الجمعة 19 / رمضان / 1445 - 29 / مارس 2024
(16- ب) حرف الحاء من قوله حجة إلى قوله حسبك الله
تاريخ النشر: ١٣ / صفر / ١٤٣٦
التحميل: 2598
مرات الإستماع: 1785

تفسير التسهيل لابن جُزي

معاني اللغات (الغريب)

(16- ب) حرف الحاء من قوله: حُجّة إلى قوله: حسبك الله

 

قال ابن جُزي -رحمه الله تعالى-: حُجَّة -بالضم-: دليل، وبرهان، وحَاجَّ فلانٌ فلاناً: جادله، وحَجَّه: غلبه بالحُجَّة، والحَج -بالفتح، والكسر-: القصد، ومنه أُخذ: حَجُّ البيت، وحِجة: بالكسر: سَنَة، وجمعها: حِجج.

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فالحُجّة: أصل هذه المادة: الحاء والجيم، أرجعها ابن فارس إلى أربعة أصول:

الأول: القصد، قال: وكلُّ قصد حج، وهذا واضح، وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ آل عمران:97، فالحِجّ والحَجّ بمعنى: القصد، قصد بيت الله الحرام؛ لأداء النسك، ويقال: الحج الأكبر والأصغر يعني: العمرة والحج، وكذلك يقيد إذا أُريد به الحج بقصد بيت الله الحرام؛ لأداء النسك في وقت مخصوص، فهذا بمعنى: القصد، يقول: ثم اختُص بهذا الاسم: القصد إلى البيت الحرام؛ للنسك، وإلا فأصله: القصد.

الأصل الثاني: وهو: الحِجَّة، وهي: السَنَة، كقوله -تبارك وتعالى-: أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ القصص: 27يعني: سنوات، فهذا هو: الأصل الثاني.

الأصل الثالث: الحِجاج، وهو: العظم المستدير حول العين، ولا زال العامة عندنا يقولون: حجاج العين، وهو: العظم المحيط بالعين؛ لكي يُكَوِّن لها حماية، ويقال: إن أحدهم قُتل، وأصيب برصاصة في حِجاجه، فنظرت إليه امرأة، وذهبت تُعزي أمه، فقالت: الحمد لله، سلَّم الله عينه، يعني: ما جاءت الضربة في العين، مع أنه مات يعني، تقول: فك الله عينه، فهذه من التعزية في غير موضعها، على كل حال: فهذا يقال له: الحِجَاج.

والأصل الرابع: الحجحجة بمعنى: النكوص، وهذا المعنى: الثالث وكذلك الرابع غير موجود في القرآن.

على كل حال: هنا ابن فارس لم يذكر الحُجة بمعنى: البرهان، والبينة، لاحظوا: الذي هو أشهر المعاني لم يذكره ابن فارس، وابن جُزي ذكره في أول المعاني، المعنى الأول، فابن جُزي ذكر ثلاثة معانٍ، كل هذا الذي ذكره ابن جُزي هو في الواقع: ثلاثة معانٍ، بالضم: حُجة: دليل، وبرهان، حاج فلان فلاناً بمعنى: جادله، والمُحاجة: أن يورد هذا حُجة، ويورد الآخر حُجة، ومضى الكلام على الجدل، والمجادلة، أن يورد هذا ما يحتج به على صاحبه؛ ليفتله عن رأيه، هكذا المجادلة، يعني: بخلاف المحاورة، فهي أعم، المحاورة: محادثة بين شخصين، أو بين طرفين، فأكثر، لكن المحاجة والمجادلة بخلاف ذلك، فهذا يورد حجة، وهذا يورد حجة، فهذا المعنى الأول الذي ذكره ابن جُزي، وهو: من أشهر الاستعمالات لهذه المادة، فتقال: للبينة الواضحة المبيِّنة للمحجة والقصد، انتبهوا: البينة الواضحة المبينة للمحجة، المحجة يعني: الطريق الواضح، والقصد، لاحظ: مبينة للمحجة والقصد، فابن فارس كأنه يرجع الحُجة إلى هذا إلى القصد، فهذا الذي يورد هذه الحُجة، يوردها من أجل ماذا؟ من أجل إقناع الطرف الآخر، يقصد بذلك: حمل مقابله على رأيه، أو من أجل أن يفتله عن رأيه؛ ليرد عليه قوله، فيقولون: الحُجة هي: البينة الواضحة المبينة للمحجة والقصد، وقد يراد بها: ما يحتج به الإنسان، ولو كان غير مُبِين، كالحجج الباطلة، والحجج التافهة، والحجج التي لا قيمة لها، كما يقال: حُجة أوهى من بيت العنكبوت، هي سُميت حُجة باعتبار أن ذلك بحسب زعم من صدرت عنه، وإلا فهي ليست بحجة؛ ولهذا يقول اللهحُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ الشورى: 16، وهي: ليست بحجة في الواقع، لكن الكلام قد يخرج مراعًى فيه حال السامع، أو المخاطب، وإن لم يكن القائل يعتقده، هذا أحد الأنواع في الاستعمالات القرآنية.

وقد يراد بها -أي: الحُجة-: المُحاجّة، والمنازعة، يقول ابن جُزي: حاجّ فلان فلاناً: جادله، وحَجَّه: غلبه بالحجة.

قال: والحج، هذا المعنى الثاني الذي ذكره ابن جُزي، قلت لكم: ذكر ثلاثة معانٍ، المعنى الثاني: الحَج، والحِج: القصد، ومنه أُخذ: حج البيت.

قال: وحِجة: بالكسر: سَنَة، وجمعها: حِجج، فهذا المعنى الثالث الذي ذكره ابن جُزي، وهو عند ابن فارس الأصل الثاني.

في قوله -تبارك وتعالى-: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ البقرة: 150، ما المقصود به؟ يحتمل أن يكون المعنى: ما يُحتج به، أو معنى: المحاجة، والمنازعة، هذه المعاني المباشرة: حُجة يعني: مُحاجة، لا يكون هناك مجال للجدل، وكذلك أيضاً في قوله: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ النساء: 165، يمكن أن يكون: ما يُحتج به، أو المجادلة والمحاجة، قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ الأنعام: 149يعني: البينة الواضحة هنا، وليس معناها: المجادلة، أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ البقرة: 258يعني: نازعه الحجة، يمكن أن يُفسر بهذا، وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ الأنعام: 80نازعوه، وخاصموه، وهكذا أيضاً في مثل قوله -تبارك  وتعالى-: وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ الأنعام: 83أي البينة الواضحة، لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الشورى: 15بمعنى: لا محاجة، فالحجة تأتي بمعنى: المحاجة، لا حجة، ولا منازعة، فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ البقرة: 158قصد البيت، ونحو ذلك، وهكذا: أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ القصص: 27يعني: ثماني سنوات، والله أعلم.

