هذا مما يصلح له من الأمثلة ما ذُكر قبل من الكلام على قوله -تبارك وتعالى-: قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَّوْنُهَا [البقرة:69]، فبالنظر إلى ما ذُكِر معه، لو قال: صفراء فقط، هنا مضى كلامُ ابن جرير: أنَّ وصف هذه الصُّفرة بالفقوع يُرَدُّ به على مَن قال: أنَّ المقصود بها سوداء[1]، صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَّوْنُهَا، فيكون ذلك مُبينًا ومُوضِّحًا للمراد، مُجليًا له، وهو من هذه الحيثية يتعلّق بالسياق.
كذلك في قوله: حتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ [الأحقاف:15]، فبلوغ الأشدّ هنا بثلاثة وثلاثين، باعتبار أنَّه ذكره مع الأربعين، فذِكْرُهُ مع الأربعين -يعني: في هذا السياق- يُرجِّح أنَّ القول ببلوغ الأشدّ هو الثلاثة والثلاثين عند ابن جرير -رحمه الله-، هذا مضى، يصلح لهذا النوع.
من الأمثلة على ذلك: قوله -تبارك وتعالى-: خُلِقَ الْإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ [الأنبياء:37]، هنا كلمة (عجل) فسّرها بعضُهم بالعجلة، وفسّرها بعضُهم بمادة خلق الإنسان، أنَّ المادة التي خُلق منها الإنسان يُقال لها ذلك: عجل. لكن المعنى الأول يتحتم المصير إليه؛ لأنَّ السياق يدلّ عليه: سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ، فدلّ على أنَّ المقصود: مِنْ عَجَلٍ يعني: عجلة، فهو مُركّب على هذا.
وكذلك المثال الذي مضى في قوله -تعالى-: وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ [القصص:10]، بعضهم يقول: "فارغًا" أي: من الحُزن؛ لعلمها أنَّه لم يغرق. يعني: أنَّ قلبها مُطمئنّ تمامًا، لا حزن فيه؛ لكونها تعلم أنَّه لم يغرق، هل هذا هو المراد؟
السياق هنا لا يُساعد على هذا القول؛ لأنَّه قال: إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا فدلّ على أنَّ قلبَها كان في حالٍ من القلق الشَّديد، حتى كادت تُصرّح بأنَّه ولدها. هذا واضحٌ من خلال السِّياق.
في قوله -تبارك وتعالى-: وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ [المائدة:45]، الشَّنقيطي -رحمه الله- في "أضواء البيان" ذكر من أنواع البيان: "أن يقول بعضُ العلماء في الآية قولًا، ويكون في نفس الآية قرينة تدلّ على بطلان ذلك القول"[2]، وذكر له أمثلةً؛ منها قول أبي حنيفة -رحمه الله- أنَّ المسلم يُقْتل بالكافر الذّمي؛ أخذًا من عموم النفس في قوله: أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ، الشَّنقيطي -رحمه الله- يقول: أنَّ قوله في آخر الآية: فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ قرينة على عدم دخول الكافر؛ لأنَّ صدقته لا تُكفِّر عنه شيئًا، إذ لا تنفع الأعمال الصَّالحة مع الكفر، فدلّ على أنَّ ذلك ليس في الكافر، وأنَّ النفس من العامّ المراد به الخصوص[3].
من الأمثلة: قول الحسن البصري -رحمه الله-: أنَّ المراد بابني آدم في قوله: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا [المائدة:27]، قال: هما رجلان من بني إسرائيل[4].
فهنا يمكن أن يُرَدّ من خلال السياق، ونُرجّح القول الآخر الذي عليه عامّة أهل العلم: بأنَّهما أولاد آدم مباشرةً، من صُلبه؛ لأنَّ الله قال: فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ [المائدة:31]، هذا دلّ على أنَّهم ما كان لهم عهدٌ بالتَّعامل مع الميت، أو القتيل، كيف يُصنع به؟ يعني: هذا أول مَن مات من البشر، ولو كان من بني إسرائيل لَمَا احتاج إلى غرابٍ ليعرف كيف يتعامل مع هذه الجثة، وأنها تُدْفَن. فهذا من خلال السياق.
من الأمثلة أيضًا: ما جاء عن مجاهد -رحمه الله- أنَّ المراد بقوله في الصّيد: وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ [المائدة:95]، يقول مجاهد: يعني: أنَّه مُتعمد لقتله، ناسٍ لإحرامه: وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا تعمَّد قتله، لكن مع نسيان الحالة التي هو مُتلبّس بها من الإحرام[5].
هنا يمكن أن يُرَدّ على هذا من خلال السياق، يُرجَّح القول الآخر بأنَّه قال: لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ، فهذا يدلّ على أنَّه مُرتكب لمعصيةٍ، ولو كان ناسيًا: رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [البقرة:286]، قال الله: "قد فعلتُ".
فهنا قوله: لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ يدلّ على أنَّه عاصٍ بهذا الفعل، والنَّاسي لإحرامه غير مُرتكب للإثم حتى يُقال في حقِّه: لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ.
من الأمثلة قول كثيرٍ من الناس: أنَّ آية الحجاب، وهي قوله -تبارك وتعالى-: وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ [الأحزاب:53]، هذه آية الحجاب إذا قيل: آية الحجاب، وليست: يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ [الأحزاب:59] كما يظنّ كثيرٌ من الناس.
فهنا بعضهم يقول: إنها خاصّة بأزواج النبي ﷺ. وهذا مردودٌ؛ وذلك أنَّ تعليله لهذا الحكم الذي هو إيجاب الحجاب بكونه أطهر لقلوب الرجال والنِّساء من الرِّيبة في قوله: ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ [الأحزاب:53]، هذه قرينة في السياق تدلّ على قصد التَّعميم، بل إنَّه من باب أولى في غير حقِّ هؤلاء أن يكون من وراء حجابٍ.
يعني: إذا كان أزواجُ النبي ﷺ وهنَّ أمّهات المؤمنين، ويحرُم عليهم التَّزوج بهنَّ، ومع ذلك يُقال لهذا الجيل الذي هو أطهر جيلٍ: وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ يعني: يُكلّمها من وراء الباب، من وراء الجدار، ويُعلل ذلك بقوله: ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ من الجهتين، وَقُلُوبِهِنَّ.
قد يقول قائلٌ: قلبي ما فيه شيء. طيب، والطرف الآخر؟!
مع أنَّ الإنسان لا يُزكِّي نفسه، فإذا كان هذا في حقِّ أمّهات المؤمنين والصّحابة ، فغير هؤلاء من باب أولى.
وهذا يُرَدّ به على دُعاة الاختلاط، ولا يمكن لأحدٍ أن يقول: أنَّ النساء غير أمّهات المؤمنين لا حاجةَ إلى طهارة قلوبهنَّ، أو أنَّ الرجال من بعد الصّحابة لا حاجةَ إلى طهارة قلوبهم من الرِّيبة.
من الأمثلة أيضًا: قوله -تبارك وتعالى-: وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ [النساء:127]، نحن عندنا أصلٌ، وهو: أنَّ وصل معنى الكلام بعضه ببعضٍ أولى، ما وجدنا إلى ذلك سبيلًا.
فقوله: فِي يَتَامَى النِّسَاءِ كون هذا مُرتبط بقوله: وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أولى من القول بأنَّه يرجع إلى قوله: قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ، فقوله: فِي يَتَامَى النِّسَاءِ، وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ هنا إرجاعه لهذا أولى من: قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ يعني: في يتامى النساء، فيكون فِي يَتَامَى النِّسَاءِ يرجع إلى قوله: قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ يعني: يتامى النِّساء، لماذا؟ بأي اعتبارٍ؟ باعتبار السياق؛ لقربه من قوله: وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ، واضحٌ الفرق؟
يعني الآن: وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ يُفتيكم في النِّساء، وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ.
فهنا: فِي يَتَامَى النِّسَاءِ هل يرجع إلى قوله: وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ (في يتامى النِّساء)، أو أنَّه يرجع إلى قوله: وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ؟
يرجع إلى ما يُتلى عليكم في شأن يتامى النِّساء؛ لكونه أقرب إليه.
وهكذا في قوله: فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ [البقرة:102].
ابن جرير -رحمه الله- يقول: فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا خبر مُبتدأ عن المتعلمين من الملكين ما أنزل عليهما، وليس بجوابٍ لقوله: وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ [البقرة:102]، بل هو خبر مُستأنف؛ ولذلك رُفع، فقيل: فَيَتَعَلَّمُونَ، فمعنى الكلام إذًا: وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ، فيأبون قبول ذلك منهما: فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ.
يقول: "وقد قيل: إنَّ قوله: فَيَتَعَلَّمُونَ خبر عن اليهود معطوف على قوله: وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ ... فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ، وجعلوا ذلك من المؤخّر الذي معناه التَّقديم، والذي قلنا أشبه بتأويل الآية؛ لأنَّ إلحاق ذلك بالذي يليه من الكلام -ما كان للتَّأويل وجه صحيح- ..." إلى آخر ما ذكر، يقول: "أولى من إلحاقه بكلامٍ آخر مُعترِضٍ"[6].
سؤال: السياق يقصد به السباق واللِّحاق فقط، أم يشمل غير ذلك؟
السّباق: هو ما يرتبط بالموضع الذي ما ذُكر معه قبله، أو بعده، كلّ هذا يدخل في عمومه، وأحيانًا يُقال: سياق، سباق، لحاق، والواقع أنَّ هذا كلّه يرجع إلى شيءٍ واحدٍ؛ الذي هو السياق هنا في هذا الموضع الذي نُرجّح فيه.
هذا أيضًا له أمثلة؛ لأنَّ الأصل حمل الكلام على المعنى المتبادر، وليس على معنى مغمور، وابن جرير -رحمه الله- يُكرر هذا كثيرًا في تفسيره.
من الأمثلة على ذلك: قوله -تعالى-: لَّا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا[النبأ:24]، فسّر بعضُهم البرد هنا بالنوم، البرد: النوم، لا ينامون، وهذا المعنى صحيح في اللغة، فإنَّ البرد يُقال للنوم؛ ولذلك الذي يجد حرارة العطش وشدّة الجوع -حال الصيام مثلًا- فإنَّه يُبرِّد ذلك عنه بالنوم، فإذا نام بَرَد، بردت حرارةُ العطش وشدّة الجوع، لكن هذا المعنى قليل في لغة العرب.
