الثلاثاء 07 / شوّال / 1445 - 16 / أبريل 2024
(28- أ) حرف الغين من قوله غرور إلى حرف الفاء من قوله فرح
تاريخ النشر: ٢٧ / جمادى الآخرة / ١٤٣٦
التحميل: 1565
مرات الإستماع: 1307

"غرور -بضم الغين- مصدر، وبفتحها: اسم فاعل، مُبالغة، ويُراد به إبليس".

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.

أما بعد: فهذه المادة (الغرور) أرجعها ابنُ فارس إلى ثلاثة أصول –أعني: أصل المادة (الغين والراء) غرّ-: الأول: المثال، والثاني: النُّقصان، والثالث: العتق، والبياض، والكرم. هذه ثلاثٌ عنده[1].

وذكر الراغبُ: أنَّ الغرور هو كلّ ما يغرّ الإنسان من مالٍ، وجاهٍ، وشهوةٍ، وشيطانٍ. وقد فُسّر بالشيطان باعتبار أنَّه أكثر مَن يغُرّ، وكذلك يُفسّر بالدنيا باعتبار أنَّها غرارة تغُرّ، وتضُرّ، وتمُرّ[2].

وابن جُزي هنا يقول: أنه بضم الغين (غرور) مصدر، والمصدر معروفٌ، هو: ما يأتي ثالثًا في تصريف الفعل: غرَّ، يغُرّ، غرورًا.

وأنه بفتحها يعني: (الغَرور) اسم فاعل، يقول: "مُبالغة"، غَرور، "ويُراد به إبليس"، عرفنا أنَّه يُراد به الشَّيطان باعتبار أنَّه أكبر مَن يغُرّ، بهذا الاعتبار، وإلا فالغِرّ والغرير يُقال للشَّاب الذي لا خبرةَ له، ولا تجربةَ له، يُقال له: غِرّ، وغرير. فلان غرير، وهؤلاء أغرار.

ومن هنا يأتي بمعنى: الخديعة، يأتي ذلك بمعنى: الخديعة، غرَّه بمعنى: خدعه، ويأتي بمعنى: الانخداع أيضًا، فلان اغترَّ بكذا، اغترَّ بالدنيا، اغترَّ بفلان. يُقال: غرَّه، يعني: خدعه وأطمعه بالباطل، كأنَّه جعله غِرًّا، مثل الذي لا يُميز النافع من الضَّار بقلّة تجربته، فكذلك أيضًا مَن وقع له ذلك، كأنَّه جُعِلَ بهذه المثابة.

والغرور: ما غرَّك عمومًا، سواء كان من الناس، أو من الشيطان، وأمَّا تخصيصه بالشيطان فكما سبق، والله -تبارك وتعالى- يقول: يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا [النساء:120].

وقال عن الأبوين: فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ [الأعراف:22]، غرَّهما، وكذلك أيضًا يقول الله -تبارك وتعالى- عن الدنيا: وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ [الحديد:20].

وقال المنافقون والذين في قلوبهم مرضٌ لأهل الإيمان: غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ [الأنفال:49]، والله يقول: وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا [الجاثية:35]، مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ [الانفطار:6] يعني: كيف اجترأت عليه؟ فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ [غافر:4].

فمثل هذا كلّه يرجع إلى الأصل الثاني، وهو الذي يعنينا هنا مما ذكره ابنُ فارس، وهو النُّقصان.

"غاض الشيء: نقص، ومنه: وَغِيضَ الْمَاءُ [هود:44]، وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ [الرعد:8]".

هذه المادة: (الغين، والياء، والضاد)، غاض، أرجعها ابنُ فارس إلى أصلٍ واحدٍ يدلّ على نُقصانٍ في شيءٍ، وغموضٍ، وقِلَّةٍ[3].

يُقال: غاض الماء، يغيض، خلاف فاض، إذا فاض الماءُ يرتفع ويظهر، وإذا غاض فإنَّه يكون ذلك بنُقصانٍ، ومن ثَمَّ فإنَّه يتلاشى.

ويُقال: غيض الماء؛ إذا نقصه غيره، غِيض الماء. وكذلك أيضًا ما يُشبه هذا الاستعمال، هذا للنُّقصان.

