الأحد 22 / جمادى الأولى / 1446 - 24 / نوفمبر 2024
(27- ب) حرف العين من قوله عبر إلى حرف الغين غبر
تاريخ النشر: ٢١ / جمادى الآخرة / ١٤٣٦
التحميل: 1594
مرات الإستماع: 1385

"عبر، يعبر، له معنيان: من عبارة الرؤيا، ومنه: إِنْ كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ [يوسف:43]، ومن الجواز على الموضع، ومنه: عَابِرِي سَبِيلٍ [النساء:43]".

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.

أما بعد: فهذه المادة أرجعها ابنُ فارس إلى أصلٍ واحدٍ يدلّ على النفوذ والـمُضي في الشَّيء[1]؛ رجل عابر سبيلٍ يعني: مارّ: وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ يعني: مُجتازين، مرورًا من غير مُكْثٍ بالمسجد.

طبعًا هنا -كما سبق- أنَّ ذلك يُقال في الأمور الحسيّة، ويُقال في الأمور المعنويّة؛ فالعبور بالمسجد حسيّ، ونحو ذلك.

العبرة: استعبر الرجل، الخليل بن أحمد يقول: أنَّ العبرة هي جري الدّمع[2]، يعني: كأنَّه يمضي، ينزل من العين إلى الخدِّ، فيه معنى الجري، والعبور، والنُّفوذ، فإذا نفذ هذا الدّمع من العين يُقال له ذلك، نوع من السِّدر يُقال له: عُبري. وهذا لا زال مُستعملًا إلى اليوم، أليس كذلك؟

عُبري، والعامّة عندنا ينطقونه بالكسر، وهو بالضمِّ: عُبري، بأي اعتبارٍ؟

أصل ذلك أنَّه يظهر، يكون نبتُه على شطوط الأنهار، هذا النوع العُبري، والشّط يُعبر، ويُعبر إليه عبر النَّهر، فهذه قيل لها ذلك باعتبار أنَّها في شطوط الأنهار.

وهكذا من الباب: عبر الرؤيا، يعبرها، عبرًا. فلان يعبُر الرؤيا، ويُعبّرها. يُقال: يعبُرها، ويُعبّرها، يعني: يُفسّرها، عبور النَّهر؛ لأنَّه بذلك يصير من عبرٍ إلى عبرٍ، عبور النَّهر: عبر، والنَّبت الذي يظهر عليه من السِّدر يُقال له: عُبري، بهذا الاعتبار، فالشّط يُقال له: عبر، فهذا الذي يعبر؛ ولذلك يُقال: عبّارة التي تنقل الناس من شطٍّ إلى شطٍّ، وهذا معروفٌ.

وهكذا مُفسّر الرؤيا يأخذ بها من وجهٍ إلى وجهٍ، يُفسّر الماء مثلًا بالحياة، وقد يُفسّر الحيّة أحيانًا بحسب حالها، ولونها، وحال الرائي: بحياةٍ جديدةٍ، وهكذا يُفسّر القمر مثلًا بالسُّلطان.

فهنا كذلك أيضًا (العبارة)، يُقال: هذه العبارة، كأنَّك تُعبر، هنا فيها معنى العبور، فهو ينقل ما في نفسه على لسانه؛ ليُفهم عنه، وهكذا يُقال: عبر عن فلان، عبر عن نفسك، يُعبر عن غيره، وأعبر عن الآخرين، بمعنى: أنقل ذلك، ففيه معنى العبور.

الاعتبار والعِبرة عند ابن جُزي مأخوذٌ من عبر النَّهر: فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ [الحشر:2]، وحقيقة ذلك فيه معنى الانتقال والعبور، فهذا الذي وقع له ما وقع ينتقل إلى نفسه، يرجع إلى نفسه: لو كنت مكانه، لو كنت موضعه، يُقال: فلان يعتبر، فلان صار عبرةً لغيره، فينظرون في حاله، ثم يرجعون إلى أنفسهم، فيقولون: لو كنا مكانه لحصل لنا كذا وكذا: وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأَمْسِ [القصص:82]، اعتبروا لما رأوا ما حلَّ به من الخسف.

فهذه هي العبرة والاعتبار: فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ، ما وقع لبني النَّضير، وهم في حصونٍ قويَّةٍ، في حالٍ من التَّمكين: فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ [الحشر:2]، اعتبروا: تأخذ من هذا عبرةً تنتقل بها إلى غيرها، تنتقل بها إلى نفسك، فلا تفعل فعلَهم، ولا تغترّ بقوتك، وأنَّ مَن يُحادّ ربَّه -تبارك وتعالى- فإنَّ ذلك لا يُغني عنه شيئًا، لا تمنعه منه قوّة، ولا حصون، ولا غير ذلك.

فهنا أيضًا ورد من المادة -على كل حالٍ- في القرآن: عبور السَّبيل، وعابري سبيل، وكذلك تعبير الرؤيا، والاعتبار، والعبرة: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً [آل عمران:13]، ويقول الله -تبارك وتعالى- عن قول الملك في قصّة يوسف : يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ [يوسف:43]، تعبرون يعني: تُفسّرون، والله أعلم.