والمشهور في معنى البَرْد المتبادِر: أنَّه ما يُبرِّد حَرّ الجسم، فلا يُعدل عنه.
يقول ابنُ جرير: "النوم وإن كان يُبرِّد غليل العطش، فقيل له من أجل ذلك البَرْد، فليس هو باسمه المعروف، وتأويل كتاب الله على الأغلب من معروف كلام العرب دون غيره"[7].
مثال آخر في قوله -تبارك وتعالى- عن التَّابوت: تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ [البقرة:248]، (تحمله) هنا بعض المفسّرين يقول: أي: أنَّ الملائكة تسوق الدَّواب التي تحمله.
وبعضهم يقول: تحمله الملائكة بين السَّماء والأرض حتى تضعه بين أظهرهم[8]. يعني: على ظاهره: أنَّ الملائكة هي التي تحمله، وليس الدَّواب.
يقول ابنُ جرير: "وأولى القولين في ذلك بالصواب قول مَن قال: حملت التابوتَ الملائكةُ حتى وضعته في دار طالوت قائمًا بين أظهر بني إسرائيل؛ وذلك أنَّ الله -تعالى- قال: تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ، ولم يقل: تأتي به الملائكة، وما جَرَّته البقرُ على عجلٍ، وإن كانت الملائكةُ سائقتها، فهي غير حاملته؛ لأنَّ الحمل المعروف هو مُباشرة الحامل بنفسه حَمْل ما حَمَل، فأمَّا ما حمله على غيره -وإن كان جائزًا في اللُّغة أن يُقال: (حَمَلَه) بمعنى: معونة الحامل، وبأن حمله كان عن سببه- فليس سبيله سبيل ما باشر حمله بنفسه في تعارف الناس إياه بينهم، وتوجيه كلام القرآن إلى الأشهر من اللُّغات أولى من توجيهه إلى الأنكر، ما وجد إلى ذلك سبيلًا"[9].
لاحظ كيف يُؤصّل.
مثال آخر في قوله: تُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ [آل عمران:27]، قال بعضُ المفسّرين: يخرج الشيء الحيّ من النُّطفة الميتة، ويخرج النُّطفة الميتة من الشَّيء الحيّ.
وقال آخرون: يخرج النَّخلة من النَّواة، والنَّواة من النَّخلة، والسّنبل من الحبِّ، والحبّ من السّنبل، والبيض من الدَّجاج، والعكس.
وقال آخرون: يخرج المؤمن من الكافر، والعكس.
يقول ابنُ جرير بعد أن رجّح القول الأول –يعني: يخرج الشَّيء الحي من النُّطفة الميتة- يقول: "وأمَّا تأويل مَن تأوَّله بمعنى: الحبّة من السّنبلة، والسّنبلة من الحبّة، والبيضة من الدّجاجة، والدّجاجة من البيضة، والمؤمن من الكافر، والكافر من المؤمن؛ فإنَّ ذلك وإن كان له وجه مفهوم، فليس ذلك الأغلب الظاهر في استعمال الناس في الكلام، وتوجيه معاني كتاب الله إلى الظاهر المستعمل في الناس أولى من توجيهها إلى الخفي القليل في الاستعمال"[10].
مثال آخر في قوله: إِلَّا أَن تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً [آل عمران:28]، قال بعضُ المفسّرين: أي: إلا أن تكونوا في سُلطانهم، فتخافوهم على أنفسكم، فتُظهروا لهم الولاية بألسنتكم، وتُضمروا لهم العداوة، ولا تُشايعوهم على ما هم عليه من الكفر، ولا تُعينوهم على مُسلمٍ بالفعل.
يقول: "وذهب آخرون -منهم قتادة- إلى أنَّ المعنى: إلا أن يكون بينك وبينه قرابة، فتصله لذلك"[11].
يقول ابنُ جرير: "وهذا الذي قال قتادة تأويلٌ له وجه، وليس بالوجه الذي يدلّ عليه ظاهر الآية: (إلا أن تتقوا من الكافرين تُقاة)، فالأغلب من معاني هذا الكلام: (إلا أن تخافوا منهم مخافة)، فالتَّقية التي ذكرها الله في هذه الآية إنما هي تقيّة من الكفَّار، لا من غيرهم"[12].
قول قتادة على أساس أنَّ المعنى: (إلا أن تتقوا الله من أجل القرابة التي بينكم وبينهم تُقاة، فتصلون رحمها)، وليس ذلك ... يقول ابنُ جرير: "وليس ذلك الغالب على معنى الكلام، والتَّأويل في القرآن على الأغلب الظَّاهر من معروف كلام العرب المستعمل فيهم"[13].
كل هذا في الترجيح بالأشهر، والأغلب، والمتبادر إلى الذهن، هذه طريقة صحيحة في الترجيح.
"الثامن: تقديم الحقيقة على المجاز: فإنَّ الحقيقة أولى أن يُحمل عليها اللَّفظ عند الأصوليين.
وقد يترجّح المجاز إذا كثر استعماله حتى يصير أغلب استعمالًا من الحقيقة، ويُسمّى: مجازًا راجحًا، والحقيقة مرجوحة.
وقد اختلف العلماءُ: أيّهما يُقدّم؟
فمذهب أبي حنيفة: تقديم الحقيقة؛ لأنها الأصل، ومذهب أبي يوسف: تقديم المجاز الراجح؛ لرجحانه، وقد يكون المجازُ أفصح، وأبرع؛ فيكون أرجح".
تقديم الحقيقة على المجاز، هذا الذي عليه عامّة أهل العلم عند القائلين بالمجاز، وهم الأكثر -كما هو معلومٌ-، والقول بتقديم المجاز على الحقيقة هذا قولٌ ضعيفٌ مرجوحٌ، بل إنَّه أليق بالشُّذوذ.
"تقديم الحقيقة على المجاز: فإنَّ الحقيقة أولى أن يُحمل عليها اللَّفظ عند الأصوليين.
وقد يترجّح المجازُ إذا كثر استعماله حتى يصير أغلبَ استعمالًا من الحقيقة، ويُسمّى: مجازًا راجحًا، والحقيقة مرجوحة.
وقد اختلف العلماءُ: أيّهما يُقدّم؟
فمذهب أبي حنيفة: تقديم الحقيقة؛ لأنَّها الأصل، ومذهب أبي يوسف: تقديم المجاز الراجح؛ لرجحانه".
هذا المجاز الذي غلب استعماله، لكن يوجد من أهل العلم مَن قال: أنَّه يُقدَّم المجاز مُطلقًا. هذا القول الذي قصَدْتُ بأنه شاذّ، هذا القول شاذّ، لا عبرةَ به.
لكن إذا كثر استعمال المجاز، وغلب على الحقيقة، فهنا عند هؤلاء القائلين بالمجاز: منهم مَن يقول بتقديم الحقيقة، ومنهم مَن يقول بتقديم المجاز.
ونحن في مثل هذا الموضع نذكر ما سبق من الكلام على المعنى المتبادر، هنا الذي غلب في الاستعمال هل يُقال له: مجاز، حتى يُورَد عندنا مثل هذا الإشكال؟
إذا غلب الاستعمال في المجاز، وصار هو المتبادر، هل يُقدّم على الحقيقة؟
نحن نقول: أصل هذه المسألة: الحقيقة ما هي؟
ذكرتُ لكم كلام شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في أنَّ المعنى المتبادر الذي يدلّ عليه السياق هو الحقيقة، وفي مُناقشاته لهم يقول ما حاصله: "من أين لكم أنَّ العرب وضعت هذا المعنى أولًا على أنَّه هو الحقيقة، ووضعت الاستعمال الثاني ثانيًا على أساس أنَّ هذا هو المجاز؟!"[14]، ثم بعد ذلك يُقال: ما الذي يُقدّم: هذا أو هذا؟
وقد يكون الغالبُ في الاستعمال والمتبادر إلى الذّهن هو المجاز، ثم نجعل هذا الافتراض هنا إذا كان المجازُ شائعًا، غالبًا في الاستعمال، مُتبادرًا إلى الأذهان، هل يُقدّم على الحقيقة، أو ما يُقدّم على الحقيقة؟
شيخ الإسلام يقول: هذا المتبادر هو الحقيقة، وليس بمجازٍ، وليس عندنا ما يدلّ على أنَّ العرب وضعت هذا أولًا، وهذا ثانيًا.
وذكرتُ لكم بعض الأمثلة التي تُشْكِل على القائلين بالمجاز -مما ذكره شيخ الإسلام-، مثل: (حفرت النَّهر)، و(جرى النَّهر)، فحفرت النَّهر بمعنى: الشقّ الذي في الأرض، وجرى النَّهر بمعنى: الماء.
(أصلحت الميزاب)، وهو الآلة التي يجري منها الماء، و(جرى الميزاب) بمعنى: الماء هو الذي جرى.
فهنا ما الذي جعل هذا يتبادر؟
هنا في قولنا: (جرى الميزاب) يعني: الماء، ويتبادر في الآخر (أصلحت الميزاب)[15]، ولا يخطر في البال غير هذا المعنى: أن يكون أحد هذين المعنيين حقيقيًّا، والثاني مجازًا، من أين؟
مع أنَّهما -كما ترون- في حالٍ من الاستواء من جهة التَّبادُر، ويصعُب أن تقول: إنَّ هذا حقيقة، وهذا مجاز، ومَن قال: بأنَّ الشقّ والآلة في المثالين هو الحقيقة، هذا يحتاج إلى دليلٍ، من أين عرفتَ أنَّ هذا هو الحقيقة؟
فهذا الافتراض، وهذا النِّقاش، وهذا التَّقديم والتَّأخير ... إلى آخره، يعني: هو من هذه الناحية ينتفي.
لكن -على كل حالٍ- الذين يتعلَّقون بالمجاز هم عامّتهم -إلا مَن شذَّ كما سبق- يقولون: إن دار الكلامُ بين الحقيقة والمجاز فالأصل الحقيقة.
لكن هنا في الصورة التي ذكرها من الخلاف بين أبي يوسف وأبي حنيفة مثلًا فيما إذا كان المجازُ هو الغالب الشَّائع في الاستعمال، هل يُقدّم، أو لا يُقدَّم؟
فعلى القاعدة التي ذكرناها: حَمْل القرآن، أو حمل الكلام على المعنى المتبادر الأشهر هو المتعيّن -كما ذكر ابنُ جرير-، سواء سُمّي هذا: حقيقة، أو قيل: إنَّه مجاز، الذين لا يُثبتون المجاز يقولون: هذا حقيقة، المقصود أن نحمل ذلك على المعنى المتبادِر.
