الإثنين 21 / جمادى الآخرة / 1446 - 23 / ديسمبر 2024
(09- ب) الباب العاشر أنواع البيان المجاز والكناية والالتفات
تاريخ النشر: ٢٥ / ذو القعدة / ١٤٣٥
التحميل: 1630
مرات الإستماع: 1456

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.

أما بعد: ذكر المؤلف -رحمه الله- من أنواع المجاز: (التَّشبيه)، في علم البيان عندهم: هو الدّلالة على مُشاركة أمرٍ لآخر في صفةٍ أو أكثر بأداة التَّشبيه، وأركانه: مُشبَّه، ومُشبَّه به، وأداة تشبيه، ووجه الشَّبه –يعني: وجه الارتباط، الجامع المشترك-، فله أربعة أركان: طرفان، وأداة، وعلاقة، أو وجه ارتباط.

تقول: "محمد كالبحر في الجود"، محمد: مُشبَّه، الكاف: أداة تشبيه، البحر: مُشبَّه به، في الجود: وجه الشَّبه.

وقد يكون مذكورًا وجه الشَّبه -كما في هذا المثال-، ويمكن أن تقول: "محمدٌ كالبحر"؛ ولهذا كان التَّشبيه أنواعًا:

منه ما يكون من قبيل التَّشبيه المرسل: وهو ما ذُكِرت فيه أداةُ التَّشبيه مع المشبّه والمشبّه به: "محمدٌ كالبحر".

وهناك تشبيه مُفصّل: يُذكر فيه وجه الشَّبه، يعني: كما سبق زائد وجه الشَّبه: "محمدٌ كالبحر في الجود".

وهناك تشبيه مُجمل: وهو ما لم يُذكر فيه وجه الشَّبه، وهو مثل المرسل، لكن البعض يُسميه بالمجمل.

وأحيانًا تُحذف الأداةُ في التَّشبيه، يقولون: "محمدٌ بحرٌ في الجود".

وأحيانًا تُحذف الأداة ووجه الشَّبه، وهذا التَّشبيه البليغ: "محمدٌ بحرٌ"، وهكذا.

فهذا التَّشبيه يقولون: هو من الحقيقة، وليس من المجاز في أصله، عند بعضهم أنَّ البُلغاء اعتنوا به لكثرة وروده في الكلام البليغ -شدّة العناية به-، فجعلوا له نوعًا خاصًّا، وبابًا خاصًّا، وقدَّموه على المجاز؛ لأنَّ بعض أنواع المجاز تتوقف عليه، فمثل هؤلاء لا يعتبرونه من المجاز.

وبعضهم يعتبره من المجاز، وكما ذكرتُ لكم أنَّ هذه الأشياء يختلفون فيها.

ابن عاشور -رحمه الله- له رسالة جيدة في البلاغة، لطيفة، صغيرة، وهو ممن لا يعدّه من المجاز، لا يرى أنَّ التَّشبيه من المجاز، يرى أنَّه حقيقة، وليس بمجازٍ، فهو عنده الدّلالة صريحة على إلحاق شيءٍ بشيءٍ في وصفٍ اشتُهِرَ فيه الملحق به تقريبًا؛ لكمال الوصف المراد التَّعبير عنه، وشُبهته يقول: ما فيه مجاز. يقول: هذا الفرس كالطائر في سرعة المشي.

لاحظ: سواء كانت هذه الأطراف: المشبّه والمشبّه به، قد يكون التَّشبيه بين طرفين حسيين، تقول: محمد كالقمر، حسي بحسي، يعني: في الجمال.

وقد يكون التَّشبيه حسيًّا بمعنوي، يعني: تشبيه مثلًا: السيوف بأنياب الغول، الغول لا حقيقةَ له، لكن شيء مُتصوّر هكذا، مُتوهَّم عند العرب أنَّه شيء مُخيف.

وقد يكون معنويًّا بمعنوي، أو معنويًّا بحسي، كل هذا يمكن: العلم نور، أو العلم كالنور، إذا ذكرت أداة التَّشبيه.

ووجه الشَّبه هو الوجه الجامع، وجه الارتباط، الوصف الجامع، سواء كان ثابتًا في نفس الأمر، مثل: الشَّجاعة في الأسد، أو في عُرف الناس، يعني: قد لا يكون حقيقةً، لكن في العُرف هكذا.

ولا حاجةَ للتَّمثيل ببعض الأمثلة في العُرف، فقد لا تكون لها حقيقة أصلًا؛ لذلك –يعني- تشبيه المعاقَب على ذنب غيره بسبابة المتندم في قول ابن شرف القيرواني في البيت المشهور:

غيري جنى وأنا المعاقَب فيكم فكأنني سبّابة المتندم[1]

وقد يكون هذا في الخيال، يعني: أمرًا مُتخيَّلًا.

والأكثر أن يُحذف وجه الشَّبه؛ لأنَّه مُدرك، معلوم، إلا إذا كان فيه خفاء فيُذكر.

أداة التَّشبيه: أدوات التَّشبيه معروفة، مثل: "كأن"، و"الكاف" -وهي الأكثر-، ومثل: لفظة "مَثَل"، أيضًا "شبه"، وهكذا.

يقول: التَّشبيه والاستعارة.

