، يحمل معنيين مُتضادين.
وفي قوله -تبارك وتعالى-: فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ [المدثر:٥١]، (قسورة) قالوا: يُطلق على الصياد –الرامي-، وعلى النَّبل، ويُطلق على أصوات الناس، ويُطلق على الأسد.
فهذه معانٍ مُتعددة، فهذا مُشترك، يحمل معانٍ مُتناقضة، أو متضادة، أو مختلفة؟
مختلفة، ليست مُتناقضة، ولا مُتضادة: الأسد، والرامي، وأصوات الناس، هي وحشية تفرّ من هذا كلِّه.
هل يمكن الجمع بين هذه الأقوال، أو لا يمكن؟
يمكن، فنقول: فرَّت مما تفرّ منه عادةً؛ لأنها وحشية، تفرّ من أصوات الناس، ومن الأسد، ومن الرامي، ومن النَّبل ... إلى آخره، فهي شديدة الفرار والنُّفور من هذه جميعًا.
فهذا يمكن الجمع فيه بين الأقوال، فيؤول إلى اختلاف التنوع -كما ذكرتُ لكم-.
وهكذا في أمثلةٍ كثيرةٍ، لكن انظروا إلى هذا التَّقسيم الذي عندكم.
الاشتراك أيضًا كما أنَّه يكون في موضوع اللَّفظة المفردة في الحرف، أو في الاسم، أو في الفعل، يعني: في قوله -تبارك وتعالى- مثلًا فيما يتعلق بالمعاني: لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً [التوبة:١٠]، الإلّ ما هو؟
قيل: الرب (الله)، وقيل: القرابة، وقيل: العهد، يمكن الجمعُ بين هذه الأقوال أو لا؟
يمكن، فنقول: لا يرقبون فيهم الله، ولا قرابة، ولا ذمّةً وعهدًا، فلا إشكالَ.
وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى [البقرة:١٣٥]، الآن الاشتراك في ماذا؟
في الحرف (أو)، هل هذا للتَّخيير، يقولون لهم: كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى، أو أنَّه للتَّقسيم، يعني: اليهود قالوا: كونوا هودًا، والنَّصارى قالوا: كونوا نصارى؟
وهكذا الاشتراك العارض من قِبل اختلاف أحوال الكلمة، دون موضوع اللَّفظ، يعني: ما كان من جهة التَّصريف، مثلًا: وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ [البقرة:٢٨٢]، هل المعنى (وَلَا يُضَارَّ) يعني: لا يُوقَع عليه الضَّرر، يُضارّ هو، لا يقع عليه الضَّرر بسبب الكتابة أو الشَّهادة إذا احتيج إليه، أو يُضارّ هو: يستغل حاجة هؤلاء إلى الشَّهادة؛ لئلا يضيع الحقّ، أو الكتابة، فيطلب منهم أشياء باهظة من أجل أن يشهد مثلًا، يُضارّ بهذه الشَّهادة، ويبتزّ هؤلاء بسبب هذه الشَّهادة؟
لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا [البقرة:٢٣٣]، هل معناها: أنها هي التي تُلحق الضَّرر، أو يُوقَع الضَّرر عليها بسبب هذا الولد والرَّضاع؟ هذان معنيان من جهة تصريف الكلام.
وهكذا أحيانًا يكون الاشتراكُ من قِبل تركيب الكلام، سواء كان يدلّ على معانٍ مُتضادة، أو غير مُتضادة، كقوله: وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَن تَنْكِحُوهُنَّ [النساء:١٢٧]، فالتركيب: وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ يحتمل معنيين: ترغبون عن نكاحهنَّ؛ لقلّة مالهنَّ وجمالهنَّ، أو المقصود: ترغبون في نكاحهنَّ لجمالهنَّ، أو لمالهنَّ، فما المراد؟
ويمكن الجمع بين هذين المعنيين، فنقول: في كلِّ الحالات لا يظلمها، سواء كان يرغب فيها لمالها، أو جمالها، فيُعطيها مهر مثيلاتها، أو كان لا يرغب فيها.