القاعدة: أنَّ العام محمولٌ على الخاص، هذا إذا وُجِدَ عام وخاص، لكن نحن عندنا أنَّ الأصل أنَّ العام يبقى على عمومه حتى يأتي ما يُخصّصه، حتى يرِد ما يُخصّصه.
هنا يقول: "تقديم العموم على الخصوص، فإنَّ العموم أولى؛ لأنَّه الأصل، إلا أن يدلّ دليلٌ على التَّخصيص". واضح؟
يعني: الأصل حينما نحمل الكلام على ظاهره، فالعام يبقى على عمومه، وهذا في كثيرٍ من المواضع تجد أنَّ المفسّرين يذكرون أقوالًا الواقع أنها بعض ما يصدُق عليه اللَّفظ، فكثيرًا ما يُفسِّرون بالمثال، بجزء المعنى، فالأصل أن يُحمَل ذلك على أعمِّ معانيه، فيدخل في هذه المعاني التي يحتملها اللَّفظ؛ لأنَّ ذلك هو ظاهر الكلام، إلا أن يرِد دليلٌ يُخصِّص.
ولذلك تجد ابن جرير -رحمه الله- كثيرًا حينما يذكر هذه الأقوال والاحتمالات يعقب بعدها بحمله، أو بما يقتضي حمله على هذه المعاني جميعًا، ثم يُعلل ذلك بأنَّ تخصيص أحد هذه المعاني دون الآخر تحكّم من غير دليلٍ، وأنَّ ظاهر القرآن يدلّ على ذلك جميعًا، لكن إذا وُجِدَ المخصِّص فهنا يُحْمَل العام على الخاص، فما يلتبس عليك فالعام محمولٌ على الخاص، لكن ما يُذْكَر من كون الكلام على عمومه هذا باعتبار الظَّاهر، فهذا الأصل حتى يَرِد ما يُخصصه.
يعني مثلًا: في قوله -تبارك وتعالى-: كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ [البقرة:116]، انظر ماذا يقول ابنُ جرير -رحمه الله- بعدما ذكر للقنوت معانٍ: كالطاعة مثلًا، والمعنى الآخر: القيام، والثالث: الكفّ عن الكلام، والإمساك عنه؟
يقول: "وأولى معاني القنوت في قوله: كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ الطَّاعة، والإقرار لله بالعبودية بشهادة أجسامهم بما فيها من الصّنعة والدّلالة على وحدانية الله ". إلى أن يقول: "وقد زعم بعضُ مَن قصُرت معرفته عن توجيه الكلام وجهته أنَّ قوله: كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ خاصّة لأهل الطَّاعة، وليست بعامّة". يقول: "وغير جائز"، لاحظ القاعدة: "وغير جائز ادعاء خصوصٍ في آيةٍ عامّ ظاهرها إلا بحُجّة يجب التَّسليم لها".
يقول: "لا يجوز ادِّعاء خصوصٍ في آيةٍ عامّ ظاهرها"، يعني: لاحظ الآن أقوى صيغة عند الأصوليين من صيغ العموم ما هي؟
(كلّ)، و(جميع): كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ، فهنا قول مَن قال بأنَّ ذلك في خصوص أهل الطَّاعة، يقول ابنُ جرير: "لا يجوز ادِّعاء خصوصٍ في آيةٍ عامّ ظاهرها إلا بحُجّةٍ يجب التَّسليم لها"[16].
نُعطيكم مثالًا آخر: في قوله -تعالى-: أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ [المائدة:1]، اختلف المفسّرون في المراد بقوله: بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ، بعضهم قال: الأنعام كلّها. وقال آخرون: أجنة الأنعام التي توجد في بطون أمّهاتها إذا نُحِرت، أو ذُبِحت، فإنها ميتة، يعني: هذه الأجنة: أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ.
يقول: وقال آخرون: أجنة الأنعام التي توجد في بطون أمّهاتها إذا نُحِرت، أو ذُبِحت ميتة.
يقول ابنُ جرير: "وأولى القولين بالصواب في ذلك قول مَن قال: إنَّ المعني بقوله: أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ الأنعام كلّها: أجنّتها، وسِخالُها، وكِبارها؛ لأنَّ العرب لا تمتنع من تسمية جميع ذلك بهيمة وبهائم، ولم يخصّ الله منها شيئًا دون شيءٍ، فذلك على عمومه وظاهره حتى تأتي حُجّة بخصوصه يجب التَّسليم لها"[17]. هذا جريًا على القاعدة.
هنا رجّح الآن بين الأقوال بأي اعتبارٍ؟
باعتبار هذه القاعدة: أنَّ الكلام على عمومه حتى يرِد ما يُخصّصه.
خذ مثالًا آخر: في قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ [المائدة:95]، اختلف المفسّرون في صفة القتل العمد الذي تجب فيه الكفَّارة والجزاء؛ قال بعضهم: هو العمد لقتل الصيد، مع نسيان القاتل لإحرامه -كما سبق في حال قتله-. وقالوا: إنَّ قتله وهو ذاكرٌ لإحرامه، مُتعمدًا قتله؛ لا حكمَ عليه، وأمره إلى الله. قالوا: هذا أجلّ أمرًا من أن يحكم عليه، أو تكون له كفَّارة[18]. يعني: هذا شيءٌ عظيمٌ.
وقال آخرون: بل ذلك هو العمد من الـمُحْرِم لقتل الصيد، ذاكرًا لإحرامه.
يقول ابنُ جرير: "والصواب من القول في ذلك عندنا أن يُقال: إنَّ الله -تعالى ذكره- حرّم قتل صيد البرّ على كل مُحرِمٍ في حال إحرامه، ما دام حرامًا بقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ، ثم بيّن حكمَ ما قتل في حال إحرامه، مُتعمدًا لقتله، ولم يُخصص به المتعمِّد قتله في حال نسيانه إحرامه، ولا المخطئ في قتله في حال ذكره إحرامه، بل عمّ في التنزيل بإيجاب الجزاء كل قاتل صيدٍ في حال إحرامه مُتعمدًا، وغيرُ جائزٍ إحالة ظاهر التنزيل إلى باطنٍ من التَّأويل لا دلالة عليه من نصِّ كتابٍ، ولا خبرٍ لرسول الله ﷺ، ولا إجماعٍ من الأمّة، ولا دلالة من بعض هذه الوجوه.
لاحظ: باقٍ على عمومه حتى يرد ما يُخصّصه"[19].
لأنَّ الأصل هو بقاء المطلق على إطلاقه حتى يَرِد ما يُقيّده -كما سبق في العموم-.
خذ أمثلةً لذلك: في قوله -تبارك وتعالى-: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ إلى قوله: وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة:185]، فقوله هنا: مِّنْ أَيَّامٍ هذا مُطلق لا قيدَ فيه، فهل هذا مُقيّد بالتتابع: فعدّة من أيام مُتتابعات؟
الجواب: لا.
هل هو مُقيد بالتَّفريق: عِدّة من أيام مُتفرقات؟
لم يُقيده: لا بتتابع، ولا بتفريق، وإنما أطلقه، ولم يرد نصٌّ يُقيّد ذلك: لا في الكتاب، ولا في السُّنة.
فهنا يبقى ذلك على إطلاقه، ويكون القضاء على التخيير بين التَّفريق والتتابع، ومَن اشترط التتابع في هذا -منقول عن بعض السَّلف- فهو بحاجةٍ إلى دليلٍ.
هكذا في قوله -تبارك وتعالى- في الكفَّارة: أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ [المائدة:89]، هذه الرَّقبة جاء تقييدها بالإيمان في بعض المواضع -كما هو معروفٌ-، لكن من أهل العلم مَن ذكروا قيودًا أخرى في الرَّقبة، هذا منقولٌ عن بعض السَّلف، كقول بعضهم: لا يُجزئ إلا ما صام وصلَّى، كما اشترط بعضُهم الصحّة والسّلامة من العيوب والعاهات، يعني: ما تكون فيه إعاقة، قادر على الكسب والعمل، وغير ذلك من الشروط التي لم يدلّ عليها ظاهر القرآن، فقد أطلقه الله ، ولم يأتِ في السُّنة ما يُقيّد ذلك، فالأصل بقاء ذلك على الإطلاق.
قال ابنُ جرير: "والصواب من القول في ذلك عندنا أن يُقال: إنَّ الله -تعالى- قد عمَّ بذكره الرَّقبة، كلّ رقبةٍ، فأيُّ رقبةٍ حرّرها المكفّر يمينه في كفَّارته فقد أدَّى ما كُلِّف به"[20]، صغير، كبير، فيه عاهة، سليم، وهكذا.
على كل حالٍ، الأمثلة في المطلق كثيرة، لكن يكفي.
وعبارة ابن جرير -رحمه الله- هنا في أنَّ ذلك قد عمَّ -كما عبَّر هنا-، فهذا لا يُشكِل؛ باعتبار أنَّ هذا يُقال مثالًا على العموم، لا، هو في الإطلاق، والآية واضحة في أنَّ هذا من قبيل المطلق، لكن الواقع أنَّ باب المطلق والمقيّد هو فرعٌ عن باب العام والخاص؛ إذ إنَّ في البابين، أو في النوعين نوع عمومٍ؛ فالعام عمومه استغراقي، والمطلق عمومه بدلي، شموله بدلي، هذا الفرق بين العام والمطلق: شمول الأول استغراقي، والثاني بدلي.
هذا مضى الكلامُ عليه، والأمثلة في الكلام على الثامن من أسباب اختلاف المفسّرين: احتمال الإضمار، أو الاستقلال: فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى [الأعلى:9]، مثّلنا لكم: إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوا [المائدة:33]، بعضهم يقول: إن قتلوا. فيُقدّرون لذلك تقديرات.
والقاعدة: أنَّ الكلام إذا دار بين الاستقلال أو الإضمار، فالأصل الاستقلال؛ لأنَّه لا يحتاج إلى إضمارٍ وتقديرٍ، فيكون ذلك زيادةً على ما ذكره الله ، الأصل أنَّ الكلام تامّ، لا يحتاج إلى مُقدّر.