لاحظ: هنا جعل الاستعارة أيضًا من أنواع المجاز، إذًا التَّشبيه أيضًا بعضُهم لا يجعله من المجاز، وهو أدخله في المجاز، والاستعارة يجعلها بعضهم نوعًا مُستقلًّا، وبعضهم يُدخلها في المجاز، وهو هنا أيضًا أدخلها في المجاز، وهي عند البيانيين –يعني: ممن يُدخلونها في المجاز-: مجاز علاقته المشابهة.

لاحظ: الكلام على التَّشبيه، كلام ابن عاشور أنَّه يتوقف عليه المجاز، حينما لم يُدخله في المجاز.

فهذه الاستعارة عندهم هي تشبيه حُذِفت فيه أداةُ التَّشبيه، تشبيه حُذِفت منه أداةُ التَّشبيه، يعني: التَّشبيه أعمّ من الاستعارة؛ التَّشبيه تارةً تُذكر معه الأداة، ويذكر وجه الشَّبه، وتارةً تُحذف الأداة، ويُحذف وجه الشَّبه، إلى آخر الأقسام التي ذكرناها.

فهنا عندهم أنَّ الاستعارة تشبيه حُذِفت أداتُه، وحُذِف المشبّه الذي قام مقام المشبّه به.

إذن أركانها: مُستعار له، ومُستعار منه، والجامع، وهو وجه الشَّبه.

هذه الاستعارة قد تكون في لفظٍ مُفردٍ، وقد تكون في جملةٍ.

حين تقول: "رأيتُ أسدًا يُدافع عن الناس"، يعني: كلمة "أسد" هذه لفظ مُفرد، هي في الحيوان المفترس، استُعملت هنا في الرجل الشُّجاع، العلاقة -وجه الشَّبه- هي الشَّجاعة.

يقولون من الأمثلة: يُخرج الحيّ من الميت، تُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ [آل عمران:27]، عند مَن يقول بأنَّ معنى (يخرج الحيّ من الميت) يعني: الفرخ من الدَّجاجة مثلًا، هذا حقيقة، لكن مَن يقول: المؤمن من الكافر، والكافر من المؤمن مثلًا، فهذه الحياة والموت على هذا المعنى يكون من قبيل الاستعارة.

والكلام في الاستعارة طويلٌ، لكن يكفي هذا القدر لإيضاحه.

يقول: "الاستعارة، والزيادة، والنُّقصان".

"الزيادة والنُّقصان" يوجد هناك ما يُسمّى بإيجاز الحذف -كما سبق-، يكون بحذف كلمة، أو جملة، أو أكثر، مع قرينةٍ تُبيّن أو تُعيّن المحذوف، كأن يكون المحذوفُ أحد جُزئي الجملة، يعني: يحذف المبتدأ مثلًا، ويذكر الخبر، أو العكس: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ [يوسف:١٨]، بعضهم يقول: التَّقدير: صبري صبرٌ جميل. هذا هو المبتدأ.

وبعضهم يقول: التقدير: صبرٌ جميل صبري.

مَتَاعٌ قَلِيلٌ [النحل:١١٧]، وقول الشاعر:

يشكو إليَّ جملي طول السُّرى صبرٌ جميلٌ فكلانا مُبتلى[2]

(صبرٌ جميلٌ) فيه محذوفٌ مُقدَّر، وكما ذكرنا لكم تقول: مَن هذا؟ يقول: زيد. ما يحتاج أن يقول: هذا زيد. فحذف طرف الكلام الأول الذي هو المبتدأ: هو زيد.

فالكلمة عندهم كما تُوصف بالمجاز لنقلها عن معناها الأصلي، كما هو المشهور عند أرباب المجاز، كذلك يقولون: توصف أيضًا بالمجاز لنقلها عن إعرابها الأصلي إلى غيره؛ لحذف لفظٍ، أو زيادة لفظٍ: وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ [يوسف:٨٢] أهل القرية، اسأل أهل القرية، حُذف المضاف، فهنا الآن هل استُعمل اللَّفظ في غير ما وُضِعَ له، مثل: الأسد في الرجل الشُّجاع؟

الجواب: لا، لكن فيه حذف، فإعراب القرية في الأصل الجرّ؛ لأنَّه مُضاف إليه، ولكن قال: وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ، نُزِّل المضاف إليه منزلة المضاف، لما حُذِف في الإعراب صارت مفعولًا به: وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ، أصله: اسأل أهل القريةِ، مجرور بالإضافة، فهنا حُذِف المضاف، وأُعطي المضاف إليه إعرابه.

الزيادة: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:١١] عند مَن يقول: هنا زيادة، على اختلافٍ كثيرٍ بينهم في الزيادة أين هي؟ هل هي (الكاف)، أو (مثل)؟

ثم إذا أرادوا أن يُحللوا ذلك فإنَّهم يدخلون في إشكالات في المعنى ما كانت موجودةً قبل ذلك، يعني: السامع حينما يسمع هذه الآية: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ يفهم المراد، لكن هؤلاء حينما يُدخلونه في مضايق، ويشقّون الشّعرة والشّعيرة، ويبدؤون في تحليل لفظة: "مثل" و"الكاف"، يعني: الكاف للتَّشبيه، ومثل للتَّشبيه: ليس مِثل مِثْلِه شيء.