وهكذا أيضًا في قوله -تبارك وتعالى- مثلًا: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:١٨٣]، كَمَا كُتِبَ هل المقصود تشبيه أصل الفرضية، أو المقصود تشبيه صفة الصوم، ومدّة الصوم: أنَّه شهر، وأنَّه في رمضان، وأنَّه من طلوع الفجر إلى غروب الشمس مثلًا، أو كان أكثر، حتى في الليل لا يجوز له الوطء كما كان في أول الصوم؟
تجدون خلافًا كثيرًا في قوله -تبارك وتعالى- مثلًا: الزَّانِي لَا يَنكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً [النور:٣]؛ لأنَّ هذا موضع إشكالٍ: هل الزاني يجوز أن يتزوج مُشركةً؟ وهل الزانية يجوز أن يتزوجها المشرك؟
فهذا فيه خلافٌ بسبب لفظ النِّكاح: (لَا يَنكِحُ) هو لفظٌ مُشتركٌ، فيُطلق على ثلاثة إطلاقات: الإطلاق الكامل؛ أن يُطلق على العقد والوطء معًا، وهذا جاء في القرآن في موضعٍ واحدٍ، ما هو؟
حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ [البقرة:٢٣٠]، هنا لا بدَّ فيه من العقد الصَّحيح والوطء.
وجاء مقصودًا به العقد فقط: إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ [الأحزاب:٤٩]، هذا العقد فقط، والآية واضحة في هذا.
ويأتي بمعنى: الوطء فقط، هذا الذي تحتمله آيةُ النور، وهو أحد المعاني فيها، وأحد الأقوال المشهورة، هذه الأقوال ترجع إلى قولين، هذا أحد هذين القولين، وإلا فالأقوال كثيرة.
فهنا في قوله: الزَّانِي لَا يَنكِحُ إِلَّا زَانِيَةً هل المقصود به الوطء؟ أنَّه لا يقع إلا على واحدةٍ من اثنتين: إمَّا أنها تُقِرّ بالحكم الشَّرعي، تعرف أنَّ الزنا حرام، لكن تتساهل وتُفرّط، ولا تلتزم عمليًّا فتزني؛ فهو لا يُوافقه إلا مَن كانت على شاكلته: امرأة زانية. أو مُشركة تقول: هذه حرية شخصية، وتُنكر الحكم الشَّرعي، فهذه مُشركة، يعني: إمَّا مُستحلّة للزنا، وإمَّا غير مُتقيدة من الناحية العملية بالحكم، وإن كانت تُقرّ به وتعتقده، فهي إمَّا زانية، أو مُشركة. فهذا قالت به طائفةٌ من أهل العلم.
والقول الآخر: أنَّه لَا يَنكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً، كما قال ابنُ القيم[15]، وهو أقرب هذه المعاني، فالنِّكاح هنا معناه: العقد، وأنَّ الله أمر بالعفاف، ونكاح العفائف، فمَن أقرَّ بذلك واعتقده، ولم يلتزم به من الناحية العملية فهو زانٍ، يعني: حينما يتزوج غير عفيفةٍ، باعتبار أنَّ هذا شرطٌ في الكفاءة، وإمَّا أن يُنكر هذا أصلًا فيكون مُشركًا لا ينكح. فهنا نحتاج إلى ترجيحٍ، فهذا من قبيل المشترك.
في قوله -تبارك وتعالى-: وَلَا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ [البقرة:221]، هذا عامّ (المشركات)، ولما ذكر الكتابيات في سورة المائدة: وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ [المائدة:٥]، والكتابية مُشركة.
فهنا الجمهور يقولون: وَلَا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ هذا عامّ مُخصص بالكتابيات، فيجوز نكاح الكتابية، مُستثناة. وبعضهم يقول غير هذا.
وهكذا في قوله -تبارك وتعالى-: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ [النور:٢]، هذا مُخصص بالنص في قوله في الأمة: فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ [النساء:٢٥]، هذا في الأمة بالنص، وبالقياس: في المملوك الرَّقيق الذكر إذا زنا، فإنَّه مُلحق بالأمة بنفي الفارق، فيُجلد النصف.
