الخميس 18 / رمضان / 1445 - 28 / مارس 2024
(19- ب) من حرف الراء من قوله ركام إلى قوله رأى
تاريخ النشر: ٠٥ / ربيع الأوّل / ١٤٣٦
التحميل: 2398
مرات الإستماع: 1680

تفسير التسهيل لابن جُزي

معاني اللغات (الغريب)

(19- ب) من حرف الراء من قوله: ركام إلى قوله: رأى

 

قال الإمام ابن جُزي الكلبي -رحمه الله تعالى-: رُكام: بعضه فوق بعض، ومنه: مَرْكُومٌ  الطور: 44، وفَيَرْكُمَهُ الأنفال: 37.

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.

ابن فارس -رحمه الله- أرجع هذه المادة إلى أصل واحد، يدل على: تجمع الشيء، يقال: ركم الشيء يركُمه: ألقى بعضه على بعض، وجمَعَه، ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا النور: 43، يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ الطور: 44يعني: متراكم بعضه فوق بعض، وهكذا في قوله -تعالى-: فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ الأنفال: 37يعني: الخبيث، فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا يعني: يجعل بعضه فوق بعض.

قال -رحمه الله تعالى-: رجا: طمع، وقد يُستعمل في الخوف، ومنه: لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا يونس: 7.

هذه المادة لها مادة تتعلق بها سيذكرها المؤلف، لاحظ: هذه رجا، وسيذكر مادة أخرى: رجأ أو أرجأ، هنا قال: طمِع، وقد يُستعمل في الخوف، لكن لو لاحظت المادة الأخرى التي ذكرها بعد نحو ثلاث عشرة مادة، فقال فيها -رحمه الله تعالى-: أرْجِه: أخِّرْه، ومنه: تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ الأحزاب: 51، ومُرْجَوْنَ التوبة: 106، ويجوز فيه الهمز وتركه، أي: أرجى وأرجأ، فهذا يرجع إلى هذا الباب، لاحظ هنا: رجا، ابن فارس يقول: إن الراء والجيم والحرف المعتل أصلان متباينان:

الأصل الأول عنده يدل على: معنى الأمل.

والثاني: الناحية، هذا غير المهموز، أما المهموز فإنه يدل على: التأخير، تقول: أرجأت الشيء، أي: أخرته، تُرْجِي مَنْ تَشَاءُالأحزاب: 51، هذه المادة الأخرى التي ذكرها هناك: أرجأ، قَالُوا أَرْجِه الأعراف: 111، فالحاصل: أن أصل هذه المادة عند ابن فارس: الراء والجيم والحرف المعتل يدل على: معنى الأمل، هذا الأصل الأول ترجع إليه جملة من المعاني، ثم يُتسع في ذلك الاستعمال، فربما عُبر عن الخوف بالرجاء، انتبهوا، قد يُعبر عن الخوف بالرجاء، مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا نوح: 13فُسر: بالخوف، لا تخافون لله عظمة، فلا يُشكل عليك هذا في كلام المفسرين، أو كلام السلف، فإنهم قد يتوسعون في استعمال هذه اللفظة، وهذا قليل، يقال: ما أرجو، أي: ما أُبالي، وفُسرت الآية أيضاً بهذا: مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا نوح: 13يعني: لا تبالون؛ لأنكم لا تعظمونه، والبيت المشهور:

إذا لسعته النحلُ لم يرجُ لسعَها *** وخالفها في بيتِ نُوبٍ عواملِ

لم يرجُ لسعها، يمكن أن يكون معناها: لم يخف لسع النحل، ويمكن أن يكون بمعنى: لم يكترث، لم يرجُ لسعها: لم يُبالِ به، وبينهما ملازمة؛ لأن الذي لا يبالي لا يخاف، والذي لا يخاف لا يبالي، والناس يقولون: من خاف سلم، ماذا يقصدون؟ هل يكون معنى ذلك: أنه لا يبالي، يركب الأخطار، ويخرج إلى القتال، ونحو ذلك؛ ولهذا قالوا: البطل الشجاع يقال له: بطل؛ يقال: لأنه أبطل دمه، كأنه أبطل دمه؛ لأنه يركب الأخطار، فهنا: هذا الأصل الأول عند ابن فارس يدل على: الأمل.

الأصل الآخر: يدل على: ناحية الشيء، وهو: مقصور، الرجى، يقال: الرجى لناحية البئر، وكل ناحية يقال لها: رجى، يقول الله -تعالى-: وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا الحاقة: 17نواحيها، رجى الشيء: ناحيته، وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا الحاقة: 17.

فحينما ننظر الآن إلى الاستعمالات في القرآن نقول: رجاه يرجوه، بمعنى: توقع ما فيه مسرة، والمعنى الثاني الذي أشرنا إليه، وهو: الخوف، ما علاقته بهذا؟ باعتبار: أن الراجي، لو أردنا أن نربط الخوف بمعنى: الأمل، ما يتعلق بالأمل، باعتبار: أن الراجي يخاف أن لا يتحقق أمله، فالرجا هنا بمعنى: الخوف، فهذا الإنسان يخاف أن لا يتحقق أمله، لكنه لم يقع في القرآن: الرجا بمعنى: الخوف، إلا مع النفي، مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا نوح: 13لا تخافون له عظمة.

وأما المهموز: أرجى الأمر يُرجيه فهو: بمعنى: أخره، أرجى من غير همزة في آخره، هكذا لغة في أرجأه، قَالُوا أَرْجِه وَأَخَاهُ الشعراء: 36يعني: أخِّرْ أمرهما حتى ترى رأيك، وفُسر: بالحبس؛ لأن الذي يُحبس يؤخر، ويبعد، ويُعزل عن الناس، وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ التوبة: 106يعني: مؤخرون، موقوف أمرهم، هذا أرجأ.