ثم يقولون: هل له مثل أصلًا حتى يُنفى المثل عن مثله؟ وهل نفي ذلك عن المثل يُعتبر مدحًا له؟ وكلام طويل لا حاجةَ إليه.

فيقولون: هنا زائد. يقصدون زائدًا إعرابًا، وإلا لا يجوز أن يُقال: في القرآن شيءٌ زائد. يعني: من قبيل الحشو، بل إن بعضهم تنزّه عن هذا، عن التَّعبير بمثل ذلك؛ ولذلك تجدونهم يُعبّرون كثيرًا فيقولون: الحرف الفلاني صِلة، أو نحو ذلك. يقصدون زائدًا، فبعضهم يقول: لا يجوز إطلاق الزيادة. كما قال الزركشي في "البحر المحيط"[3] في أصول الفقه في موضعين من هذا الكتاب.

وذكره آخرون وقالوا: لا يصح أن يُقال: زائد؛ تأدُّبًا مع القرآن.

وصاحب "المراقي" يقول: "ولم يكن في الوحي حشو يقع"[4].

هذا بالاتفاق من جهة المعنى، لكن الكلام هل يُعبَّر بالزيادة؟ هل يوجد؟

لا شكَّ أنَّ زيادة المبنى لزيادة المعنى، هذا لا إشكالَ فيه، لكن التَّعبير بمثل هذا يُنزّه القرآنُ عنه.

هنا يقولون: إنَّ إعراب "مثله" في الأصل هو النَّصب، فزيدت (الكاف) فصار جرًّا، فإن كان الحذفُ أو الزيادة لا يُوجب تغيير الإعراب فلا تُوصف الكلمة عندهم بالمجاز، بل تجد في مثل كلام عبدالقاهر الجرجاني -وهو من أئمة البلاغة، ومن كبار المنظّرين فيها- مبالغة في النَّكير على مَن أطلق القول بوصف الكلمة بالمجاز للحذف والزيادة.

يقولون في مثل قوله -تعالى-: فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ [آل عمران:٢٨]، يقولون: فيه حذف، تقديره: ليس من التَّقرب إلى الله في شيءٍ. وهكذا الزيادة والنُّقصان.

"وتسمية المجاور باسم مُجاوره": المجاورة تعني أن يكون الشيء مُجاورًا لشيءٍ آخر، يُجاور غيره فيُطلق عليه اسمه من باب المجاورة، يعني: الآن إطلاق الراوية على القربة للمُجاورة، والثياب على النفس: وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ [المدثر:٤]، بعضهم قال: هي النَّفس. وبعضهم جمع المعنيين؛ وذلك للمُجاورة بين الثياب والنفس؛ لشدّة الالتصاق؛ ولهذا في قول عنترة:

فشككت بالرمح الأصمّ ثيابه ليس الكريمُ على القنا بمحرّم

(شككت بالرمح الأصمّ ثيابه) يعني: أنه طعنه بالرمح، فعبّر بالثياب عن النَّفس.

وقد تكون المجاورة في الذكر فقط؛ أن يذكر لفظةً ولفظةً، تتجاور هذه وهذه، فيُعبَّر بعبارةٍ واحدةٍ عنهما، وهي التي يُسمّونها: المشاكلة، بعضهم يجعلها من المجاز، وبعضهم لا يُدخلها في المجاز، يقولون: فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا [الرعد:١٧]، يزعمون أنَّ الوادي هو الماء الذي يجري، والمكان: الحفر الذي في الأرض الذي يجري فيه، مُنْخَفَض.

ومعنى سالت أودية: المكان الذي في الأرض، فيقولون: للمُجاورة قيل له: وادٍ، مثلما تقول: حفرت النَّهر، فهذا الحفر والشقّ يُقال له: نهر، وتقول: جرى النهر، يعني: الماء، تقول: أصلحت الميزاب، تقصد المجرى، وتقول: جرى الميزاب، وتقصد الماء.

فهذا يقولون: أُطْلِق على المحلِّ باعتبار المجاورة، العلاقة: المجاورة، فهذا المجاز لعلاقةٍ، مع أنَّ شيخ الإسلام يذكر لهم الأمثلة: جرى الوادي، والنَّهر، والميزاب، ونحو ذلك، ويقول: المعنيان مُتساويان، لا يوجد تبادر إلا بالتركيب؛ تركيب الكلام، فمن القرينة يتبادر معنا، هذا هو الحقيقة. أين الاستعمال الأول والاستعمال الثاني؟ وهكذا.

هذه عندهم المجاورة: علاقة ...، أو الاستعارة، والزيادة والنُّقصان، وتسمية المجاور باسم مُجاوره، يقولون: هذا من المجاز.

"والملابِس باسم مُلابِسِه"، الملابسة: هي العلاقة، مثل: السَّببية والمسببية، الكلية والجزئية، اللُّزوم، حتى المجاورة هي نوع مُلابسة، العموم والخصوص، الحالية والمحلية، اعتبار ما كان، أو ما سيكون، إلى غير ذلك من العلاقات التي يُقال لها: مُلابسة، يعني: أي نوعٍ من الملابسة، إسناد ما بُنِيَ للفاعل إلى المفعول: عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ [الحاقة:21]، مَاءٍ دَافِقٍ [الطارق:6]، راضية يعني: مرضية، ماء دافق يعني: مدفوق.