ومَن يقول: بأنَّ المحصن لا يُجلد، وإنما يُرجم فقط -على قول الجمهور-؛ يكون مُخصصًا بقوله -تبارك وتعالى- في الآية التي نُسِخَ لفظها: "والشّيخ والشّيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة"، وما جاء في السُّنة أيضًا، باعتبار أنَّه لا يُجلد على قول الجمهور.
والقول الآخر: كقول عليٍّ ومَن وافقه؛ بأنَّه يُجمع له بين الجلد والرَّجم، وأيضًا السُّنة دلَّت على هذا، فهذا يرجع إلى العموم والخصوص، وهكذا في أمثلةٍ متعددةٍ.
الإطلاق أو التَّقييد مثلما قيل في العامِّ والخاص، تجدون في كتب أصول الفقه: العام والخاص في المطوّلات، يصل إلى مئتي صفحة أو أكثر، والمطلق والمقيد في صفحتين أو ثلاث، والسَّبب أنَّ مباحث المطلق والمقيد هي ما يُذكر في العام والخاص.
فالإطلاق والتَّقييد مثلًا حينما يقول الله : حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ [المائدة:٣]، هنا مع قوله: أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا [الأنعام:١٤٥]، هذا مُقيد بالمسفوحية، فالدَّم مُطلق، فهنا يُحمل على المقيد، وأنَّه ليس الدم الذي في اللَّحم، وإنما الدَّم الذي يخرج من أوداج الذَّبيحة إذا ذُبِحَتْ، هذا هو النَّجس.
وفي قوله مثلًا: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ [آل عمران:٩٠]، فسّره بعض السَّلف بمَن أخَّرها إلى حضور الموت، فهذا مُطلق: لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ، مع قوله: وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ [النساء:١٨]، فهذا عند حضور الموت على قول بعض السَّلف -رضي الله تعالى عنهم-.
وفي قوله -تبارك وتعالى-: وَمَن يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ، هذا مثالٌ أوضح من الذي قبله: فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ [المائدة:٥]، فهنا حكم عليه بإطلاقٍ هكذا، بمجرد الكفر يحبط العمل، مع قوله -تبارك وتعالى-: وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ، مُقيد بهذا القيد: فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ [البقرة:217]، إلى آخره، ينبني عليه: الإنسان إذا حجَّ، ثم حصلت له رِدّة، هل يُعيد الحجَّ أو لا؟ إذا رجع للإسلام بناءً على هذا المعنى، وهكذا.
احتمال الحقيقة أو المجاز -عند القائل به-، مثلما أشرنا من قبل: وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ [المسد:٤] على ظاهره، وهو المعنى الحقيقي، على القاعدة: إذا دار الكلامُ بين الحقيقة والمجاز قُدّمَت الحقيقة، هذا الذي عليه عامَّة أهل العلم إلا مَن شذَّ فقال: يُقدَّم المجاز.
فالمقصود هنا: وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ المعنى الحقيقي يقولون: أنها تحمل الشَّوك ونحو ذلك؛ لتُؤذي النبي ﷺ، والمعنى المجازي: تُشعل نار الفتنة بالنَّميمة، فهذا معنًى مجازي، فهنا اللَّفظ يحتمل الحقيقة والمجاز، ومن ثمَّ اختلفوا فيه.
يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ [الروم:19] على المعنى الحقيقي يقولون: الدَّجاجة من البيضة، وعلى المعنى المجازي: المؤمن من الكافر. وهذا المعنى قريبٌ، وقال به كثيرٌ من السلف، ويدلّ عليه أيضًا القرآنُ في مواضع، كقوله: أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ [الأنعام:١٢٢]، فالإيمان حياة، والكفر موت، فيكون عند الإنسان من الصحّة والحياة بقدر ما عنده من الإيمان، وضعفه يكون ضعفًا في حياته، هذا يقولون: معنى مجازي.