فالمقصود: أن أهل اللغة حينما يتكلمون عن هذه المادة، سواء كان المهموز، أو غير المهموز: أرجأ أو رجا، يجعلونه من باب واحد، ويحتمل أن يكون ذلك لكون أرجأ يقال فيه: أرجى، بألف مقصورة، هكذا؛ ولذلك يذكرونه أحياناً بالياء: أرجاه يُرجيه يعني: أخره، فيلحقونه بهذا الباب، فلا يفصلون ذلك ويجعلونهما مادتين مستقلتين، وإنما كأن الأصل واحد، والله أعلم.

قوله -تبارك وتعالى-: تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ الأحزاب: 51، أي: أزواج النبي ﷺ، بمعنى ماذا؟ تؤخر.

قال -رحمه الله تعالى-: رجال: جمع رجل، وجمع راجل، أي: غير راكب، ومنه: يَأْتُوكَ رِجَالًا الحج: 27، ومثله: بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ الإسراء: 64.

ابن فارس -رحمه الله- جعل هذه المادة دالة على: العضو الذي هو الرِّجْل، كل ذي رِجْل، إلا ما شذ، انظر كيف يربط المعاني بهذا الأصل الذي ذكره الرِّجل، فالرَّجْل: بفتح الراء وإسكان الجيم، والرَّجّالة؛ لأنهم يمشون على أرجلهم، يقول: الركبان والرَّجّالة، الفرسان والرَّجّالة، باعتبار: أنهم يمشون على أرجُلهم، الرَّجْل هم: الرَّجّالة، والرُّجَّال هم: الرِّجال، والرَّجْلان، فلان رَجْلان أي: راجل، يعني: يمشي على رجليه، رَجْلان، الآن الشائع في الاستعمال عند أهل مصر: رَاجل يعني: رَجُل، والواقع: أن راجل يعني: غير راكب، يا رَاجل، تقول: لست براجل ولكني راكب، والمرأة يقال لها: رَجُلة، وقولهم: ترجَّل النهار إذا ارتفع، ما العلاقة بين هذا؟ يقولون: كأنه قام على رِجله، إذا ارتفع، ابن فارس أرجعه إلى: الرِّجْل، وكذلك أيضاً: رجّلت الشعر، فإذا رجّلته كأنه قوي واشتد، فإذا قوي واشتد كأنه قام على رجله.

هكذا أرجعه ابن فارس إلى هذه اللفظة، أو إلى هذا الأصل، لكن نحن نعرف أن الرَّجُل هو: الذكر من بني آدم، وقد يُطلق على الجِني أيضاً، كما في قوله -تبارك وتعالى-: وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا الجن: 6، لكن من أهل العلم من قيده، يعني: بعض العلماء يقولون: إنه لا يقال للجن: رجال إلا بقيد، رجال من الجن، وقد مضى الكلام على هذا في التعليق على المصباح المنير.

كذلك أيضاً يقال: رَجِل فلان يَرْجَل رَجَلاً يعني: إذا لم يكن له ما يركبه، وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ الإسراء: 64.

يعني: المقصود بهم: المشاة على أرجُلِهم، وقد ذكرت سابقاً في بعض المناسبات: أن كل ماشٍ في معصية الله -تبارك وتعالى- كما يقول الحافظ ابن القيم -رحمه الله- فهو: من رَجِلِه، فكيف بالذي يُذيعها وينشرها؟!

وكل راكب في ذلك فهو: من خيله، فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا البقرة: 239في الصلاة في حال الحرب فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا البقرة: 239، يعني: على الأقدام، أو في حال الركوب، والرِّجْل: القدم، وقد يقال ذلك إلى منتهى الفخذ، يقال لها: رجل، من القدم إلى منتهى الفخذ، في قوله -تبارك وتعالى-: وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً النساء: 1هذا جمع رَجُل.

وَنَادَى أَصْحَابُ الأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْالأعراف: 48جمع رَجُل، لماذا؟ هل لا يوجد نساء في الأعراف؟ أصحاب الأعراف -على خلاف فيهم- ينادون رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ الأعراف: 48، فإذا كان هذا يوجه للرجال وهم أهل القوة، والنساء تبع لهم، فذلك يكفي في تصوير المعنى.

قال -رحمه الله تعالى-: رفث: له معنيان: الجماع، والكلام بهذا المعنى.

ابن فارس أرجع هذا إلى أصل واحد، وهو: كل كلام يُستحيا من إظهاره، يقول: أصله: الرفث، وهو: النكاح؛ ولهذا يقال: الرفث، للفُحش في الكلام، يعني: العبارة التي يمكن أن يُعبر بها، العبارة الجامعة، يمكن أن يقال: كل ما لا يحسن التصريح به، وينبغي أن يُكنى عنه من قول أو عمل، يعني: النكاح رفث، والحديث عن النكاح رفث، وفي قوله -تبارك وتعالى-: فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ البقرة: 197، الرفث فُسر: بالكلام عن النكاح، وقيده بعض أهل العلم بالكلام في شأن النكاح بحضرة النساء، وتعرفون ما رُوي عن ابن عباس -ا- في هذا:

وهُنّ يمشينَ بنا هميسا *** إنْ تَصْدُقِ الطيرُ ........

إلى آخر البيت، فهو: رفث، فلما سُئل عن هذا وهو مُحرم؟ أشار إلى أن النهي فيما يكون بحضرة النساء، هذا في النهي في الحج، فَلا رَفَثَ، هكذا فهم ابن عباس -ا-، لا يقصد بذلك أنه أصل معناه في اللغة؛ لأن الرفث يقال: للكلام فيما يُستحيا منه، وإنما يُكنى عنه؛ ولهذا قد يكون في القول، وفي الفعل، (من حج فلم يرفث ولم يفسق)[1]، ما معنى لم يرفث؟ لو جامع يكون قد رفث، لو باشر يكون قد رفث ولو لم يتكلم، فهذا أعلق بالرفث وأبلغ بلا شك، بل هو أصل المعنى عند ابن فارس، أصل الرفث هو: النكاح.