دع المكارم لا ترحل لبُغيتها واقعد فإنَّك أنت الطاعم الكاسي[5]

يعني: أنَّ هذا الشخص مُطْعَم ومكسو.

إسناد ما بُنِيَ للمفعول إلى الفاعل: إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا [مريم:٦١]، مَأْتِيًّا هو آتٍ، الوعد آتٍ.

إسناد الفعل إلى المصدر:

سيذكرني قومي إذا جدَّ -هذا الفعل- جدّهمُ وفي الليلة الظَّلماء يُفتقد البدرُ[6]

فأسند هذا إلى هذا، وهو ليس بفاعلٍ له، بل فاعله: الجادّ، إذا جَدّ جدّهم، ليس الفاعلُ جدَّ، إذا جَدَّ الجادُّ جِدًّا، يعني: اجتهد اجتهادًا، فحذف الفاعل الأصلي، وهو الجادّ، وأسند الفعل إلى الجِدِّ.

كذلك الإسناد إلى الزمان، تقول: نهاره صائم، وليله قائم. وكقول القائل:

هي الأمور كما شاهدتها دولٌ مَن سرَّه زمنٌ ساءته أزمانُ[7]

فأضاف الإساءة والسرور إلى الزمان، وهي أزمنة للأفعال، لا أنها واقعة منها.

كذلك الإسناد إلى المكان: وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ [الأنعام:6]، أسند الجري إلى الأنهار، وهي أمكنة للمياه: الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ، وليست هي الجارية، بل الجاري ماؤها، كما قلنا في المجاورة، فهذه أشياء تتداخل وتتقارب.

كذلك الإسناد إلى السَّبب:

إني لمن معشرٍ أفنى أوائلهم قيل الكماة: ألا أين المحامون؟[8]

يعني: عندهم نخوة، فإذا قيل: أين المحامون؟ نفروا إلى الدَّاعي، فنسب الإفناء إلى قول الشُّجعان: هل من مدافع؟ وليس ذلك القول بفاعلٍ، إنما هو سببٌ فقط، يعني: ما هو هذا الذي أفناهم، الذي أفناهم القتلُ الذي وقع عليهم من الأعداء، فهذا كلّه للمُلابسة.

إطلاق اسم الكل على البعض: وهذا يُدخله بعضُهم في الملابسة، كثيرٌ من العلاقات هذه لنوع مُلابسةٍ: الكل على البعض، وعكسه أيضًا: العام على الخاص، والخاص على العام.

فالعموم: هو كون الشَّيء شاملًا لكثيرٍ، مثل: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ [النساء:54]، يقصدون النبي ﷺ مثلًا؟ الناس عامّة، أو يقصدون العرب؟

فعندهم الناس هنا مجاز مُرسل علاقته العموم: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ [آل عمران:١٧٣]، لفظ عامّ، وهم يقولون: نُعيم بن مسعود رجل واحد، فأطلق العامّ وأُريد به الخاصّ، هذا الذي يُسميه الأصوليون: العام المراد به الخصوص.

والخصوص: هو كون اللَّفظ خاصًّا بشيءٍ واحدٍ مثلًا؛ كإطلاق اسم الشَّخص على القبيلة، نحو: ربيعة، قريش، ونحو ذلك.

كذلك الكلية والجزئية، يعني: كون الشيء مُتضمنًا للمقصود ولغيره، وذلك فيما إذا ذُكِرَ لفظ الكلّ وأُريد منه الجزء: يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ [البقرة:١٩]، هو ما يُدخل الأصبع كاملًا، وإنما المقصود الأنامل، فالقرينة حالية، يقولون: لا يمكن إدخال الأصبع. ومثلما تقول: شربتُ ماء النَّهر. وأنت لا تقصد شربت ماء النهر كلّه؛ لأنَّ هذا لا يمكن.

وكذلك الجزئية: كون المذكور ضمن شيءٍ آخر، وذلك فيما إذا ذُكر لفظ الجزء وأُريد منه الكلّ: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ [النساء:٩٢]، عبّر عن النَّفس أو الذات بجزءٍ منها لا ينفكّ، وهو الرَّقبة، من باب إطلاق الجزء على الكلِّ، فهذا عندهم من قبيل المجاز.

وتسمية السَّبب باسم المسبب، وعكسه: وهذه العلاقة يُسمّونها: السَّببية، ويكون الشيء المنقول عنه سببًا ومُؤثرًا في غيره، وذلك فيما إذا ذكر لفظ السَّبب وأُريد منه الـمُسبَّب، هذا من أنواع الاستعمال، يُسمّونه "مجازًا" عند أرباب المجاز، وبعض الناس قد يتورع منه، ولا إشكالَ فيه غالبًا، تقول: رعت الماشيةُ الغيثَ. الغيث هو المطر الذي ينزل، والواقع أنها رعت العشبَ، النَّبات؛ لأنَّ الغيثَ –المطر- سببٌ في خروج النبات، والقرينة لفظية، وهي لفظة: "رعت"، فعرفنا أنها لم ترعَ الغيث، وأنها رعت النبات الذي هو مُسبّبٌ عن الغيث.

تقول: فلان له عليَّ يدٌ. يعني: نعمة، باعتبار أنَّ اليد سببٌ للنعمة، هذه السَّببية.