ونحن نعرف أنَّ المجاز -وسيأتي الكلام فيه في القضايا البلاغية- هو المعنى المتبادر إلى الذِّهن.
نحن نقول: المعنى المتبادر -كما سنُوضّح إن شاء الله- هو ما يتبادر: إمَّا من جهة وضع اللَّفظ ابتداءً، أو من جهة ما يحتفّ به من القرائن والسياق والسباق واللّحاق، فهذا كلّه يتبادر معه معنًى، فنقول: هذه هي الحقيقة، وستأتي مناقشة هذه القضية -إن شاء الله-.
عندنا قاعدة وهي: إذا دار الكلامُ بين الاستقلال أو الإضمار، فالأصل الاستقلال؛ لأنَّ الأصل أنَّ الكلام على وجهه، ما يحتاج إلى مُقدَّر محذوف، دعوى التَّقدير لا بدَّ لها من دليلٍ، الأصل أنَّ الكلام مُستقلّ بألفاظه هكذا من غير مُقدَّرات.
ونجد العلماء يُقدّرون أشياء أحيانًا يختلفون بسببها: هل فيه مُقدّر محذوف أو لا؟
فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى [الأعلى:٩]، هل فيه مُقدّر محذوف: (أو لم تنفع) يترتب عليه فرقٌ في المعنى والحكم والعمل؟
مَن قال: أنَّه لا يوجد مُقدّر هنا: فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى يختلفون؛ بعضهم يقول: ذكر الاحتمال الأشرف، ولا يقصد أنها إن لم تنفع يسقط عنك التَّذكير والأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر.
وبعضهم يقول: هذا قيد مُعتبر: (ذَكِّرْ إِن نَّفَعَت)، فإن رجوتَ الانتفاع أمرتَ ونهيتَ، وإن لم ترجُ الانتفاع لا تأمر ولا تنهَ.
هذه مسألة معروفة في باب الأمر بالمعروف، والنَّهي عن المنكر، متى يسقط الاحتساب؟ ومتى لا يسقط؟
فبعضهم يقول: إن قدَّرت أنَّه لا يُقبل منك سقط.
وبعضهم يقول: هذا من باب الاكتفاء من جهة الكلام واللَّفظ: (فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى أو لم تنفع)، مثل: سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ [النحل:81] يعني: والبرد، وهكذا.
وكقوله: إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلَافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الْأَرْضِ [المائدة:٣٣]، (أو) هذه للتَّخيير، إذا قلنا: ما فيه مُقدّر، فالإمام مُخيّر، والقاعدة في التَّخيير في الشَّرع: أنَّ التَّخيير إن كان يرجع إلى مصلحة الـمُكلَّف فذلك للتَّشهّي، يعني: ينظر الأليق والأنسب به، والأرفق بحاله، فيختار، مثل: فدية الأذى، مُخيّر بين شاةٍ تُوزّع على فُقراء الحرم، أو إطعام ستة مساكين من فُقراء الحرم، أو صيام ثلاثة أيام، هذا يرجع للمُكلّف، يختار ما يشاء مما يُلائمه، وإن رجع إلى مصلحة الغير فذلك منوطٌ بالمصلحة، يعني: الإمام لا ينظر في هذا بالتَّشهي، وإنما بالمصلحة، فإذا كثرت الجرائم والإفساد في الأرض فهنا يأخذ الأكثر ردعًا، ولو كان الصَّلب، وإذا كان الأمرُ دون ذلك، فيُمكن النَّفي، فيكون مُخيرًا بما تقتضيه المصلحة.
ولكن من أهل العلم -كالشافعي رحمه الله- مَن يقول: أنَّ ذلك فيه مُقدّر، يعني: أن يُقتَّلوا إن قتَلَوا، يجعل لكل واحدةٍ تقديرًا، يعني: إذا أخافوا السَّبيل، وأخذوا المال، هنا تُقطع أيديهم وأرجلهم من خلافٍ مثلًا، فكل واحدةٍ لها تقدير.
