الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
أما بعد: فالخامسة مما ذكره المؤلف مما يدخل تحت الأصول: الترقيق والتفخيم.
وذكر أنَّ الحروف على ثلاثة أقسام:
مفخم في كل حالٍ: وهي حروف الاستعلاء السبعة التي يجمعها قولهم: (قظ خص ضغط).
مُفخم تارةً، ومُرقق أخرى: وهي: الراء، واللام، والألف.
فأمّا الراء فأصلها التفخيم، وتُرقق للكسر والياء، وأما اللام فأصلها الترقيق، وتُفخم لحروف الإطباق.
المقصود بالإطباق: إطباق اللسان على الحنك الأعلى عند النطق بحروفه، بحيث ينحصر الصوت بينهما. هذا مرادهم، وحروفه متفاوتة، ليست سواء في القوة: الطاء أقوى، ثم الضاد، ثم الصاد، ثم الظاء.
يقول: "وأمَّا الألف فهي تابعة في التَّفخيم والتَّرقيق لما قبلها، وأنَّ المرقق سائر الحروف".
التفخيم: هو تضخيم المدى الصّوتي للحرف وتفخيمه، يقولون: تسمينه. تُضخّم الحرف، والترقيق يُقابل ذلك.
يعني: كأنَّه إنحافٌ للحرف، وذبولٌ له. فهذه لها أحكام وتفاصيل.
يقولون: الأصل في الراءات التَّفخيم، التَّغليظ، وقد تُرقق في حالات مُعينة.
اللَّامات الأصل فيها الترقيق، وقد تُفخم، أو تُغلّظ لمشاركتها الراء في المخرج.
الراء حرف تفخيم -كما هو معلوم-، فهذه اللَّام قد تُفخم وتُغلظ لمشاركتها الراء في المخرج، ومُشاركتها النون في المخرج، والنون حرف غُنَّة.
الكلام في هذه القضايا يطول، وليس المقصودُ هنا هو شرح التجويد، لكن بيان هذه الجمل التي يذكرها المؤلف -رحمه الله-، ولولا أنَّه تعرّض لها لَمَا وقفنا عندها.
يقول: "السادسة: الوقف، وهو على ثلاثة أنواع:
سكون جائز في الحركات الثلاث".
طبعًا الأصل لكل حرفٍ موقوف عليه هو السكون المحض، فيُوقف على الساكن.
تسمعون من غير القرآن، وغير التجويد، ولكن هذه فائدة عارضة، يُقال أحيانًا لتجنّب اللَّحن: (سَكِّن تسلم)، فبعضهم يعترض على هذا، ويقولون: الحركات الثلاث، والسكون رابعٌ لها.
فالسكون له حكمٌ، ويكون في حال الجزم مثلًا، أو نحو ذلك، فهو حركةٌ من الحركات، فإذا وُضِعَ في غير موضعه فذلك لحنٌ.
فلا يُقال: (سكّن تسلم)، فلو سكّن المتحرك لكان ذلك من قبيل اللَّحن، فإذًا هو لا يسلم.
هذا الاعتراض: أنَّ القاعدة ليست صحيحةً: (سكّن تسلم)، لكن هذا الاعتراض أيضًا عليه اعتراض؛ فبعضهم يقول: إنَّ التسكين في موضع المتحرك له وجهٌ في العربية، ومن ثمَّ يصحّ أن تُسكّن لتسلم، لكن ربما الذين يقولون: (سكّن تسلم) لا يُدركون هذا الجواب أصلًا، أو أصل الاعتراض.
فهنا يقول: أنَّ الوقف على ثلاثة أنواع:
سكون جائز في الحركات الثلاث: هذا الحرف الذي يُوقف عليه، وهذا الذي يُقال له: السكون المحض.
والروم: وهو الإتيان ببعض الحركة بصوتٍ خفيٍّ يسمعه القريب، دون البعيد، ويكون في المجرور والمرفوع. يقول: روم في المضموم والمكسور، وإشمام في المضموم خاصّة.
الإشمام: ضمّ الشّفتين بُعيد إسكان الحرف، بحيث يراه المبصر، دون الأعمى، ويكون في المرفوع فقط.
فائدة الروم والإشمام: بيان أصل الحركة.
على كل حالٍ، يقول: "السابعة: مراعاة الخط في الوقف".
إذا عرض للقارئ سُعالٌ، أو ضيق نفسٍ؛ اضطُر للوقوف، أو ما يُسمّى: بوقوف الاختبار، كأن يقول له: توقف على هذه الكلمة، وهذا الحرف؛ ليختبره: كيف ينطق به حال الوقف مثلًا؟ فإنَّه لا يقف وسط الكلمة، وإنّما يقف آخرها.
وهذا يتطلب معرفة الرسم في المصحف، وأحيانًا تكون مرسومة بكلمتين، وأحيانًا تكون بكلمةٍ واحدةٍ، فإذا قيل له: توقف؛ للاختبار، كيف يقف على هذا الحرف؟ أو حصل له عارضٌ كالسُّعال، فإنَّه لا بدَّ أن يعرف رسم الكلمة حتى يعرف أنَّ هذه مرسومة بكلمةٍ واحدةٍ، أو بكلمتين، ومن ثمّ يعرف أين يقف؟
هناك كلمات مقطوعة في الرسم؛ فهنا نقف حال الاضطرار أو الاختبار عليها.
يعني مثلًا: (إنّما)، (إنّ)، وَ(ما) هذه جاءت مفصولة: (إن) لوحدها، و(ما) لوحدها في موضعٍ واحدٍ، فيحتاج أن يعرف هذا الموضع، فلو عرض له عارضٌ واحتاج أن يقف؛ سُعال، أو اختبار، أو نحو ذلك، نقول: كيف تقف هنا (إن)، أو يقول: (إنما)؟
في هذا الموضع له أن يقف على (إن)، وفي المواضع الأخرى: (إنما)؛ لأنَّها في الرسم واحدة، يعني: في قوله مثلًا: وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ [يونس:46]، هذه في هذا الموضع مفصولة: (إن)، و(ما): وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ.
(عن)، و(ما) في الأعراف: عَن مَّا نُهُوا عَنْهُ [الأعراف:166]، (عن) لوحدها، و(ما) مُنفصلة عنها.