ولاحظ: الغموض؛ الغيضة هي الأجمة، سُمّيت لغموضها؛ ولأنَّ السَّائر فيها لا يكاد يُرى، وباعتبار أنَّها موضع يتجمع فيه الماء، فيبتلعه، فينبت فيه الشَّجر، غيضة يُشبه الفيضة، وهذه الفياض قد تكون منابت للأشجار، فإذا كثُرت فإنَّه لا يكاد يُرى مَن بداخلها. فهذا يرجع إلى معنى الغموض، يُقال: غاض بمعنى: غار، هنا النُّقصان نسبة إلى الماء؛ غاض بمعنى: غار، أو نقص.

فهنا ابن جُزي يذكر النَّقص يقول: ومنه غيض، وغيض الماء: وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ، قابله بالزيادة: وَمَا تَزْدَادُ [الرعد:8]، فما يحصل لها من نقصٍ، يعني: في الحمل، وكذلك الزيادة: اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ.

"وغاظ يغيظ –بالظاء-: المُشالة من الغيظ".

هنا في الطَّبعة الأخرى جعل ذلك في مادةٍ واحدةٍ، وليس بمُستقلٍّ، وهذا ليس بجيدٍ، هذه مُنفصلة؛ الأولى أصل مادّتها (الغين، والياء، والضّاد)، وأمَّا هذه فـ(الغين، والياء، والظَّاء)، فهذه مادة، وهذه مادة أخرى.

فأصل هذه المادة (الغين، والياء، والظاء) أرجعها ابنُ فارس إلى أصلٍ، أو أُصيلٍ فيه كلمة واحدة، يدلّ على كربٍ يلحق الإنسان من غيره[4].

هو لماذا يغتاظ ويتغيّظ؟ إذا أوقع به ذلك غيره، يُقال: غاظني، يغيظني. لكن هل يمكن للإنسان أن يقع له الغيظُ من نفسه، من تلقاء نفسه هكذا، من غير استثارةٍ، ولا استفزازٍ؟

الجواب: لا، وإنما يكون ذلك بما يُوقعه غيرُه به، هذا في الأصل فيما يقع للإنسان، وإلا فإنَّه يُقال: تغيّظت الهاجرة، إذا اشتدَّ حميها.

فالإنسان حينما يتغيّظ، فإنَّ ذلك يكون لما يقع في قلبه من الحرارة، وذلك أنَّ الغيظَ في الإنسان يُقال لأشدِّ الغضب، والغضب يحصل معه من غليان دم القلب وحرارته ما لا يخفى، فيكون فيه شيء من الشّدة، والسّورة.

والتَّغيظ: هو إظهار الغيظ. وقد يكون ذلك مع صوتٍ يُسمع، والله يقول عن النار: سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا [الفرقان:12]، ويقول الله -تبارك وتعالى- أيضًا: وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ [التوبة:15]، قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ [آل عمران:119]، وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ [الشعراء:55]، وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ [آل عمران:134].

فهذا كلّه يرجع إلى هذا المعنى: الشدة والكرب الذي يقع في قلب الإنسان بما يُوقعه به غيره، يعني: الألم قد يقع في القلب -الحُزن ونحو ذلك- من غير إيقاع الغير، لكن الغيظ أن يحمى القلب بسبب الغير، فهنا يقول: غاظ من الغيظ.

"غور، أي: غائر، من غار الماء: إذا ذهب".

هذه المادة أرجعها ابنُ فارس إلى أصلين:

الأول: خفوض في الشَّيء، وانحطاط، وتطامن[5]. يُقال: غار الماء غورًا، وغارت الشمسُ، غار الماء، بمعنى: أنَّه خلاف ارتفع وفاض، فيكون في باطن الأرض، لا يُوصَل إليه، ويُقال: غارت الشمس؛ إذا غابت، فهذا يدلّ على خفوضٍ، وتطامن، وانحطاط.

والأصل الثاني: يدلّ على إقدامٍ، على أخذ مالٍ قهرًا، أو حربًا. ومنه: الإغارة على القوم، الإغارة على العدو، ونحو ذلك، أغار عليهم، بمعنى: أنَّه أقدم على هؤلاء، فأخذ ما بأيديهم من نَعَمٍ، أو غيرها.

والغور يُقال عمومًا للهابط المنخفض من الأرض، يُقال له: غور.

والغار يُقال أيضًا للجُحْرِ الذي يأوي إليه الوحش، ويُقال أيضًا للنّقب الذي يكون في الجبل: غار.

كذلك المغار، والمغارة، ومن هنا يُقال: غار الماء، يعني: إذا ذهب في الأرض، لا يُوصَل إليه. ومنه يُقال: غار، بمعنى: دخل. ويُقال أيضًا بمعنى: طلب، فكما سبق الإغارة ونحو ذلك هي طلب، وغار فلانٌ في داره، مثل: غار الماء، دخل بحيث لم يُرَ.