فهذان قولان معروفان لأهل العلم، فهذا يتعلق باحتمال الإضمار، أو الاستقلال، وقلنا القاعدة: أنَّ اللفظ إذا دار بين الإضمار والاستقلال، فالأصل الاستقلال.
ونحن -إن شاء الله تعالى- في ثنايا التفسير نذكر لكم قواعد تبني -بإذن الله - وتُؤصّل، وتُقوّي الـمَلَكَة، وإن شئتم في درس التَّفسير إذا بدأنا فيه -إن شاء الله- أن يكون بداية كل درسٍ، أو نهاية كل درسٍ -إن شئتم- أذكر لكم قاعدة من قواعد التفسير، أوضّحها مع أمثلةٍ لها في دقائق، كل مرة قاعدة واحدة.
القاعدة: أنَّه لا زائدَ في القرآن، والعلماء حينما يذكرون الزيادة يقصدون بها الزيادة إعرابًا، ولكن البعض يتحاشى هذه اللَّفظة أيضًا، فيقول: هذا خلاف الأدب اللَّائق مع القرآن. وكلّهم لا يقصد أنَّ في القرآن حشوًا، يعني: لا معنى له أصلًا، لكن الذين يقولون بالزيادة يقولون: زائدة إعرابًا، ولكنَّها جاءت للتوكيد مثلًا، أو نحو ذلك، ويُسمّونها: "صلة" أحيانًا من باب التَّأدب في العبارة.
فاحتمال كون اللَّفظة زائدة، كقوله: لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ [القيامة:١]، هل (لا) هذه زائدة لتوكيد القسم وتقويته مثلًا: لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ بمعنى: أُقسم، أو أنها للنفي؟ فماذا يكون المعنى؟
بعضهم يقول: يتعلّق بمُقدّر قبله بكلامٍ: (لا) لما تقولون، أو (لا) لما تدعون، أو (لا) لكذا، فالنَّفي يتعلّق بما قبله.
وبعضهم يقول: إنَّ النفي على بابه، وهو نفي للقسم أصلًا؛ لأنَّ القضية ما تحتاج إلى قسمٍ أصلًا؛ لأنها من الوضوح بمكانٍ. فهذه كلّه بسبب احتمال الزيادة من عدمها.
وكما في قوله: أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ [البقرة:٢٥٩]، يقول ابنُ جرير: وقد زعم بعضُ نحويي البصرة أنَّ الكاف في قوله: أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ زائدة، وأنَّ المعنى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ [البقرة:٢٥٨]، أو الذي مرَّ على قريةٍ. يقول: وقد بيّنا فيما مضى قبل أنَّه غير جائزٍ أن يكون في كتاب الله شيءٌ لا معنى له، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع[16].
وفي قوله: يُخَادِعُونَ اللَّهَ [البقرة:٩]، والزَّمخشري لما تكلّم عليها استشكلها، وهي لا إشكالَ فيها، فذكر أربعة أجوبة، الأخير منها: قال: أن يكون من قولهم: أعجبني زيدٌ وكرمه، فيكون المعنى: يُخادعون الذين آمنوا بالله[17].
طبعًا هذا باطل؛ لأنَّه قال: يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا يعني: تحريفٌ للكلم عن مواضعه، لكن هؤلاء يعتقدون عقائد فاسدة، ويُحرِّفون القرآنَ بناءً عليها، وراجعوا كلام ابن جرير وغير ابن جرير في أمثلةٍ كثيرةٍ.
في قوله تعالى: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ [البقرة:١٩٩] ذكر ابنُ جرير اختلاف المفسّرين في المعني في الأمر بالإفاضة[18]، ومَن الناس في الآية: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ؟
وأنا لا أُريد أن أُتعبكم بكثرة الأمثلة، لكن راجعوا كلام ابن جرير فيها.