"عمون، وفي النُّسخ الخطيّة: عمين، جمع عم، وهو صفة على وزن فَعِل -بكسر العين-، من العمى في البصر، أو في البصيرة".

هذه المادة أرجعها ابنُ فارس إلى أصلٍ واحدٍ: وهو السّتر والتَّغطية[3]؛ عمون، وعمين، فهذا ترجع إليه استعمالاتها، فمن ذلك العمى: ذهاب البصر من العينين كلتيهما، وكما قلنا أنَّ العورَ ذهاب البصر من إحدى العينين، رجل عمٍ: إذا كان أعمى القلب، فالعمى يكون حسيًّا بذهاب البصر، ويكون معنويًّا بذهاب البصيرة، ومنه قوله -تبارك وتعالى-: عَمُونَ [النمل:66]، وكلّ ما جاء على سبيل الذَّم في القرآن للعمى فالمقصود به: عمى البصائر، وليس عمى الأبصار.

وقد ذكر الخليلُ أنَّ التَّعميةَ: أن تُعمي على إنسانٍ شيئًا، فتلبسه عليه لبسًا، تقول: عمى عليه الأمر، ويُقال: (العماية) للغواية، فلان في عمايةٍ، هؤلاء في عمايةٍ، يعني: في غيٍّ، وذلك أنَّ هؤلاء إذا كانوا في غيٍّ فهم في حالٍ من العمى؛ عمى البصائر، والله -تبارك وتعالى- يقول: فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج:46]، هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ [الأنعام:50]، إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ [الأعراف:64].

على كل حالٍ: فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى [فصلت:17]، هذا عمى البصائر والضَّلال، يعني: وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا [الأنعام:104]، كذلك فَعَمُوا وَصَمُّوا [المائدة:71]، فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الأَنْبَاءُ [القصص:66]، بمعنى ما سبق في أصل المعنى، أنها ماذا؟ من التَّغطية، انبهمت.

"علا، يعلو: تكبّر، ومنه: قَوْمًا عَالِينَ [المؤمنون:46]، وعَلَا فِي الأَرْضِ [القصص:4]، و(العلي) اسم الله، و(المتعالي)، و(الأعلى) من العلو، بمعنى: الجلال والعظمة. وقيل: بمعنى: التَّنزيه عمَّا لا يليق به".

هذه المادة ترجع إلى أصلٍ واحدٍ عند ابن فارس: يدلّ على السّمو والارتفاع[4].

وقد ذكر الخليلُ أنَّ العلاء: الرّفعة، وأنَّ العلو: العظمة والتَّجبر[5]. هكذا فرَّق الخليلُ بينهما.

وابن فارس على كل حالٍ جعل هذه المادة بحروفها الثلاثة، وآخرها المعتلّ سواء كان ألفًا، أو واوًا، أو ياءً: أنَّ ذلك جميعًا يرجع إلى معنى الارتفاع والسّمو، يعني: لم يُفرّق هذا التَّفريق الذي قاله الخليل.

ويُقال لكل شيءٍ يعلو: علا، يعلو، فإن كان في الرِّفعة والشَّرف قيل: علي يعلا.

وذكر الخليلُ أيضًا أنَّ المعلاة: كسب الشَّرف، والجمع: المعالي[6]. فلان يطلب معالي الأمور، يُحبّ معالي الأمور، وفلان من عِلية الناس، يعني: من أهل الشَّرف والمكانة والرِّفعة.

وذكر الفرَّاء في قوله: إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ [المطففين:18]، قال: هو ارتفاعٌ بعد ارتفاعٍ، إلى ما لا حدَّ له[7].

وعلى كل حالٍ، قولهم: تعال، أصله: اصعد إلى علوٍّ. هذا الأصل؛ أن يقوله مَن كان في مكانٍ مُرتفعٍ لمن كان في مكانٍ مُنسفلٍ، يقول له: تعال، يعني: اصعد، ثم كثُر استعماله حتى قاله مَن في الحضيض، قد لا يكون مُرتفعًا، وإنما هو في حُفرةٍ، أو في مكانٍ مُستوٍ، ويقول لغيره: تعال، يعني: يدعوه أن يُقبل عليه.

وعلى كل حالٍ استعمال هذه المادة (العلو) قد يكون مذمومًا، وقد يكون في غير الذَّم، وقد يكون محمودًا في الذم: وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا [الإسراء:4].

لكن في صفات الله -تبارك وتعالى- العلي، والله يقول: سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا [الإسراء:43]، السَّمَاوَاتِ الْعُلَا [طه:4] يعني: العالية، وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا [التوبة:40] يعني: العالية، وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ [المؤمنون:91] يعني بمعنى: العلو الذي هو التَّعالي، والغلبة، والقهر، ونحو ذلك، أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ [النمل:31] بمعنى: تعلوا عليَّ، فلان يتعالى، بمعنى: التَّعاظم، والتَّكبر، والامتناع، ونحو ذلك.

وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى [طه:64] يعني: بالانتصار في هذه الوقعة، حيث جاء السَّحرةُ بكل مُستطاعٍ، فتكون له الرِّفعة والعلو: إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ [الدخان:31] يعني: فرعون، يعني: أنَّه حصل له العلو في الأرض بغير الحقِّ.

فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ [الحاقة:22] يعني: رفيعة، جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا [هود:82] يعني: جعلنا أعلاها أسفلها، عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ [الإنسان:21] يعني: على ظاهر أبدانهم، وهكذا: الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ [الرعد:9] يعني: مَن يتَّصف بالعلو، العلو بأنواعه: علو الذَّات، وعلو المنزلة والقدر، وعلو القهر.

وهكذا أيضًا في العلي: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى [الأعلى:1].

"عزب الشَّيء: غاب، ومنه: وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ [يونس:61] أي: لا يخفى عنه".

هذه المادة أيضًا أرجعها ابنُ فارس إلى أصلٍ واحدٍ يدلّ على تباعدٍ وتنحٍّ[8].

لاحظ في استعمالاتها: العزب: الذي لا أهلَ له، والعازب يعني: هذا كأنَّه تباعد عن الزواج، أو الزوجة، عازب، والعازب من الكلأ: البعيد المطلب، عازب، ربما يُقال للشّيء المتنحي، ونحو ذلك، الآن يُسمّونه: عِزبة، ربما لهذا.

كذلك أيضًا كلّ شيءٍ يفوتك، لا تقدر عليه؛ فقد عزب عنك: وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ [يونس:61]، هنا فسَّره ابنُ جُزي فقال: لا يخفى عنه. وهذا يرجع إلى ما ذكره ابنُ فارس؛ كل شيءٍ يفوتك، يفوتك علمه، أو يفوتك تحصيله، أو أخذه، أو مُعاقبته، أو نحو ذلك: وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ، فهذا يدلّ على أنَّه لا يخفى عليه، فيعزب عن علمه -تبارك وتعالى-.

"عُصبة: جماعة من العشرة إلى الأربعين".

هذه المادة أرجعها ابنُ فارس إلى أصلٍ واحدٍ يدلّ على ربط شيءٍ بشيءٍ مُستطيلًا، أو مُستديرًا، ثم يُفرع على ذلك[9]، لكن كلّه عنده يرجع إلى هذا المعنى.

لاحظ: العصب، قال الخليل: أطناب المفاصل[10]. العصب المعروف، هذا مُستطيل، فهي تُلائم بين هذه المفاصل.

لاحظ: مُستطيلًا، أو مُستديرًا.

ومن الباب: العِصابة؛ ما يُربط به، ما يُعصب به الرأس من صُداعٍ، خصَّه ابنُ فارس بهذا[11]، أو يعني: إذا عُصب من الصُّداع يُقال له: عِصابة، وإذا كان لغير ذلك يُقال له: عُصابة، كالذي يربطه المقاتل على رأسه: عُصابة، أو ما يربطه بعضُ الناس على عمامته، أو غُترته، أو نحو ذلك، يُقال له: عُصابة.

وكذلك أيضًا من الباب: العُصبة، فهم كما ذكر من الرجال عشرة، سُمّيت بذلك بأي اعتبارٍ؟

لأنَّها قد عُصبت، يعني: كأنَّه رُبط بعضُها ببعضٍ، ومنه سُمّيت: العصبة، وهم قرابة الرجل لأبيه وبني عمِّه، العصبة في الميراث: الذين يرثون من غير تقديرٍ، يعني: ما بقي، يعني: غير الفروض.

معلومٌ أنه قد يرث الإنسانُ بالفرض والتَّعصيب معًا، يعني: يكون من أهل الفرض، ويكون أيضًا عاصبًا، فيأخذ ما بقي: كالأب، فالعصبات هم قرابته من ناحية الأب، يُقال لهم: عصبات.

ولاحظ: كل شيءٍ استدار حول شيءٍ واستنكف به فقد عَصِبَ به؛ لذلك يُقال: التَّعصب، متعصّب، فلان يتعصّب، بهذا الاعتبار، يدلّ على ربط شيءٍ بشيءٍ، كأنَّ هؤلاء يعصب بعضُهم بعضًا، يشدّ بعضُهم بعضًا ويُحيط به، فيُقال: مُتعصّب، فهو لا ينفكّ عنه، وإنما يلزمه لزومًا تامًّا.

اليوم العصيب: هو الشَّديد، إمَّا بمعنى فاعل، يعني: عاصب، باعتبار أنَّه يعصب القوم، أو بمعنى مفعول، باعتبار أنَّه شديد، أو باعتبار أنَّه مشدود، وضيق، يوم عصيب، ومعلومٌ أنَّ (فعيل) يأتي بمعنى فاعل، وبمعنى مفعول.

والله -تبارك وتعالى- يقول عن إخوة يوسف: إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ [يوسف:8]، كما سبق أنَّ ذلك يُقال للعشرة عند الخليل، وهنا يقول: من العشرة إلى الأربعين، وكان عدد إخوة يوسف عشرة سوى الأخ الغير الشقيق بنيامين، الذين تآمروا عليه وألقوه في الجُبِّ عشرة: وَنَحْنُ عُصْبَةٌ.

وكذلك أيضًا في قوله -تبارك وتعالى-: إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ [النور:11]، فهؤلاء جماعة يبلغون هذا العدد: لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ [القصص:76]، والله أعلم.