(من)، و(ما): هَل لَّكُم مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم [الروم:28] في سورة الروم، (من) مكتوبة لوحدها، و(ما) مكتوبة لوحدها، فهنا تقف على (من)، لكن في سائر المواضع (مما)، وهكذا.
لكن ما كان موصولًا كالكلمة الواحدة في الرسم نقف على آخر الموصول: وَإِمَّا تَخَافَنَّ [الأنفال:58].
(عمّ) أصلها: (عن)، و(ما): عَمَّا يُشْرِكُونَ [الأعراف:190].
(بئسما): بِئْسَمَا اشْتَرَوْا [البقرة:90]، في مثل هذا مرسومة كلمة واحدة: (بئسما).
وما كان ثابتًا من حروف المدّ في آخر الكلمة أثبتناه: (وقالا)، ما نقرأها: (وقال) حال الوقف، لا بدَّ أن نأتي بالحرف: وَقَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ [النمل:15]، هنا لا نقف على (وقالا)، لكن لو أخذه سعال، أو وقف اختبارًا كيف تقف على (وقالا) مثنى؟ (وقالا)، فنقف على ألف التَّثنية، وإن حُذِفت لفظًا في درج الكلام: وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ حينما نقرأ، ونصله بما بعده: فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ [الأعراف:22].
أمّا ما كان محذوفًا فيُحذف (يا أيه): يَا أَيُّهَ السَّاحِرُ [الزخرف:49]، مكتوبة ياء وبعدها ألف، همزة، وبعدها ياء، وبعدها هاء: يَا أَيُّهَ السَّاحِرُ في هذا الموضع، يعني: الألف موصولة بالياء، وليس بعدها ألف أخرى، ألف بهمزتها موصولة بالياء، وبعد ذلك تأتي ياء ثانية: يَا أَيُّهَ السَّاحِرُ، هنا يُوقف عليها بالسكون مراعاةً للرسم: يَا أَيُّهَ، الهاء هنا بدون ...، يعني: ليس آخر ذلك الألف أيضًا، نقول: يَا أَيُّهَا، يَا أَيُّهَ في هذا الموضع: يَا أَيُّهَ السَّاحِرُ.
كذلك تاء التأنيث إن كُتبت بالتاء المربوطة وقفنا عليها بالهاء، مثل: (ربوة) مكتوبة بالتاء المربوطة: (ربوة)، وإن كُتبت بالتاء المفتوحة وقفنا عليها بالتاء: (رحمة)، هنا نقول: (رحمَتَ) حين تكون مكتوبة بالتاء المفتوحة: (نعمتَ)، نعمت، رحمت، لعنت، وهكذا.
هذه الأمور المتعلقة بالقراءات، يعني: الذي تجدونه في كتب التجويد، هذا تقريب قريب ومُبسط لكلامٍ كثيرٍ، ومُفصّل وطويل في كتب القراءات، فأُخِذ منه ما يتعلق بالقراءة التي نقرأ بها مثلًا: قراءة حفص، وقد يُشار إلى بعض الأوجه، وإلَّا في الأصل أنَّه يُؤتى به على وجهٍ واحدٍ، فعندما تقرأ أنَّ هذا يُمدّ كذا حركة، وهذا يُمدّ كذا، هذا فقط يعني: هو أحد الأوجه، وإلَّا إذا دخلت في كتب القراءات وجدت بابًا واسعًا تُدرك معه أنَّ الله -تبارك وتعالى- قد قيّض لهذا القرآن حَفَظَةً ضبطوه في غاية الدّقة، بحيث يصعب التَّمييز أحيانًا بين وجهٍ وآخر، ويكون ذلك بوجهٍ دقيقٍ، ربما نصف حركةٍ بين قارئ وقارئ، أو ما يتعلق باختلاس، أو نحو ذلك، أشياء دقيقة، فتجد هؤلاء ضبطوها وأتقنوها. وهذه الأوجه يقرؤون بها بكلّ تمهُّرٍ.
فضبط مثل هذه الأشياء، وروايتها بهذه الدّقة، فكيف بالآيات؟ الآية الكاملة، أو كلمة، فهذا ضبطه أولى، فوصلنا هذا القرآن في غاية الدّقة؛ ولذلك فإنَّ هؤلاء قد استفرغوا جهدَهم بضبط وجوه القراءة؛ ولذلك تجد الغالب أنَّ مَن توجّه إلى هذا النوع من التَّخصص يستنطف جهده وطاقته، بحيث لا يبقى معه فضل جهدٍ يستطيع معه أن يكون فقيهًا، أو مُحدِّثًا، أو مُفسّرًا، أو غير ذلك إلَّا ما قلَّ، يعني: يوجد قِلّة مثل: مكيّ ابن أبي طالب كان مُفسّرًا. وابن جرير الطبري كان إمامًا في الحديث، وفي الفقه، وفي التفسير، وفي اللغة، وفي القراءات. وأبو عبيد القاسم ابن سلّام كان من أئمّة القراءات، وهو إمامٌ في اللغة، وفي علومٍ مُتنوعةٍ، هؤلاء قِلّة، لكن الأكثرية ليسوا كذلك، هو مُتفنن في القراءات.
ولذلك يُؤخذ هذا من أهله، ولا داعي للشَّغب عليهم، والإتيان بأشياء غريبة وشاذّة بحكم أنَّ هذا طالما صحَّ إسناده، ويُترك هؤلاء القُرّاء، وما اشتُهِر عندهم، وما تلقّوه جيلًا عن جيلٍ، والله المستعان.
"الباب التاسع: في المواقف، وهي أربعة أنواع: موقف تام، وحسن، وكافٍ، وقبيح.
وذلك بالنَّظر إلى الإعراب والمعنى، فإن كان الكلامُ مُفتقرًا إلى ما بعده في إعرابه أو معناه، وما بعده مُفتقرًا إليه كذلك لم يجز الفصل بينهما، والوقف على الكلام الأول قبيح، وذلك الفصلُ بين كل معمولٍ وعامله، وبين كل ذي خبرٍ وخبره، وبين كل ذي جوابٍ وجوابه، وبين كل ذي موصولٍ وصلته.