ابن جُزي هنا كما ترون يقول: الجماع، والكلام بهذا المعنى، ذكر الفعل، والكلام فيما يتصل به، يعني: بعضهم يخصه فيما يتعلق بأمر النكاح، وبعضهم يقول: كل ما يُستحيا من إظهاره، لكن لما كان الغالب مما يُستحيا من إظهاره هو ما يتصل بهذه الأمور، كأنه كثُر في الاستعمال حملوه على ذلك، أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ البقرة: 187، هل المقصود به الكلام؟ المقصود به: الجماع قطعاً، والآية نازلة في هذا، الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ البقرة: 197، فُسر: بالفُحش بالقول، بمعنى أعم، وفُسر: بالكلام فيما يتصل بأمر النكاح، وكما سبق أن بعضهم قيده: بحضرة النساء، ولكن الحاج ينبغي أن يُمسك لسانه، ولا يتكلم ولا يشتغل إلا بذكر الله -تبارك وتعالى-، والمعروف، وما يجمُل وما يحسن من الكلام.

قال -رحمه الله تعالى-: رِجز: عذاب، إلا وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ المدثر: 5، فهي: الأوثان.

ابن فارس يُرجع هذه المادة إلى أصل واحد، وهو: الاضطراب، لاحظ: كيف الآن نجمع بين هذه المعاني: موضوع الأوثان، أو موضوع العذاب؟ ما علاقة الأوثان بهذا، أو أنها تخرج عن هذا الأصل: الاضطراب؟ يقول: منه اشُتق الرَّجَز من الشعر، الضرب المعروف من الشعر: الرَّجَز، بأي اعتبار؟ يقول: لأنه مقطوع مضطرب.

أما الرِّجْز الذي هو: العذاب، وقد يقال للصنم: وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ المدثر: 5، فيقول: ذاك من باب الإبدال؛ لأن أصله السين: رِجس، والعرب تُبدل الحرف حرفاً، يعني: أن هذا يرجع إلى كلمة: رِجس، التي ستأتي بعد الرِّجز، لكن لما كان ابن جُزي يذكر المعنى المباشر كما قلنا، فهو: يتحدث عن مادة: رِجز، فما معناها في القرآن؟ تأتي بمعنى: الأوثان، وتأتي بمعنى: العذاب، لكن حينما نُرجع أصل المعنى: ابن فارس يقول: الراء والجيم والزاي، ترجع إلى معنى: الاضطراب.

والأوثان ما علاقتها بالاضطراب؟ قال: لا، لأن أصل الزاي هذه السين: رِجس، فهي: مادة أخرى، لكن قُلبت، فقد أُبدلت في حرفها الأخير، فلا يختل عنده هذا المعنى الذي جعله أصلاً.

الرِّجز يقال: للعذاب، رِجز الشيطان هي: وساوس الشيطان، وخطاياه، وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ الأنفال: 11.

ما علاقتها بموضوع الاضطراب؟ فرجز عند ابن فارس أرجعه إلى أصل واحد: الاضطراب؛ يقول: لأن هذا يبعث في النفس القلق، يُشتت قلبه وفكره، فيحصل عنده هذا الاضطراب، هل هذا له علاقة بموضوع العذاب؟ الجواب: نعم، لأن رِجز الشيطان يُوجِد له ألماً وعصرة، والإنسان ينزعج بسبب ذلك؛ ولهذا يقال: الرُّجز أيضاً لِمَا يؤدي إلى العذاب.

وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْالمدثر: 5، إذا فُسرت: بالذنوب، وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ المدثر: 5، باعتبار: أنها تؤدي إلى هذا، حتى بعض من فسرها: بالأوثان، أعادها إلى هذا الأصل، يعني: ما قال كما قال ابن فارس، الرُّجز: الأوثان، قالوا: لأن ذلك يؤدي إلى العذاب، فيُطلق على العذاب، وعلى ما يوصل إليه من الأعمال، والمزاولات، وما إلى ذلك، الرُّجز: الذنوب، والمعاصي، والآثام؛ لأنها تؤدي إلى العذاب، أو الأوثان، فعبادتها تودي إلى النار، فبعضهم يجعل ذلك عامًّا في كل ذنب: الرُّجز.

قال -رحمه الله تعالى-: والرِّجس بالسين: النَّجَس حقيقة أو مجازًا، وقد يُستعمل بمعنى: العذاب.

الرِّجس أرجعه ابن فارس إلى أصل واحد، يدل على: اختلاط، الرِّجس: اختلاط، يقول: الرَّجْس: صوت الرعد؛ لأنه يتردد، هدير البعير يقال له: رِجس؛ لأنه يُردده، مَن سمع صوت البعير إذا هدر فهو: صوت يتردد، فيقال له: رِجس، ومن هذا الباب: الرِّجس يقال: للقَذَر؛ لأنه لطْخ وخلط، رِجس.