وكذلك أغار بمعنى: ذهب، وأغار بمعنى: شدّ العدو، وأسرع. أغار على القوم: دفع عليهم الخيل، فالإغارة تكون بالخيل للمُباغتة والسُّرعة في الهجوم: فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا [العاديات:3] من الإغارة، الخيل تُغير، على المشهور، وإلا كما سبق في التَّعليق على التَّفسير: أنَّ بعضهم فسّر ذلك بالإبل، وجاء ذلك عن بعض أصحاب النبي ﷺ كعليٍّ وغيره كما مضى، فسَّروا ذلك بإسراعها من مُزدلفة إلى مِنى[6].

وبعضهم فسّره بإسراعها من عرفة إلى مُزدلفة[7]، لكن هذا لا يتأتى مع قوله: صُبْحًا؛ فالصُّبح فُسّر بيوم صُبح النَّحر[8]. هذا جاء عن بعض السَّلف ، لكن المشهور هو الأول: أنَّ الإغارة تكون في أول النَّهار مُباغتةً للمُغار عليهم.

يقول الله -تبارك وتعالى-: أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا [الكهف:41] يعني: يغور في الأرض فلا يُوصَل إليه: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ [الملك:30]، ويقول: لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ [التوبة:57]، المغارات، إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ [التوبة:40]، فالمغارة تكون في الجبل.

والغار كما مضى في بعض المناسبات عند الحديث عن الغار والكهف: أنَّ الكهف أوسع من الغار، الكهف مثل الغار، إلا أنَّ الكهف أكبر وأوسع، والغار يكون أصغر، كالنَّقب في الجبل.

هذان -على كل حالٍ- معنيان: إغارة معنى. والثاني: غار بمعنى: تطامن، وانخفض. لكن فيما يتعلّق بتفسيره بالدُّخول فهذا بمعنى ما ذكره ابنُ فارس: التَّطامن، والخفوض، ونحو ذلك[9]. وهكذا تفسيره بمعنى: الطلب، ونحو ذلك، هذا من المعنى الثاني الذي هو الإغارة، فذلك يرجع إلى هذين المعنيين.

هل الغيرة من نفس المعنى؟

لا، ليست منه، هذه (الغين، والواو، والراء)، أصل المادة: (غور) هنا، أمَّا تلك فيائيّة (الغين، والياء، والراء) غيرة، يُقال: غار غيرةً، وهنا غار الماء غورًا، فهو غائر. نستطيع أن نعرف أصل المسألة، فمادة (الغيرة) تختلف عن هذه؛ ولذلك ما جاءت الإشارةُ إليها: الغيرة.

فالكلام هنا ما جاء في القرآن؛ ولذلك أُعرض عن بعض الاستعمالات في أصل المادة؛ لأنَّها لم تأتِ في القرآن، وأُشير إليها أحيانًا لفائدةٍ في الاستعمال إذا كان ذلك أصله في القرآن، لكن في بعض وجوه الاستعمال أُشير إليها أحيانًا، ولو لم تكن في القرآن هو لا يذكرها لفائدةٍ.

"غرام: عذاب، ومنه: إِنَّا لَمُغْرَمُونَ [الواقعة:66]، والمغرم: غُرم المال، ومنه: مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ [الطور:40]".

هذه المادة ترجع عند ابن فارس إلى أصلٍ صحيحٍ واحدٍ يدلّ على مُلازمةٍ، يعني: مُلاصقة.

لاحظ: الغريم سُمّي بذلك للزومه وإلحاحه، يلتصق بمَن يُطالبه، ويكون له كالظِّل يتبعه حتى يُوفيه حقَّه، يُقال له: غريم.

والغرام: العذاب الـمُلازم: إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا [الفرقان:65] يعني: يُلازمه، ويُلاصقه، ولا ينفكّ عنه، كمُلازمة الغريم لغريمه.

وغُرم المال سُمّي بهذا باعتبار أنَّه مال الغريم. والغرام: الولوع بالنِّساء، يُقال له: غرام؛ لشدّة علوقه بالقلب، وتوسّع الناسُ فيه، فصاروا يقولون: فلان مُغرم بكذا، يعني: لشدّة علوق قلبه به، فنفسه شديدة التَّشوف لهذا الأمر، والإقبال عليه؛ ولذلك فالـمُغرم بالشَّيء هو الذي لا يصبر عنه: فلان مُغرم بكذا.