"علقة: واحدة العلق، وهو الدَّم".

هذه المادة ترجع عند ابن فارس إلى معنًى واحدٍ، وهو أن يُناط الشَّيء بالشيء العالي، ثم يتّسع الكلامُ فيه[12]، لكن هو يرجع إلى هذا: يُناط الشيء بالشيء العالي، تقول: علقت الشيء، أُعلقه، تعليقًا، وقد عَلِقَه إذا لزمه، والعلق: الدَّم الجامد؛ لأنَّه يعلق بالشَّيء، ويُقال العلق أيضًا للدود الأسود يكون في الجلود.

وكذلك أيضًا من التَّعليق، يُقال: المعلَّقة من النِّساء، هي التي لا أيّم، ولا ذات بعلٍ: فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ [النساء:129] يعني: أنَّه لا يلتفت إليها، ولا يُؤدِّي حقوقها، فليست بمثابة مَن لها بعلٌ –زوج- يقوم بشؤونها، ويُؤدِّي حقوقها، ولا بالمطلَّقة، فتتصرف في شأنها، وتنكح إن شاءت، فتبقى كأنَّها مُعلَّقة: فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ.

العلقة: دم جامد يعلق بجدار الرحم، قيل لها ذلك لمعنى الإناطة والتَّعليق، يعلق بجدار الرحم: ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً [المؤمنون:14]، وهكذا أيضًا في قوله: ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى [القيامة:38].

"عاصف: ريح شديدة".

أيضًا هذه المادة ترجع عند ابن فارس إلى أصلٍ واحدٍ يدلّ على خفَّةٍ وسرعةٍ.

العصف يُقال لما على الحبِّ من قشور التّبن، ويُقال أيضًا لما على ساق الزرع من الورق الذي يبس فتفتت[13]: كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ [الفيل:5].

وذكر بعضُ المفسرين: أنَّ العصف: كل زرعٍ أُكِلَ حبُّه، وبقي تبنُه.

وكان ابنُ الأعرابي يقول: أنَّ العصف: ورق كل نابتٍ، الريح العاصف: الشَّديدة.

لاحظ: نحن قلنا: يدلّ على خفَّةٍ وسُرعةٍ. فهذه الريح العاصف شديدة؛ لأنَّها تستخفّ الأشياء، فتذهب بها، عاصفة، يقول الله : جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ [يونس:22]، أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ [إبراهيم:18].

"عصف: ورق الزرع".

ورق الزرع، هذا مُرتبط بالمادة التي قبله: وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ [الرحمن:12]، فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ.

أصل المادة يرتبط بما سبق: أنَّه يدلّ على خِفَّةٍ وسُرعةٍ، فهنا العصف يرجع إلى معنى الخفَّة، هذه القشور من التّبن المتفتت، اليابس، الخفيف، صاروا كالعصف: وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ.

وقد مضى الكلامُ على هذا في التَّعليق على "المصباح المنير"؛ الكلام على العصف، ما المراد به؟

العصف المأكول: الذي يكون على السُّنبلة حينما يُستخرج الحبّ، فيبقى ذلك القِشر يابسًا مُتفتتًا.

"حرف الغين: غشاوة: غطاء؛ إمَّا حقيقة، أو مجازًا".

هنا مادة ترتبط بهذا أيضًا لو ربطناها بها: الغشاوة، غشي.

"غَشِي الأمر يغشَى: بالكسر في الماضي، والفتح في المضارع، معناه: غطّى حسًّا، أو معنًى".

الشيخ: حسًّا، أو معنًى، أو ومعنى؟

مُداخلة: في النُّسخ الخطيّة: أو معنى.

الشيخ: أو معنى، عندك: ومعنى.

على كل حالٍ، (حسًّا، أو معنًى)، هذا هو الصَّحيح: (أو معنى)، صلِّحوها، وكما سبق في الكثير من هذه الأشياء: كونه حسيًّا، أو معنويًّا.

"غطَّى حسًّا، أو معنًى، ومنه: وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى [الليل:1]؛ لأنَّه يُغطِّي بظلامه، ويُنقل بالهمزة والتَّشديد".

الشيخ: لا، يُقال في الطبعة الإماراتية: "ويقال: بالهمزة والتَّشديد"، هذا أحسن.

"ويُقال بالهمزة والتَّشديد".

وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى؛ لأنَّه يُغطِّي بظلامه، ويُقال بالهمزة والتَّشديد، فيُقال: غشى.

"فيُقال: غشّى، وأغشى".

الشيخ: (غشّى) هذا بالتَّشديد، و(أغشى) بالهمزة.

"وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ [الأعراف:41] يعني: ما يغشاهم من العذاب، أو يُصيبهم.

وفي النُّسخ الخطيّة: أي: يُصيبهم.

ومنه: غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ [يوسف:107]، والغاشية أيضًا: القيامة؛ لأنَّها تغشى الخلق".

الغاشية: القيامة؛ لأنها تغشى الخلق.