لاحظ: قوله -تبارك وتعالى-: إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا الأحزاب: 33، من الأقوال المشهورة التي فُسر بها الرِّجس: أن ذلك فيما يكون به الدنس الذي تنحط به مرتبة العبد، فقد قال الله تعالى في أول هذه الآيات: يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ الأحزاب: 32يعني: أنتن أشرف، فبيوت الشرف لا يصلح لها التبرج، ومخالطة الرجال الأجانب، والخضوع بالقول، فإن هذا للأسافل من الناس، أهل المراتب المُنحطة؛ ولذلك تجد الأمَة مُتبذلة، ولا تطالب من الحجاب بما تُطالب به الحرة، ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ الأحزاب: 59، لما أمرهن بأن: يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ الأحزاب: 59، يُعرف أنها حرة لكمال الستر، فهذا كمال الحشمة، والوقار، وذلك يورث الهيبة، فلا يجترئ عليها السفهاء؛ ولهذا قال: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ الأحزاب: 33، وَقِرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ الأحزاب: 33، قراءتان، قيل: قِرن: من الوقار، وبين الوقار والقرار ملازمة، فإن القرار يحصل به الوقار، أما الخرّاجة الولاجة، فإن ذلك يُذهب ماء وجهها، وتنحط به مرتبتها، ويجترئ عليها الأراذل من الناس، ويطمعون بها، بخلاف القارة في بيتها؛ ولذلك تجد للقارة في بيتها التي لا تخرج من الصيانة، والحشمة، وكمال المروءة، والوقار، والبهاء، ما لا يكون للخرّاجة الولاجة، التي لربما خالطت الرجال، فإن خضعت بالقول فذلك أحط، فإن تبذلت في حجابها فذلك أحط في مرتبتها، حتى تهبط إلى مراتب مُنسفلة، تُمتهن، وتُبتذل، وتكون سلعة رخيصة، يطؤها كل غاوٍ بقدمه، كما هو مشاهد في البلاد التي توطأ فيها النساء بالأقدام، وتُعرى أجسادهن، ويُبتذلن، ويُعاملن، كما هو مشاهد، ومعلوم، حتى عند أولئك، فهم يقرون ويعترفون، النساء منهم والرجال، والذين في منظمات حقوق المرأة، ومنظمات حقوق الإنسان، كلهم يقولون: ليس من الإنصاف أن توضع النساء مع الرجال في مجالات العمل، وذلك أن المراتب القيادية، يعني: في الوظائف تكون دائماً من نصيب الرجال؛ لأنهم الأقدر، فالمرأة تكون مظلومة، لا يكون لها إلا من الوظائف التابعة، سكرتيرة، ونحو ذلك، فتنعدم الفرص القيادية في حقها، هم يقولون هذا، يقولون: لا ننصف إذا وضعناها مع الرجل؛ لأن الرجل قدراته أقوى، فيتفوق، فتكون له المناصب القيادية، والمرأة سكرتيرة، ونحو ذلك، فنهضم حق المرأة.

والذين يَدْرسون في المدارس المختلطة، ويُدرِّسون، تشكو الطالبات، يقلن: إن الفُرص تُضَيَّع علينا، بسبب أنها تحتاط، وتحترز كثيراً بحضرة الأولاد؛ لأنهم يعلقون، ويتندرون، ويضحكون، ويهزءون بها إذا أخطأت، فلا تجيب، ولا تشارك؛ ولذلك أجروا دراسات على الطالبات في حال الانفراد في الدراسة، وفي حال الاختلاط، فوجدوا أن اللاتي يدرسن منفردات عن الطلاب يتفوقن، ويبادرن، ويشاركن، ويحققن نتائج أعلى، أما اللاتي يدرسن مع الذكور، فإنهن يكن في حال من الخمود، والخمول، وإيثار السكوت، فلا تشارك، ولا تجيب، ولا تسأل عما أشكل عليها؛ لئلا يُهزأ بها، أو تنتقص، فهي: تحاول أن تتجمل، هذا بالإضافة إلى شكوى أخرى يقلن: إن العناية أصبحت تشتد في جانب المظهر، يقلن: نعتني بمظاهرنا؛ لأن عندنا الرجال، فتتجمل، وتتزين، لعلها تجد من يقْبلها، ويتخذها خليلة، أو نحو ذلك، هذه جناية الاختلاط، أو بعض جنايات الاختلاط، حتى الذكور يقولون: عندهم إحجام، والعناية تنصرف إلى الفتيات، وأيضاً هو: يتحرز، ويتحرج؛ لئلا يظهر في مظهر لا تُعجَب به الفتيات، فهو: يحاول أن يُظهر أنه متفوق، وأنه لا يُخطئ؛ ولذلك لا يسأل إذا لم يفهم؛ لئلا يبدو أنه قليل الفهم، أو جاهل، وكذلك يخشى أن يجيب، أو يبادر، فيخطئ، فيكون ذلك نقيصة في حقه، فهؤلاء الذكور يتنافسون في الاستحواذ على إعجاب هؤلاء الفتيات، من يحصل له الإعجاب بصورة أكبر.

بعض الفتيات تقول: أحاول أن أبدو أحياناً بحسب البيئة أني فُكاهية ظريفة، وأحياناً أبدو بحسب البيئة الأخرى أني رزينة، وأحياناً أحاول أن أبدو أني بلهاء، بحسب المكان الذي تكون فيه، إذا كانت عند أناس تشعر أنهم يؤثرون الوقار والرزانة صارت رزينة، إذا كانوا يؤثرون الدعابة وكذا بدت بهذه الحال.

على كل حال: نحن كنا نتحدث عن الرِّجس، وكل ذلك من الرجس، فهذا من الدنس: إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَالأحزاب: 33، الرجس: الخضوع بالقول، والاختلاط بالرجال الأجانب، والتبذل، والتبرج، رجس، ودنس، ويُقذِّر الشرف.

هنا ابن جُزي يقول: يأتي بمعنى: النَّجَس حقيقة أو مجازاً، يعني: يقصد النجاسة المعنوية، وقد يُستعمل بمعنى: العذاب.

الرِّجس: القَذَر الحسي أو المعنوي، ويطلق على ما يُستقبح في الشرع، والفِطر السليمة، ويقال أيضاً: للعذاب الذي يقع بسبب ما يُستقبح، هكذا يقيده بعضهم، يعني: كأنهم يرجعونه إلى معنى: ما يُستقبح، وما ينتج عنه، قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ الأنعام: 145، رجس بمعنى نجس وقذر، فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ الحج: 30، رجس: كذلك دنس معنوي، قذر معنوي، كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ الأنعام: 125، الرِّجس هنا يُفسر: بالعذاب، وكذلك أيضاً: فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ التوبة: 125، يعنى: كفراً، وضلالاً، فهذا القذر المعنوي.