والغُرم: هو أداء شيءٍ يلزم، مثل: الدَّين، والغارم: هو الذي عليه دَينٌ، والمغرم مثل: الغُرم؛ ما لزم الإنسان في ماله، مغرم لزمه في ماله من غير جنايةٍ: وَمِنَ الأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَمًا [التوبة:98].

والغريم: هو الذي له الدَّين، والذي عليه الدَّين، كلاهما يُقال له: غريم؛ الذي له الدَّين، والذي عليه الدَّين، فهو من الأضداد بهذا الاعتبار: غريم، وهذا -كما سبق- للزومه وإلحاحه على صاحبه: أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ، والمغرم عرفنا أنَّه ما يلزم الإنسان في ماله من غير جنايةٍ: وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا؛ لشدّة مُلازمته، لا ينفكّ عنهم، ولا يفتر، وهكذا أيضًا في قوله: إِنَّا لَمُغْرَمُونَ، والـمُغرم هو الذي عليه الغُرْم.

والغرامة منه، الغرامة هي ما يُدفع، ما يُعطى غرامةً، فهي -كما سبق- كالغُرم الذي يُقال للدَّين نفسه، فهذه غرامة في مقابل جنايةٍ مثلًا، ونحو ذلك، أشبهت الدَّين الذي عليه، يجب أن يُؤدّيه، فهو ما يُؤخذ من ماله، لكن المغرم ما يُؤخذ من ماله من غير جنايةٍ.

"حرف الفاء: فرقان، أي: مُفرّق بين الحقِّ والباطل، ومنه: يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا [الأنفال:29] أي: تفرقةً؛ ولذلك سُمّي القرآن بالفرقان".

هذه المادة أرجعها ابنُ فارس إلى أصلٍ صحيحٍ يدلّ على تمييزٍ وتزييلٍ بين شيئين، من ذلك: الفرق؛ فرق الشّعر، فهو كأنَّه يُميز بين أجزاء شعره، فيجعل هذا الشقّ مميزًا عن الآخر.

والفِرق يُقال للقطيع من الغنم مثلًا: فِرق، وكذلك أيضًا الفِرق: العِلق من الشَّيء إذا انفلق، يعني: الفِرق: الشَّيء إذا انفلق يُقال لذلك: فِرق، فهذا الفِلق كما قال الله : فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ [الشعراء:63].

والفُرقان هو القرآن -كما هو معلومٌ-، فرّق اللهُ به بين الحقِّ والباطل، كما يُقال: الفرقان أيضًا لغير القرآن بما يحصل به الفرق بين الحقِّ والباطل، ويُقال: فرّق الله بين الحقِّ والباطل، أو فرّق بين الناس، أو نحو ذلك بهذا الاعتبار، وكذلك الصّبح يُقال له: فرقان؛ لأنَّه يُفرّق به بين الليل والنَّهار.

فعلى كل حالٍ، مفرِق، ومفرَق الشعر، والطَّريق: مفرق الطريق، مفرِق الطريق: موضع الفرق، والفرق يُقال لما يُقابل الجمع، وهذا ظاهر، فيُقال: فرق فرقًا، وفُرقانًا، وفرق تفريقًا: فصل، وميّز.

وقد يكون الثُّلاثي منه الذي هو فرق للصّلاح، فرق بين الحقِّ والباطل، وفرق للإفساد، قد يكون هكذا في الاستعمال، وليس دائمًا، لكنَّه يكون كثيرًا بهذا الاعتبار: فرق، التَّفريق بين الناس، إذا كان ذلك في غير ما يُحمد، أو باعتبار أنَّ التفرق للأبدان، والافتراق في الكلام، لكن هذا ليس بمُطّردٍ.

والفِرق: القسم، أو الطَّائفة، الفِرق بعضهم خصَّه بالغنم مثلًا، ولكن المعنى أوسع من هذا، ويُقال أيضًا للطائفة من الناس كذلك: الفِرقة، وهكذا الفريق، والفريق أكثر من الفِرق، يُقال: هؤلاء فِرق، وهؤلاء فريق.

والـمُزايلة: فارق الشيء فراقًا يعني: باينه، والاسم من ذلك الفُرقة، وهذا يرجع إلى ما ذكره ابنُ فارس: التَّمييز والتَّزييل بين شيئين[10]، فهذا الذي فارق المكان كأنَّه امتاز عنه بانفصاله عن هذا الموضع مثلًا.