طيب إذن هنا على قول ابن فارس: الحُجة بمعنى: البرهان ترجع عنده إلى معنى: القصد، فإذا أردنا أن نجمع ما ذكره ابن جُزي من المعاني الثلاثة يبقى عندنا: اثنان، السَّنَة، والقصد.

قال ابن جُزي -رحمه الله تعالى-: حِطَّة: أي: حُطَّ عنا ذنوبنا، وقيل: هي كلمة بالعبرانية، تفسيرها: لا إله إلا الله.

 

قال ابن جُزي رحمه الله تعالى: حِطَّة: أي: حُطَّ عنا ذنوبنا، وقيل: هي كلمة بالعبرانية، تفسيرها: لا إله إلا الله.

 

حُط عنا ذنوبنا، يعني: حِطة، يقال: استحطّه وزرَه: سأله أن يحطه عنه، وَقُولُوا حِطَّةٌ الأعراف: 161، التقدير أي: مسألتنا حِطة، وقوله: لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ الأعراف: 164يعني: أن موعظتنا معذرة، يعني: من أجل الإعذار عند الله -تبارك وتعالى-، لاحظ: التركيب متشابه، قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ الأعراف: 164قالوا: موعظتنا معذرة، أي: من أجل المعذرة، وقوله: وَقُولُوا حِطَّةٌ الأعراف: 161مسألتنا حِطة، وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ البقرة: 58، أمرَهم بقول وفعل، الفعل: أن يدخلوا الباب سجداً، يعني: في هيئة الخضوع والركوع، يدخل الواحد منهم وهو: منحني الظهر؛ خُضعاناً لربه -تبارك وتعالى-، خضوعاً لله، هذا الفعل، والقول: حِطة، حُط عنا ذنوبنا، مسألتنا حِطة، وَقُولُوا حِطَّةٌ الأعراف: 161، حُط عنا أوزارنا، وخطايانا.

ابن فارس يُرجع هذه المادة إلى أصل واحد، وهو: إنزال الشيء من علو، تقول: حَطّ عنه الرحل: أنزله، حط عنه الديْن يعني: كأنه يثقله، كأن هذا الديْن أثقله، هذا يقال في الأشياء الحسية، والأشياء المعنوية، حط الرحل: أنزل الرحل من الدابة، حط المتاع، حط رحله: أنزله، ويقال في الأشياء المعنوية: حَط الذنوب والخطايا، حُط عنا خطايانا، وكذلك أيضاً: حَط عنه الغُرم، أو الديْن، أو نحو ذلك، بمعنى: أسقطه عنه، وضعه عنه، تقول: ضع عنه من هذا الديْن، كأنه أنزله، كأن الديْن يحمله على ظهره، وكذلك الوزر، فإنه كالحمل: يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا طه: 100، يحمله على ظهره، وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ فاطر: 18، فهو: أحمال على هذه الظهور، وأثقال: وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ العنكبوت: 13، فهو يُثقل صاحبه، فبهذا الاعتبار: الحط بمعنى: الإنزال، والوضع، حُط عنا خطايانا.

قال: وقيل: هي بالعبرانية، تفسيرها: لا إله إلا الله، وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ البقرة: 58، قولوا: لا إله إلا الله، هذا يحتاج أن يُرجع فيه إلى أصل اللغة، وكثير من هذه الأشياء والألفاظ التي يقال: إنها ليست عربية، إذا سألت أهل تلك اللغة، يقولون: لا نعرفها، والسبب: أنه لو صح أنها من تلك اللغة فهم يقولون: لعلها في اللغة القديمة، العبرانية يوجد فيها: لغة قديمة، ولغة حديثة، الحبشية يوجد فيها: لغة قديمة، ولغة حديثة، وهكذا في باقي اللغات، فالذين يتكلمون باللغة الحديثة لا يفقهون مثل هذه الألفاظ أحياناً، هذا لو صح، على خلاف بين أهل العلم: هل يوجد في القرآن شيء من المُعرَّب أو لا؟ يعني: الذين يقولون: هذه بالعبرانية، ستأتيكم نماذج لما يسمونه: المُعرَّب، يعني: أن أصله ليس بعربي، وهذه المسألة فيها خلاف معروف بين أهل العلم، فمنهم من يقول: إنه موجود، ويمثلون له بأمثلة، وجمعوا فيه مواضع من كتاب الله، ونظمها بعضهم، وبعضهم ذكرها وجمعها منثورة هكذا، ومِن أجمع من ذكر هذا: السيوطي -رحمه الله تعالى- في كتابه: المُعرَّب، وهذا المُعرَّب على ثلاثة أنواع، يعني: الألفاظ الأعجمية، أو الكلام الأعجمي ثلاثة أنواع:

الأول: في التراكيب، هذا لا يوجد بالإجماع في القرآن، لا توجد جملة بالأعجمية، فهو: بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ الشعراء: 195، هذا بالإجماع.

النوع الثاني: ما كان بغير الأسماء، فهذا أيضاً غير موجود، ويمكن أن يَرجع إلى الأول، لكن المُنكَّر: هذا الذي فيه خلاف، وهو الذي نفاه الشافعي -رحمه الله.

والنوع الثالث: الذي هو الأعلام، فهذه أسماء الأعلام لا إشكال فيها، يقولون: أكثر الأسماء، أسماء الأنبياء، وأسماء الملائكة: ليست عربية، الأكثر، لكنْ محمد ﷺ اسم عربي، قالوا: وهود، وصالح، وشعيب، قالوا: أسماء عربية، وباقي الأسماء ليست عربية، فهذه الأسماء هي تقال كما تقال في اللغات، فهي: مشتركة، فهذا لا إشكال فيه، ليس هذا محل الخلاف، إنما محل الخلاف عند أهل العلم في: المُنكَّر، هل هو موجود، مثل: إستبرق، وسُندس، ومشكاة، إلى آخره، أو لا؟.