قال -رحمه الله تعالى-: رَهَب: خوف، ومنه: يَرْهَبُونَ الأعراف: 154.

ابن فارس يُرجع رَهَب هذا إلى أصلين:

الأول: يدل على: خوف، هذا الذي ذكره ابن جُزي: خوف، من ذلك: الرَّهبة، تقول: رهبتُ الشيء رُهْباً ورَهَبَاً ورَهْبَة، ومن هذا الباب: الإرهاب، والإرهاب هو: قدع الإبل من الحوض، وذيادها، هذا الأصل الأول: يدل على: خوف.

والأصل الثاني عند ابن فارس: الرَّهْب: الناقة المهزولة، الرِّهَاب: الدِّقاق من النصال، الرَّهَاب: عظم في الصدر، مشرف على البطن، مثل: اللسان، هنا في ملتقى الأضلاع في الصدر، آخره فيه عظم دقيق، مثل: اللسان، يقال له: الرَّهَاب، الآن الأطباء النفسيون يقولون: مرض الرَّهَاب، يقصدون به: الخوف الاجتماعي، أو الخوف من الخُلطة، أو الخوف من مداخلة الناس، والاجتماع بهم، ينعزل، ويتخوف من مواجهة الناس، ومن مقابلتهم، يقال: فيه رَهَاب، وبعضهم يقول: رُهَاب، ولا أعلم أصلاً للضم، هكذا: بالضم مع فتح رُهَاب، لكن الله أعلم.

في قوله -تبارك وتعالى-: وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ الأعراف: 154، الرهبة هنا بمعنى: الخوف، ولكنه خوف خاص، الرهبة، كأنها خوف مع تعظيم لهذا المخوف منه؛ ولهذا يعبرون بها الآن في الاستعمال الدارج، يقولون: هذا الشيء رهيب، هم يقصدون به ماذا؟ أنه فيه جانب عظمة، يقصدون هذا، مع أنها ليست هي بمعنى: العظمة، لكنه خوف خاص، كأنه مع عظمة، تقول: فلان يعيش في رهبة، يشعر برهبة، ليس بمجرد الخوف، وإنما الخوف مراتب، ومن مراتبه: الرهبة، فهي: خوف خاص، كأنه مع تعظيم المخوف منه، وإلا فالخوف منه ما يكون من قبيل الرعب الذي يملأ القلب، وقد يصير إلى حال من الهلع، كأنه يقتلع القلب، وتسقط قوى الإنسان، لا قلب له، إلى غير ذلك، يقول النبي ﷺ: (نُصرت بالرعب)[2]، ما قال: نُصرت بالخوف، الرعب أشد، إذا وجد الرعب فإن ذلك يعني أن الفكر يتشتت، والقلب لا يعقل، يعيش في رُعب، وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ الأنفال: 60بمعنى: تخيفونهم، لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ الحشر: 13يعني: خوفاً، هذا على تجوز، يعني: إذا فُسر: بمجرد الخوف، وإلا هو أخص من ذلك، مثل ما يأتي في الرأفة، ما معنى الرءوف؟ بعضهم يفسره بالرحيم، كما سنعرف.

قال -رحمه الله تعالى-: رءوف: من الرأفة، وهي: الرحمة، إلا أن الرأفة في دفع المكروه، والرحمة في دفع المكروه، وفعل الجميل، فهي أعم من الرأفة.

يعني: هنا يُفرق بين الرأفة والرحمة، وسيتضح لكم هذا -إن شاء الله- على هذا التفريق.

الرأفة عند ابن فارس: الراء والهمزة والفاء ترجع إلى أصل واحد، يقول: تدل على: رقة ورحمة، يعني: رحمة رقيقة، رحمة خاصة، ليست كل رحمة رأفة، وإنما رحمة رقيقة، لاحظوا: إذا وجدت هذه الرحمة الرقيقة لا يحصل معها المكروه، سيتضح لكم هذا أكثر، فالرأفة تُفسر: بالشفقة من مكروه ينزل به، وبعضهم قد يفسرها ويقول: هي أشد الرحمة، يعني: هي: رحمة خاصة، ابن جرير يقول: هي: أعلى معاني الرحمة، وفسر الخطابي الرءوف بمعنى: الرحيم العاطف برحمته على عباده، وبعضهم يقول: هي أبلغ الرحمة، وأرق الرحمة، انظر إلى التفريق الذي ذكره القرطبي بين الرأفة والرحمة مما يتفق مع ما ذكره ابن جُزي، ومَن تأمل المعاني السابقة التي ذكرناها أدرك الفرق، لكن هذا يشرحه، فالرأفة كما يقول القرطبي: نعمة، يعني: من جميع الوجوه مُلِذَّة، يعني: ليس فيها ألم، أما الرحمة فقد تكون مؤلمة في الحال، لكن تكون عاقبتها لذة، مثلاً: في قوله تعالى في الحد -حد الزنا-: وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ النور:2، ما قال: رحمة، بأي اعتبار؟ ضرب العصا رحمة، أليس كذلك؟، هو رحمة، الحدود رحمة، رحمة للمحدود، ورحمة للمجتمع، فهذا المحدود يكون ذلك كفارة له، كما أخبر النبي ﷺ[3]، فهي: رحمة، قال: وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ النور: 2، ما قال: رحمة، أما الرحمة فإقامة الحد رحمة، لكن لو كانت رأفة، فالرأفة: تكون بترك المؤلم، فلا يقام عليه الحد، لا يكون معها ما يؤلم، ولهذا نهى عن الرأفة، ولم ينهَ عن الرحمة، بهذا يوضح الفرق بينهما، فالرأفة: رحمة خاصة، بشفقة، لا يكون معها ما يؤلم، إنما لذة فقط، ويُجنبه ما يؤلمه، فالحد: رحمة، فيُضرب، وهذا رحمة، فنهى أن توجَد الرأفة التي توجِب إسقاط الحد، أو تخفيف الحد بالصفة، أو التقليل في العدد، هذا هو الفرق؛ ولذلك انظر إلى كلام ابن جُزي في التفريق: الرأفة: في دفع المكروه، والرحمة: في دفع المكروه، وفعل الجميل، فهي أعم من الرأفة، لكنه هنا جعل الرأفة في دفع المكروه فقط، يعني: لا يقام عليه الحد مثلاً في المثال السابق، دفع المكروه، وكأن -والله أعلم- الرأفة فيها جلب المحبوب، ودفع المكروه، فهي: قريبة من الرحمة، إلا أنها أخص منها، فهي: رحمة رقيقة، والله أعلم، رحمة مع رقة.