طيب، هذا كلّه على كل حالٍ يرجع إلى أصلٍ واحدٍ يدلّ على تغطية شيءٍ بشيءٍ عند ابن فارس[14]؛ فالغِشاء هو الغطاء، والغاشية هي القيامة، بأي اعتبارٍ؟

باعتبار أنها تغشى الخلق بإفزاعها، والغِشيان: غِشيان الرجل المرأة: فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ [الأعراف:189].

يُقال: الغاشية، والغشاوة لغطاءٍ خاصٍّ، يذكر بعضُهم أنَّ ذلك في الأصل يُقال لجلدةٍ تكون على القلب، فإذا انخلع منها القلبُ مات الإنسان، قالوا: ومنه الغاشية؛ داء يأخذ في الجوف، أو ورم في البطن يُهلك صاحبَه، فيُدعى على الإنسان أحيانًا بمثل هذا، يعني: هذه مثل الأورام والسّرطانات، نسأل الله العافية للجميع.

وكذلك أيضًا من هذا الهلاك، فمثل هذا الدَّاء مثلًا يُهلكه، تُفسّر الغاشية باستعمال القرآن: غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ يعني: أمرٌ مُهلك، جائحة مُهلكة.

ومن ذلك أيضًا: غشية الموت، وهكذا قولهم: غُشِيَ عليه، يعني: أُغمي عليه، لكن لو أردنا أن نربطه بالمعنى الذي ذكره ابنُ فارس، وهو بمعنى: التَّغطية والسَّتر، فهذا الذي يُغشى عليه من الموت كأنَّه يكون في حالٍ من السّكرة؛ سكرات الموت، ويُقال: أُغشي على فلان، وغُشِيَ عليه، بمعنى: أصابه الإغماء، غاب عقلُه، سُتِرَ عقله.

وكذلك: إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ [الأنفال:11]، النُّعاس يُغشي بمعنى: أنَّ الإنسان يغيب، فهو مُقدّم النوم، يغيب عن وعيه، ويحصل له من فتور النوم وخثورته ما هو معلوم.

فهذا كلّه يمكن أن يرجع إلى معنى السَّتر.

الغشاوة: قال: غطاء؛ إمَّا حقيقة، أو مجازًا: خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ، قال: هنا الوقف، قال: وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ [البقرة:7]، فالختم على السَّمع والقلوب، والأبصار لا يكون عليها الختم، وإنما تكون الغشاوة، وهذه الغشاوة هنا معنوية، ويدلّ على هذا المعنى قوله: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً [الجاثية:23]، لاحظ: هنا ذكرها صريحةً وواضحةً: أنَّه جعل على بصره غشاوة، لكن الختم على السَّمع والقلب، فهذه الآية تُفسّر آية البقرة بجلاءٍ: خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ.

لكن سائر الاستعمالات ترجع إلى هذا؛ الآن: وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ [نوح:7] بمعنى: التَّغطية، فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ [طه:78] غطَّاهم، وهكذا: كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا [يونس:27]، كذلك أيضًا ما يحصل من التَّغير بسبب الحزن والكآبة، ونحو ذلك من سوادٍ في الوجه، وهكذا: وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ [إبراهيم:50]، وفي قوله: يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ [النور:40] يعني: يُغطيه، وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا [الشمس:4] يعني: يُغطّيها بظلامه، هذه تغطية حسيّة: يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ [الأعراف:54]، يُغطّيه بظلامه، يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ [الأحزاب:19].

"غمام: هو السَّحاب".

هذه المادة ترجع إلى أصلٍ واحدٍ عند ابن فارس يدلّ على تغطيةٍ وإطباقٍ[15].

من الباب: الغمام الذي هو السَّحاب، لماذا؟

لأنَّه يُغطّي السماء، ولاحظ: الآن يُقال: الغمّ، غمَّه الأمرُ غمًّا، هو الشَّيء المعروف الذي يغشى القلب، الغمّ: فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ [آل عمران:153] يُغطّيه من حزنٍ، ونحو ذلك.

وهكذا: ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً [يونس:71]، وفي قوله: وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى [البقرة:57]، هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ [البقرة:210]، كلّ ذلك يرجع إلى معنى التَّغطية، تفضّل.

"غُلف: جمع أغلف، وهو كل شيءٍ جعلته في غلافٍ، ومنه: قُلُوبُنَا غُلْفٌ [البقرة:88] أي: قلوبنا محجوبة".

هذه المادة أيضًا أرجعها ابنُ فارس إلى أصلٍ واحدٍ، تدلّ على غشاوةٍ وغشيان شيء لشيءٍ[16]، يُقال: قلب أغلف، كأنما أُغشي غلافًا، فهو لا يعي شيئًا، يعني: كأنَّ عليه غشاء، غطاء.

والله -تبارك وتعالى- يقول عن هؤلاء اليهود: وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ يعني: كأنَّها عليها حُجُب وأغطية، لا يصل إليها الهُدى، ولا تنتفع بالوحي والموعظة، مع أنَّ بعضهم قال في قراءةٍ أُخرى: (غُلُف)، وهي ليست مُتواترةً: (غُلُف)، قالوا: بمعنى أنها أوعية للعلم.