وهكذا يُقال: الفرق: الخوف، كأنَّ القلب يتفرّق عنده من شدّة الخوف، يتشعب القلب، ولا يجتمع، يُقال: فرِق بمعنى: جزع، فرِق منه: خافه: فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا [المرسلات:4]، فُسّر بآيات القرآن؛ بما يحصل بها من الفرق بين الحقِّ والباطل، وفُسّر بالرياح، وبالملائكة أيضًا: هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ [الكهف:78] يعني: مُفارقة. وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ [القيامة:28] كذلك أيضًا.

وفي سائر وجوه الاستعمال فإنَّه يدور حول هذا المعنى الذي ذكره ابنُ فارس -رحمه الله-، فهذا جاء في كتاب الله -تبارك وتعالى- في مواضع كثيرةٍ: فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ [البقرة:50] من الفرق، وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ [الإسراء:106]، فرقناه يعني: نزل نجومًا، مُفرَّقًا، لم ينزل جملةً، وهكذا: يَفْرَقُونَ [التوبة:56] يعني: يخافون، فَافْرُقْ بَيْنَنَا [المائدة:25] بمعنى: الفصل، أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ [الطلاق:2] هنا بمعنى: المزايلة، فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ [الدخان:4] يعني: يُفصل، فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ [التوبة:122] فرقة من الناس، الجماعة من الناس، فَرِيقٌ مِّنْهُمْ [البقرة:75] قلنا: الفريق أكبر من الفِرق.

وهكذا في قوله: وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا [البقرة:85] يدلّ على أنهم أخرجوا كثيرًا، طائفة كبيرة، فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ [النمل:45]، كذلك: وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ [التوبة:107] هذا للإفساد، أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي [طه:94]، كذلك، إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ [الأنعام:159] يعني: أنَّهم جعلوا دينَهم شُعبًا وأجزاء مُتفرقة، هذا يأخذ بشعبةٍ، وهذا يأخذ بشعبةٍ مثلًا، هذه من صور تفريق الدِّين، كما قال ابنُ القيم -رحمه الله-: "فيجعلون لهم كتابًا يعتمدونه، ويرجعون إليه، وهؤلاء يجعلون لهم كتابًا، أو يجعلون لهم شيوخًا، وهؤلاء يجعلون لهم شيوخًا، ونحو ذلك"[11].

الآن (الفرقان) الأصل الذي ذكره ابنُ جُزي قال: مفرّق بين الحقِّ والباطل. والفرقان يعني: التَّفرقة؛ لذلك سُمّي القرآن: بالفرقان.

الفرقان مصدر من فرق، يفرق، فرقانًا. استعمل فيه أيضًا القرآن بمعنى: الحُجّة، وكذلك أيضًا النصر، والكتاب المنزل، وكلّ ذلك يحصل به الفصل، أو الفرق، فيرجع إلى المعنى الأصلي الذي ذكره ابنُ فارس؛ فالفرقان يُقال للقرآن، ويُقال لما يحصل به الفصل، يعني: يوم بدر قيل له: يوم الفرقان، هنا بعضهم يُفسّره بالنَّصر، لكن الواقع أنَّه يرجع إلى ما سبق، حصل به الفصل بحكمٍ عملي مُشاهد.

"فئة: جماعة من الناس".

(الفئة) ذكر الراغبُ أنَّها الجماعة المتظاهرة التي يرجع بعضُهم إلى بعضٍ في التَّعاضد[12]، ليس مجرد الجماعة من الناس يُقال لها: فئة، وإنما جماعة مُتظاهرة.

فأصل هذه المادة يدلّ على الانفصال، والانفراج، والافتراق، فالفئة كما يقول ابنُ جُزي: فرقة من الناس، لكن قد يُلحظ فيها معنى الانفصال من غيرها مُظاهرةً، يعني: يُظاهر بعضُهم بعضًا، ولرجوع بعضُهم إلى بعضٍ في التَّعاضد، يُلحظ فيه هذا المعنى: وَلَنْ تُغْنِيَ عَنكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ [الأنفال:19]، فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا [آل عمران:13]، فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ [الأنفال:48].

وفي بعض الألفاظ يُلحظ فيها مثل هذا المعنى، مثل كلمة: الشّيعة، والتَّشيع، ونحو ذلك، فيها معنى التَّعاضد، والتَّناصر، وليس مجرد الاجتماع.