ففي قوله -تبارك وتعالى-: وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً الحديد: 27، فرق بينهما: رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا الحديد: 27، هذه الرأفة بمعنى: الشفقة، رحمة رقيقة، فهي أخص منها، كأن تغاير مثل هذه المعاني الدقيقة بمنزلة التغاير المُطلق، والله أعلم.

قال -رحمه الله تعالى-: مرضاة: مَفْعلة من الرضا.

ابن فارس -رحمه الله- أرجع هذه المادة إلى أصل واحد، يدل على: خلاف السُّخط، يقال: رضيه: اختاره، أو طابت به نفسه، رضي به: إذا طابت نفسه به، وقنع به، رضي عنه: أحبه، وأقبل عليه بوده، الراضية يعني: ذات الرضا، أو بمعنى: اسم المفعول، يعني: مرضية، فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ الحاقة: 21، فُسر بهذا وهذا: ذات رضا، أو أنها مرضية، عيشة راضية، وفي قوله -تبارك وتعالى-: إِنْ كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي الممتحنة: 1، يعني: رضاي، وهكذا: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ البينة: 8، وفيه إثبات هذه الصفة لله -تبارك وتعالى-، وقوله: تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ التحريم: 1يعني: رضا الزوجات.

قال -رحمه الله تعالى-: راسيات: ثابتات، ومنه قيل للجبال: رواسي، ومنه: مُرْسَاهَا النازعات: 42أي: ثبوتها.

ابن فارس -رحمه الله- أرجع هذه المادة إلى أصل واحد، يدل على: ثبات، الرُّسُوّ يدل على: الثبات، رسا الشيءُ: ثبت أصله، ورسخ، أرساه: جعل أصله ثابتاً، جعله ثابت الأصل راسخًا، والمَرسى: مصدر أرسى، بمعنى: ثبّت، أو هو بمعنى: المنتهى، والمستقر، يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا النازعات: 42، يعني: منتهاها، أين تنتهي؟ متى يكون وقتها ومستقرها؟ متى وقوعها؟ فهذا بمعنى: الثبوت، أو منتهاها ومستقرها، فكل ذلك يرجع في المعنى عند ابن فارس إلى أصل الثبوت، تقول: رست السفينة، إذا استقرت وثبتت بعد أن كانت في لُجة البحر، الله -تبارك وتعالى- يقول: وَجَعَلْنَا فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ الأنبياء: 31، "رواسيَ" أي: الجبال، قيل لها: "رواسي"؛ لأنه يكون بها ثبات الأرض؛ لئلا تميد، أَمَّنْ جَعَلَ الأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ النمل: 61، وهي هذه الجبال بمنزلة الأوتاد، وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِاِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا هود: 41يعني: أنها ترسو باسم الله، وتجري باسمه، فهذا يرجع إلى معنى الثبات.

قال -رحمه الله تعالى-: رغدًا: كثيرًا.

الرغد أرجعه ابن فارس إلى أصلين:

الأول: أطيب العيش، الرغد، عيش رغد ورغيد يعني: طيب وواسع، أرغد القوم: إذا أخصبوا، ويقال: رغُدَ العيش: إذا اتسع ولان وطاب.

الأصل الآخر عكس هذا، يعني: هذا بمعنى: الاتساع، وطيب العيش، الآخر العكس: المُرغاد يقولون: هو: الذي تغير حاله في جسمه ضعفاً، مُرغاد، ومن ذلك المُرغاد: الشاك في رأيه، لا يدري كيف يُصدره، يقال له: مُرغاد، يدل على: الضعف.

فالأول: يدل على: الاتساع، وطيب العيش، ونحو ذلك، والثاني: يدل على: الضعف، لكنه لم يأتِ في القرآن المعنى الثاني.

ابن جُزي هنا كما ترون يقول: رغداً يعني: كثيراً، هذا بمعنى: الاتساع، والعيش الرغيد الطيب الواسع وَكُلا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا البقرة: 35يعني: التوسع في الطيبات واللذات في الجنة، من أنواع المطعوم، وهكذا، وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ النحل: 112، "رغدًا": يعني واسعًا، لا ضيق في العيش عندهم.

قال -رحمه الله تعالى-: ربوة: مكان مرتفع.

ابن فارس -رحمه الله- يُرجع هذا إلى أصل واحد، وهو: الزيادة، والنماء، والعلو، في كل استعمالاته، الرَّبْوَة والرُّبْوَة: المكان المرتفع، وهذا معروف، ومُستعمل إلى اليوم، ربوة: المكان المرتفع.

طيب، والرَّبُو؟ فالنبي ﷺ قال لعائشة -ا- لما تبعته إلى البقيع في ليلة تظن أنه قد ذهب إلى بعض نسائه، وكان قد ذهب يزور أهل البقيع -عليه الصلاة والسلام- في آخر حياته، فلما رجعت مُسرعة تريد أن لا يشعر بها النبي ﷺ، وبقيت في فراشها، فلما رجع سألها حينما وجدها حشواً رابية[4]، يعني: النفس يتصاعد بقوة، فالرَّبو يقال: لارتفاع النفس.