وإن كان الكلامُ الأوّل مُستقلًّا يُفهم دون الثاني، إلا أنَّ الثاني غير مُستقلٍّ إلا بما قبله، فالوقف على الأوّل كافٍ، وذلك في التوابع والفضلات: كالحال، والتَّمييز، والاستثناء، وشبه ذلك، إلا أنَّ وصل المستثنى المتصل آكدُ من المنقطع، ووصل التوابع والحال إذا كانت أسماء مُفردةً آكد من وصلها إذا كانت جملةً.
وإن كان الكلامُ الأول مستقلًّا، والثاني كذلك، فإن كانا في قصّةٍ واحدةٍ فالوقف على الأوّل حسنٌ، وإن كانا في قصتين مختلفتين؛ فالوقف تامّ.
وقد يختلف الوقفُ باختلاف الإعراب أو المعنى؛ ولذلك اختلف الناسُ في كثيرٍ من المواقف، ومن أقوالهم فيها: راجح، ومرجوح، وباطل، وقد يُوقف لبيان المراد، وإن لم يتم الكلام.
تنبيه:
هذا الذي ذكرنا من رعي الإعراب والمعنى في المواقف استقرّ عليه العمل، وأخذ به شيوخُ المقرئين، وكان الأوائل يُراعون رؤوس الآيات، فيقفون عندها؛ لأنَّها في القرآن كالفِقَر في النثر، والقوافي في الشِّعر.
ويُؤيد ذلك ما أخرجه الترمذي عن أمِّ سلمة -رضي الله عنها-: أنَّ رسول الله ﷺ كان يقطع قراءته، يقول: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، ثم يقف، الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، ثم يقف[1]".
قبل أن نتكلم على موضوع الوقف هنا، الكلام الأخير الذي ذكره في الأصول، قال: "إثبات الياءات، وحذفها، وتسكينها، وفتحها"، هذه ما تكلّمنا عليها.
على كل حالٍ، يمكن أن أُشير هنا إلى بعض ما يُوضِّح ذلك.
القُرّاء تناولوا نوعين من الياءات:
الأول: ياءات الإضافة بين الإسكان ...، يعني: هم تناولوا نوعين: الأول: ياءات الإضافة، والثاني: الياءات الزَّوائد.
فياءات الإضافة: هذه الياء الزائدة الدَّالة على المتكلم تتصل بالاسم، أو الفعل، أو الحرف: (نفسي)، (ذكري)، (هداني)، (إنّي)، لاحظ: هذه متّصلة بالحرف: (لي)، (فطرني)، هنا متّصلة بالفعل، و(نفسي) متّصلة بالاسم.
فهذه الياءات، أُثبِتت بعض هذه الياءات خطًّا في المصحف العثماني، وحُذِفت في مواضع، هذه الياءات تارةً منها ما هو لام الكلمة، ومنها ما هو ياء المتكلم، ومنها ما هو ياء المنقوص؛ الفعل الذي يكون آخره، أو اللَّفظة التي يكون آخرها ياء في أصل بنيتها.
قيل لها: ياءات زائدة؛ لأنها زائدة على خطِّ المصحف عند مَن أثبتها من القُراء في التلاوة: إِن تَرَنِ أَنَا [الكهف:39]، لاحظ: اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ [غافر:38]، هنا بدون ياء في الرسم، فبعضهم يُثبت الياء، يُسمّونها: الياءات الزوائد: إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيَصْبِرْ [يوسف:90]، هنا مرسومة بالياء: وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ [إبراهيم:40]، أصلها (دعائي)، رُسمت بغير ياء، يعني: آخرها همزة في الرسم: يَوْمَ يَأْتِ [هود:105] بدون ياء بالرسم، وبعضهم يُثبت الياء.
وكذلك: ذَلِكَ مَا كُنَّا في سورة الكهف نَبْغِ [الكهف:64]، رُسمت بدون ياء، لكن فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ [النمل:36] رُسمت بالياء، يَا عِبَادِ بدون ياء لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ [الزخرف:68].
فهذه -على كل حالٍ- لها أحكام، حتى في اللغة، بصرف النَّظر عن القراءة، والقرآن نجد أننا أحيانًا نتحيّر ونحن نكتب: هل نُثبت الياء هنا، أو لا نُثبت الياء في الكتابة؟ وهذه لها ضوابط متى تُكتب بالياء؟ ومتى ما تكتب بالياء؟ ومتى تكون مُخيّرًا؟
وهناك بعض الكتب تُعالج هذه القضايا، وتذكر التفاصيل والأحوال، يَحسُن بالإنسان أن يُراجعها من أجل أن تكون كتابتُه سليمةً.
كثيرًا ما نجد لوحات أحيانًا تكون مكتوبةً في المساجد، أو في إرشادات في الطرق، أو غير ذلك، قد تكون كُتبت خطأً، ونرسل رسائل بوسائط الآخرين، وتكون هذه الكتابات أحيانًا فيها أخطاء بسبب أننا لا نعرف متى تُكتب الياء؟ ومتى ما تُكتب؟ ومتى نكون مُخيَّرين: يكون هذا الوجه صحيحًا، وهذا صحيحًا؟ فتجدون مثل هذه الأشياء في كتب النحو، وتجدون مثل هذه أيضًا توجد في كتب أشبه بالقواميس التي تذكر أحوال الألفاظ والحروف -الكلمات والحروف- من جهة الرسم، والإملاء، والنَّحو، يعني: مثل القواميس، فيتحدث عن الياء مثلًا، ويذكر كلّ ما يتعلق بالياء من أحكامٍ، ومن ذلك ما يتعلق بكتابتها: متى تُكتب، ومتى تُحذف وجوبًا وتخييرًا؟
هناك كتب تُسهّل كثيرًا، نقلت من كتب النحو، وقواميس في الإعراب: قواميس في النحو، في التصريف، قواميس في البلاغة، فهناك كتاب "معجم الإعراب" لإيميل يعقوب –مجلد-، وكذلك الدكتور محمد الأشقر -رحمه الله- له معجم أيضًا في النحو، والإعراب، والبلاغة، وأمثال هذه الكتب.