القاعدة: أنَّ الكلام إذا دار بين الترتيب أو القول بالتقديم والتأخير، فالأصل فيه الترتيب، وأنَّه على نفس النَّسق الذي ذكره الله ، ولا يُدَّعى فيه غير ذلك إلا لدليلٍ، كقوله -تبارك وتعالى-: يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ [آل عمران:٥٥]، فقوله: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ، وهذا الكلام يصلح أيضًا في موضوع الحقيقة والمجاز عند القائلين بالمجاز، ما المقصود بالوفاة هنا؟
الوفاة تُطلق شرعًا على مُفارقة الروح للجسد، وفي اللغة: تأتي بمعنى الاستيفاء؛ أي: مُستوفيك روحًا وجسدًا، رافعك بالروح والجسد، فهنا ما المراد من إِنِّي مُتَوَفِّيكَ؟
فمَن نظر إلى أنَّ معنى الوفاة أي: الموت، قال: في الآية تقديم وتأخير، والمعنى: (يا عيسى، إني رافعك إليَّ، ومُطهرك من الذين كفروا، وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة، ومُتوفيك) في نهاية المطاف، لما تنزل في آخر الزمان. لماذا التَّقدير؟ لأنهم حملوا الوفاة على الحقيقة.
وهناك وفاة أخرى، وهي النوم: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ [الزمر:٤٢] ... إلى آخره، فبعضهم حمله على هذا المعنى، فقالوا: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ يعني: رفعه في حال النوم، فهنا لا يحتاج القول بالتقديم والتَّأخير، يقول: الكلام على هذا الترتيب، والذين حملوا الوفاة هنا على الاستيفاء روحًا وجسدًا لا يحتاجون إلى القول بأنَّ فيه تقديمًا وتأخيرًا، وهكذا.
وفي قوله -تبارك وتعالى-: وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ [المجادلة:3-٤] إلى آخره، هذه الآية: وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فهذا الموضع فيه إشكال، والمفسّرون أقوالهم في هذا كثيرة جدًّا، ما المراد بالعَوْد؟
فسّر بالجماع، طيب، إذا قلت: الجماع، هل يجوز له أن يُجامعها وقد ظاهر منها قبل أن يُكفّر، والله يقول: مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا؟
لا يجوز، طيب، إذًا كيف يُفسّر بالجماع؟
فإن قلنا: العَوْد: رجع عن الظِّهار، طيب، إذا رجع عن الظِّهار، بمجرد الرجوع، تراجع، ثم مات، وما وطأ، هل نقول: الكفَّارة في ذمّته؟ ويجب على الورثة أن يُخرجوا من المال كفَّارة، وهو ما مسّها، فقط تراجع عن الظِّهار؟ هل تلزمه الكفَّارة؟
الجواب: لا، فهذان قولان مشهوران؛ أنَّ العود بمعنى: الرجوع عن الظِّهار، والقول الثاني: الوطء.
والتراجع هذا يُعبرون عنه بالعزم على الوطء، هل بمجرد العزم تجب عليه الكفَّارة؟ تكون في ذمّته لو مات قبل أن يطأ؟
الجواب: لا، إذًا ما المراد؟
طالب: إذا أراد ...
الشيخ: هو إذا أراد ومات لزمته الكفَّارة؟ لا.
تجد الأئمّة -كالإمام أحمد وغيره- في هذه يختلفون فيها، ومن أدقّ الأقوال فيها كلام الشيخ محمد الأمين الشَّنقيطي -رحمه الله-، يقول: العَوْد له مبدأ ومُنتهى؛ فمبدأه العزم، ومُنتهاه الوطء[19]. فإذا عزم فإنَّه لا يطأ حتى يُكفّر، ولو مات قبل بلوغ مُنتهى العزم لا يكون في ذمّته شيءٌ، يعني: عزم ولم يطأ ومات، فإنَّه لا تكون في ذمّته كفَّارة.
الشاهد: أنَّ هذه الآية بناء على العود، ما المراد بالعود؟
فُسِّر بمعانٍ كثيرة، بعضهم يقول: يُكرر الظِّهار مرةً ثانيةً. وبعضهم يقول: يعزم على الوطء. وبعضهم يقول: يطأ.