الربا من ذلك بمعنى: الزيادة، لكنها بغير وجه حق في المال، ويأتي أيضاً بالهمز: أربأَ، مثل: أربأُ بك عن كذا، يعني: يرجع إلى هذا المعنى: أرتفع بك عنه، اربأ بنفسك يعني: ترفع عن هذا الأمر، اربأ بنفسك عن كذا، اربأ بنفسك عن هؤلاء، يعني: ارفع نفسك عنهم، فليسوا بمرتبتك، وهكذا.

في قوله -تبارك وتعالى- عن المتصدقين الموقنين بالخلف والعوض من الله -تبارك وتعالى-: وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ البقرة: 265، "جنة بربوة": مكان مرتفع، أطيب الأماكن للزرع، وكذلك أيضاً في قوله -تبارك وتعالى- عن عيسى ﷺ وأمه: وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ المؤمنون: 50، "ربوة": مكان مرتفع.

والمادة التي ذكرها ابن جُزي بعده هي تابعه له، ويقال فيها ما قيل هنا، الربا: يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ البقرة: 276، الربا: الزيادة في المال بغير وجه مشروع، وكذلك: وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ البقرة: 276يعني: يُنميها لصاحبها، فتكون التمرة كالجبل، يُربيها كما يُربي أحدكم فلَّوه[5]، وهكذا: في ما جاء في هذا المعنى، وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ فصلت: 39ترتفع حينما يتحرك النبات في داخلها.

فهذا الربا أصله: واوي، يقولون: الراء والباء والواو، وبعضهم يقول غير هذا، إذن نقرأ ما قال في الربا.

قال -رحمه الله تعالى-: ربا: هو في اللغة: الزيادة، ومنه: وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ البقرة: 276، وربت الأرض: انتفخت.

نعم، كما في قوله -تبارك وتعالى-: فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا الرعد: 17يعني: يرتفع على الماء، رابٍ: عالٍ، فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً الحاقة: 10يعني: زائدة في الشدة، وقوله -تبارك وتعالى-: أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ النحل: 92يعني: أكثر علوًّا، وقوة، وشدة، أربى: أقوى، وأشد، وأعلى، ونحو ذلك، يعني: في نكث الأيمان، واتخاذ الأيمان دخلاً بينهم، يعني: كلما وُجد ناس أقوى تحالف معهم وترك الأولين الذين كان قد عاهدهم، فيتلون كثيراً.

قال -رحمه الله تعالى-: أرحام: جمع رحم، وهو: فرج المرأة، ويُستعمل أيضاً في: القرابة.

هنا قال: هو: فرج المرأة، لكن على كل حال: ابن فارس أرجع ذلك إلى أصل واحد، يدل على: الرقة، والعطف، والرأفة، لاحظوا: كيف يربط المعاني الأخرى، الرحم: علاقة القرابة، ثم سُميت رحم الأنثى رحماً من هذا، بأي اعتبار؟ لأن منها ما يكون به ما يُرحم ويُرق له من الولد، يكون في الرحم، يقال: الرحم هو موضع الجنين في جوف المرأة، وهذا أدق من التعبير بالفرج، لكنه يتصل به، ويقال: رَحِمه رَحْماً ورُحْماً ورحمة ومرحمة: رق له، وعطف عليه.

وقد تطلق الرحمة على ما يكون سبباً في رحمة الله -تبارك وتعالى- من الرسول، أو الكتاب، والوحي، ونحو ذلك، فهو سبب الرحمة.

وتُطلق أيضاً على النعمة التي تنشأ عن الرحمة، فيقال: المطر رحمة، ولمّا يحصل للناس نعمة، أو نحو ذلك، يقال: هذه رحمة من الله -تبارك وتعالى-، وإن كان بعض السلف قد أنكر مثل هذا الاستعمال، يعني: في الأمور الدنيوية، يعني: الرحمة للمطر والخصب، ونحو هذا، يعني: ابن عباس أنكر مثل هذا على من قاله، قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا يونس: 58، قال: وَبِرَحْمَتِهِ هو: القرآن، لكن إذا نظرنا إلى المعنى الذي سبق، المعنى الواسع: أن الرحمة هي أصلها في المعنى كما سبق يقال لمعنى: الرأفة، والرقة، والعطف، ونحو ذلك، لكن قد تُستعمل على السبب الموصل إلى الرحمة، قد تقال للسبب الموصل إلى رحمة الله -تبارك وتعالى-، وقد يكون ذلك مقولاً فيما ينتج عن الرحمة؛ ولذلك فإن أهل التأويل يفسرون الرحمة بإرادة الإحسان، وهذا غير صحيح، فإن هذا من لوازمها، من لوازم الرحمة.

الرحم يقال: لعلاقة القرابة، كما سبق، ورحم المرأة كل ذلك، والله -تبارك وتعالى- يقول: أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ الأنعام: 143جمع رحم، يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ آل عمران: 6، أما قوله: وَأُوْلُو الأَرْحَامِ الأنفال: 75يعني: القرابات،وأولو الأرحام في الفرائض: نوع من القرابات، يعني: الذين لا يرثون بالتعصيب، أولو الأرحام.