فبعض أهل العلم يقول: القول به ينافي كون القرآن نزل: بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ الشعراء: 195، فكيف يقال: فيه ألفاظ أعجمية؟!

والذين يقولون بهذا، يقولون: وجود لفظة استعملت في كلام العرب، ودخلت في لغتهم، وصاروا يستعملونها استعمال لغتهم، وغيروا فيها بما يتفق مع ألسنتهم؛ لأن القاعدة عند العرب: أنه -كما يقال- أعجميٌّ فالعب به، يعني: لا ينطقون باللفظة الأعجمية كما ينطق بها الأعجمي؛ لأن ألسُن العرب لا تتفق مع ألسُن العجم، فينطقون بها بما يتفق مع ألسُن العرب، فيقولون: وجود هذه اللفظة هذا لا إشكال؛ لأنه نزل القرآن بلغة العرب، وكانوا مما يستعملونه.

وبعضهم يقول: لا، الله قال: بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ الشعراء: 195، لماذا لا يكون الأعاجم هم الذين أخذوها؟ لماذا يقال: العرب أخذتها؟

وبعضهم يقول: هذا مشترك بين اللغات، يُعبَّر بهذه اللفظة في هذه اللغة، وفي هذه اللغة عن نفس المعنى؛ لأنه إن كان الاتفاق في اللفظ فقط، والمعنى يختلف فليس هذا هو: المُعرَّب، وإنما المُعرَّب كما قال صاحب المراقي:

ما استَعملتْ فيما لهُ جا العَرَبُ
ما كان منه مثلَ إسماعيلِ
إن كان منه واعتقادُ الأكثرِ

***

***

***

في غير ما لغتهم مُعرَّبُ
ويوسف قد جاء في التنزيلِ
والشافعيِّ النفيَ للمُنكَّرِ

 

يعني: ألفاظ المُنكَّر مثل: إستبرق، وما شابه ذلك من الألفاظ، فهذه: حِطَّةٌ هل هي: أعجمية، بمعنى: لا إله إلا الله؟ الله أعلم، لكن طبعاً القول بأنها عربية يمكن أن يكون هذا مما اتفقت فيه اللغات، وإلا فالأصل: أن مثل هذا الخطاب لبني إسرائيل أن يكون في لغتهم، حِطة: يعني تكون لفظة مشتقة، بمعنى: حُط عنا خطايانا، فيكون ذلك مما اشتركت فيه اللغة العربية؛ ولذلك التحريف الذي نُقل أنهم قالوا: حنطة، أو نحو ذلك من العبارات القريبة منها: حطة وحنطة، هل الحنطة أيضاً في اللغة العبرانية بمعنى: الحب المعروف: حنطة، فجاءوا بلفظة قريبة منها؟، الله أعلم، يحتمل، وهذه ليست محل اتفاق في الروايات أنهم قالوا: حنطة، وإنما جاء في بعضها ألفاظ أخرى، فقوله تعالى: وَقُولُوا حِطَّةٌ الأعراف: 161يعني: حط عنا خطايانا.

قال -رحمه الله تعالى-: حضر: بالضاد: من الحضور، ومنه: مُحْضَرُونَ  الروم: 16، وشِرْبٍ مُحْتَضَرٌ القمر: 28، وبالظاء: من المنع، ومنه: وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا الإسراء: 20، وكَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ القمر: 31، وبالذال: من الحذر، وهو: الخوف، ومنه: إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا الإسراء: 57.

هذه المادة: الحاء والضاد والراء فسرها ابن فارس -رحمه الله-: بإيراد الشيء، ووروده، ومشاهدته، إيراد الشيء: الحضور، أحضره، والحضور بمعنى: المشاهدة، يقول: وقد يجيء ما يبعُد عن هذا، وإن كان الأصل واحداً، فهو يُرجعها إلى أصل واحد، الحاء والضاد والراء.

فالحضور: ضد الغياب، وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ الأعراف: 163هنا بمعنى: مُشرِفة على البحر، تشهده، معنى الشهود، وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ النساء: 128يعني: جعل الله بخلها حاضراً في حال الخصومة بين الرجل والمرأة، فتحصل المشاحّة والمحاقّة، كل واحد يريد أن يقف عند حقوقه، يريدون مفاصل الحقوق، لا يوجد تنازلات بين الطرفين، هنا يحصل مشاحّة، وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ النساء: 128، لا يكون هناك إغضاء، وما إلى ذلك، فيصعب التوفيق، والإصلاح، كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ القمر: 28يعني: يُحضَر، ويُشهَد، يعني: يحضره صاحبه في نوبته، الماء بينهم وبين الناقة، كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ القمر: 28يحضره من كان له في نوبته.

فهنا ابن جُزي قال: حضر: بالضاد: من الحضور، ومنه: مُحْضَرُونَ الروم: 16، وشِرْبٍ مُحْتَضَرٌ القمر: 28، قال: وبالظاء: من المنع، ومنه: وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا الإسراء: 20، وكَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ القمر: 31، وبالذال: من الحذر، يقول: وهو: الخوف، ومنه: إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا الإسراء: 57، فالحذر يقال: للخشية، التحرز منه على خيفة، هذا الحذر، يقال: حذّره بمعنى: خوّفه من ذلك، أو نحو ذلك مما قد يقال.

فهنا ابن جُزي -رحمه الله- ذكر ثلاث مواد: حضر، وحظر، وحذر، فأصل الحاء والضاد والراء عند ابن فارس قلنا: بمعنى: إيراد الشيء، وورود المشاهدة، بمعنى واحد يعني، والحضور: ضد الغياب، أي: شهوده، فهذه الاستعمالات ترجع إلى هذا، كقوله: أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ البقرة:133من الحضور، وقوله: فَأُوْلَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ الروم:16، وكذلك ما كان من هذا القبيل.