وهذا مع كونه فيه نظر، لكنَّه يرجع حتى على هذا إلى المعنى السَّابق؛ كأنها صارت أوعيةً، فالوعاء يكون كالغلاف لما يحويه، وهكذا: وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ [النساء:155].

"غُرفة: بضم العين، لها معنيان: المسكن المرتفع. والغُرفة من الماء بالضم وبالفتح: المرة الواحدة".

يعني: الغَرفة، هذه المادة يقول ابنُ فارس: أنَّها أصلٌ صحيحٌ، إلا أنها كلمة لا تنقاس، بل تتباين: الغَرف مصدر غرفت الماء، وغيره أغرفه غرفًا، والغَرفة، والغُرفة اسم ما يُغرف[17]. هكذا عند ابن فارس، مع أنَّ بعضهم قد يُفرّق بينهما كما سيأتي، والغريف: الأجمة، والجمع: غُرف، والغُرفة العلية، يعني: التي تكون في الأعلى.

نحن الآن نقول: الغُرفة لما هو معروف من نواحي الدَّار، أيًّا كان موضعها، لكن في اللغة يُقال ذلك لما كان في الأعلى، ولا يُقال لما كان أسفل، هذا في الأصل، يُقال للعلية، ويُقال: غرف ناصية الفرس؛ إذا استأصلها جزًّا، جزَّها. هذا ما ذكره ابنُ فارس -رحمه الله-.

وهنا ابنُ جُزي يقول: أنَّ لها معنيين: المسكن المرتفع، والغرفة من الماء.

بعضهم يُرجع ذلك إلى معنى واحدٍ في أصله: الارتفاع، العلية يُقال لها: غرفة، هذا واضحٌ.

طيب، والغَرفة من الماء، الغرف؟

يقولون: الغرف رفع الشّيء وتناوله، رفع الشيء، اغترف، فهو يرفع هذا المغترف، ويمكن أن يُؤخذ منه معنى الغُرفة التي هي العُلية -كما سبق-، فهي مرفوعة، وتُجمع على: غُرفات.

والغَرفة والغُرفة -كما سبق- ما غُرِفَ، وبعضهم يُفرّق يقول: أنَّ الغَرفة –بالفتح- هي المرة الواحدة من الغرف، غَرفة: غرفت غَرفة، والغُرفة: ما غُرِفَ، نفس المغروف يُقال له: غُرفة، والمرة الواحدة من الغرف يُقال لها: غَرفة، غرفت غرفةً، وغرفت غُرفة، يعني: ما يُغترف، معي غُرفة من ماءٍ، معي غُرفة من عسلٍ، معي غُرفة من لبنٍ، ما يُغترف، لكن تقول: غرفت غرفة من ماءٍ، وهكذا.

والله -تبارك وتعالى- يقول: أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا [الفرقان:75] يعني: الجنّة؛ لعلوِّها وارتفاعها، ويقول: وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ [سبأ:37]، وكذلك في قول طالوت للجنود: إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ [البقرة:249]، لاحظ أنها هنا جاءت بالضم: غُرفة، فالذين يُفرّقون يقولون: هي الـمُغترف: غُرفة، والذين لا يُفرّقون يقولون: واحدة الغرفة، وكأنَّ هذا هو الأقرب -والله أعلم-: غُرفة، يعني: غَرفة.

"غادر: ترك، ومنه: فَلَمْ نُغَادِرْ [الكهف:47]".

هذه المادة أرجعها ابنُ فارس إلى أصلٍ واحدٍ يدلّ على ترك الشَّيء[18]، في كل استعمالاتها تدلّ على ترك الشَّيء، من ذلك: الغدر، ما علاقته بترك الشَّيء؟

يقولون: هو نقض العهد، وترك الوفاء به.

والغدير: مُستنقع ماء المطر، سُمّي بذلك بأي اعتبارٍ؟

باعتبار أنَّ السيل غادره.

والغدائر: عقائص الشَّعر، بأي اعتبارٍ؟

إمَّا باعتبار أنَّها تُعقص وتُغدر، يعني: تُترك كذلك زمانًا، الشعر حينما يكون غديرة، أو غدائر، فيُترك زمانًا كذلك.

أو باعتبار أنَّ الشعر يُترك حتى يطول، فهو على كل حالٍ يرتبط بمعنى: الترك.

فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا يعني: لم نترك منهم أحدًا، وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا، وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا [الكهف:49] يعني: لا يترك.

فإذًا المغادرة: الرَّحلات الـمُغادِرة التي تترك هذا الموضع، وتنتقل إلى غيره.

"غلّ يغُلّ من الغلول، وهو الخيانة، والأخذ من المغنم بغير حقٍّ، والغِلّ: الحِقد".

هذه المادة في أصلها عند ابن فارس ترجع إلى معنًى يدلّ على تخلل شيء، وثبات شيء، كالشيء يُغرز[19].

لاحظ: الآن في سائر الاستعمالات: الغلول في الغنيمة أن يُخفي شيئًا منها، فلا يُردّ إلى القسم، يعني: كأنَّه أخذ شيئًا فأخفاه من الغنيمة، لم يضعه في القسم.