وأما قوله -تبارك وتعالى-: وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ الشورى: 28، فالرحمة أوسع من الغيث؛ لئلا يكون ذلك من قبيل التكرار، وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ الشورى: 28، يحتمل أن يكون: ينشر الغيث الذي يقال له: رحمة، باعتبار: أنه ناتج عنها، ويحتمل أن يكون أوسع من ذلك "وينشر رحمته" فيكون من قبيل عطف العام على الخاص، فيكون أيضاً: بالخِصب، وإدرار الأرزاق، وزوال ما يوجبه القحط من القنوط، ويكون العباد قانطين آيسين، فيحصل لهم شيء من الانشراح بهذا الغيث، إلى غير ذلك، ينشر رحمته في هذا وفي غيره، تجد إذا نزل هذا الغيث ترتع البهائم، وتفرح، حتى لو لم يكن الخِصب، يعني: بمجرد نزول الغيث تفرح البهائم، ويظهر ذلك عليها، وعلى سلوكها، وكذلك أيضاً يظهر ذلك في الطير، وفي الناس ممن لم تتدنس فطرهم، يفرح الصغار والكبار بالمطر.

قال -رحمه الله تعالى-: رأى -وفي النسخة الأخرى: أراني-: من رؤية العين، يتعدى إلى واحد، ومن رؤية القلب بمعنى: العلم، يتعدى إلى مفعولين.

هذه المادة عند ابن فارس -رحمه الله تعالى- ترجع إلى أصل واحد، يدل على: نظر وإبصار بعين أو بصيرة، هذا الذي يشير إليه ابن جُزي -رحمه الله- بأنه: رؤية العين، أو رؤية القلب، رؤية القلب هي: البصيرة، ورؤية العين تكون بالبصر.

لاحظ: سائر وجوه الاستعمال حينما نُرجعه إلى هذا أو هذا، الرأي هل يرجع إلى نظر العين؟ لا، لكنه يرجع إلى نظر القلب، ما يراه الإنسان في الأمر، ويُجمع على: آراء، هو نظر القلب، يقال له: رأي، نتيجة الفكر، يقال له: رأي، والفكر إنما يكون في القلب، والرِّئْي: بهمزة ساكنة وكسر الراء: رِئي، يقال: لما رأت العين من حال حسنة، هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا مريم: 74يعني: المنظر أجمل وأبهى وأحسن منظراً، والرُّوَاء يقال: لحُسن المنظر، الرُّوَاء.

فعلى كل حال: يقال: رأى رؤية يعني: نظر بالعين، ورؤية القلب بمعنى: العلم أو الظن، يعني: الرجحان عنده، يقول: أنا أرى كذا، بمعنى: أنه يغلب على ظنه، يعني: أن الحكم عنده ليس بقاطع، ليس بجازم لكنه غالب، يقال: بعلم أو ظن، والرؤيا: ما يراه النائم.

كل هذا يرجع إلى: رأى بعينه أو بقلبه، الذي يرى في المنام هل يرى بعينه؟ لا، يرى بقلبه الرؤيا، إذا قيل: أرأيت؟ فالمعنى: أأبصرت؟، أو أعرفت؟، فعرفت هذا يرجع إلى القلب، وأبصرت إلى العين، يُقصد به التنبيه، يعني: أخبرني، أرأيت؟، وإذا قيل: ألم ترَ؟، فهذا للحث على النظر والاعتبار، أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ لقمان: 20، أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ الأنعام: 6الآية.

على كل حال: بالنسبة أيضاً للرأي يمكن أن يكون مصدراً، لرأى رأياً، بمعنى: أبصر، أو بمعنى: اعتقد، أيضاً رأي العين يعني: رؤية البصر، يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ آل عمران: 13بأبصارهم، وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا هود: 27يعني: بمعنى: الاعتقاد، راءى يُرائي من الرياء، يعني: أرى الناسَ خلاف ما هو عليه، يتصنع لهم، ويلاحظ رؤيتهم، يلاحظ الرؤية، وهكذا.

الذي ذكره ابن جُزي قال: من رؤية العين، يتعدى إلى واحد، ومن رؤية القلب بمعنى: العلم، يتعدى إلى مفعولين، لكن هذا مقيد، كونه يتعدى إلى مفعولين، نقول: إلا إذا كان بمعنى: عرف، إذا كان بمعنى: العلم، يتعدى إلى مفعولين، وإذا كان بمعنى: عرف، فإنه لا يلزم فيه ذلك، فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا الأنعام: 76هذه رؤية العين، فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ هود: 70رؤية العين، وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ يوسف: 24، على خلاف، بعضهم يقول: تمثل له يعقوب ، فيكون رؤية عين، وبعضهم يقول: رؤية قلب، بمعنى: ما قام في قلبه حينها، على خلاف في تفسيره، مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى النجم: 11، أضافه إلى الفؤاد، فهذه رؤية القلب، لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى النجم: 18هذه رؤية عين، وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ يوسف: 43، هذه الرؤيا المنامية رؤية القلب، وهكذا، قول الشيطان: إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ الأنفال: 48، رأى الملائكة فتكون رؤية عين بهذا الاعتبار، والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وآله، وصحبه.



[1] أخرجه البخاري، كتاب الحج، باب فضل الحج المبرور، رقم: (1521)، ومسلم، كتاب الحج، باب في فضل الحج والعمرة، ويوم عرفة، رقم: (1350).

[2] أخرجه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب قول النبي ﷺ: (نُصرت بالرعب مسيرة شهر)، رقم: (2977)، ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا، رقم: (521).

[3] أخرجه البخاري، كتاب الحدود، باب: الحدود كفارة، رقم: (6784)، ومسلم، كتاب الحدود، باب الحدود كفارات لأهلها، رقم: (1709).

[4] أخرجه مسلم، كتاب الجنائز، باب ما يقال عند دخول القبور والدعاء لأهلها، رقم: (974).

[5] أخرجهالبخاري، كتاب الزكاة، باب الصدقة من كسب طيب؛ لقوله: وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ 276 إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (277)البقرة: 276 - 277، رقم: (1410)، ومسلم، كتاب الزكاة، باب قبول الصدقة من الكسب الطيب وتربيتها، رقم: (1014).

مواد ذات صلة