وأما الحاء والظاء والراء: حظر، فهذا عند ابن فارس أصل واحد، يرجع إلى معنى: المنع، وهذا الذي فسره به ابن جُزي، يقال: الحِظار، انتبهوا للاستعمالات، الحِظار: ما حُظر على الغنم، أو نحوها، بأغصان، أو شيء من الشجر الرطب أو اليابس، يعني: يجعل مثل السياج من أجل أن يمنعها، لاحظ: لفظ المنع، فالحظيرة تمنع هذه الدواب، فلا تصل إليها الرياح، أو البرد، وتمنعها أيضاً هي من الانفلات، وحظيرة تجمع على: حظائر، فهذا الحِظار: ما حُظر عليها، ويقول: لا يكاد يُفعل ذلك إلا بالرطب منه ثم ييبس؛ ولذلك في قوله   -تبارك وتعالى-: كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ القمر: 31يعني: فاعل ذلك، الذي يعمل هذا السياج يقال له: مُحتظِر، صاحب الحظار، كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ القمر: 31يعني: الذي يعمل الحظيرة للغنم، ثم ييبس هذا الرطب فيتهشم، ويتساقط، فهذا الهشيم المتخلف مما جمعه صاحب الحظيرة كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ القمر: 31، والله  -تبارك وتعالى- يقول: وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا الإسراء:20 يعني: ممنوعًا، وكَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ القمر: 31، كما سبق.

المادة الثالثة التي ذكرها ابن جُزي -رحمه الله-: الحاء والذال والراء، يقول ابن فارس: أصل واحد، وهو: من التحرز، والتيقظ، الحذر، فلان حذِرٌ، وفي قوله -تبارك وتعالى-: وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ الشعراء: 56، هناك قراءة أخرى: حذِرُون، "حاذرون" أي: متأهبون، و"حذِرون" فُسر: بخائفين، والمحذورة: الفزع.

هنا يقول ابن جُزي: بالذال: من الحذر، وهو: الخوف، ويرجع إلى معنى: التحرز، والتيقظ، فهذا المحترز المتيقظ يكون في حال من الترقب، والخوف؛ ولهذا يقال: مِن مأمنه يؤتى الحَذِر، الجانب الذي يأمنه، ولا يحترز من جهته؛ لأنه لا يخاف غوائله، فقد يأتيه الشر من ناحيته، فقوله: إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا الإسراء: 57يعني: حريٌّ أن يُخاف، وأن يُحترز منه، يَحْذَرُ الآخِرَةَ الزمر: 9يخاف الآخرة، ويحترز في أعماله، ويتوقى، خُذُوا حِذْرَكُمْ النساء: 71بالتيقظ، والاحتراس، والاحتراز، وكذلك: إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ التغابن: 14يعني: كونوا على تيقظ، واحتراز؛ لئلا تحملكم الشفقة على هؤلاء الأولاد بمواقعة الحرام؛ استجابة لنزواتهم، ورغباتهم، والنزول تحت مطالباتهم التي لا تخلو من محذور، أو ما يصدر عنهم من محاولة إقعاد الإنسان، يتسببون في إقعاده عن العلم النافع، والعمل الصالح، اجلس عندنا، لا تخرج، لا تذهب، لا تحج، لا تعتمر، لا تنفق، لا كذا، نعيّد معًا، لا تذهب للحج، لماذا تذهب إلى طلب العلم؟ نحن نستوحش إذا خرجت، ابق معنا، فالنتيجة: أنه يخرج جاهلاً، مقصراً في الأعمال، والعبادات، والطاعات، فيفعلون به فعل عدوه، كما يقول ابن القيم -رحمه الله-: إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ التغابن: 14، العداوة الجالب لها: الشفقة، والمحبة، وليست عداوة بغض، فيقعدونه، في النهاية: يفعلون به فعل عدوه، عدوه ماذا يريد؟، يريد أن يقعده عن العلم النافع، والعمل الصالح، فيصلون معه إلى هذه النتيجة، يوصلونه إلى هذه النتيجة، لا يتصدق، ولا يعمل، وإذا أراد أن يصوم منعوه، قالوا: إرهاق عليك، والنهار طويل، وحر، إلى آخره، نريدك أن تأكل معنا، وتأنس معنا، وترتع معنا، وهكذا.

قال -رحمه الله تعالى-: حفظ العلم: وعيه، وحفظ الشيء: حراسته، والحفيظ: اسم الله تعالى، قيل: معناه: العليم، وقيل: حافظ الخلق: كالئهم من المهالك.

هذه المادة أرجعها ابن فارس إلى أصل واحد، وهو مراعاة الشيء، حفظ الشيء: مراعاة الشيء، فهي ترجع إلى معنى: الرعاية، والصيانة، وقد يُضمَّن حافظ وحفيظ معنًى زائداً، وهو: الرقيب، لاسيما إذا عُدي بـ"على"، وهذا المعنى المباشر كل موضع بحسبه، إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ الطارق: 4يعني: فُسر: بالرقيب، يحفظ أعماله، وما يصدر عنه، وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ الانفطار: 10، فُسر: بالرقباء، فهو في معنى: مراعاة الشيء، وكذلك أيضاً: الرقيب، وقد يُفسر أيضاً: بالمُهيمن، ويُعدى بعلى، قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ يوسف: 55، هنا "حفيظ" بمعنى: أصون، وأرعى، الصيانة، والرعاية، وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ ق: 4، يمكن أن يقال: يصون كل شيء، ويرعاه، حُفظ به ما أُودع فيه، لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ ق: 32، يعني: يصون نفسه، ويرعاها من أن تقع فيما يحرُم عليه مواقعته، فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ البروج: 22مصون، وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا الأنبياء: 32مصوناً مرعيًّا، واللوح المحفوظ: المصون المرعي، حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى البقرة: 238، المحافظة عليها: بصونها، ورعايتها، ولا يكون ذلك إلا بالمواظبة عليها، وإقامتها كما أمر الله، بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ المائدة: 44يعني: ما استُودعوه، وأتُمنوا عليه، وهكذا، وفي قوله -تبارك وتعالى-: وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا البقرة: 255، حفظ السموات والأرض؛ لئلا تقع، أو يتطرق إليها الخلل، فهذا بمعنى: الصيانة والرعاية، وكذلك: فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ النساء: 34، الحافظات يعني: الراعيات لحقوق الأزواج عند غيبتهم، بمراعاة ما شرعه الله من الأحكام، وحفظ الحدود، حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ، فيدخل في هذا: أنها لا تواقع ما يسخطه الله -تبارك وتعالى-، ولا يصدر عنها ما يكون سبباً لانتهاك حق الزوج، أو حرمته، أو شرفه، أو نحو ذلك، فلا تُدخل في بيته من لا يرضاه، ولا تواقع عملاً يخل بالشرف، ويوقع في المدنسات، أو يكون سبباً لذهاب الشرف، واختلاط الأنساب، ونحو ذلك، حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ أي: إذا غاب عنها زوجها، وهكذا في قوله: وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ المائدة: 89بمعنى: الصيانة لها، احفظوا أيمانكم من نقضها، والحنث فيها، ونحو هذا؛ ولهذا يستدل بهذه بعض أهل العلم على: أن الحنث في اليمين والتكفير عنه ليس بمحض اختياره، أو بالتشهي، فإذا حلف يميناً يُكفر وانتهى، لا، بل بعض أهل العلم يرى أن الأمر ليس بهذه الصورة، ليس بمجرد تشهيه، قال تعالى: وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ المائدة: 89، هنا: يجب عليه أن يبر باليمين، فإن عجز أو كانت المصلحة في غيره فإنه يُكفر عن يمينه، وقوله: وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً الأنعام:61يحفظون أعمالكم، رقباء يعني، قال: عَلَيْكُمْ بـ"على"، وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا النساء: 80رقيباً ومهيمناً، وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ الأنعام: 104يعني: برقيب، فهذا كله يرجع إلى معنى: الرعاية، مراعاة الشيء، والله أعلم، وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ سبأ: 21أي: رقيب، ومهيمن.