والغنيمة: هي المال الذي جُمع، أو المتاع، أو السِّلاح، أو غير ذلك مما أُخِذَ من الكفَّار بالقوة –القبض-، فأخفاه مُستأثرًا به، فيكون كأنَّه قد غلَّه بين ثيابه.

لاحظ: يدلّ على تخلل شيءٍ، كأنَّه أخفاه بين ثيابه.

ومن هذا الباب: الغِلّ، وهو الضّغن، الضَّغينة، ينغلّ في الصّدر، كأنَّه يتخلل الصّدر، يدخل فيه: وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ [الأعراف:43]، وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ [آل عمران:161]، هذا من الغِلّ الذي هو الضَّغينة، أو من الغلول؟

من الغلول، يعني: في المغنم.

هنا قال ابنُ جُزي: الخيانة، والأخذ من المغنم بغير حقٍّ. والغِلّ: الحقد.

عرفنا كيف ترجع هذه المادة إلى معنى ما ذُكِرَ: وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا [الحشر:10].

"أغلال: جمع غُلّ بالضمِّ، وهو ما يُجْعَل في العُنُقِ، ومنه: مَغْلُولَةً [الإسراء:29]".

هذا يرجع إلى ما سبق، يرجع إلى المادة السَّابقة، فالغِلّ: الضَّغينة، والغُلّ: ما يكون في العُنُق، يعني: الغِلّ معنوي، والغُلّ حسيّ، الرِّباط الذي يكون في العُنق يُقال له: غُلّ، ويُجْمَع على أغلال، الغُلّ يُقال للقيد، بأي اعتبارٍ؟

الآن موضوع التَّخلل؛ تخلل شيءٍ لشيءٍ، يقول: يُغرز.

المعنى السَّابق الذي ذكره ابنُ فارس: هذا الغُلّ يُقيد به، كأنَّ الأعضاء تُجعل في وسطه، فالعُنق يكون في وسطه، هذا الغُلّ يكون في وسطه، يُقال: أغلّه إذا أدخله في الغُلّ، تغلغل في الشَّيء: دخل، تغلغل في العدو: غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ يعني: جُعِلَتْ في الغُلّ، يعني: كأنَّ اليد تُغلّ، تُربط إلى العُنُق.

وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ [الإسراء:29]، خُذُوهُ فَغُلُّوهُ [الحاقة:30]، يُوضَع الغُلّ في عُنقه: وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ [الأعراف:157]، هذا معنويّ أو حسيّ؟

هذا معنويّ، الأغلال: هي الأحكام الثَّقيلة التي كانت عليهم، فكأنَّها كالغُلّ تُقيّدهم؛ لشدّتها، وتُثقلهم: وَجَعَلْنَا الأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا [سبأ:33]، وَأُوْلَئِكَ الأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ [الرعد:5]، هذا كلّه في الغُلِّ الحسيِّ.

"غلا يغلو من الغلو، وهو مُجاوزة الحدِّ والإفراط، ومنه: لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ [النساء:171] أي: لا تُجاوزوا الحقَّ".

هذه المادة أرجعها ابنُ فارس إلى أصلٍ واحدٍ صحيحٍ يدلّ على ارتفاعٍ ومُجاوزة قدرٍ[20].

وهذا أيضًا يُقال في الأمور الحسيَّة والأمور المعنوية.

لاحظ: أنَّ المادة هنا التي نتحدّث عنها: (الغين، واللام، والواو)، هذا أصلها، غير: (الغين، واللام، والألف) المقصورة: غلى من الغليان، لكن هذه واويّة، مع أنَّ ابن فارس يتحدّث عن الحرف الـمُعتلّ في الأصل مطلقًا، فيُقال: (غلا السعر) إذا ارتفع، فلانٌ غلا في هذا الأمر؛ إذا جاوز حدَّه؛ ولذلك يُقال: أنَّ الغلو هو مُجاوزة الحدِّ والإفراط: لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ يعني: لا تُجاوزوا فيه الحدّ بتحريم ما أحلَّ الله، أو نحو ذلك.

"غائط: المكان المنخفض، ثم استُعْمِل في حاجة الإنسان".

المكان المنخفض، هذا هو أصله، يدلّ على اطمئنانٍ وغورٍ، كما يقول ابنُ فارس: أصل هذه المادة: (الغين، والواو، والطاء)، من ذلك الغائط: الـمُطمئنّ من الأرض[21]، بأي اعتبارٍ قيل ذلك للخارج من الإنسان؟

باعتبار العلاقة المكانية، فالذي يُريد الخلاء -أعزَّكم الله- يعمد إلى مكانٍ مُنهبطٍ يستتر به، ما يذهب إلى مكانٍ مرتفعٍ ويقضي حاجتَه أمام الناس، وإنما يبحث عن مكانٍ مُنهبطٍ، فقيل له: غائط بهذا الاعتبار.

وغوطة دمشق: الغوطة قيل لها ذلك لانخفاضها، أرض مُنخفضة: وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ [النساء:43]، جاء من الغائط: الأصل المكان المنخفض، فكُنّي بذلك عن قضاء الحاجة؛ الخارج من الإنسان.

"غبر: له معنيان: ذهب، وبقي. ومنه: عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ [الشعراء:171] أي: في الهالكين الذَّاهبين، أو في الباقين في العذاب".