والمسببية: أن يكون المنقولُ عنه مُسبَّبًا وأثرًا لشيءٍ آخر، وذلك فيما إذا ذُكِر لفظُ المسبّب وأُريد منه السَّبب: وَيُنَزِّلُ لَكُم مِّنَ السَّمَاءِ رِزْقًا [غافر:١٣] يعني: المطر الذي يُسبب الرزق، هذه مُسببيه، فسمّاه باعتبار ما يتسبب عنه وينتج عنه.

يقول: "والتَّسمية باعتبار ما يُستقبل، والتَّسمية باعتبار ما مضى، وفي هذا خلافٌ: هل هو مجاز أو حقيقة؟".

باعتبار ما يُستقبل، وعكسه، يعني: بالاعتبار إلى الماضي، يعني: تسمية الشيء باسم ما كان عليه: وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ [النساء:٢]، متى يُعطى اليتيمُ المال؟

إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ وآنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا [النساء:٦] يعني: البلوغ، زائد حسن التَّصرف في المال، هل هذا بهذه الحال يُقال له: يتيم؟

الجواب: لا؛ لأنَّه لا يُتْمَ بعد بلوغٍ، فهنا: وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُم، فسمَّاهم باعتبار ما كان، يعني: الذين كانوا يتامى ثم بلغوا، فهذا يقولون: (اليتامى) مجاز مُرسل علاقته اعتبار ما كان، وهذا إذا جرينا على أنَّ دلالة الصّفة على الحاضر حقيقة، وعلى ما عداه مجاز، فهذا يكون من قبيل المجاز.

وإذا قلنا: لا، ليس كذلك، الأمر أوسع، يكون الجميعُ من قبيل الحقيقة؛ بحيث لا نخصّ الحقيقة باللَّحظة أو بالواقع الحالي؛ فلهذا البعض يعتبره من المجاز، والبعض يعتبره من الحقيقة، وهكذا.

"اعتبار ما يكون"، اعتبار المستقبل، وهذا إذا أُطلِق اسم الشَّيء على ما يؤول إليه: إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا [يوسف:٣٦] هو يعصر العنب، وفي نهاية المطاف يصير خمرًا، فيؤول أمره إلى خمرٍ؛ لأنَّه حال العصر لا يكون خمرًا، يحتاج إلى تخميرٍ، فالعلاقة هنا باعتبار ما يؤول إليه.

وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا [نوح:٢٧]، المولود حينما يُولد لا يُولد فاجرًا كفَّارًا، ولكنَّه سُمي بذلك باعتبار ما سيكون منه بعد الطُّفولة، أُريد به الرجل الفاجر، العلاقة باعتبار ما يكون، فهذه تسمية السَّبب باسم المسبب.

قوله: "النوع الثاني: الكناية، وهي العبارة عن الشيء بما يُلازمه من غير تصريحٍ".

الكناية: "هي العبارة عن الشيء بما يُلازمه من غير تصريحٍ"، وهذه أيضًا فيها خلافٌ؛ فهنا عدَّها من الأنواع الخارجة عن المجاز، وهي عند البيانيين: لفظ أُريد به لازم معناه، مع جواز إرادة ذلك المعنى معه، كما يقولون: العبارة عن الشَّيء بما يُلازمه من غير تصريحٍ. التعبير عنه بلازم لفظٍ أُريد به معناه، مع جواز إرادة ذلك المعنى معه.

سُئل أعرابي عن شيب رأسه فقال: "هذا غبار وقائع الدَّهر"[9]، غبار هنا يعني: لازم معناه، وهو كونه أبيض، ويجوز أيضًا أن يُراد به الغبار الذي يعلو الرؤوس في الحروب وغير الحروب، يعني: أن يُريد به الحقيقة.

فالكناية هي ما يُقابل التَّصريح، وقد تكون هذه الكنايةُ واضحةً، وقد تكون خفيَّةً.

الواضحة: التي لا تحتاج إلى إعمال ذهنٍ، مثل: لما يُقال مثلًا: فلان طويل النِّجاد، يعني: طويل القامة، وقولهم: مثلك لا يفعل كذا، يعني: غيرك لا يفعل، يُريدون أنت.

أمَّا الخفية: فهي التي تحتاج إلى إعمال ذهنٍ ورويةٍ: إمَّا لخفاء اللزوم، نحو: فلان عريض القفا، يقولون: كناية عن الغباوة. هكذا يقولون، وليس بلازمٍ.

ويكون ذلك لكثرة الوسائط، يعني: تحتاج إلى إعمال ذهنٍ ليُفهم المراد.

فلان كثير الرماد، يعني: كريم، باعتبار أنَّهم كانوا يُوقِدون على الحطب، فهذا يُوقِد كثيرًا إذًا معناه أنَّه كثير الضِّيفان، بخلاف مَن لا يُوقَد في بيتهم؛ ولذلك تجدهم في بعض الهجاء يذكرون أنَّ الإماء لا تتعب ولا يوجد في بيتهم رماد، لا تتعب الإماء والخدم من غسل الصّحون، ونحو ذلك.