قال -رحمه الله تعالى-: أحاق بهم: أي: حل بهم.

هناك مادة مكملة لهذه سيذكرها بعد هذا بنحو: أربعة عشر موضعاً، وهي: حَقّ، وذكر لها هناك: أربعة معانٍ، ولو أن ذلك ذُكر جميعاً فقد يكون أولى، فتُجمع تلك مع هذه؛ لأن أصل المادة واحد، فأنا سأتحدث هنا بحديث يشمل ذلك الموضع، فيكون تأصيلاً لأصل هذه المادة: الحاء والقاف، وما يتفرع عنها أيضاً.

هذه: الحاء والقاف، يُرجعها ابن فارس إلى أصل واحد، يدل على: إحكام الشيء، وصحته، يدل على: الإحكام، والصحة، يقول: فالحق: نقيض الباطل، ثم يَرجع كل فرع إليه بجودة الاستخراج، وحسن التلفيق، يقال: حق الشيء: وجب، يعني حينما يكون عند الإنسان لطافة ذهن، ويستطيع توجيه هذه الاستعمالات فإنه سيرجعها إلى هذا الأصل، الذي هو إحكام الشيء، وصحته.

لاحظوا الاستعمالات الآن كيف سيرجعها إلى إحكام الشيء وصحته، وهذا سنحيل إليه في الموضع الآتي، الحق يقال: للثابت الصحيح، وهو: ضد الباطل، لاحظ المعنى الذي ذكره ابن فارس، إحكام الشيء وصحته، طبق عليه هذا، فالحق: الشيء الثابت الصحيح، والمراد منه على سبيل التعيين في كل موضع بحسبه، لكن معناه العام لا يخلو من معنى: الثبوت، والمطابقة للواقع، والحق هو: الله -تبارك وتعالى-، حق في ذاته، حق في أسمائه، وصفاته، وأفعاله، وقوله الحق، وأحكامه حق، وأفعاله حق، وكذلك كتب الله وما فيها من العقائد والشرائع حق. 

قال: والحق هو: الواقع لا محالة الذي لا يتخلف، لاحظوا هذه المعاني الآن في المعاني المباشرة، وفي المواضع المختلفة، في استعمال كلمة الحق، ثم نطبق عليها الأمثلة من القرآن، استحضروا معها ما أذكره، فالحق يقال: للواقع الذي لا يتخلف، والحق أيضاً يقال: لأحد حقوق العباد، تقول: ليس لك حق في كذا، لك حق فيه، وهو ما وجب للغير، ويتقاضاه، ويطالب به، يقول: وهذا حق مكتسب، يعني: من حقك أن تطالب به، والحق يقال: للعلم الصحيح، ويقال: للعدل أيضاً كذلك، وإذا أضيف إلى المصدر كان معناه: أن ذلك على أكمل الوجوه، وأتمها، وأحسنها، كقوله: يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ البقرة: 121، فالتلاوة: مصدر أليس كذلك؟ و"حق" أُضيف إلى المصدر هنا، يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ البقرة: 121يعني: على أكمل وجه، أُضيف إلى المصدر.

طيب، انظر في قوله -تبارك وتعالى-: وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ البقرة: 61يعني: بغير حصول سبب يسوِّغ القتل، وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ آل عمران: 86يعني: رسالته ثابتة، وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ يونس: 53 أي: ثابت صحيح، أَلا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ يونس: 55يعني: لابد من وقوعه، لا يتخلف، مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ هود: 79يعني: من واجب نتقاضاه، لسن بزوجات، ولا سلطان ولا يد عليهن، على أحد المعاني، وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ الذاريات: 19أي: واجب مقرر، وفُسر: بالزكاة، إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ الواقعة: 95يعني: اليقين الثابت الموافق للواقع، وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ البقرة: 282، ما وجب للغير، فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ الأنعام: 5يعني: الشرع، والهدى، والقرآن، ودين الإسلام، وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ [الأعراف: 8]يعني: هنا العدل، قَالَ رَبِّ احْكُمْ ‎بِالْحَقِّالأنبياء: 112 يعني: بالعدل، وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا النجم: 28يعني: العلم الصحيح، فالظنون لا يُحصَّل بها علم، وهكذا، يقال: حق يعني: ثبت ووجب، وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ الأعراف: 30يعني: وجبت، حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ يونس: 33يعني: وجبت، حق الأمر يحقه بمعنى: أثبته، تقول: حُقَّ له يعني: ثبت له، أو أُثبت له، وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ الانشقاق: 2يعني: كان وصفاً ثابتاً أن تستجيب، وتنصت، وتسمع، وتنقاد، فهذا الانقياد حق ثابت، تقول: أحق الله الحق أي: أظهره الله، وأثبته للناس، وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ الأنفال: 7، وتقول: استحق كذا يعني: استوجبه، لكن حينما تقول: استحق عليه، يعني: وقع عليه، اسْتَحَقَّا إِثْمًا المائدة: 107استوجبا إثماً في آية المائدة، اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيَانِ المائدة: 107، هذا الموضع فيه كلام كثير للمفسرين، يقولون: هذه أصعب آية في القرآن من جهة المعنى والإعراب، لكن من المعاني التي قيلت فيها، وهو معنى قريب اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيَانِ المائدة: 107يعني: فشاهدان آخران يقومان مقامهما من الذين وقع عليهم ضرر الشهادة، يعني: أصحاب الحق، والمطالبة، وجُني عليهم بهذه الشهادة الأولى التي رُدت، وهم: الأوليان الأحقان، فلان أولى من فلان، بهذا الاعتبار فُسر الأحقان بالشهادة؛ لقرابتهما، ومعرفتهما، والقرابة من الميت، حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ الأعراف: 105يعني: حريص، وفي قراءة: حقيق عليّ يعني: واجب عليّ، أحق بمنعى: أولى، يأتي بهذا المعنى، ويأتي بمعنى أيضاً: أصحاب الحق، وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ البقرة: 228، قيل: أولى، وقيل: هم أصحاب حق، وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ البقرة: 247يعني: أولى بالملك منه.