هذه المادة أرجعها ابنُ فارس إلى أصلين:

الأول: يدلّ على البقاء[22]؛ غبر: إذا بقي، كما قال ابنُ جُزي.

والثاني: يدلّ على لونٍ من الألوان، الغُبار قيل له ذلك لغُبرته، وهي لونه، تعرفون لون الغُبار، ما يخفى، والأرض يُقال لها: غبراء، قال الله تعالى: وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ [عبس:40] يعني: مُتغيرة بسبب ما تُعانيه تلك النفوس، فما يوجد في النفوس يظهر على الوجوه، النفوس التي يملأها الحزن يظهر ذلك فيها، والنفوس التي يملأها الغلّ يظهر ذلك فيها، وهكذا.

لاحظ: أنَّ ابن جُزي ذكر أنَّه من النَّقيضين: غبر بمعنى: ذهب، وغبر بمعنى: بقي.

بعضهم يقول: إذا لُوحظ فيه –غبر- مُضي الغُبار عن الأرض قيل (غابر) لذلك، يعني: الذَّاهب للماضي يُقال له: غابر إذا لُوحظ مُضي الغبار، وإذا لُوحظ تخلّف الغُبار عن الذي يعدو، الذي يجري؛ الفرس، أو نحو ذلك، ويتخلّف عنه غُبارٌ، تبقى بعده عجاجة، يُقال ذلك للباقي: غابر.

فهنا: إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ فُسّر بهذا وهذا، قيل في الباقين بهذا الاعتبار، وقيل في الذَّاهبين الهالكين. هذه معانٍ مُتناقضةٍ، ويمكن الجمعُ بينها، اختلافٌ حقيقيّ من النوع الذي يمكن جمع الأقوال فيه -والله أعلم-؛ وذلك أنَّ المقصود بها: في الغابرين، الغابر بمعنى: أنها في الهالكين، سواء قلت أنَّها بقيت في العذاب فهي هلكت، أو قلت أنَّها ذهبت، ذهبت أين؟

ذهبت في العذاب والهلاك في الغابرين -والله أعلم-: إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ [الحجر:60]، هذا مُشترك لفظي يحمل معانٍ مُتناقضة: ذهب، وبقي.

إذا قدرت معنًى ثالثًا، أو تصورًا آخر، فيكون ذلك من الأضداد، الضّدان لا يجتمعان في موضعٍ واحدٍ في وقتٍ واحدٍ: (ذهب) (بقي) في نفس الوقت، لكن يمكن ارتفاعهما، تقول: لا ذاهب، ولا باقٍ، ماذا يكون؟

هنا لا يظهر، فيكون من النَّقيضين، مثل: الليل والنَّهار، الحياة والموت. لكن مثل: أقبل، وأدبر، هذا من الأضداد: وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ [التكوير:17]، أقبل، أدبر، لا أقبل، ولا أدبر، بقي. فهذا مثالٌ على النَّقيضين؛ المشترك الذي يحمل معنيين مُتناقضين يمكن الجمعُ بينهما في تفسير الآية.

أمَّا الضّدان: فعسعس: أقبل وأدبر، أقسم بالليل في حال إقباله، وفي حال إدباره، يمكن أن تُفسّر بهذا، والله أعلم.

وهنا في الغابرين: أنها إن قلت: ذهبت، فهي ذهبت، يعني: هلكت، واضح.

وإن قلت: بقيت في الباقين، يعني: الباقين في الهلاك والعذاب، والنَّتيجة واحدة، والله أعلم.

  1. انظر: "مقاييس اللغة" لابن فارس (4/207).
  2. انظر: "مقاييس اللغة" لابن فارس (4/208).
  3. انظر: "مقاييس اللغة" لابن فارس (4/133).
  4. انظر: "مقاييس اللغة" لابن فارس (4/112).
  5. انظر: "مقاييس اللغة" لابن فارس (4/113).
  6. انظر: "مقاييس اللغة" لابن فارس (4/114).
  7. انظر: "معاني القرآن" للفراء (3/247).
  8. انظر: "مقاييس اللغة" لابن فارس (4/310).
  9. انظر: "مقاييس اللغة" لابن فارس (4/336).
  10. انظر: "مقاييس اللغة" لابن فارس (4/336).
  11. انظر: "مقاييس اللغة" لابن فارس (4/337).
  12. انظر: "مقاييس اللغة" لابن فارس (4/125).
  13. انظر: "مقاييس اللغة" لابن فارس (4/328).
  14. انظر: "مقاييس اللغة" لابن فارس (4/425).
  15. انظر: "مقاييس اللغة" لابن فارس (4/377).
  16. انظر: "مقاييس اللغة" لابن فارس (4/390).
  17. انظر: "مقاييس اللغة" لابن فارس (4/418).
  18. انظر: "مقاييس اللغة" لابن فارس (4/413).
  19. انظر: "مقاييس اللغة" لابن فارس (4/375- 376).
  20. انظر: "مقاييس اللغة" لابن فارس (4/387).
  21. انظر: "مقاييس اللغة" لابن فارس (4/402).
  22. انظر: "مقاييس اللغة" لابن فارس (4/408).

مواد ذات صلة