نعم، وهذا مضى أيضًا في العاشر من أسباب الاختلاف: احتمال كون الكلام على الترتيب، أو التَّقديم، أو التَّأخير، وضربنا في ذلك أمثلةً: في قوله: يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ [آل عمران:55]، وهكذا في قوله: وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ [المجادلة:3]، راجعوا الأمثلة التي ذكرناها هناك، لا حاجةَ لإعادتها.
والقاعدة: أنَّ الكلام إذا دار بين احتمال الترتيب، أو التقديم، والتأخير، فالأصل الترتيب، لماذا؟
لأنَّه هو ظاهر القرآن، فلا يُدّعى فيه أنَّ هذا من المؤخّر الذي هو في معنى التقديم إلا لدليلٍ، مهما أمكن حمل الكلام على ما ذكره الله في سياق الآيات، فهذا هو الأصل، ولا يُدّعى أنَّ هذا مُقدّم، وهذا مُؤخّر، وهذا تجدونه كثيرًا في كتب التفسير.
فهذه قواعد في الترجيح، وهنا ذكرها على أساس أنها وجوه الترجيح، فوجوه الترجيح كثيرة، وحينما نقول: "قواعد الترجيح"، فالذي أظنّه أليق بهذا المصطلح أن تكون تلك القواعد التي قد بُنِيت هذا البناء.
مثل: إذا دار الكلامُ بين الحقيقة والمجاز فالأصل الحقيقة، وإذا دار الكلامُ بين الترتيب، أو التقديم والتأخير فالأصل الترتيب، وإذا دار الكلام بين الإضمار والاستقلال فالأصل الاستقلال. وهكذا.
فهذه القواعد التي بُنيت هذا البناء هي قواعد الترجيح، هي التي يليق بها أن تُسمّى ...
وكثير من الفُضلاء نظروا إلى هذه القضية من زاويةٍ أخرى، نظروا إليها بأيّ اعتبارٍ؟
هم نظروا في كتب التفسير، فنظروا إلى أنَّ ابن جرير رجّح بهذه القاعدة قولًا، أي قاعدةٍ؟ رجّح بقاعدةٍ من القواعد، رجّح قولًا على قولٍ، أخذوه فقالوا: هذه قاعدة ترجيحية. ووضعوها ضمن القواعد الترجيحية.
ووجدوا أنَّ ابن عاشور رجّح بقاعدةٍ، وأنَّ الشنقيطي رجّح بقاعدةٍ، وأنَّ ابن كثير رجّح بقاعدةٍ، رجّح قولًا على قولٍ، فأخذوها وقالوا: هذه قاعدة ترجيحية.
الذي أظنّه -والله أعلم- أنَّ هذا غير صحيحٍ؛ لأنَّ طرق الترجيح -كما ذكرتُ لكم- أوصلها بعضُهم إلى مئة طريق، إذًا كل شيءٍ سنُدخله في الترجيح.
على هذا جميع قواعد التفسير -بلا استثناءٍ- يمكن أن يُرجّح بها قولٌ على قولٍ، جمعت في قواعد التفسير أكثر من مئتي قاعدة في الكتاب الذي طُبِع، وتركتُ نصفَها لم أضعه فيها، تركتُ نصفها أو أكثر، وعندي من ذلك الحين من حدود سنة 1415، أو 1414 إلى الآن أكثر من ضعفي هذا العدد من القواعد.
فهذه القواعد الكثيرة مما وقفتُ عليه، وما لم أقف عليه، كلّ ذلك يمكن أن يُرجَّح به قول، فهذا أحد طرق الترجيح: أن نُرجّح بقاعدةٍ.
هل هذه إذًا جميعًا هي قواعد ترجيحٍ؟
الجواب: لا، وأخّرت الكتابة في هذا، فتركته، هو أحد الأبواب ضمن قواعد التفسير، الباب الأخير هو قواعد الترجيح؛ لأنَّه -كما ذكرتُ لكم- أصول الفقه هي دلائل الفقه إجمالًا، وكيفية الاستفادة منها -التي هي باب الترجيح-، فكان هذا هو الباب الأخير، فتركتُ الكتابة فيه من أجل أن يتسنّى لبعض الإخوان أن يكتب في هذا، فلمّا رأيتُ الكتابة أخذت منحًى آخر؛ وهو أن يُنظر: فلان رجّح بهذه القاعدة؛ إذًا هي قاعدة ترجيح، إذًا كلّ القواعد بلا استثناء ...: العبرة بعموم اللَّفظ والمعنى، لا بخصوص السَّبب، قاعدة ترجيحٍ. وقل مثل ذلك: حمل الكلام على الأشهر ... إلى آخره، قاعدة ترجيحٍ.
فهذا -في نظري وفيما أظنّ- غير دقيقٍ، وقد كُتبت رسائل جامعية في كتب جُردت، وبعض الكتب تقاسمتها مجموعة، كلّ ذلك يُنظر فيه إلى أنَّ هذا المفسّر رجّح بهذه القاعدة، إذًا ضُمّت إلى قواعد الترجيح، ووضعت ...
إذًا جميع قواعد التفسير هي قواعد ترجيح!
لا يوجد شيء اسمه: قواعد ترجيح خاصّة، هذا غير دقيقٍ، عندنا قواعد تفسير، وعندنا قواعد ترجيح، هذه غير هذه، فليس المقصود بقواعد الترجيح كلّ ما يمكن أن يُرجّح به، وإلا كل شيءٍ سيدخل في هذا بلا استثناءٍ، لكن ما بُني هذا البناء بهذه الطريقة: إذا دار الكلامُ بين كذا وكذا فالأصل كذا، نقول: هذه قواعد الترجيح، وهذا الفرق بينها وبين قواعد التفسير، هذا ما أظنّه، والله أعلم.
على كل حالٍ، هذا باب شريف ونافع: ما يتعلق بطرق الترجيح، ونحن بحاجةٍ إلى مثل هذه الأشياء في دراسة هذا التفسير، وفي غيره.
وهذه الأشياء التي تمرّ بنا ستمرّ في الكتاب، وسنُحيل إلى ما ذكرناه مرةً بعد مرةٍ، نقول: كما ذكرنا في المقدّمات، تذكرون ما قلنا في المقدّمات، وهكذا. فهذه ينبغي أن تُضبط وتُعرف.
"الباب السادس: في ذكر المفسّرين.
اعلم أنَّ السلف الصَّالح انقسموا على فرقتين: فمنهم مَن فسّر القرآن، وتكلّم في معانيه، وهم الأكثرون.
ومنهم مَن توقف عن الكلام فيه؛ احتياطًا لما ورد من التَّشديد في ذلك، فقد قالت عائشةُ -رضي الله عنها-: "ما كان رسولُ الله ﷺ يُفسّر من القرآن إلا آيات تُعَدُّ، علَّمه إياهنَّ جبريل"[21]. وقال ﷺ: مَن قال في القرآن برأيه وأصاب فقد أخطأ"[22].
هنا ما ذكره من أنَّ السلف "انقسموا على فرقتين: فمنهم مَن فسّر القرآن، وتكلّم في معانيه، وهم الأكثر، ومنهم مَن توقّف عن الكلام فيه؛ احتياطًا لما ورد من التَّشديد في ذلك"، هذا هو الذي يمكن أن يُقال في توقّف بعض السَّلف، وذلك يُذكر عادةً فيما يتّصل بالتفسير بالرأي والاجتهاد.
فهذا هو وجه الجواب عن توقّف هؤلاء عن القول بالتفسير، لا أنهم يرون أنَّ ذلك يحرُم –يعني: القول بالاجتهاد- إذا كان قد بُني على أصلٍ صحيحٍ، وإنما يتوقفون تارةً تورّعًا، وقد يكون توقف لأنَّه لم يظهر له المعنى، وعباراتهم في هذا كثيرة.
وابن جرير -رحمه الله- قد ذكر البابين في مقدّمة تفسيره: عقد بابًا وذكر فيه مَن تورّع، وعقد بابًا وذكر فيه مَن فسّر باجتهادِه ورأيه.
يقول يحيى بن سعيد: سمعتُ رجلًا يسأل سعيد بن المسيّب عن آيةٍ من القرآن، فقال: "لا أقول في القرآن شيئًا"[23].
وفي روايةٍ: أنَّه كان إذا سُئِلَ عن تفسير آيةٍ من القرآن قال: "أنا لا أقول في القرآن شيئًا"، لكن جاء عنه أنَّه كان لا يتكلم إلا في المعلوم من القرآن، يعني: ما لا يحتاج إلى اجتهادٍ.
وقال عبيدالله بن عمر: "لقد أدركتُ فقهاء المدينة، وإنهم ليُغْلِظون القول في التفسير، منهم: سالم بن عبدالله، والقاسم بن محمد، وسعيد بن المسيب، ونافع"[24].
يقول: وقد قالت عائشةُ -رضي الله عنها-: "ما كان رسولُ الله ﷺ يُفسّر من القرآن إلا آيات تُعدّ، علَّمهنّ إياهُ جبريل"[25].
هذا الأثر لا يصحّ، ضعّفه ابنُ جرير، وابنُ كثير، وغير هؤلاء.
وقال ﷺ: مَن قال في القرآن برأيه وأصاب فقد أخطأ[26]، وهذا أيضًا في إسناده ضعفٌ.
وحمل ابنُ جرير -رحمه الله- الأول: كون النبي ﷺ ما فسّر إلا آيات معدودة، قليلة -على فرض صحّته- على ما جاء مُجملًا في القرآن، مع كون حاجة العباد داعية إلى تفسيره، وذلك لا يُدرك إلا بوحيٍ فيُبيّنه، يعني: أنَّ هذا محمولٌ على نوعٍ من التفسير.
وحمل الثاني -مَن قال في القرآن برأيه- على مَن تكلّم بغير علمٍ، فلم يكن وقوعه على الصَّواب واقعًا من وجهٍ صحيحٍ، بمعنى: أنَّه وقع عليه من غير طريقِه، يعني: مُصادفة، فمَن تكلّم في القرآن، أو تكلّم في العلم، أو في الفُتيا، ونحو ذلك، فوقع على الصَّواب، ولكن من غير أن يأتي ذلك من وجهه؛ فإنَّه يكون ملومًا، ومُؤاخذًا، ومذمومًا، ولو أصاب؛ لأنَّه لم تكن تلك الإصابة إلا من قبيل المصادفة[27].