لاحظ: في كل موضع، كما قال ابن فارس -رحمه الله-، يمكن أن تُرجع إلى هذا الأصل الذي ذكره وهو: يدل على: إحكام الشيء، وصحته، فكل الاستعمالات يمكن أن ترجع إلى هذا، وابن جُزي قال: حاق يعني: حل، فالباطل ذاهب، وهو: يقابل الباطل، والحق ثابت، حل بهم: ثبت، وهكذا.

على كل حال: سنقرأ الآن المادة الأخرى التي ذكرها مما يتعلق بهذا الموضع، وهي: حق.

قال -رحمه الله تعالى-: حق: له أربعة معانٍ: الصدق، والعدل في الحكم، والشيء الثابت، والأمر الواجب، والحق: اسم الله تعالى، أي: الواجب الوجود.

وهذا كله مما سمعتم من التفريعات التي تتفرع عن أصل هذه المادة، فقوله: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ البقرة: 26يعني: الشيء الثابت، وتفسيره بالصدق قريب، فالصدق ثابت، والكذب لا حقيقة له، ولا ثبوت، وهكذا: وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ البقرة: 91، وقوله: فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ ص: 22يعني: بالعدل، هذا المعنى الثاني الذي ذكره ابن جُزي رحمه الله.

قال: والأمر الواجب، والحق هو: اسم الله، ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ الأنعام: 62، وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ الأعراف: 8يعني: العدل، فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا الأعراف: 118، هذا يقابل الباطل، ثبت، يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ الأنفال: 6، الحق هنا ما المقصود به؟ القتال، فهو الشيء الذي ثبت ووجب، الشيء الثابت.

قال: والأمر الواجب، إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ هود: 45، لا خُلفَ فيه، فهو: ثابت، وصدق، أيضاً يُفسر: بالصدق، ونحو ذلك من المعاني القريبة، وهكذا، والله أعلم.

قال -رحمه الله تعالى-: حبل من الله ومن الناس: أي: عهد، وحبل الله: القرآن، وأصله: الحبل المعروف.

هذه المادة: الحاء والباء واللام، أرجعها ابن فارس إلى أصل واحد، وهو: امتداد الشيء، لاحظوا: امتداد الشيء، يعني: الحبل هو الرابط الذي يُشد به، هذا المعروف، وقد يُشبَّه به من حيث الشكل، قد يُشبَّه به العرق، أو يُشبَّه العرقان المحيطان بالعنق، يُشبَّهان بالحبل، من حيث الصورة، والشكل، مثل: حبل الوريد، وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ق: 16.

لاحظوا: ابن فارس ارتاح فقال: هو: امتداد الشيء، يدل على: امتداد الشيء، فالحبل الذي يُشد به، ويُربط به، الحبل المعروف هو: ممتد، حبل الوريد هنا ما يحتاج ابن فارس أن يقول: وقد يُشبه به؛ لأنه الشيء الممتد عنده، فهذا العرق أو العرقان المحيطان بالعنق يقال لهما: حبل الوريد، فهو: يشبه الحبل على كل حال، وقد يُستعار الحبل للوصول المعنوي، فيقال لما يتوصل به إلى مطلوب، يقال له: حبل، إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ آل عمران: 112، تقول: بينهم وبين الناس حبال، فهذا قد يقال: للعهود، والعقود، ونحو ذلك، يقال لها: حبال، فهذا يرجع إلى أصل هذا المعنى.

فقوله: إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ آل عمران: 112، وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا آل عمران: 103، فابن جُزي يقول: العهد، أي: الحبل من الله، وأما الحبل من الناس فيقول: عهود الناس، فقوله: إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ آل عمران: 112أي: العهد.

قال -رحمه الله تعالى-: وحبل الله: القرآن، وأصله: الحبل المعروف، هنا: أطلقه على الأمر المعنوي الذي يتوصل به إلى النجاة، وهو: اتباع القرآن، بهذا الاعتبار، وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ هنا فُسر: بالقرآن، أو بكل ما يتوصل به إلى النجاة، فهذا على كل حال: يرجع إلى أصل المعنى.

وحبل الله في قوله: إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ آل عمران: 112فُسر: بما أوجبه الله على المسلمين في معاملة أهل الكتاب، إذا دخل أهل الكتاب في ذمة المسلمين، هذا الحبل من الله؛ ولذلك فإن بعضهم يُفسر الحبل من الله إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ آل عمران: 112قالوا: العهود التي يعطيها أهل الإيمان لهم على وفق شرع الله، فهذا الحبل من الله، يعني: عقود شرعية، موافقة للشرع يعطيها أهل الإيمان لهؤلاء أهل الكتاب.

وأما الحبل من الناس، فهي العهود والعقود التي يعطيها الناس، ولا يتقيدون فيها بشرع الله، فيحصل بسبب ذلك لهؤلاء الذين ضُربت عليهم الذلة، يحصل لهم شيء من الانتفاع، وفُسر الحبل من الناس: بتعاون المسلمين مع الذميين، وتبادل المصالح، ونحو ذلك، يعني: فيما يكون خارجاً عن العهد، يعني: زيادة على العهد مما لا يخالفه، مصالح متبادلة كما يقال.