لفظة (الحزب) هي جماعة فيها غِلَظ، يعني: ليس كلّ مجموعةٍ من الناس يُقال لها: حزب، ناس في السوق اجتمعوا للبيع والشِّراء، أو نحو ذلك، أو اجتمعوا يُصلون في المسجد، لا يُقال لهم: حزب، لكن الجماعة التي فيها غِلظ، يعني: تتناصر، وتتعاضد، هذه يُقال لها: حزب، سواء سمّوها بهذا، أو لم تحصل هذه التَّسمية، هي هكذا في الواقع، هؤلاء الذين يُعاضد بعضُهم بعضًا، وينصر بعضُهم بعضًا، ويُقال لهم: فئة، ونحو ذلك كالحزبي، ونحوه، مع فروقات بين هذه الألفاظ.

"فِصال: فطام من الرَّضاعة".

هذه المادة أيضًا عند ابن فارس تدل على تمييز الشَّيء من الشيء، وإبانته عنه[13]؛ فصله، فالفيصل هو الحاكم، بأي اعتبارٍ؟

أنَّه يفصل بين الخصوم في الحكم، ونحو ذلك، الفصيل: ولد النَّاقة إذا انفصل من أمِّه، المفاصل: مفاصل العظام بهذا الاعتبار، والمفصل: ما بين الجبلين، مفصِل يُجمع على مفاصل، لكن بين الجبلين يُقال له: مفصل، وفي الإنسان، أو في الحيوان مفاصل العظام: مفصل، هذا هو الفرق بين اللَّفظتين، وهذا يدلّ على دقّة اللغة العربية.

لاحظوا الاستعمالات التي ترد على ألسنتنا: فصل عن مكان كذا؛ جاوزه، كأنَّه هنا تميّز عنه، أو بان عنه؛ لأنَّ الفصلَ: تمييز الشَّيء من الشَّيء، وإبانته عنه، فصيلة الرَّجل هم أقاربه الأدنون، والفِصال للصبي: التَّفريق بينه وبين الرّضاع، وبين الزوجين: أَرَادَا فِصَالًا [البقرة:233] أيضًا بمعنى: الافتراق، يوم الفصل: يوم القيامة؛ لأنَّ الله يفصل بين الناس، يحكم بينهم.

وقلنا: الفيصل هو الحاكم، وكذلك القول القاطع للخصومة والخلاف يُقال له: قول فصل، ومنه: فَصْلَ الْخِطَابِ [ص:20]، فصل الخطاب باعتبار أنَّه يفصل، بعضهم يقول: أمَّا بعد. هذا هو فصل الخطاب، يعني: كأنَّه يفصل جزأين في الكلام، مثل: المقدّمة، وما بعدها، وقيل غير ذلك، والمفصّل من القرآن: الـمُبين.

والله -تبارك وتعالى- وصف يوم القيامة بأنَّه يوم الفصل: فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ [البقرة:249] هنا بمعنى: المجاوزة، وفَصَلَتِ الْعِيرُ [يوسف:94] أيضًا كذلك، لكن وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ [المعارج:13] هم عشيرته الأدنون، وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ [الأنعام:57] يعني: يحكم، حاكمين، يفصل بين الحقِّ والباطل، وهكذا: وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ [الأنعام:154]، فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ [الأعراف:52]. كلّ هذا يرجع إلى هذا المعنى الذي يدلّ على تمييز الشَّيء من الشَّيء.

"فضل له معنيان: الإحسان، والربح في التِّجارة، وغيرها. ومنه: يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ [المزمل:20]".

هذه المادة أرجعها ابنُ فارس إلى أصلٍ واحدٍ يدلّ على زيادةٍ في شيءٍ[14]؛ فضل، زيادة في شيءٍ.

فالفضل يُقال للزيادة والخير، والإفضال يعني: الإحسان، والـمُتفضّل هو الـمُدّعي للفضل على أضرابه وأقرانه: يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ [المؤمنون:24].

وعلى كل حالٍ، هنا في المعنى الذي ذكره ابنُ فارس: الزيادة بالشيء، بعضهم يُعبّر بمعنى: البقية أيضًا في تفسير الفضل، يُقال: هذا فضلة من الطَّعام، ما يفضُل منه. وأكثر استعمال الفضل يكون فيما يُحمد، الفضل والفضيلة، يُقابل: النَّقص والنَّقيصة، ويُقال: (الفضيلة) للدَّرجة الرَّفيعة في الفضل: اللهم ربَّ هذه الدَّعوة التَّامة، والصَّلاة القائمة، آتِ محمدًا الوسيلة والفضيلة[15]، والفضل يُقال للخير، والإفضال أيضًا يُقال للإحسان، وفضل الرجل فهو فاضل، فضله على غيره، بمعنى: صيّره كذلك، أو حكم له به، أفضل كذا، يعني: زاد: فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ [البقرة:64] يعني: الإحسان، فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ [الأعراف:39] يعني: زيادة في الخير، أو مزيّة: وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ [هود:3]، وكذلك أيضًا: أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ [البقرة:198].