وتكلّم على هذا المعنى الشَّاطبي -رحمه الله- في "الموافقات"، وهذا لا إشكالَ فيه.
"وتأوّل المفسّرون حديث عائشة -رضي الله عنها- بأنَّه في مغيبات القرآن التي لا تعلم إلَّا بتوقيفٍ من الله تعالى.
وتأوّل الحديث الآخر بأنَّه فيمَن تكلّم في القرآن بغير علمٍ، ولا أدوات، لا فيمَن تكلّم فيما تقتضيه أدوات العلوم، ونظر في أقوال العلماء المتقدّمين، فإنَّ هذا لم يقل في القرآن برأيه".
هذا الكلام تجدون أيضًا قريبًا منه في تفسير ابن عطية في المقدّمات، كما ذكرتُ لكم أنَّ بعض ما ذكره هنا ذكر ابنُ عطية -رحمه الله- أيضًا ما يُشبهُه، والمؤلف استفاد من تفسير ابن عطية، لكن هذه المقدّمات لا يُقال أبدًا أنها مُقتبسة من تفسير ابن عطية، إنما هي مواضع يسيرة كما أُشير الآن في هذا الموضع، ولا إشكالَ في هذا.
"واعلم أنَّ المفسّرين على طبقات:
فالطبقة الأولى: الصَّحابة ، وأكثرهم كلامًا في التفسير ابن عباس، وكان علي بن أبي طالبٍ يُثني على تفسير ابن عباس، ويقول: كأنما ينظر إلى الغيب من سترٍ رقيقٍ"[28].
طبقات المفسّرين تكلّم عليها جماعةٌ من أهل العلم في مُصنَّفاتهم، وبعضهم ألَّف في هذا، مثل: السيوطي، له كتاب مجلد لطيف في طبقات المفسّرين، وكذلك تلميذ السيوطي: الدَّاودي، له كتاب في مجلدين، وغير هؤلاء.
الكلام على هذا أيضًا ذكره ابنُ عطية في مُقدّماته.
وهنا ابنُ عباسٍ -رضي الله عنهما- ... يقول: كان عليٌّ يُثني على تفسير ابن عباس، ويقول: "كأنما ينظر إلى الغيب من سترٍ رقيقٍ"، وهكذا ما جاء عن ابن مسعودٍ : "نِعْمَ ترجمان القرآن ابن عباسٍ"[29].
"وقال ابنُ عباسٍ: "ما عندي من تفسير القرآن فهو من علي بن أبي طالب ".
ويتلوهما عبدالله بن مسعود".
يعني: هنا علي أيضًا هو من أعلم الناس بالتفسير، وإن كان المروي عنه ليس كما جاء عن ابن عباسٍ -رضي الله تعالى عن الجميع-، وقد جاء عن أبي الطُّفيل أنَّه قال: شهدتُ عليًّا يخطب، وهو يقول: "سلوني، والله لا تسألوني عن شيءٍ إلا أخبرتُكم، وسلوني عن كتاب الله، فوالله ما من آيةٍ إلا وأنا أعلم أبليلٍ نزلت أم بنهار، أم في سهلٍ، أم في جبلٍ"[30].
ابن مسعودٍ جاء عنه بنحو ما جاء عن عليٍّ أنَّه قال: "والله الذي لا إله غيره، ما نزلت آيةٌ من كتاب الله إلا وأنا أعلم فيمَن نزلت، ولو أعلم مكان أحدٍ أعلم بكتاب الله منّي تناله المطايا لأتيتُه"[31].
هذا أيضًا تجدون نحوه في تفسير ابن عطية.
المقصود أنَّ الطبقة الأولى هم الصّحابة ، وذكر المشاهير منهم في التفسير.
وهؤلاء لا شكّ أنَّهم غاية في الشُّهرة، والمنقول عنهم كثيرٌ جدًّا، قد قال الثوري عن مجاهد: "إذا جاءك التفسيرُ عن مجاهد فحسبك به"[32].
وعن مجاهد: "عرضتُ التفسير على ابن عباسٍ"، جاء في بعض الرِّوايات: "ثلاث عرضات"، يقول: "أقف عند كل آيةٍ"[33]. فما ظنّكم بمَن كان بهذه المثابة؟
أبو صالح ذكوان، أبو صالح السمّان، المتوفى سنة مئة وواحد، وأبو العالية الرّياحي.
"الـمُفضّل" هنا يقول في الحاشية: المفضّل بن مهلهل السّعدي، أبو عبدالرحمن الكوفي، المتوفى سنة 167، لكن يحتمل أن يكون المرادُ غير هذا، يحتمل أن يكون المراد الـمُفضّل بن سلمة المتوفى سنة 290، له كتاب "ضياء القلوب في معاني القرآن"، المفضّل بن المهلهل السّعدي ما رأيتُ له كتابًا في التفسير، قد يوجد، أنا لا أعرف، لكن لم أرَ في ترجمته ذِكرًا للتفسير، لكن المفضّل بن سلمة له هذا الكتاب.
وواضح أنَّ الـمُفضّل هنا كتابه من الكتب التي من قبيل التفسير بالمأثور، يعني: يذكر الرِّوايات؛ لأنَّه ذكره مع عبدالرزاق الصّنعاني، وعبد بن حميد، والبخاري، وأمثال هؤلاء، عبدالرزاق تفسيره مطبوع، وعبد بن حميد تفسيره مفقود، وهو من أمّهات كتب التفسير، لكن الموجود طُبِعت قطعة صغيرة جدًّا منه، ولم يكن إخراجها بالشكل اللائق بتفسير هذا الإمام، قطعة صغيرة لجزءٍ صغيرٍ.
والواقع أنَّ هذه القطعة أيضًا هي منقولة من حاشية، أو هامش على نسخةٍ خطيّة لأحد الأجزاء من تفسير ابن أبي حاتم، وإذا دقّقت ونظرت في المنقولات على حاشية ابن أبي حاتم من هذا، وفي تفسير ابن المنذر حاشية أيضًا منقولة، وقارنته بالقطعة التي وُجِدت من تفسير ابن المنذر في ألمانيا، وطُبِعت في مجلدين، تُدرك تمامًا -بل من نفس القراءة على الحاشية- أنَّ الذي كتب الحاشية كتبها لنفسه، ينتقي فيها أشياء يختصرها قطعًا من تفسير عبد بن حميد، ومن تفسير ابن المنذر، يعني: ليست نصًّا، وإنما ينتقي لنفسه، ويتصرّف، ويختصر بصورةٍ واضحةٍ تمامًا، فلا نستطيع أن نحكم من خلال هذه الحاشية الصَّغيرة بالنسبة لحجم الكتاب من تفسير عبد بن حميد، أو تفسير ابن المنذر؛ أن نحكم على تفسير عبد بن حميد من خلالها، ولا أن نقول: أنَّ هذا هو نصّ كلام، أو نصّ ما في تفسير ابن المنذر، وإنما يُقال: هذه أشياء مُنتقاة مُستخرجة من هذا التَّفسير.
وبالنسبة لتفسير البخاري هذا مفقود.
وعلى كل حالٍ، أمّهات كتب التفسير بالمأثور هي: تفسير ابن جرير، وتفسير ابن المنذر، وتفسير عبد بن حميد، وتفسير ابن أبي حاتم، فإن زدتَ خامسًا فتفسير ابن مردويه.
هذه التَّفاسير الخمسة هي أمّهات كتب التفسير، لا يكاد يخرج عنها شيء، والذي يظهر أنها بقيت إلى زمنٍ مُتأخّرٍ، فمَن نظر في كتاب "الدّر المنثور" للسيوطي فإنَّه يكاد يجزم بأنَّ السيوطي وقف عليها، ونقل منها كثيرًا في تفسيره.
وللأسف: هذا الكتاب -كتاب السيوطي "الدر المنثور"- مختصرٌ من كتابه الآخر المعروف بـ"ترجمان القرآن"، ذاك بالأسانيد، فاختصره، وحذف الأسانيد بـ"الدر المنثور"، والكتاب كامل، لكنَّه فُقِدَ، فُقِدَ الأصل، وبقي المختصر، فلو وُجِدَ كتاب السيوطي فإنَّه يُعوّض عن هذه المصادر الأصلية في التفسير.
يعني: أنَّه جمع بين أمرين: يذكر الأقوال، يذكر الرِّوايات، وأيضًا يُرجّح، ويُعلّل، ويُؤصّل، ويُقعّد. فجمع بين الرِّواية والدِّراية، هذا المقصود بـ"أحسن النَّظر فيها"؛ لأنَّ أولئك مثل: تفسير ابن أبي حاتم، وعبدالرزّاق، وابن المنذر، وأمثال هؤلاء هم يسردون الرِّوايات فقط.
ابن أبي حاتم له تعليقات يسيرة جدًّا، لكن مثل كلام ابن جرير: في ذكر الكلام على اللغة، والكلام على الترجيح، ويُقعّد، ويُؤصّل، هذا لا يوجد في شيءٍ من هذه الكتب.
وكثيرٌ من المتكلمين في التفسير وفي طبقاته يقولون: إنَّ ابن جرير هو أول مَن جمع بين الرِّواية والدِّراية، فأخرج لنا هذا الكتاب، وأنَّ الذين قبله كانوا يذكرون الرِّواية.
وهذا الكلام فيه نظر؛ فإنَّ تفسير يحيى بن سلّام -وهو موجود جزء منه- يجمع بين الرِّواية والدِّراية، ويحيى بن سلّام مُتقدّم على ابن جرير بأكثر من قرنٍ من الزمان، يعني: متوفى سنة 200 للهجرة، وتفسيره يجمع بين هذا وهذا؛ يذكر الرِّوايات، ويتكلّم على اللغة، وغير ذلك.
أبو بكر النقّاش هو محمد بن الحسن الموصلي، أبو بكر النقّاش، المتوفى سنة 351، كان عالـمًا بالقراءات والتفسير، وكان في أول أمره يتعاطى نقش السّقوف والحيطان، فلُقِّب بذلك، قيل له: نقّاش، وكتابه يُقال له: "شفاء الصّدور في تفسير القرآن"، وهو مُختصر من كتابٍ آخر له اسمه: "مُختصر التَّفسير".
يقول في مقدّمة تفسيره: "فصرفتُ عنايتي، وشغلتُ همّتي لتفسيرٍ مُختصرٍ فيه بُغية العالِم، وفائدة المتعلم، وحذفت منه الطرق والأسانيد؛ لأنا أودعنا ذلك واختصرناه في كتابنا الموسوم بمُختصر التَّفسير".