بعض هذه الكتب في مجلد، وبعض هذه الكتب في ثلاثة مجلدات، وهي مُفيدة، خاصَّة لغير المتخصص الذي ما يستطيع أن يعرف مظان هذه الأشياء مُباشرةً، هذه قواميس على حروف المعجم، ماذا تُريد؟
تريد حرف الياء، كلّ ما يتعلق به تجد تفاصيله، والهمزة؛ كلّ ما يتعلق بالهمزة تجده. حتى من الناحية الإملائية: كيف تُكتب؟ متى تُكتب على نبرة؟ متى تُكتب على السطر؟ متى تُكتب على الألف؟ إذا كانت في وسط الكلمة، وإذا كانت في آخر الكلمة، فهذا مُفيد.
أما فيما يتعلق بالوقف والابتداء فذكر أنَّه أربعة أنواع، وبعض أهل العلم يذكر غير هذا، يعني: هم لا يتَّفقون على تحديده بأربعة أنواع، ثم هم يختلفون أيضًا في التفاصيل، حينما يقولون: إنَّ هذا الوقف كذا، أو هذا الوقف كذا، أو هذا الوقف كذا، بينهم اختلاف، فقد تجد الكلامَ الذي يذكره هنا، قد يذكر غيره كلامًا آخر؛ فلا تستغرب؛ لأنَّهم يختلفون في تفسير هذه الأشياء، وفي الكلام على محملها، والكلام على تفاصيلها وأحوالها؛ فهذا أمرٌ لا إشكالَ فيه.
فالوقف عندهم -عند القُراء- هو قطع الصوت عند آخر الكلمة زمنًا يتنفس فيه عادةً بنية استئناف القراءة، لا بنية الإعراض عنها.
يعني: ما هو توقّف عن القراءة، وإنما الوقف عندهم هو وقف بقدر النَّفَس، بنية المعاودة للقراءة، لا أنَّه توقف وانتهى.
وحينما نتعرّض لموضوع الوقف عند القرّاء، فهنا يُنظر إليه باعتبار ما يُوقَف عليه، وما يُبتدأ به.
فهذه القضية يُحددها المعنى، ويحكم فيها السياق، وتتصل بتجويد الأداء، حاوَلَ بعضُهم –يعني: بعض المشتغلين بالتجويد- أن يجعل قواعد للوقف والابتداء، كنتُ أقول لهؤلاء: هذا لا يمكن، يمكن أن تجعل قواعد قليلة في مواضع معينة، محددة، لكن السواد الأعظم يرجع إلى المعنى والإعراب، فيكون الوقفُ هنا -كما سيتّضح- تامًّا باعتبارٍ، ويكون هذا الوقف قبيحًا باعتبارٍ آخر، قد يكون هذا الوقف كافيًا باعتبارٍ، وقد يكون تامًّا باعتبارٍ آخر، بحسب المعنى؛ ولذلك تجد اختلافًا في المصاحف أحيانًا في علامة الوقف، والسبب: أنَّ ذلك يرتبط بالمعنى، ومن ثمّ فإنَّ مَن يعرف المعاني والتفسير قد يكون له اختيارات في الوقف غير الـمُثبَت على المصحف، قد يُخالف ما وضع على المصحف؛ لأنَّ الذي وضع على المصحف لم يضعه رسولُ الله ﷺ.
نعم، هناك مواضع قليلة جدًّا موقوفة، يُسمّونها: وقوف جبريل، لكن الكلام على السواد الأعظم، فإنَّ ذلك يرجع إلى المعنى، فالذي يعرف المعاني ويعرف التفسير من أهل العلم قد تكون له اختيارات تُخالف هؤلاء العلماء الذين وضعوا هذه العلامات في هذه المواضع، يُخالفهم، وهو يرى رأيًا آخر في هذه المسألة، هذا لا إشكالَ فيه، لكن مَن لا بصر له بهذا ماذا يفعل؟
يتبع العلامات الموجودة في المصحف، هذه العلامات لم تكن موجودةً في المصاحف حينما كُتبت على عهد عثمان ، وإنما وُجِدت متأخّرةً حتى في طور التَّحسين الأول، يعني: لـمّا وُجِد نقط الإعجام، ونقط الشَّكل، وسبق الكلام على هذا، ما كانت فيه علامات الوقف والابتداء، هذه من الأطوار التي جاءت بعد ذلك.
طيب، كيف كان السَّابقون يقفون؟
كان بعضُ العلماء إذا جاءه مَن يريد أن يأخذ عنه الحديث –يعني: من المحدّثين- يختبره في القرآن أولًا، ويسأله عن مواضع في الوقف، ابن المبارك كان يفعل هذا؛ فإن رآه يُحسن ذلك حدّثه، وإلَّا لم يُحدّثه، هذا الذي يُحسن الوقف لـمّا يُختبر، ما كانت عندهم علامات، فيكون هذا مما تلقّاه، أو يكون هذا له بصرٌ بهذه المعاني ووجوه الإعراب أيضًا.
ومن هنا، فعندنا ما يتعلّق بما يُوقف عليه، وما يُبتدأ به، فهذه قضية يُحددها المعنى، ويحكم فيها السياق، لكن كيف نقف على الكلمة؟ كيف نبتدئ؟
الصور الصوتية التي تنشأ عن هذا، أو التَّصريفية.
فهذا هو الجانب الآخر المتعلق بموضوع الوقف، والوصل، والابتداء.
هذا الوقف نوعان: منه اضطراري، ومنه ما هو اختياري.
الاضطراري: يكون عند انقطاع النَّفَس، وتعذُّر مُواصلة القراءة لسببٍ خارجٍ عن إرادة الإنسان، فيقف في ذلك الموضع، ولو كان الوقفُ قبيحًا، أو غير صحيحٍ، أو غير مناسبٍ؛ لأنَّه لعذرٍ، فإذا أراد أن يُعاود يبدأ من البداية المناسِبة التي تُبرز المعنى الصَّحيح، لا يبدأ من مكانٍ لا يحسُن البدء منه؛ لأنَّه وقف في غير موضعٍ.
وما يذكره بعضُ أهل العلم من المعاصرين من غير القُرّاء، يقولون: لا يُعيد الكلمة مطلقًا؛ لأنَّ ذلك يُوهم أنها مذكورة مرتين، وأنَّ هذا تكرار، فهذه زيادة!