والكناية قريبة من الإشارة، وفرّق بعضُهم بين الكناية والإشارة: أنَّ الإشارة إلى كل شيءٍ حسنٍ، والكناية تكون عن كل شيءٍ قبيح، يعني: لاحظوا فيها هذا الملحظ، وإلا إذًا الاستعمال واحد: كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ [المائدة:٧٥]، يقولون: هذه كناية عن قضاء الحاجة. يعني: إذا كان يأكل الطَّعام فمعنى ذلك أنَّه سيحتاج إلى لازمه: الخلاء.

في قوله -تعالى-: فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ [الرحمن:٥٦] إشارة إلى العفاف، وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ [النساء:٢١] يعني: الجماع، أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ [النساء:٤٣]، الغائط أصله المكان المنخفض -كما هو معلوم-، فيأتيه مَن أراد قضاء الحاجة ليستتر، وهو كناية هنا عن: إمَّا الحدث مطلقًا، أو حدث بعينه.

وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ [المائدة:٦٤]، فغلّ اليد كناية عن البُخل، وبسط اليد كناية عن الجود.

فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا [الأعراف:١٨٩] يعني: جامعها، وهكذا.

ولهذا في قوله: كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ [المائدة:٧٥] يقول ابنُ عباس -رضي الله عنهما-: "إنَّ الله يكني"[10].

وقال في موضعٍ آخر: "إنَّ الله حيي يكني عن الأمر"[11]، هذا يُقال له: الكناية.

قوله: "النوع الثالث: الالتفات: وهو على ستة أنواع:

خروج من التَّكلم إلى الخطاب أو الغيبة.

وخروج من الخطاب إلى التَّكلم أو الغيبة.

وخروج من الغيبة إلى التَّكلم أو الخطاب".

هذا الالتفات تجدونه كثيرًا في كتب التفسير، يعني: في هذا الكتاب وفي غيره، تجدونه في "فتح القدير" كثيرًا، وتجدونه في "تفسير ابن عاشور"، وتجدونه في كتبٍ كثيرةٍ، يذكرون ويقولون: هذا التفات، فالالتفات هو الرجوع –يقولون- من أسلوبٍ، أو عن  أسلوبٍ من أساليب الكلام إلى غيره.

فهذا التفسير له بمعنى واسع، وهنا إنما ذكر له ستة أنواع، وإلا فالواقع هو الانتقال من أسلوبٍ إلى أسلوبٍ.

وبعضهم يقول: انتقال من خطابٍ إلى خطابٍ. وهذا تفعله العرب، يعني: إيقاظ السَّامع إلى معانٍ دقيقة تُذكر في كل مثالٍ بحسبه.

حينما يقول الله مثلًا: الحَمدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ ۝ الرَّحمَنِ الرَّحِيمِ ۝ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:2-٤] هذا كلّه بالغائب، هو مالك يوم الدِّين، ثم قال: إِيَّاكَ فتوجّه بالخطاب بعد الغيبة: إِيَّاكَ نَعبُدُ [الفاتحة:٥]، فيكون الخطابُ في كل موضعٍ يُعلَّل بحسبه؛ فبعضهم يقول: هنا هذا الموضع: إِيَّاكَ نَعبُدُ لا يصلح فيه الغيبة، وإنما كأنَّه بعد أن ذكر أوصافه الكاملة -أوصاف هذا المعبود- توجّه إليه كأنَّه بحضرته فقال: إِيَّاكَ نَعبُدُ.

وبعضهم يقول: هذا أبلغ في الإفصاح عن العبادة والتوحيد. وبعضهم يقول غير ذلك.

أقصد أنَّه في كل موضعٍ يكون هناك ملحظ يذكرونه في ذلك الموضع، لماذا التفت؟

فأحيانًا يقولون: تحقير. وأحيانًا غير ذلك، فهو أنواع كما ذكر المؤلف.

الالتفات من الغيبة إلى الخطاب، من الغائب إلى المخاطب، مثل هذا المثال الذي ذكرتُ لكم، ومثل: وَإِن تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ [هود:٣]، وَإِن تَوَلَّوْا يعني: أعرضوا، فهذا إخبارٌ عن الغائب: فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ.

وبعض هذا الالتفات على قراءةٍ، وليس بالتفات على قراءةٍ أخرى، وبعضه التفات على معنًى، وليس بالتفات على معنًى آخر.

وليس هذا مقام التَّطويل في هذه القضايا، وإلا يمكن أن نُورد أمثلة على أشياء في القراءات تكون من قبيل الالتفات على قراءةٍ، وليست التفاتًا على قراءةٍ أخرى، ويمكن أن تكون من قبيل الالتفات على معنًى وتفسيرٍ، وليست بالتفاتٍ على معنًى وتفسيرٍ آخر، هذا كلّه موجود.

ومن الأمثلة: إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ [آل عمران:٥٥].

يقول ابنُ جرير -رحمه الله-: "هذا من الكلام الذي صُرِفَ من الخبر عن الغائب إلى المخاطبة، وذلك أنَّ قوله: ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ، إنما قُصِدَ به الخبر عن مُتَّبعي عيسى والكافرين به"[12].

قال تعالى: قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ، إلى قوله: قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا [آل عمران:١٢-١٣]، بعضهم يقرأه: {قل للذين كفروا سيغلبون ويحشرون} على هذه القراءة يكون فيه التفات من الغيبة إلى المخاطب: قَد كَانَ لَكُم ءَايَةٌ.