ويذكر أنَّ كتابه هذا قد اشتمل على علومٍ كثيرةٍ: "فمَن أراد الاستقصاء في نوعٍ من هذه الأنواع فلينظر فيما ذكرناه، فإنَّه يُصادف بُغيته، مع أنَّ كتابنا المختصر قد اشتمل على كثيرٍ من الأخبار المسندات، والمراسيل، والتَّفاسير بالرِّوايات، والقراءات الشّاذّة، والمشهورة، والآيات النَّاسخات، والمنسوخات، والمجملات، والمفسّرات، والمتشابهات، والأقسام، والجوابات، وما تعلّق من التَّفسير بالإعراب، واللّغات، والتَّصريح، والكنايات، والخاصّ، والعام، والمقدّم، والمؤخّر، والمكي، والمدني الموصول الذي لا يجوز قطعه، فمَن قطعه تحرّف من معناه، فذاك غير وجهته، والمفصّل الذي أوّله غير مُتعلّق بمعنى ما بعده، وما بعده يتعلق بأوله، ومواضع الاختصار التي لا تظهر، والإشارة، والإضافة، وكلامٌ يدخل بين كلامين ليس منه ..." إلى آخر ما ذكر من هذه الأنواع.
ثم يقول: "وما يطول تعداده عن علم الظاهر والباطن"، إلى أن يقول: "ويبلغ ذلك ثمانية آلاف ورقة"، لاحظ: ثمانية آلاف!
ابن جرير لـمّا قال لتلامذته: هل تنشطون لكتابة التفسير؟ في البداية كم قال لهم؟ ثلاثون ألف ورقة، فلمَّا قالوا: هذا تفنى فيه الأعمار. قال: ضعُفت الهمم. فجعله في ثلاثة آلاف ورقة[34]، وهنا في ثمانية آلاف ورقة، يعني: قريب من ثلاثة أضعاف ابن جرير، لكن شتّان بين الكتابين.
يقول: "فأحببتُ اختصار هذا المختصر؛ ليسهل ذلك على مَن أراد حفظه، أو أراد الوقوف على كل آيةٍ وما فيها من حرفٍ"، إلى أن يقول: "ويجعل ما كان منها بعيدًا ..." إلى آخر ما ذكر.
له كتابٌ آخر اسمه: "الإشارة في غريب القرآن"، وله كتاب اسمه "الموضِّح في معاني القرآن"، وله أيضًا في القراءات. هذا النقّاش.
وأمَّا الثّعلبي فهو أحمد بن محمد، المتوفى 427، له مُقدّمة في تفسيره ذكر فيها طرق التفسير التي رواها عن أشياخه بالأسانيد، واستفاد من كتب مُعاصرة له، وألَّف هذا الكتاب، ومن الأشياء التي ذكرها في مُقدّمته أنَّه قال: "فألفيت المصنّفين في هذا الباب فِرقًا على طُرُقٍ: فرقة منهم أهل البدع والأهواء"، ثم قال: "وفرقة ألَّفوا، وقد أحسنوا، غير أنهم خلطوا أباطيل المبتدعة بأقوال السَّلف الصَّالحين، وفرقة اقتصروا على الرِّواية والنَّقل دون الدِّراية والنقد، وقسمٌ خَرَم الإسناد الذي هو الركن والعماد، وقسمٌ حازوا قصب السّبق، لكنَّهم طوّلوا الكتب بالمعاداة، وكثرة الطُّرق، والرِّوايات، وقسمٌ جنوا التفسير دون الأحكام، وبيان الحلال والحرام، والمشكلات"[35].
ثم ذكر أنَّه يريد الاستفادة من ذلك جميعًا، وأنَّه يذكر في كتابه أربعةً وعشرين فنًّا.
طبعًا الكتاب مطبوع، وكبير، والكتاب -كما هو معلومٌ- مليءٌ بالمرويات، والقصص، والأخبار التي لا يصحّ كثيرٌ منها، هذا بالنسبة للثّعلبي.
وأمَّا الماوردي: علي بن محمد، المتوفى سنة 450، فقد جمع في هذا الكتاب من أقوال السلف والخلف، وحذف الأسانيد، وإنما يذكر صاحب القول، وأدخل في كتابه من أقوال أهل البدع –كالمعتزلة- دون مُناقشةٍ وردٍّ لهذه الأقوال، مما جعل بعض أهل العلم يطعن عليه في ذلك، واتُّهم بالاعتزال؛ لأنَّه لم يستدرك على هذه الأقوال للمُعتزلة التي نقلها، فكأنَّه يتبنّاها، ولكن قد لا يكون بهذه الصّراحة، ويذكر إضافةً إلى الأقوال التي ينقلها أشياء ليست تُنْسَب إلى قائلٍ مُعينٍ، يعني: هي من قبيل الاحتمالات التي يُولّدها في ذهنه، وهذه لا تُعدّ من جملة الأقوال.
كما ذكرنا لكم في الكلام على اختلاف التنوع: أنَّ من الأقوال التي تُذكر ما لم يقل به قائل، وإنما ذُكر على سبيل الاحتمال، فالماوردي يذكر أشياء من هذا، ويذكر فيه -كما يقول-: ما سنح به الخاطر من معنًى يحتمل، عبّر عنه بأنَّه ...
يقول: "إلا أنَّ كلامهم يحتاج إلى تنقيحٍ"، هنا كأنَّه يريد كتب هؤلاء الثلاثة: النقّاش، والثعلبي، والماوردي، وليس ابن جرير ومَن ذُكِر معه، فهذه تفاسيرهم فيها ما فيها من أقوال أهل البدع، والله المستعان.
"وصنّف أبو محمد ابن قتيبة في غريب القرآن ومُشْكِلِه، وكثير من علومه.
وصنّف في معاني القرآن جماعةٌ من النَّحويين: كأبي إسحاق الزجّاج، وأبي علي الفارسي، وأبي جعفر النحّاس".
الكتاب بالنسبة للنقّاش "شفاء الصدور".
ابن قتيبة -رحمه الله- الذي يُقال له: أديب أهل السُّنة، وهو مُقابل الجاحظ عند المعتزلة، عبدالله بن مسلم بن قتيبة، المتوفى سنة 276 للهجرة، يقول: في غريب القرآن ...، صنّف في غريب القرآن ومُشكله، له تفسير "غريب القرآن"، وله "تأويل مُشكل القرآن".
"وصنّف في معاني القرآن جماعةٌ من النَّحويين: كأبي إسحاق الزجّاج"، وهو إبراهيم الزجّاج، كتابه "معاني القرآن وإعرابه" مطبوع مُتداول، المتوفى سنة 311.
"وأبي علي الفارسي" الحسن بن أحمد، المتوفى سنة 377، كتابه في معاني القرآن اسمه: "الإغفال لما أغفله الزجّاج في معانيه"، يعني: هو تلميذٌ للزّجاج، فاستدرك على الزجّاج ما أغفله، ولم يتعرّض له من معاني القرآن في كتابه "معاني القرآن وإعرابه"، يعني: كأنَّه استدراك على الزجّاج.
يقول: "وأبي جعفر النحّاس" أحمد بن محمد، المتوفى سنة 337، أو 338، له كتاب "معاني القرآن"، مطبوع، وله "إعراب القرآن"، وهي من أشهر الكتب المعروفة، وله كتاب حافل في الناسخ والمنسوخ اسمه "الناسخ والمنسوخ".
وقبل هؤلاء جماعة كتبوا في معاني القرآن: قطرب المتوفى سنة 206، وكذلك الفرّاء المتوفى سنة 207، والأخفش المتوفى سنة 215، هؤلاء قبل هؤلاء الذين ذكرهم هنا.
البلوطي -رحمه الله- المتوفّى سنة 355، المنذر بن سعيد البلوطي هو من العلماء الذين كانوا على عقيدة أهل السُّنة، عقيدة السلف الصالح، وكان أهلُ المغرب وبلاد الأندلس على عقيدة السلف كما أشرتُ سابقًا، أظنّ في هذه المجالس، أو في غيرها، لا أذكر، في الكلام على ابن العربي ورحلته، كتاب "قانون التأويل"، أو ما ذكرنا هذا هنا؟
ما ذكرتُ هذا هنا.
على كل حالٍ، لعله يأتي له ذكر.
كانوا على عقيدة أهل السُّنة والجماعة، عقيدة السلف، حتى جاء أبو الوليد الباجي، الذي هو في طبقة شيوخ أبي بكر ابن العربي، فهو أول مَن نقل العلوم الكلامية إلى بلاد الأندلس والمغرب، وانتشرت.
وكان أبو ذرّ الهروي بمكة -كما هو معروفٌ-، وهو الذي كان يروي "صحيح البخاري"، فكان الناسُ يأتون مكة من أنحاء شتّى، وكانوا يتلقون ذلك عنه، يعني: المذهب الكلامي، فانتشرت المذاهب الكلامية، ووصلت إلى الأندلس، وإلى بلاد المغرب، وما كان للناس عهدٌ بها قبل ذلك.
فمثل المنذر بن سعيد البلوطي كان قبل أبي الوليد الباجي، كان هؤلاء على عقيدة السلف، وكان الذي جاء به أبو الوليد الباجي مُستغرَبًا في ذلك الوقت، ثم أُعجب به أبو بكر ابن العربي، مع حداثة سنّه حينها، فلم يكن يبلغ الخامسة عشرة، لكن كان يتوقّد ذكاءً، واعتنى به أبوه، وأخذ عن أبيه، وعن غيره ممن كانوا يأتون إلى أبيه؛ لأنَّ أباه كان من الكُبراء، فاستفاد من هذا، وعَهِدَ به أبوه إلى جماعةٍ من أهل العلم، فأخذ عنهم وهو صغير، فلمَّا رأى ما عند الباجي، أو ثناء بعض مَن حضر عند أبيه على الباجي، ورأى بعضَ كتب المشارقة في العلوم الكلامية؛ تاقت نفسُه إلى أن يتلقّى عنهم مباشرةً، فذهب في رحلته إلى الحجِّ وهو صغير مع أبيه، في سياقٍ طويلٍ ذكره في كتابه المطبوع "قانون التأويل"، وهو كتاب مهمّ في تاريخ انتشار المذاهب الكلامية كيف وصلت؟
فللأسف جاء إلى المشرق، وكان مُولعًا بالغزالي، مُعجبًا به، حتى مع أنَّه عرف داءه، وقال: إنَّه دخل في بطن الفلسفة، وما استطاع الخروج منها، ومع ذلك كان يُثني عليه ويُطريه إطراءً عظيمًا، والله المستعان.