هذا كلام غير صحيحٍ، وإنما يُرجع في مثل هذا إلى أهل الاختصاص، وكل مَن تكلم في غير فنّه أتى بالعجائب، فلا داعي لمثل هذه التَّكلفات، ولو كان القائل عالـمًا في أبوابٍ، وفي علومٍ، ولكن يبقى مثل هذا إنما يُؤخذ ... يُرجع فيه إلى أهله.
فالكلمة حينما يقف الإنسانُ ويضطر ما يبدأ من مكانٍ غير صحيحٍ ويُفسد المعنى، أو لا يليق، إنما يرجع إلى الموضع المناسب الذي يستقيم معه الكلام، ولا يُقال هنا: إنه زاد، وكأنَّ هذه الجملة أو الكلمة مذكورة مرتين في الآية! لا أحدَ يفهم هذا، ولو كان مُوغلًا في الجهل، فإنَّه يُدرك أنَّه أعاد.
يعني مثلًا: لو اضطر القارئ أن يقف عند قوله -تبارك وتعالى-: فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ [البقرة:258]، ثم يقول: لَا يَهْدِي الْقَوْمَ، هذا ما يصلح، لكنه يعود فيقول: وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ، وإلَّا فالوقف على لفظ الجلالة هنا يُفسد المعنى تمامًا، وهو في غاية القُبح.
فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ، أعوذ بالله من أن يقف الإنسانُ من غير اضطرارٍ على لفظ الجلالة؛ لأنَّ المعنى ما يصحّ بحالٍ من الأحوال، أعوذ بالله! كفرٌ واضحُ المعنى، فإذا أخذه سعال، أو انقطع نَفَسُه، أو نحو ذلك؛ يرجع، يُعيد لفظ الجلالة مرةً أخرى: وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ، فهذا وقفٌ اضطراري.
هناك وقفٌ اختياري له عدّة أحكام بحسب طبيعة الموقف الذي اختاره القارئ.
هذه التي ذكرها هنا، ذكر أربعة؛ فمنها: الوقف التام، هذا الوقف التام هو أكملها، بحيث لا يكون للكلام الذي تقف عليه تعلُّق بما بعده، لا من ناحية اللَّفظ، ولا من ناحية المعنى، وهذا في الغالب يكون عند رؤوس الآي، وانقضاء القصص، ما يكون تعلّق: لا في المعنى، ولا في اللَّفظ.
في اللفظ من الناحية الإعرابية يكون هناك ارتباطٌ، مثل: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:4]، هذا وقفٌ تامٌّ، ثم يقول: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]، فهنا لا ارتباطَ: لا في اللَّفظ –يعني: من الناحية الإعرابية-، ولا في المعنى: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ، لكن: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [الفاتحة:2-3] هنا ارتباطٌ، المعنى تامّ، لكن في اللَّفظ هناك ارتباط: الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ هذه تتعلق بما قبلها من الناحية الإعرابية، أليس كذلك؟
ولذلك جاءت مجرورةً: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فهي صفة، فهذا تعلّق في اللَّفظ.
فهنا يبدأ في سورة الفاتحة مثلًا: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ، يقول: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ، هذا وقفٌ تامّ، وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [البقرة:29]، في سورة البقرة: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ [البقرة:30]، هنا موضوعٌ آخر، فهذا يُسمّى: وقفًا تامًّا، وقد يكون هذا التَّمام قبل انقضاء الآية: وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ [النمل:34]، بأي اعتبارٍ؟
لاحظ: بعض مواضع الوقف هي باعتبارٍ على أحد احتمالين، يعني: إن قلنا: هذا من الموصول لفظًا، المفصول معنًى، بمعنى: وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ، أنَّ قوله: وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ من كلام الله، يُقرِّر ويُصدِّق ما قالت، ليس من كلام ملكة سبأ، هي قالت: إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً، قال الله تصديقًا لقولها: وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ، فيكون الوقفُ على قوله: (أذلة) تامّ بهذا الاعتبار؛ لأنَّه ليس هناك اتِّصال في اللفظ، ولا في المعنى، اكتمل كلامها.
لكن على القول بأنَّ هذا من كلامها -هذا قولٌ آخر في الآية- فإنَّ هذا لا يكون من قبيل الوقف التام؛ لأنَّ ما بعده له اتّصال، بقي كلامها لم يكتمل، فهذا قد يكون قبل انتهاء الآية، قبل آخر الآية، وقد يكون في وسطها: لَّقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي [الفرقان:29]، انتهى قولُ القائل، هذا الذي أضلّه الشيطان، ثم جاء التَّعقيب من الله: وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولًا، فهذا وقف تامّ في نصف الآية.
وقد يكون ذلك بعد جزءٍ في الآية التي بعدها، يعني: تتصل مع جزءٍ في التي بعدها: أَلَا إِنَّهُم مِّنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ [الصافات:151] هذا رأس آيةٍ، وَلَدَ اللَّهُ [الصافات:152]، يقولون ماذا؟
فمقول القول في الآية التي بعدها: لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللَّهُ، فهنا يكون الوقفُ تامًّا.
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجًا قَيِّمًا [الكهف:1-2]، لاحظ: فإذا قرأت: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجًا قَيِّمًا فهنا (قيمًا) صفة لهذا الكتاب، هناك ارتباط في اللفظ، لكن كما قلتُ: يكون ذلك بحسب المعنى أحيانًا، وكذلك الإعراب، فقد يختلفون في وجوه الإعراب؛ فيكون تامًّا بإعرابٍ، وغير تامٍّ على وجهٍ آخر.
كذلك أيضًا في سورة الكهف: لَّمْ نَجْعَل لَّهُم مِّن دُونِهَا سِتْرًا كَذَلِكَ [الكهف:90-91]، باعتبار أنَّ (كذلك) يرجع إلى ما قبله، لكن هذا ليس محل اتِّفاقٍ، بعضهم يقول: يتعلّق بما بعده: كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا [الكهف:91]، وأحيانًا يكون الوقفُ تامًّا على تفسيرٍ، أو إعرابٍ، وغير تامٍّ.
على كل حالٍ، هذا كلّه –يعني- يمكن أن يُمثّل له بالآية المشهورة، آية آل عمران: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ [آل عمران:7]، هنا يمكن أن يكون الوقفُ تامًّا، هنا المعنى والإعراب؛ لأنَّ هناك ارتباط بين المعنى والإعراب، والإعراب تحت المعنى.
وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ إذا قلنا: التَّأويل هنا على روايةٍ عن ابن عباسٍ -وقف تامّ هنا- أنَّ ذلك من المتشابه المطلق الذي لا يعلمه إلا الله ، فهذا يكون في حقائق الأمور الغيبية، وما أشبه ذلك مما استأثر الله بعلمه، وليس في المعاني.
الله خاطبنا بما نعلم، بما نعرف، بما نفهم، بلغة العرب، فهنا (إلَّا الله) هذا يكون له معنًى، وتكون الواو بعده واو استئنافٍ: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا [آل عمران:7]، وإذا وصلنا: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ تكون الواو عاطفةً على لفظ الجلالة، يعني: أنَّ الراسخين يعلمون، وهذا يكون بمعنى: التفسير.
لاحظ: باعتبار المعنى اختلف، وباعتبار الإعراب أيضًا اختلف.
هذا المثال مشهورٌ، وكلنا يعلم الكلامَ فيه، فيكون تامًّا بهذا الاعتبار.
وتعرفون كلام ابن عباس في الوقفين، كذلك على القول بأنَّه مُستأنف، هذا جاء عن عائشةَ -رضي الله عنها-، وابن عباسٍ أيضًا، وابن مسعودٍ، وغير هؤلاء، وهو مذهب أبي حنيفة، ومن أهل معاني القرآن: الفرّاء، والأخفش، ومن القُرّاء -ممن يقف على لفظ الجلالة-: نافع، والكسائي، ويعقوب. يقولون: أنَّ الراسخين في العلم لا يعلمون التَّأويل[2]، لكن يُفوّضون. وهذا يُحمل على الكُنْه، والكيفية، وحقائق الأمور الغيبية، لا المعنى والتَّفسير.
لكن على رأي مَن يرون الوصل: يكون الوقفُ عندهم تامًّا، أو غير تامٍّ؟
باعتبار أنَّه معطوف على قول كثيرٍ من المفسّرين والأصوليين يكون غير تامٍّ.
إذًا المسألة قد تكون اعتبارية، الوقف الكافي عندهم، ما إذا كان ...، يعني: ما نقف عليه له ارتباطٌ بما بعده في المعنى دون اللَّفظ.
لماذا سُمِّي بالكافي؟
للاكتفاء به عمَّا بعده، فهذا كالوقف التام في جواز الوقف عليه، والابتداء بما بعده، لكن لـمّا وُجِدَ نوع ارتباطٍ في المعنى قيل له: كافٍ.
هذا كثيرٌ في رؤوس الآي، وفي غيرها: وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ [البقرة:3]، لاحظ: الآن هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ [البقرة:2-4]، هذه أوصافٌ لهم.
سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى [الأعلى:1-2]، هنا بإسقاط حرف العطف، العرب تذكر ذلك بالعطف، وبدون العطف: الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى [الأعلى:2-4]، هذه كلّها أوصاف لموصوفٍ واحدٍ، فمن جهة المعنى فيه ارتباط، لكن من جهة الإعراب كل جملةٍ تامّة، أليس كذلك؟
يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا هنا الوقف كافٍ، وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ [البقرة:9]، ثم فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا هذا الوقف كافٍ، وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ [البقرة:10]، هذا حكمهم في الآخرة.
فكل الأحكام راجعة إليهم، فهناك ارتباطٌ بالمعنى، لكن الإعراب غير مُرتبط هذا الكلام ببعضه من هذه الحيثية.
وهذه الكفاية تتفاوت أيضًا، ليست على مستوى واحدٍ في الوقف الكافي، يعني: مثلًا في هذا المثال: فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ هذا كافٍ، فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا، لو واصلنا قلنا: فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا، هذا أكفى منه -كما يُقال-، أكثر كفايةً، يعني: الأول كافٍ، وهذا أفضل في الكفاية.
ولو زدنا وكمّلنا إلى قوله: بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ فإنَّ ذلك يكون أوفى في الكفاية، أكثر كفايةً.
فالكفاية تتفاوت، الآن مثلًا في قوله -تعالى-، لاحظ: الإعراب كيف يُؤثر، أو التَّفسير؟ قد يكون كافيًا على إعرابٍ، أو تفسيرٍ، وقد لا يكون كذلك على تفسيرٍ، أو إعرابٍ آخر.
في آية البقرة: وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ، هنا: وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ [البقرة:102]، (ما) هذه إن قلنا: إنها نافية: (ما أنزِل) لم يُنزَل السّحر على الملكين، فهذا الوقف بهذا الاعتبار يكون كافيًا.
لكن لو جعلناها موصولة: (يعلمون الناس السّحر والذي أُنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت)، يُعلّمونهم السّحر والذي أُنزل على الملكين، يعني: (ما) موصولة، يكون الوقفُ غير كافٍ.
هناك عندهم الوقف الحسن -هذا الثالث- إذا كان ما نقف عليه له ارتباط بما بعده في اللَّفظ، عكس الكافي.
الكافي فيه ارتبط من جهة المعنى، وهذا ارتباط من جهة اللَّفظ، سُمّي بذلك؛ قيل له: حسن؛ لأنَّه في نفسه حَسَن، مفيد، لكن لا يجوز الابتداء بما بعده؛ لتعلّقه به لفظًا، إلَّا إذا كان رأس آيةٍ، فهنا يُوقَف على رؤوس الآي.
يعني مثلًا: حينما نقف على: بِسْمِ اللَّهِ، الآن بِسْمِ اللَّهِ المعنى تام، أو ناقص؟
بِسْمِ اللَّهِ تامّ، وجملة مُفيدة من مبتدأ وخبر، أليس كذلك؟
لكن ما بعده له به ارتباط من جهة اللَّفظ، فإنَّ قوله: الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ هذه صفة للفظ الجلالة.
الْحَمْدُ لِلَّهِ لو وقفت على هذا، الجملة مبتدأ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، وما بعدها فإنَّ الجار والمجرور إمّا متعلق بمحذوفٍ، أي: كائن لله، إلى غير ذلك، المهم أنَّ الجملة تامّة: الْحَمْدُ لِلَّهِ، فالمعنى تامّ، لكن له تعلّق بما بعده من جهة اللَّفظ والإعراب: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2]، فـ(ربّ العالمين) هنا يمكن أن يكون بدل من لفظ الجلالة، يعني: الإعراب فيه مُرتبط.