فالحبل من الله هو العهد الذي يُعطى لهم، ويكون موافقاً للشرع من قِبل أهل الإيمان، والحبل من الناس: مصالح مادية يتعاملون فيما بينهم، وفُسر: بالعهود التي تُعطى لهم من غير المسلمين، ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ آل عمران: 112، فهل هذا الاستثناء متصل، بحيث ترتفع عنهم الذلة، أو المقصود بذلك: أن الاستثناء هنا منقطع يعني: لكن بحبل من الله، وحبل من الناس يأمنون على أنفسهم، وإلا فالذل لا يفارقهم، فهو: وصف لازم لهم؛ لأنه قال: ضُرِبَتْ؛ ولذلك عُبر عنه بالضرب الذي يدل على شدة ثبوت هذا الوصف، وعلوقه.

أما الحبل المعروف فكقوله: فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ طه: 66، فهذه هي: الحبال المعروفة، ألقاها السحرة، فتحولت إلى حيات في نظر المشاهدين، سحروا أعين الناس، وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ المسد: 4-5، فُسر بالحبل الذي يُشد به، لأنها تشد وسطها، فتحمل الحطب في طريق النبي ﷺ، لتؤذيه بالأشواك، ونحو ذلك، هكذا فُسر، وهو أحد المعاني، وليس المقصود هنا بيان هل هذا حقيقة أو أنه يُقصد به أنها تمشي بالنميمة، فيكون ذلك كمثل مُسعر النار في الفتن بين الناس كالذي يحمل الحطب؟، والله أعلم.

قال -رحمه الله تعالى-: حسِب: بكسر السين: ظن، مضارعه: بالفتح، والكسر، وحسَب: بالفتح: من العدد، ومضارعه: يحسُب، بالضم، ومنه: الحساب، والحُسبان، حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ الكهف: 40أي: مَرامٍ، واحدها: حُسبانة.

هذه المادة: الحاء والسين والباء، أرجعها ابن فارس إلى أربعة أصول:

الأصل الأول عنده: العد، وهذا المعنى أيضاً ذكره ابن جُزي -رحمه الله-، تقول: حسَبت الشيء أحسُبه حَسْباً وحُسباناً بالضم.

وكذلك: الحِسبان: بالكسر: الظن، وذلك أنه فرق بينه وبين العد بتغيير الحركة والتعريف، يعني: هو قريب في الصورة من الحُسبان، فالحُسبان بالضم يعني: العد، والحِسبان بالكسر الظن.

فابن فارس يُرجع هذا الظن والعد إلى معنى واحد، بأي اعتبار؟ باعتبار: أنه إذا قال: حسِبته كذا، فكأنه قال: هو في الذي أعُده من الأمور الكائنة، يعني: بحسب ما أظن.

وأعاد إلى هذا أيضاً: الحَسَب، باعتبار: أنه يُعد، أي: ما يُعد من الإنسان، يعني: كأنه يَعُد، أو يُعَد الآباء الأشراف الذين يفتخر بهم.

وهكذا أيضا: الاحتساب، احتسب فلان ابنه إذا مات، يعني: كأنه عده في جملة الأشياء المدخرة له عند الله   -تبارك وتعالى-، ومن هنا يقال: الحِسبة، والاحتساب في الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وما يدخل في هذا المعنى: الحِسبة؛ لأنه يحتسب الأجر، يعني: لا يبتغي شيئاً من الدنيا مقابل ذلك، فعله حِسبة، تقول أيضاً: فلان حسن الحِسبة بالأمر، إذا كان حسن التدبير؛ لأنه إذا كان حسن التدبير كان عالماً بعداد كل شيء في موضعه من الرأي والصواب.

فابن فارس يُرجع هذا جميعاً إلى معنى: العد في هذه الاستعمالات، ولاحظ: هذه القدرة عنده -رحمه الله- على ضم هذه المعاني، وجمع ما تفرق منها، فهذا المعنى الأول الذي هو: العد.

والثاني: بمعنى: الكفاية، فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ الأنفال: 62يعني: كافيك، وهذا واضح، من الكفاية.

الأصل الثالث: الحُسبان: جمع حُسبانة، قال: هي: الوسادة الصغيرة، يقال: حسَّبت الرجل أُحَسِّبه، إذا أجلسته عليها، ووسدته إياها، ومن هذا الأصل: الحُسبان يقال: للسهام الصغار.

الأصل الرابع: الأحسب، يقال للذي ابيضت جلدته، يعني: غير البرص، الذي خلقته كالأبرص، لكن في كامل الخلقة، يقال له: الأحسب، يكون شعره أبيض، ولونه كلون البرص، لكنه ليس في أجزاء معينة من الجسد، فهذا كله بهذا المعنى.

فلاحظ الآن هذه المعاني التي يذكرها ابن جُزي، وذكر مادتين بعده تتعلقان بهذا، وهما: الحساب والحسيب، فالأفضل: أن نقرأ الجميع، ويكون الكلام واحداً على هذه كلها؛ لأن الواقع أن ما ذكر بعده يرجع إلى ما ذكرت في هذه الأصول.

قال -رحمه الله تعالى-: حساب: من الظن، ومنه: العدد، -في المخطوط: ومن العدد، وأيضاً في الطبعة الإماراتية: ومن العدد-، وبِغَيْرِ حِسَابٍ  النور: 38: يحتمل الوجهين، وأن يكون من المحاسبة: أي: لا يُحاسب عليه، ومن التقدير: أي: بغير تضييق، وعَطَاءً حِسَابًا النبأ: 36أي: كافيًا.

حسيب: اسم الله تعالى، فيه أربعة أقوال: كافٍ، وعالم، وقادر، ومُحاسب

 

حسيب: اسم الله تعالى، فيه أربعة أقوال: كافٍ، وعالم، وقادر، ومُحاسب

 

، وحَسْبَكَ اللَّهُ الأنفال: 62أي: كافيك.

لاحظ: الآن هذه المعاني التي ذكرها ابن جُزي -رحمه الله تعالى-، هذا كله يرجع إلى ما سبق، وعرفنا أن ابن فارس -رحمه الله-: جمع بين العد والظن، باعتبار: أن هذا الظن يكون في جملة ما يعده الشخص الظان من معلومه، ومعارفه، ونحو ذلك، وهكذا أيضاً: الاحتساب، والحِسبة، واحتسب كذا، كل هذا عنده يرجع إلى هذا المعنى.