يقول: "صنّف القاضي منذر بن سعيد البلوطي كتابًا في غريب القرآن وتفسيره"، منذر بن سعيد له كتاب في الناسخ والمنسوخ، وله كتاب في أحكام القرآن يُسمّى "الإنباه على استنباط الأحكام من كتاب الله"، يُقال: إنَّه كان ظاهريًّا في الفروع، وبعضهم اتَّهمه بالاعتزال، وهذا يحتاج إلى تحققٍ.
مكي ابن أبي طالب المتوفى سنة 437، له كتاب "الهداية إلى بلوغ النِّهاية"، هذا في علم معاني القرآن، وتفسيره، وأحكامه، وجمل من فنون علومه.
هذا عنوان الكتاب، وهذا الكتاب حُقّق في رسائل جامعية، وهو مطبوع، وله كتاب في غريب القرآن، وهو مطبوع أيضًا، له "المشكل في غريب القرآن".
كتاب "غريب القرآن" المنسوب لمكي ابن أبي طالب هو كتاب جيّد، مفيد، وكتب غريب القرآن أكثرها تُفسّر المفردة بكلامٍ قد يطول بعض الشيء، يعني: تُفسّر المفردة بسطرٍ، أو سطرٍ ونصف، أو سطرين.
كتاب "العُمدة" يصلح للحفظ، كلمة يُقابلها كلمة في الغالب، فهو أسهل في الحفظ، فهو كتاب جيّد، وإن كانت نسبته لمكي قد لا تثبت، لكن الكتاب ألّفه عالم، فمَن أراد الحفظ فهذا الكتاب أسهل في الحفظ، أمَّا باقي الكتب فأكثرها يُفسّر بكلامٍ يطول، قد يصعب حفظه.
قال: "وكتابًا في ناسخ القرآن ومنسوخه"، مطبوع اسمه "الإيضاح في ناسخ القرآن ومنسوخه"، وهو أحد الكتب الأربعة التي هي الأهم في باب الناسخ والمنسوخ؛ عندنا كتاب النحّاس "الناسخ والمنسوخ"، وكتاب "نواسخ القرآن" لابن الجوزي، وكتاب أبي عُبيد القاسم بن سلّام، فهذه أربعة كتبٍ هي الأهم.
وذكرتُ لكم أنَّ كتاب الدكتور مصطفى زيد مفيد في المناقشات، لكنّه أسرف في ردّ دعاوى النَّسخ، وبالغ حتى لم يكد يُثبت شيئًا.
يقول: "وكتابًا في إعراب القرآن"، وهذا مطبوع أيضًا، إلى غير ذلك من تواليفه، فإنَّها نحو ثمانين تأليفًا، أكثرها في علوم القرآن من القراءات، والتفسير، وغير ذلك.
"وكتابًا في غريب القرآن، وكتابًا في ناسخ القرآن ومنسوخه، وكتابًا في إعراب القرآن، إلى غير ذلك من تواليفه، فإنها نحو ثمانين تأليفًا، أكثرها في علوم القرآن، من القراءات، والتفسير، وغير ذلك.
وأمَّا أبو عمرو الدَّاني: فتآليفه تنيف على مئةٍ وعشرين، إلَّا أنَّ أكثرها في القراءات، ولم يُؤلّف في التفسير إلَّا قليلًا".
على كل حالٍ، بعض كتب الدَّاني المتوفّى سنة 444، بعض هذه الكتب موجودة، ومطبوعة، له كتاب "النّقط"، وله أيضًا كتاب "المحكَم".
أبو العبّاس المهدوي: أحمد بن عمر، المتوفّى سنة 403، له كتاب اسمه "التَّفصيل الجامع لعلوم التنزيل"، واختصره في كتاب "التَّحصيل لفوائد التَّفصيل" في أربع مجلدات، رتّب كتابه هذا في التفسير على خمسة علوم -كما ذكر-: التفسير، والإعراب، والأحكام، والنَّسخ، والقراءات، وطريقته أنَّه يذكر المقطع من الآيات، ويتكلم على أحد هذه الأمور مُفردًا، ثم يُعيد الكرّة في الموضوع الآخر، وهكذا، يعني: هذه الطَّريقة التي سار عليها في هذا الكتاب، وحُقّق منه جزء يسير يتعلّق بسورتي: الفاتحة، والبقرة.
يعني: بهذه الطريقة التي مشى عليها في التأليف-كما ترون-، وإن كانت بهذه الإعادات مُتعبة للقارئ.
أبو بكر ابن العربي معروف، المتوفّى سنة 543 للهجرة، وابن عطية المتوفّى سنة 546، وقيل غير ذلك.
أبو بكر ابن العربي له كتاب "أحكام القرآن"، مطبوع، ومُتداول، وابن عطية كتابه أيضًا مشهور، ومطبوع أكثر مِن طبعة، ومن آخر هذه الطّبعات الطبعة التي طُبِعَت في قطر، وأُعيد تحقيقها قبل سنوات قليلة، هذا الكتاب على اسمه: محرر، ووجيز، حينما تقرأ في هذا الكتاب فإنَّك تجد ما لا تستطيع دفعه في نفسك؛ من أنَّ هذا الكتاب فعلًا محرر، ووجيز، ولو أنَّه سَلِمَ من المذاهب الكلامية لكان من أفضل كتب التفسير وأنفعها.
هنا كتاب "أنوار الفجر" يقول ابنُ العربي نفسه: "وقد كنّا أملينا في كتاب "أنوار الفجر" ثمانين ألف ورقة"، كم يكون هذا؟ في مجلد؟
يقول: "تفرّقت بين أيدي الناس، وحصل عند كل طائفةٍ منها فنٌّ، وندبتُهُم أن يجمعوا منها ولو عشرين ألفًا"[36]، قد ذكر بعضُهم أنَّه رآه في ثمانين مجلدًا، لم ينقص منه شيء -والله أعلم-، نحن لا ندري، رأينا في الكلام في دروس الشيخ محمد الأمين الشَّنقيطي -وهو مُعاصر- من الكلام الكثير ما لا حقيقةَ له؛ يعني: بعضهم يقول: عند فلان. وتجد الأنباء تتوارد من كثيرين: أنَّ فلانًا قد سجّل جميع التفسير. وهذا الكلام يتبيّن أنَّه غير صحيحٍ، ويُذكر عن آخر: أنَّ عنده نحو ألف شريط للشيخ محمد الأمين الشنقيطي. ويتبين أنَّ هذا كلام غير صحيحٍ، إلى غير ذلك، فإذا كان هذا نُشاهده في زماننا هذا، فكيف بما قبله؟
وكتابه "قانون التأويل" هذا الذي يُشير إليه: أنَّه تلافاه بـ"قانون التأويل"، واضح أنَّ هذا الكتاب في التفسير، الكتاب المطبوع في مجلد -الذي أشرتُ إليه قبل قليلٍ- اسمه "قانون التأويل"، هذا ليس بتفسيرٍ للقرآن، وإنما فيه مسائل مُتنوعة، وفيه رحلته إلى الشرق، فالأول هو المقصود، وليس المطبوع الآن، فله كتاب اسمه "واضح السَّبيل إلى معرفة قانون التأويل في فوائد التنزيل"، الظاهر أنَّه يعني هذا، لكن هذا الكتاب الذي فيه ثمانين ألف ورقة، هذا كتاب ضخمٌ جدًّا، كبير.
كتاب ابن العربي المشهور الذي يُحيل إليه العلماء دائمًا في الفتن التي وقعت بين الصّحابة كتاب "العواصم من القواصم"، هذا يُذكر كثيرًا، وكان المطبوع منه جزءًا يتعلق بالفتنة فقط، وهو جزء جيّد، ونافع في هذا الباب، لكن لـمّا طُبِعَ الكتاب كاملًا قلنا: ليته لم يُطْبَع، يعني: هو حينما يذكر من القواصم، يذكر مذهب السَّلف هذا الذي يعتبره من التَّجسيم، يعتبره من القواصم، ثم يشتغل بالردِّ عليه، والله المستعان.
طبعًا: "مُحافظ على السُّنة"، لاحظ: ابن جزي -رحمه الله- يقول: "محافظ على السُّنة"، وكما قلنا في موضوع الاعتقاد: ابن عطية كان على طريقة المتكلمين في الاعتقاد، بل اتّهمه بعضُهم بالاعتزال. وقلنا: إنَّ هذا لا يثبت، فيه نظر، لكن يبقى أنَّه كان على طريقة المتكلمين، فحينما يقول عنه ابنُ جزي أنَّه مُحافظ على السُّنة، أول ما يتبادر إلى ذلك الاعتقاد، وقد ذكرتُ من قبل أنَّه حينما يذكر مذهبَ السلف ونحو ذلك، يفهمه في الغالب على أنَّه هو التَّفويض، والمتكلمون، أو الأشاعرة يغلب على المتقدمين منهم التَّفويض، ويغلب على المتأخّرين منهم التَّجهّم؛ ابن فورك، ومن بعده الرازي، والرازي هو أكثرهم إيغالًا في باب التَّأويل، والوحشة التي وقعت بين الحنابلة والأشاعرة إنما كانت في عهد ابن فورك.
على كل حالٍ، ابن عطية يقول عن كتابه هذا: "قصدتُ فيه أن يكون جامعًا، وجيزًا، مُحررًا"[37]، وهذا الاسم يصدُق عليه، نسبه ابنُ حجر الهيتمي وابنُ عرفة إلى الاعتزال، ولكن هذا غير صحيحٍ، ويوجد في الكتاب أشياء كثيرة يردّ فيها على المعتزلة، يُصرّح فيها بنقض قول المعتزلة، ويردّ عليهم في أصولٍ لا يمكن أن يكون معها من المعتزلة، لا يمكن، ويُقرّر فيها أشياء في الاعتقاد هي خلاف أصول المعتزلة، وأحيانًا يُصرّح بالمعتزلة، وبالردِّ عليهم في مسائل هي من الأصول عند المعتزلة، فلم يكن من المعتزلة.