فهنا لو وقفتَ المعنى ما يفسُد، لكن هل تبتدئ بقولك: رَبِّ الْعَالَمِينَ؟
الجواب: لا، كيف بدأت به مجرورًا رَبِّ الْعَالَمِينَ؟
وأيضًا هنا: رَبِّ الْعَالَمِينَ ليست جملة مُفيدة، حتى لو كانت مرفوعةً، فلا بدَّ أن ترجع هنا: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وهذا واضحٌ في مثل هذا المثال، لكن في بعض الصور يكون حسنًا باعتبارٍ، وكافيًا باعتبارٍ، وتامًّا باعتبارٍ.
كما قلتُ لكم: القضية ترجع إلى أمورٍ اعتبارية في الإعراب والمعنى؛ ولذلك ما يمكن أن نجعل لها قواعد مُضطردة.
وكما قلتُ لكم: إنَّ العالِم يمكن أن تكون له اختيارات في هذا، ولا يلتزم بالعلامات الموضوعة في المصحف.
في قوله -تبارك وتعالى- في سورة البقرة: ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ [البقرة:2] يمكن أن يكون هذا من قبيل الوقف الحسن إذا جعلنا: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ [البقرة:3] صفة للمُتَّقين، فصار الارتباط هنا من جهة اللَّفظ والإعراب، لكن المعنى تامّ من جهة المعنى: هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ اكتمل المعنى.
وإن جعلتها خبر المبتدأ: هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ، جعلت: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ خبرًا لمبتدأ محذوف، يعني: (هم الذين يؤمنون بالغيب) -لاحظ: انفصلت الآن في الإعراب-، أو مفعولًا لفعلٍ محذوفٍ، أعني: (الذين -مثلًا- يؤمنون بالغيب)، ماذا يكون؟
يكون الوقفُ كافيًا، لماذا قلنا: كافيًا؟
لأنَّه ما فيه ارتباط لفظي، لكن في المعنى لا زال الارتباط، هو يصف هؤلاء الذين يكون القرآنُ هدًى لهم.
وإذا جعلته مبتدأً خبره: أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ [البقرة:5]، آلم ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ اكتمل المعنى، ثم بعد ذلك: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ، الخبر: أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [البقرة:1-5]، هنا يُقرر قضية جديدة: القرآن هدًى للمتقين، ثم بعد ذلك تحدّث عن قضيةٍ أخرى: مَن هم الذين على هدًى من ربهم؟
الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ، أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ، فهنا الوقف يكون تامًّا؛ لا ارتباط في الإعراب، ولا ارتباط في المعنى، في الأول بيَّن الذين يكون القرآنُ هدًى لهم، وفي الثاني بيَّن مَن هم الذين على هدًى من ربهم، هم الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ، أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ، يعني: قضيتين.
كذلك في المثال السابق: يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ [البقرة:102] تحتمل هذه الأوجه.
أمَّا الوقف القبيح فهذا لا يكون إلَّا عند الاضطرار: عندما ينقطع النَّفس، أو يحصل سُعال، فيضطر القارئ إلى الوقوف في موضعٍ ليس بموضعٍ للوقف؛ لأنَّه يفسد المعنى، أو لا يُفيد، هذا لا يكون اختيارًا، وإلّا يكون مُتلاعبًا بالقرآن، مثل: الوقف على المضاف دون المضاف إليه، وهكذا الاسم الموصول دون صلته، والمبتدأ دون الخبر في المعنى.
يعني: الآن لو جاء واحدٌ وقرأ: (بسم)، ووقف، يريد أن يقول: (بسم الله)، فهل (بسم) يجوز الوقوف عليه؟
ما يجوز، لكن لو انقطع نَفَسه، أو أخذه سُعال، وكذا، فهو معذورٌ، فيرجع: (بسم الله).
ولو قرأ: (الحمد) ما يصحّ، الْحَمْدُ لِلَّهِ؛ لأنَّ هذه جُملة غير تامّة، يقف على المبتدأ، ويترك الخبر.
ودرجات القبح تتفاوت، انظر مثلًا: وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ [النساء:11]، وبعد ذلك انقطع نفسه، النصف للأبوين؟!
هذا لا يقول به أحدٌ: وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً البنت فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لا، بقي: وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ، فهذا قبيحٌ جدًّا، يُفسد المعنى، حكم آخر تمامًا غير مرادٍ، فالأبوان لا يشتركان مع البنت في النصف.
إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى [الأنعام:36]، الموتى يستجيبون؟
وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ، فلا يصحّ أن يقصد الوقف على هذا، هذا يترتب عليه أمرٌ مُحال؛ لأنَّ الموتى لا يستجيبون: إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى [النمل:80]، وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ [فاطر:22].
وأقبح من هذا: لو وقف على قوله: إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي [البقرة:26]، هذا -أعوذ بالله- نسبة ما لا يليق بالله -تبارك وتعالى-.
هذه الأنواع من الوقوف يقع فيها –للأسف- بعض الـمُغرِبِين من القُرّاء، يعني: قد يكون له صوتٌ حسنٌ، لكنه لا يعرف هذه القضايا؛ فيبحث عن أشياء غريبة في الوقف، تجعل الذي خلفه حينما يسمع كأنَّه يستيقظ، فيجذبهم بمثل هذه، يُغرِب عليهم، ويأتون بأشياء تُفسد المعاني، وتُغيّر الإعراب، وقد لا يترتب عليها تغيّر المعنى، لكن يتغير الإعراب، فهذا لا يصحّ.
والمفروض أنَّ هؤلاء يقفون عند مواضع العلامات الموجودة عندهم في المصاحف، ويكفي، لا يتجاوزونها، ولا يُغربون على الناس، ومن هذا أشياء، ذكرنا من قبل -والله المستعان- وقوف مُتكلَّفة، يعني: يأتي مثل: وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنتَ [البقرة:286]، يعني: اغفر لنا، وارحمنا أنت مَوْلَانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ يعني: يا مولانا، باعتبار أنَّه حذف ياء النِّداء: مَوْلَانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ، هذا يلعب بالقرآن، بعضهم يفعلون هذا!