فهنا يقول: حساب: من الظن، ومن العدد، قلنا: هذا يُرجعه ابن فارس إلى معنى واحد.

قال: وبِغَيْرِ حِسَابٍ النور: 38، يحتمل الوجهين، وأن يكون من المحاسبة: أي: لا يُحاسب عليه، ومن التقدير: أي: بغير تضييق.

هنا: بِغَيْرِ حِسَابٍ النور: 38: كناية عن سعة فضله -تبارك وتعالى-، يعني: يعطيه عطاء بلا حساب؛ لأن القليل يُحسب، ويُعد، لكن حينما يكون حثواً بلا كيل، ولا ميزان، فهذا لا يُعد، و(كان النبي ﷺ يعطي عطاء من لا يخشى الفقر)[1]، والله يقول: إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ الزمر: 10، القليل يُعد، ولكن الكثير لا يُعد؛ ولهذا فُسر: أنه بغير تقدير من الله -تبارك وتعالى-، وبعضهم يقول: بغير تقدير من المرزوق، بغير حساب، يعني: هو ما يتوقع هذا، ولا يقع له في حسابه، أو أنه بمعنى: لا يحاسبه ربه -تبارك وتعالى-، بِغَيْرِ حِسَابٍ الزمر: 10، من المحاسبة.

فإذا أردنا أن نطبق ذلك على الآيات ففي قوله -تبارك وتعالى-: هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ص: 39يعني: من غير محاسبة لك فيما يصدر في عطائك، وبذلك، أو منعك، على أحد المعاني، بمعنى: المحاسبة، بغير حساب، وقوله: فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ البقرة: 206، هِيَ حَسْبُهُمْ التوبة: 68بمعنى: الكفاية هنا، فهذه من المعاني التي يأتي لها: الحَسْب، بمعنى: الكفاية، وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ النور: 39، هنا يُفسر بماذا؟ بالمحاسبة، لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ يونس: 5، هنا: العد، والإحصاء، الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ الرحمن: 5يعني: يجريان بحساب وإحصاء مقدر معلوم دقيق، وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا الأنعام: 96يعني: وسيلة للحساب، ومعرفة الزمن.

ويُرجِع بعضهم: احتساب الشيء، احتسب الشيء، يقولون: من حسِبه بمعنى: الظن، وابن فارس يُرجعه إلى معنى: العد، ويُرجع الظن إلى معنى: العد، يعني: ابن فارس يعد ذلك من المدخر له عند الله -تبارك وتعالى-، وبعضهم يرجع ذلك إلى معنى: الظن، أو من العد، إما من حَسِبَ إذا احتسب الشيء من حَسِب بمعنى: ظن، حسِبه بمعنى: ظنه، أو من حَسَبه بمعنى: عده، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ الطلاق: 3يعني: لا يظن، أو لا يقدِّر، ولا يتوقع، كما سبق، فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا الحشر: 2يعني: لم يتوقعوا، تقول: أنا ما حسَبت لهذا حساباً، يعني: لم أتوقع، وذلك يرجع إلى معنى: الظن الذي يرجع عند ابن فارس إلى معنى: العد، يعني: أنا ما حسَبت حساباتي بصورة صحيحة، فوقع الخطأ في ذلك.

هنا يقول: وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا النساء: 6يعني: محاسباً، وكافياً، وكفيلاً، وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ الأنفال: 62يعني: كافيك، يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ الأنفال: 64يعني: كافيك، من قولهم: أحسبني الشيء يعني: كفاني، كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا الإسراء: 14قيل: محاسبًا، وقيل: كافية لك، كفيلة بمحاسبتك، حاسب نفسك، فأنت أعلم وأبصر بحالك وعملك، فهذه المعاني التي ذكرها.

قال هنا: الحسيب: من أسماء الله -تبارك وتعالى-، قيل: الكافي، وقيل: العالم، وقيل: القادر، وقيل: المحاسب، إلى آخره، فهذا من فعيل، بمعنى: مُفعِل، إذا كان بمعنى: كافٍ، أحسبني الشيء إذا كفاني، فمعنى الحسيب في أسماء الله -تبارك وتعالى- فسره ابن جرير في قوله: وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا النساء:6، قال: وكفاك يا محمد بالله حافظاً لأعمال خلقه، ومحاسباً عليها، فالحسيب: الحافظ لأعمال الخلق، والمحاسب عليها، وابن القيم -رحمه الله- في النونية يقول:

وهو الحسيبُ كفايةً وحمايةً *** والحسْبُ كافي العبدَ كلَّ أوانِ

فذكر: الكفاية، والحماية، والشيخ عبد الرحمن بن سعدي فسره في مواضع: بالعليم بعباده، كافي المتوكلين، لاحظ ابن جُزي ذكر: العلم، وابن سعدي فسره: بالعليم بعباده، كافي المتوكلين، المجازي لعباده بالخير والشر، بحسب حكمته وعلمه بدقيق أعمالهم وجليلها، وفسره بمعنى: الرقيب، الحاسب لعباده، المتولي جزاءهم بالعدل، وبالفضل، وبمعنى: الكافي أيضاً، يكفي عبده همومه، وغمومه، وكذلك هو: حسيب المتوكلين وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ الطلاق: 3يعني: يكفيه أمور دينه، ودنياه، كذلك أيضاً الحسيب: الذي يحفظ أعمال العباد من خير وشر، ويحاسبهم: إن خيراً فخير، وإن شرًّا فشر، يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الأنفال: 64كافيك، وكافٍ لأتباعك، وكفايته -تبارك وتعالى- تكون بحسب حال العبد، إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا النساء: 86، يحفظ على العباد أعمالهم، الحسن والسيئ، الصغير والكبير، ثم يجازيهم بمقتضى ذلك، بعدله وحكمه.

فهذا كله يرجع إلى معنى: الكافي، وكذلك أيضاً: المحاسب، فالله -تبارك وتعالى- كافي العباد، وهو: حافظهم أيضاً، وكذلك يُحاسبهم على أعمالهم، هذا ما يتعلق بهذه المادة، والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.



[1] أخرجه مسلم، كتاب الفضائل، باب ما سُئل رسول الله ﷺ شيئا قط فقال: لا، وكثرة عطائه، رقم: (2312).

مواد ذات صلة