والالتفات من الخطاب إلى الغيبة مثل: صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ [الفاتحة:٧]، ما قال: غير الذين غضِبتَ عليهم.

فكل موضعٍ له ملحظ، بعضهم يقول: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ الغضب لم ينسبه إليه، وإنما نسب إليه الإنعام؛ من باب التَّأدّب في الخطاب.

وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ خطاب، وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا [البقرة:6٣]، قالوا: ولم يقل: قلتم سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا، فهذا من الخطاب إلى الغيبة.

وعبارات ابن جرير: "وأمَّا قوله: قَالُوا سَمِعْنَا فإنَّ الكلام خرج مخرج الخبر عن الغائب بعد أن كان الابتداءُ بالخطاب كما وصفنا من أنَّ ابتداء الكلام إذا كان حكايةً فالعرب تُخاطِب فيه، ثم تعود إلى الخبر عن الغائب، وتُخبر عن الغائب، ثم تخاطب"[13].

هنا ما صرّح بلفظ الالتفات ابن جرير، ولكنه يتكلم عن الالتفات، وهذا كثيرٌ في تفسير ابن جرير.

مثال الالتفات من المتكلم إلى الغائب: يقول: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا إلى قوله: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ [الأعراف:١٥٨]، في البداية مُتكلم: إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ، ثم بعد ذلك الغائب: (الرسول النبي الأمي) فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ، فهذا غائب، ولم يقل: فآمنوا بالله وبي.

في قوله –تعالى-: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا ۝ لِّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ [الفتح:1-2]، الأصل: (لنغفر لك)، فجاء بالغائب: لِّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ.

والانتقال من الغيبة إلى التَّكلم -يعني: عكس السابق- مثل: وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ [فاطر:٩]، هذا مُتكلم، والسابق غائب.

والانتقال من التَّكلم إلى الخطاب مثل: وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [يس:٢٢]، ولم يقل: "وإليه أرجع"، تُرْجَعُونَ من المتكلم إلى المخاطب: تُرْجَعُونَ.

مثال للعدول عن الفعل المستقبل إلى فعل الأمر: هذا ما ذكره ابنُ جُزي، وكما قلتُ لكم أنَّ التفسير الذي ذكرتُه: الانتقال من استعمال إلى استعمالٍ آخر؛ أوسع من المعنى الذي ذكره ابنُ جزي، فهنا العدول عن الفعل المستقبل إلى فعل الأمر هذا نوعٌ من الالتفات.

الله يُخبر عن اليهود في قوله -تعالى-: إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ ۝ مِن دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنظِرُونِ [هود:54-٥٥]، الآن العدول عن الفعل المستقبل إلى فعل الأمر: إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ ۝ مِن دُونِهِ هذا في المستقبل، ثم قال: فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنظِرُونِ جاء بالأمر، انتقل من أسلوبٍ إلى أسلوبٍ: إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ، لاحظ: إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا، ولم يقل: "وأشهدكم" بعطف المستقبل على مثله، وإنما قال: وَاشْهَدُوا.

كذلك من أنواعه: الانتقال من خطاب الواحد أو الاثنين أو الجمع إلى خطاب الآخر: هذا نوعٌ من الالتفات لم يذكره، فهذا مثال الالتفات من الواحد إلى الاثنين: قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ [يونس:٧٨]، خاطبوا واحدًا: قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا موسى ، وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ موسى وهارون -عليهما السلام-.

والالتفات من الواحد إلى الجمع مثل: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ [الطلاق:١] خاطب النبي ﷺ ثم خاطب بصيغة الجمع.

والالتفات من الاثنين إلى الواحد مثل: فَمَن رَّبُّكُمَا يَا مُوسَى [طه:49].

والالتفات من التَّثنية إلى الجمع مثل: وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّآ تثنية، لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا هذا جمع، وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً [يونس:٨٧].

والالتفات من الجمع إلى الواحد مثل: وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ [يونس:٨٧]، من الجمع: أَقِيمُوا، وَبَشِّرِ، خاطب الجمع: أَقِيمُوا، ثم خاطب الواحد: وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ.

والانتقال من الجمع إلى الاثنين مثل: يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ إلى قوله: فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ [الرحمن:33-34].

والالتفات من خطاب التَّثنية إلى خطاب الجمع، ثم إلى خطاب الواحد مثل: وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا هذه تثنية، وَاجْعَلُوا جمع، بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ، انتقل إلى الواحد.

هذه الانتقالات بأنواعها يُقال لها: الالتفات.

الالتفات من الماضي أو المضارع إلى الأمر، والعكس، عكس هذه الصُّورة، هذا من الالتفات أيضًا، هذا لم يُشِر إليه.

مثال الانتقال من الماضي إلى المضارع: وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ [فاطر:٩]، أَرْسَلَ ماضٍ، تُثِيرُ مضارع.

ومن الماضي إلى الأمر: قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ  [الأعراف:29]، قُلْ أَمَرَ هذا ماضٍ، وَأَقِيمُوا هذا أمرٌ.

والالتفات من المضارع إلى الماضي مثل: وَيَوْمَ يُنفَخُ مضارع، فِي الصُّورِ فَفَزِعَ [النمل:٨٧] هذا ماضٍ.