فالشاهد أنَّ بعضهم بنى ذلك بناءً على فهمٍ فهمه، وتفسيرٍ فسّره للعود؛ قال: فيها تقديم وتأخير، يكون المعنى كيف؟
ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا أنَّهم لا يفعلونه فيفعلونه، يعني: تعود الحال إلى ما كانت عليه قبل الظِّهار، قالوا: فيه تقديم وتأخير، ما الذي ألجأهم إلى هذا؟
هو تفسيرهم لمعنى العود؛ لأنَّ بعضهم فسّر العود: أنَّهم لا يفعلونه فيفعلونه، وهذا يُشكل عليه كيف مجرد العود هكذا؟ أو الفعل يبقى فيه إشكال، لكن كلام الشَّنقيطي فيه حلٌّ لهذا، والأصل أنَّ الكلام على الترتيب، ولا يُدّعى فيه دعوى التَّقديم والتَّأخير إلا لدليلٍ يجب الرجوع إليه.
وهناك أمثلة لهذا، تجدونه في مثل ما ذكرتُه سابقًا أيضًا في قوله: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ [البقرة:١٩٩]، راجعوا كلام ابن جرير فيها.
هذا كثيرٌ، ودعاوى النَّسخ كثيرة جدًّا، يعني: في مثل قوله -تبارك وتعالى-: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ [البقرة:١٨٣]، إذا قلنا: أنَّ التَّشبيه في الصِّفة، كيف كان صومهم؟
وأنَّه بالليل مثلًا لا يجوز له الوطء -كما كان في أول الأمر-، وكذلك أيضًا أنَّ مَن نام بعد أن غابت الشمسُ، سواء أكل أو لم يأكل؛ يجب عليه الإمساك إلى اليوم الثاني.
إذا قلنا: أنَّ ذلك في الصِّفة، فبعضهم يقول: نُسِخَ هذا، نُسِخَ بماذا؟
بقوله: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ [البقرة:١٨٧]، يكون نَسْخًا لما جاء في الآية قبله، بناءً على أنَّ التَّشبيه هنا في الصِّفة، فهذا يحتمل.
وهكذا في أمثلةٍ كثيرةٍ في هذا الباب: هل الآية منسوخة، أو أنها مُحكمة؟
وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ في الصّوم فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ [البقرة:١٨٤]، هل هذه منسوخة؟
بعضهم يقول: يُطيقونه يعني: بتكلّفٍ، كالشيخ الكبير، والزَّمِن، ونحو ذلك، فهؤلاء كما في قراءة ابن عباسٍ -وهي قراءة غير مُتواترة- (يُطَوّقونه) يعني: بكُلفةٍ، فيقولون: غير منسوخةٍ.
وبعضهم يقول: هذه منسوخة، وكان ذلك في أول شرع الصوم، كان الإنسان مُخيرًا: إن شاء صام، وإن شاء أطعم مع قُدرته على الصوم، فشُرِع الصومُ بالتَّدريج، فهذا يحتمل، فيختلف المفسّرون بسبب هذا الاحتمال.
إذا جاء التَّفسير عن النبي ﷺ فلا كلامَ بعد ذلك، ولا قولَ لقائلٍ، ولا نظرَ في قول السَّلف -رضي الله تعالى عنهم-.
ولو نظرنا إلى الروايات الثابتة الصَّحيحة عن النبي ﷺ في التفسير لا نجد أنها تختلف من الناحية العملية، أو من الناحية الواقعية، يوجد في السُّنة ما يُعرف بمُوهِم الاختلاف، مثل: لا عدوى[20]، وفِرَّ من المجذوم فرارك من الأسد[21]، ونحو ذلك، هذا موجودٌ، لكن بالنسبة للرِّوايات التي في التَّفسير، هل توجد عندنا روايات تختلف في تفسير الآية في ظاهرها؟
لا أعلم شيئًا من هذا، لكن توجد مرويات عن الصحابة مُختلفة، وتوجد أشياء عن النبي ﷺ وعن الصّحابة قد يوجد فيها اختلاف؛ نقول: لأنَّه لم يبلغهم هذا التفسير النبوي.