أمَّا بعض العبارات الـمُوهمة، فمثل ذلك لا يمكن أن يُحْكَم عليه بمُقتضاها، بل يُنظر في مجموع كلامه، فيُنظر في كلامه الواضح البيّن، وما تشابه منه يُفسّر بالواضح.
وهؤلاء الذين حكموا بأنَّه من المعتزلة نظروا إلى بعض العبارات الموهمة، له بعض العبارات مُحتمِلة، وليس هذا المقام في الكلام على تفصيل هذه القضيّة.
أبو جعفر -رحمه الله- أحمد بن إبراهيم الغرناطي، المتوفى سنة 708 للهجرة، له كتاب "مِلاك التأويل القاطع بذوي الإلحاد والتَّعطيل في توجيه المتشابه اللَّفظ من آي التَّنزيل"، هذا الكتاب مطبوع في مجلدين، هذا الكتاب مُفيد فيما يتعلّق بالمتشابه اللَّفظي.
وحدّثتكم من قبل عن المتشابه اللَّفظي، يعني: تجد في الآيات التي تتشابه ألفاظها، ومثلنا لهذا بأمثلةٍ: وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ [الأنعام:151]، وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ [الإسراء:31]. ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا [الكهف:82]، سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا [الكهف:78]. فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا [الكهف:97]، لماذا قال هنا (اسطاعوا)، وهنا (استطاعوا)؟
هذا اسمه المتشابه اللَّفظي، فلماذا قال هنا هكذا، وقال هنا بهذه العبارة؟
هذا يذكرون له وجوهًا، وسميتُ لكم عددًا من الكتب التي تُعنى بهذا، منها هذا الكتاب، بعض هذه الوجوه مُتكلَّفة، وبعض هذه الوجوه حسنة، وكلّ ذلك يرجع إلى الاجتهاد، وله كتاب آخر اسمه "البرهان في تناسب سور القرآن"، مطبوع في مجلد.
أبو الفضل الغزنوي: يقول هنا في الحاشية: "وفيه من التَّصوّف نكت بديعة تجعلنا نظنّ أنَّه أبو بكر ابن أحمد بن إسماعيل بن عيسى الغزنوي، المتوفّى سنة 520 للهجرة، غير أنَّ النقولات التي نقلها ابنُ جزي عن الغزنوي كلّها في مجال اللُّغة، فيحتمل أن يكون أبا علي عالي بن إبراهيم بن إسماعيل الملقّب بتاج الشَّريعة، المتوفى سنة 582 للهجرة". هكذا قال في الهامش.
"الغزنوي" هناك محمد بن يوسف بن علي، أبو الفضل الغزنوي، الحنفي، الـمُقرئ، الفقيه، النَّحوي، المفسّر، نزيل القاهرة، المولود سنة 522، هذا تصدّر للإقراء، وأخذ عنه عَلَمُ الدِّين السّخاوي، وابن الحاجب، توفي في القاهرة سنة 599 للهجرة، غالب الظن أنَّ هذا هو المراد، فهذا مُفسّر، وهو لغوي، ونحوي.
وهذا الذي هنا يُعلّق في الهامش المحقّق ويستشكل قوله: أنَّ فيه من التَّصوّف نكتًا بديعة، وأنَّ المنقولات في التفسير أشياء تتعلق بالنحو والإعراب، فهذا النَّحوي، والذي يغلب على الظنّ أنَّه هو المراد، هو الذي جاء في ترجمته أنَّه نحوي، مُفسّر، وهو محمد بن يوسف بن علي الغزنوي، الحنفي.
هناك آخر اسمه: محمود بن أحمد بن عبدالرحمن، أبو الفضل الغزنوي، الحنفي، هذا متوفّى بواسط سنة 563، لكن الظاهر أنَّ الأول هو المراد، والله أعلم.
وأمَّا أبو الفضل ابن الخطيب فيعني به: الفخر الرازي، المعروف، صاحب "التفسير الكبير"، المتوفى سنة 606.
لاحظ: يقول عن ابن عطية: أنَّه مُتّبع للسُّنة، وعن الزَّمخشري: أنَّه ملأ كتابه بالبدع، هذا يدلّ على ماذا؟
يدلّ على أنَّ ابن جزي -رحمه الله- يرى أنَّ ابن عطية غير مُعتزلي، هذا واضح، لكن لا يرى أنَّه من أهل البدع في الاعتقاد، مُتّبعون للسُّنة، السُّنة عندهم ما هي؟
هي مذهب المتكلمين، مذهب الأشاعرة، والأشاعرة يُسمّون نفسهم بأهل السُّنَّة.
فعلى كل حالٍ، كتاب الزمخشري معروف، والبدع التي ملأ كتابَه بها لا تخفى، والحمل على أئمّة السلف ورميهم بما لا يليق بهم معروف، قد قال عنه البُلقيني: "استخرجتُ من "الكشّاف" اعتزالًا بالمناقيش"[38].
"وأمَّا القرنوي: فكتابه مُختصر، وفيه من التَّصوف نكت بديعة.
وأمَّا ابن الخطيب: فتضمن كتابه ما في كتاب الزمخشري، وزاد عليه إشباع الكلام في قواعد علم الكلام، ونمَّقه بترتيب المسائل، وتدقيق النَّظر في بعض المواضع.
وهو على الجملة كتابٌ كبير الجرم، ربما يحتاج إلى تنخيرٍ وتلخيصٍ.
والله ينفع الجميع بخدمة كتابه، ويجزيهم أفضل ثوابه".
كتاب الرازي اسمه "مفاتيح الغيب"، واستفاد من الزمخشري في الجوانب البلاغية، وهو يُعنى بها أيضًا، ويُعنى بالمناسبات، وأيضًا يتكلّم على علومٍ كثيرةٍ: كعلم الفلك، وكلّ ما يمكن أن يعرِض له مما يتوهمه من الآيات، حتى إذا مرّ على بعض المواضع التي -مثلًا- في سورة البقرة: يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ [البقرة:102]، تكلّم على السحر بكلامٍ يمكن أن يُفرد برسالةٍ في تعليم السّحر، كلام لا يصلح، ولا يليق بحالٍ من الأحوال.
على كل حالٍ، الكتاب يحتاج إلى تهذيبٍ، وقد جاهدتُ نفسي مرارًا، لكني لم أستطع أن أقرأه، ولم أتحمّل أن أقرأه وأستخرج الأشياء الجيدة التي فيه –المفيدة- في مُجلدات معدودة قليلة، ولكني لم أُطِق، فإذا فتحتُ الكتاب أظلم قلبي؛ فتركتُه، وإلا فالكتاب فيه أشياء بديعة، وجميلة، ولطيفة.
وأتعجّب كيف استطاع الشيخ عبدالرحمن المعلمي -رحمه الله- أن يقرأه من أجل سؤالٍ وجّهه إليه الشيخُ ابن مانع عن تكملة التفسير: من أين يبتدئ كلام الرازي؟! وإلى أين ينتهي؟! لأنَّ الكتاب لم يكتمل، فكمّله غيرُه، على خلافٍ في الذي كمّله، فأتى عليه من أجل الجواب على هذا السؤال الشيخ عبدالرحمن المعلمي، فقرأه من أوَّله إلى آخره، وأخرج رسالةً في هذا؛ في الكلام على تفسير الرازي من جهة التَّكميل، خرج بغير المعهود من كلام ابن حجر، وغير ابن حجر؛ فهو يرى أنَّ الرازي كان يُؤلف في مواضع، وأنَّ التكميل جاء في ثنايا الكتاب، في مواضع مُتفرقة.
طبعًا هذا يُحتاج إليه من أجل الكلام على المنقولات أولًا حينما تقول: قال الرازي، قد لا يكون هذا كلام الرازي، وإنما صاحب التَّكملة، حينما يُنسب إليه قولٌ يُناقش في قولٍ في التفسير، أو في البدع أيضًا ينبغي أن يُتحقق من أنَّ هذا كلام الرازي، أو من كلام صاحب التَّكملة.
- انظر: "تفسير الطبري" (2/201).
- انظر: "أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن" للشنقيطي (5/285).
- انظر: المصدر السابق (1/408).
- انظر: "تفسير القرطبي" (6/133).
- انظر: "أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن" للشنقيطي (1/438).
- انظر: "تفسير الطبري" (2/445).
- انظر: المصدر السابق (24/164).
- انظر: المصدر السابق (5/335- 336).
- انظر: المصدر السابق (5/336- 337).
- انظر: المصدر السابق (6/309).
- انظر: "فتح القدير" للشوكاني (1/382).
- انظر: "تفسير الطبري" (6/316).
- انظر: "تفسير الطبري" (6/316- 317).
- انظر: "مجموع الفتاوى" لابن تيمية (7/90).
- انظر: المصدر السابق (7/112).
- انظر: "تفسير الطبري" (2/539).
- انظر: المصدر السابق (9/457).
- انظر: المصدر السابق (10/8).
- انظر: المصدر السابق (10/12).
- انظر: المصدر السابق (10/555).
- أخرجه الطبري في "تفسيره" (1/84).
- أخرجه الترمذي: أبواب تفسير القرآن عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، باب ما جاء في الذي يُفسّر القرآن برأيه، برقم (2952)، وضعّفه الألباني في "مشكاة المصابيح"، برقم (234).
- انظر: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (2/291).
- انظر: "تفسير الطبري" (1/79).
- أخرجه الطبري في "تفسيره" (1/84).
- أخرجه الترمذي: أبواب تفسير القرآن عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، باب ما جاء في الذي يُفسّر القرآن برأيه، برقم (2952)، وضعّفه الألباني في "مشكاة المصابيح"، برقم (235).
- انظر: "الموافقات" للشاطبي (4/252).
- انظر: "تاريخ دمشق" لابن عساكر (44/96).
- انظر: "معرفة الصحابة" لأبي نعيم (3/1702).
- انظر: "تفسير الماتريدي" (1/219).
- انظر: "تفسير ابن عطية" (1/13).
- انظر: "تفسير ابن كثير" (1/10).
- انظر: "تهذيب التهذيب" لابن حجر (10/43).
- انظر: "تذكرة الحفاظ" للذهبي (2/202).
- انظر: "الكشف والبيان عن تفسير القرآن" للثعلبي (1/8).
- انظر: "قانون التأويل" لابن العربي (ص148).
- انظر: "المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز" لابن عطية (1/34).
- انظر: "الإتقان في علوم القرآن" للسيوطي (4/243).