والانتقال من المضارع إلى الأمر مثل: قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ [هود:٥٤]، أُشْهِدُ هذا مضارع، وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ هذا أمرٌ.

والانتقال من الأمر إلى الماضي مثل: وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى [البقرة:١٢٥]، لكن على القراءة الأخرى: وَاتَّخَذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا هذا ماضٍ مع ماضٍ، ما فيه التفات، لكن على القراءة الأخرى: وَاتَّخِذُوا هذا أمرٌ، وَعَهِدْنَا‪ ماضٍ، التفت من الأمر إلى الماضي، لكن على القراءة الأخرى ليس فيه التفات.

والانتقال من الأمر إلى المضارع مثل: وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [الأنعام:٧٢].

كذلك الالتفات يوجد في الضَّمائر؛ يُقدّم المتقدّم في كلامه مذكورين مُرتبين، ثم يُخبر عن الأول منهما، وينصرف عن الإخبار عنه إلى الإخبار عن الثاني، ثم يعود إلى الإخبار عن الأول، هذا نوعٌ من الالتفات عندهم.

يقول: إِنَّ الْإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ ۝ وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ [العاديات:٦-٧]، على أحد المعاني هنا يكون الالتفاتُ كما قال، والآية فيها كلامٌ معروفٌ، لكن على هذا المعنى انصرف عن الإخبار عن الإنسان إلى الإخبار عن ربِّه: وَإِنَّهُ الضَّمير يرجع إلى الله، عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ، لكن على أنَّ ذلك يرجع إلى الإنسان لا يكون فيه هذا الالتفات، ثم قال مُنصرفًا عن الإخبار عن ربِّه إلى الإخبار عن الإنسان: وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ أي: الإنسان، لاحظ: بصرف النَّظر عن الراجح في تفسير الآية.

ابن جُزي يذكر هذه الأشياء، مثلًا في قوله –تعالى-: لَّوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا [النور:١٢]، يقول: فإن قيل: لم قال: سَمِعْتُمُوهُ بلفظ الخطاب، ثم عدل إلى لفظ الغيبة في قوله: ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ، ولم يقل: ظننتم؟

فالجواب: أنَّ ذلك التفات قُصِدَ به المبالغة والتَّصريح بالإيمان الذي يُوجب ألا يصدق المؤمن على المؤمن شرًّا.

في قوله -تعالى-: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ [محمد:٢٢]، قال: هذا خطابٌ للمُنافقين المذكورين، خرج من الغيبة إلى الخطاب؛ ليكون أبلغ في التوبيخ.

فتعليل ذلك في كل موضعٍ بحسبه، كل موضعٍ بحسبه.

هذه الأشياء لا بدَّ من بيانها والتَّعريف بها، قد تكون جديدةً على بعضنا، لكن لا بدَّ منها، إذا كنت تريد أن تفهم كلام المفسّرين لا بدَّ من هذا؛ ولذلك أنا أقرأ في تفسير يُعدّ هذه الأيام، وأجد تحت عنوان الأشياء البلاغية، التفسير مُقسّم إلى أقسام، فمنها الأشياء البلاغية، أجد كثيرًا أنَّ هذا من قبيل المراجعة، هذا من قبيل الجناس، هذا من قبيل الكناية، هذا من المجاز المرسل، هذا من قبيل كذا.

طيب، القارئ كيف يفهم هذه الأشياء؟!

لا بدَّ من مُذكرة توضيحية في أول الكتاب تُعرِّف بهذه الأشياء، وإلا لن يستفيد القارئ العادي، يحتاج إلى الرجوع؛ إمَّا أنَّه يُدرَّس، أو أنَّه يكون عنده شرحٌ لهذه الأشياء، ماذا يُراد بها؟ فيرجع إلى هذا الكشّاف، وقد يفهم، وقد لا يفهم، أو يبقى الكتاب للمُتخصصين.

  1. "المختار من شعر شعراء الأندلس" (ص67)، و"خريدة القصر وجريدة العصر" -قسم شعراء المغرب والأندلس (ج2/ص165)، و"حياة الحيوان الكبرى" (1/29).
  2. "الأضداد" لابن الأنباري (ص222)، و"التذكرة الحمدونية" (8/109)، و"الدر الفريد وبيت القصيد" (11/360).
  3. "البحر المحيط في أصول الفقه" (2/200).
  4. "نشر البنود على مراقي السعود" (1/85).
  5. "العين" (1/143)، و"الأمثال" لابن سلام (ص168)، و"الأضداد" لابن الأنباري (ص126).
  6. "الحماسة المغربية" (1/723)، و"الدر الفريد وبيت القصيد" (6/466).
  7. "نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب" ت: إحسان عباس (4/487).
  8. "الكامل في اللغة والأدب" (1/95)، و"شرح ديوان الحماسة" (ص80)، و"شرح حماسة أبي تمام" للفارسي (2/103).
  9. انظر: "زهر الآداب وثمر الألباب" (4/969)، و"التمثيل والمحاضرة" (ص383).
  10. "فتح الباري" لابن حجر (10/586).
  11. "فتح الباري" لابن حجر (8/272).
  12. "تفسير الطبري" (5/456).
  13. "تفسير الطبري" (2/263).

مواد ذات صلة