فهذا الفضل هو ما يُرتجى من الخير والزيادة ونحو ذلك بالتِّجارة والكسب في مواسم الحجِّ: وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ [البقرة:237]، يعني: ما كان بين الرجل وامرأته من الإحسان وصنائع المعروف.

فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ [البقرة:253] هنا يكون باعتبار أنَّ الله -تبارك وتعالى- صيّر بعضَهم في حالٍ أكمل من غيره في العطاء ونحو ذلك، فهذا كلّه يرجع إلى معنى الزيادة.

وقوله -تبارك وتعالى-: وَلَا يَأْتَلِ يعني: لا يحلف أُوْلُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ [النور:22]، هنا يُفسّر الفضل: بالزيادة في الخير، والسّعة: الزيادة في المال، باعتبار أنَّه ذكرهما، فلا يكون تأكيدًا وتكرارًا؛ لأنَّ التأسيس مُقدّم على التوكيد.

فالفضل هنا ذكر بعضُ المفسّرين: وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُو الْفَضْلِ يعني: الغنى، ولكن السّعة لما ذُكرت معه تُفسّر السعة بالغنى والفضل، أصحاب المراتب العالية من أهل الإيمان، من أهل الإحسان، من أهل البرِّ والمعروف، فهؤلاء أهل الفضل في هذه الآية، فالسياق يُبين الـمُراد.

"فِسق: أصله الخروج، وتارةً يرد بمعنى: الكفر. وتارةً بمعنى: العصيان".

هذا أرجعه ابنُ فارس إلى الخروج عن الطَّاعة، يُقال: أنَّ أصل المادة يرجع إلى معنى الخروج، هذا في أصله اللُّغوي، هذا الخروج بحسب السياق، يُقال: فسقت الرُّطبة عن قشرتها؛ إذا خرجت، ويُقال: فسقت الفأرةُ من جُحرها؛ إذا خرجت للإفساد؛ ولهذا يُقال لها: الفُويسقة؛ لكونها تخرج للإفساد[16].

ويُقال: فسق فلانٌ في الدنيا فسقًا، يعني: اتَّسع فيها، ولم يُضيّقها على نفسه، وفسق ماله: إذا أهلكه وأنفقه، يعني: كأنَّه يخرج من ماله ببذله بالتَّوسعة على نفسه، فسق ماله، وهكذا.

ولذلك لا زال الناسُ يستعملون هذا إلى اليوم في التوسع بالدنيا، واللَّذات، والشَّهوات، ونحو ذلك، لا يقصدون به المعصية، يُقال: فلانٌ فاسق. يقصدون به التَّوسع، هو يقول عن نفسه، وعن أهله، وعن قومه: نحن فاسقون، يعني: عندنا توسّع في المال، وتوسّع في اللَّذات والشَّهوات، لا يقصد به الذَّم. ويُقال: هم فسقى، الناس يقولون هذا، ويُعبّرون به، يقصدون هذا المعنى. هذا في أصله.

لكن في الشَّرع: هو الخروج عن طاعة الله -تبارك وتعالى-، وهذا الخروج قد يكون خروجًا أكبر بالكفر، أو بالنِّفاق الاعتقادي. وقد يكون خروجًا أصغر بالمعصية، فالعاصي يُقال له: فاسق، والكافر يُقال له: فاسق، والمنافق يُقال له: فاسق، فيُطلق على هؤلاء جميعًا، لكن السياق هو الذي يُبين الـمُراد.

والمثال الذي يذكره الأصوليون كثيرًا لا يكاد يخلو منه كتابٌ في الكلام على مفهوم الموافقة الأولوي.

مفهوم الموافقة على نوعين: أولوي، ومُساوٍ.

فالأولوي عندهم يُمثّلون له كثيرًا بقوله –تعالى-: إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا [الحجرات:6]، قالوا: إن جاءكم فاسقٌ، فالكافر من باب أولى. يجعلونه من قبيل الظنِّ؛ لأنَّ مفهوم الموافقة يجعلونه على قسمين: أولوي، ومُساوٍ. والأولوي يجعلونه أيضًا على قسمين: قطعي، وظنّي. يعني بهذا الشَّكل: قطعي، وظنّي.