هكذا أيضًا: ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ، بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا [النساء:62]، كأنَّ الحلف الآن، هذا هو: بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا. فهذا التَّلاعب بالقرآن، فجعله هكذا قسمًا بالله، وهي يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ.
ومثل: الوقف عند قوله -تبارك وتعالى-: فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ [البقرة:158]، لا جناحَ إن حجَّ البيت أو اعتمر: عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا، هذا لا يصحّ، صار الجار والمجرور خبرًا: عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا، وهي: فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا.
الوقف عند قوله: عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى، سَلْسَبِيلًا [الإنسان:18]، يعني: عين فيها مسمّاة، واسأل طريقًا مُوصلة إليها، سل سبيلًا، والكلمة واحدة: سَلْسَبِيلًا، فيجعلها كلمتين، مثلما قلنا: كلام بعض الصوفية الذي ذكره الشَّاطبي: (مَن ذلَّ ذي يشف عُوا)[3]، "يشفى" يعني: يبرأ، "عُوا": افهموا، فهذا لعبٌ في القرآن لا يجوز بحالٍ من الأحوال، وينبغي التَّفطن لمثل هذا.
على كل حالٍ، القُّرّاء أيضًا ليسوا على سَنَنٍ واحدٍ في قضايا الوقف والابتداء، يختلفون، والعلماء صنّفوا مُصنّفات في هذا، نافع مثلًا -قارئ المدينة- يتخيّر محاسن الوقف والابتداء بحسب المعنى، وابن كثير كان يُراعي الوقف على رؤوس الآي مطلقًا، ولا يتعمّد في أوساط الآي الوقف إلّا في ثلاثة مواطن[4]: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ [آل عمران:7]، وَمَا يُشْعِرُكُمْ [الأنعام:109]، إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ [النحل:103].
وأبو عمرو ابن العلاء كان يتعمّد الوقف على رؤوس الآي، ويقول: هو أحبّ إليَّ[5].
وعاصم كان يُراعي حُسن الابتداء، فيما ذكره بعضُهم: كأبي الفضل الرازي[6] -رحمه الله-.
أبو الفضل الرازي له كتاب في القراءة في الأحرف السَّبعة، كتاب جيد في النُّقولات التي رأيتُها عنه، واختياراته -رحمه الله-، هذا غير الفخر الرازي.
وذكر غيره أنَّ عاصمًا والكسائي كانا يطلبان الوقف حيث يتمّ الكلام، وحمزة كان يقف عند انقطاع النَّفس، وعللوا هذا فقالوا: قراءته تعتمد على التَّحقيق والمدّ الطويل. هكذا عللوا ذلك، مع أنَّ ابن الجزري يُعلل هذا بأنَّ القرآن عنده كالسورة الواحدة، فلم يكن يتعمّد وقفًا معينًا[7].
بقية القُرّاء -على كل حالٍ- يُراعون الحَسَن في الوقف والابتداء.
لو أردنا أن ننظر مثلًا في كلام ابن جُزي فنحن نقول: هذه الأشياء ذكرها هنا، ويذكرها في ثنايا التفسير، يعني: لا بدَّ أن نُحيل إليها دائمًا، نقول: وقد مضى، سبق الكلام على هذه القضيّة.
يعني: انظر مثلًا في كلام ابن جُزي في بعض المواضع: وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ ... إلى آخره [البقرة:96]، قوله: وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا، يقول: فيه وجهان:
الأول: أن يكون عطفًا على ما قبله، فيُوصَل به، يعني: أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا، المعنى: أنَّ اليهود أحرص على الحياة من الناس، ومن الذين أشركوا. يعني: أحرص حتى من المشركين، لا يوجد أحدٌ أحرص منهم على الحياة. لماذا خصَّ الذين أشركوا، وهم يدخلون في الناس؟
لأنَّهم لا يُؤمنون بالآخرة، فهم سيكبّون على الدنيا ومحبّتها، والتَّعلق بها، واليهود أحرص منهم.
المعنى الآخر: أن يكون: وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا ابتداء كلامٍ، فيُوقَف على ما قبله، والمعنى: من الذين أشركوا قومٌ يودّ أحدُهم لو يُعمّر ألف سنةٍ، وما هو بمُزحزحه من العذاب أن يُعمّر، لاحظ: المعنى كيف اختلف؟
فابن جُزي يتكلم عن مثل هذه القضايا، ويقول لك: هنا يكون الوقفُ تامًّا، يقول: فيكون الوقفُ على ما قبله.
في قوله: قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [يوسف:92]، لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ يقول: عفو جميل. والتثريب: التَّعنيف والعقوبة.
وقوله: الْيَوْمَ راجعٌ إلى ما قبله، فيُوقَف عليه، وهو يتعلّق بالتثريب، أو بالمقدَّر في عَلَيْكُمُ من معنى الاستقرار: قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ، الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ، أو لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ، يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ، فهذا يحتمل.
فابن جزي يتحدث عن مثل هذه القضايا في التفسير، وسيأتي في قوله: وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [القصص:68]، ابن جزي يقول: مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ، (ما) نافية، إذًا وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ الوقف هنا يكون كافيًا، أو تامًّا، مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ، فتكون (ما) نافية، ينفي أن يكون لهم الخيرة، لكن: وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ، إذا كانت موصولةً فالمعنى: يختار الذي فيه الخيرة، فهنا لا يكون الوقفُ لا تامًّا، ولا كافيًا، ولا حسنًا.
يقول: والمعنى: ما كان للعباد اختيار، إنما الاختيار والإرادة لله وحده، فالوقف على قوله: وَيَخْتَارُ.
هذا ما يتعلق بموضوع الوقف والابتداء، نتوقف هنا -إن شاء الله تعالى-، أرجو أنَّ الله يُوفّقنا ويُيَسّر.
- أخرجه الترمذي في "سننه"، برقم (292)، وصححه الألباني في "الجامع الصغير"، برقم (9131).
- انظر: "التمهيد في علم التجويد" لابن الجزري (ص170)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (1/227).
- انظر: "الإتقان في علوم القرآن" للسيوطي (4/224).
- انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (1/238).
- انظر: "جمال القراء وكمال الإقراء" للسخاوي (ص685).
- انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (1/238).
- انظر: المصدر السابق (1/238).