فالصحابة في تفسيرهم لقوله -تبارك وتعالى-: هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ [الحج:١٩]، مَن المراد به؟
فجاء عن جماعةٍ من الصحابة -منهم عليّ - قالوا: هؤلاء هم الذين برزوا يوم بدر: عليّ وحمزة وعبيدة بن الحارث ، وقابلوا عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة، وهذا ثابتٌ صحيحٌ عنهم[22].
وذهب آخرون إلى أنَّ هذا بين أهل الإيمان وأهل الكفر.
وهكذا في قوله: وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ [الأحقاف:١٠]، ثبت عن عبدالله بن سلام وجماعة من الصحابة: أنَّ هذا الشاهد هو عبدالله بن سلام، مع أنَّ هذا لا يخلو من إشكالٍ؛ لأنَّ الآية في سورة مكية، وعبدالله بن سلام لم يُسْلِم بعد، أسلم بعد الهجرة.
وبعضهم يقول: هذا موسى . وهذا قال به بعضُ التابعين: عَلَى مِثْلِهِ على مثل القرآن، وهو التوراة[23].
فتفسير الصحابة: أنَّه عبدالله بن سلام، وتفسير بعض التابعين: أنَّه موسى .
فهذا اختلاف الروايات، فنحن عندنا أصلٌ: أنَّ تفسير الصحابة مُقدّم على غيره.
نكتفي بهذا.
- "التاريخ الكبير" للبخاري، بحواشي محمود خليل (5/93).
- "الموافقات" (5/41).
- "مقدمة في أصول التفسير" لابن تيمية (ص20).
- متفق عليه: أخرجه البخاري: كتاب تفسير القرآن، باب: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} [الطلاق:4]، برقم (4909)، ومسلم: كتاب الطلاق، باب انقضاء عدّة المتوفى عنها زوجها وغيرها بوضع الحمل، برقم (1485).
- "السبعة في القراءات" (ص105)، و"حجة القراءات" (ص80).
- "السبعة في القراءات" (ص189)، و"حجة القراءات" (ص144).
- أخرجه البخاري: كتاب أحاديث الأنبياء، باب قول الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لّلسَّائِلِينَ} [يوسف:7]، برقم (3389).
- "تفسير ابن أبي حاتم" مُحققًا (7/2384).
- "تفسير الطبري = جامع البيان" ت: شاكر (11/194).
- "تفسير الطبري = جامع البيان" ت: شاكر (11/194).
- "تفسير الطبري = جامع البيان" ت: شاكر (11/194).
- البيت في "سر صناعة الإعراب" (2/341)، وفي غيره بلا نسبةٍ.
- أخرجه مسلم: كتاب اللباس والزينة، باب تحريم فعل الواصلة والمستوصلة، والواشمة والمستوشمة، والنامصة والمتنمصة، والمتفلجات، والمغيرات خلق الله، برقم (2125).
- "زاد المعاد في هدي خير العباد" (5/569).
- "إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان" (1/65).
- "تفسير الطبري = جامع البيان" ت: شاكر (5/438).
- "تفسير الزمخشري = الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل" (1/58).
- "تفسير الطبري = جامع البيان" ت: شاكر (4/184).
- "أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن" (6/192).
- متفق عليه: أخرجه البخاري: كتاب الطب، باب الجذام، برقم (5707)، ومسلم: كتاب السلام، باب لا عدوى، ولا طيرة، ولا هامة، ولا صفر، ولا نوء، ولا غول، ولا يُورد ممرضٌ على مُصحٍّ، برقم (2220).
- أخرجه أحمد في "المسند" ط. الرسالة، برقم (9722)، وقال مُحققو "المسند": "حديثٌ صحيحٌ".
- "تفسير الطبري = جامع البيان" ت: شاكر (18/588).
- "تفسير الطبري = جامع البيان" ت: شاكر (22/102).