فالقطعي: هو الذي لا يرد عليه احتمال، والظني: هو الذي يرد عليه احتمال. يعني: مثلًا في هذا المثال: إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ، يقولون: هذا ظني، بأي اعتبار؟

أنَّه قد يكون عدلًا في دينه، هو دينه يُحرّم عليه الكذب، وهو مُتدين: إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ، هو أصل كلمة (فاسق) قد يكون بالمعصية، وقد يكون بالكفر.

فهم يقولون: إن كان كافرًا فهو من باب أولى. ليس من باب أولى، عندهم حينما يُمثّلون على هذا أنَّه مفهوم مُوافقة أولوي، يقولون: أنَّ الكافر من باب أولى، لكن ظنًّا، وليس قطعًا، لماذا؟

لأنَّ الكافر قد يكون مُتدينًا، ودينه يُحرّم عليه الكذب؛ فلا يكذب، فلا يحتاج إلى تثبّتٍ، فلا يكون مثل المسلم الكذَّاب الذي لا يُبالي بالكذب.

لاحظ: يقولون: هو ظنّي، مثل: لا يُضحَّى بالعرجاء بين ظلعها، ولا بالعوراء بين عورها[17]، يقولون: العمياء من باب أولى. لكن يقولون: هذا ظنّي، وليس قطعيًّا، بأي اعتبارٍ؟

يقولون: باعتبار أنَّ العمياء ترعى وهي رابضة، صاحبها يأتي لها بالعلف، ولا تحتاج أن تبذل جهدًا، وهي تأكل وترعى في مكانها، فهذه مظنة للسِّمَن، وإنما يُطلب في الأُضحية طِيب اللَّحم، بخلاف تلك التي تذهب وتبحث عن المرعى، وقد تجد، وقد لا تجد، بينما هذه مُدللة، فهي مُترهلة، فيقولون: هذا ظنّي، مفهوم مُوافقة.

الواقع أنَّ المثال الذي يُذكر دائمًا وكثيرًا: إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فيه نظر -أصل المثال-؛ لأنَّ كلمة (فاسق) تُطلق على الكافر، فحينما يقولون: الكافر من باب أولى. يُقال لهم: لا، هذا ليس كما قلتم؛ باعتبار أنَّ قوله: إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أنَّ هذا يدخل فيه الكافر وغير الكافر؛ لأنَّ كلمة (فاسق) تشمل هؤلاء جميعًا، وهذه نكرة في سياق الشَّرط، والنَّكرة في سياق الشَّرط تُفيد العموم؛ (فاسق) أيًّا كان فسقه، سواء كان من الفسق الأكبر، أو الفسق الأصغر.

ولا تكاد تجد كتابًا في الأصول يخلو من هذا المثال، مع أنَّ فيه هذا الإشكال.

على كل حالٍ، نحن خرجنا عن أصل الموضع، لكن الشيء بالشيء يُذكر، ولكثرة ما يقع من ضرب المثال بهذا، وإنما كان الكلامُ أنَّ الفسقَ في الشَّرع أُطلق على الخروج عن طاعة الله: إما خروجًا مطلقًا، وإما خروجًا دونه، يعني: بالمعصية؛ ولذلك جاء عن ابن الأعرابي؛ وهو إمامٌ في اللغة على طريقة المتقدّمين من أهل اللغة، الأئمّة، أهل السنة والجماعة، السلف الصالح، مثل: ابن الأعرابي، وثعلب، وأمثال هؤلاء، ومَن نحى نحوهم: كالأزهري صاحب "تهذيب اللغة"، وابن فارس، وأمثال هؤلاء -رحمهم الله- كالخليل بن أحمد، هؤلاء من علماء أهل السُّنة والجماعة، وهم الذين وضعوا أصولَ هذه الكُتب في اللغة، والقواميس، ونحوها، فلم يدخل في كتبهم الدَّخيل من العقائد الفاسدة، بخلاف المتأخّرين: كصاحب "القاموس"، و"اللسان"، ونحو هذا، تجد بعض الأشياء التي دخلت من قِبَل أهل البدع.

فهنا ابن  الأعرابي يقول: أنَّ أصل هذه اللَّفظة بهذا المعنى، يعني: الفسق، فاسق، ونحو ذلك، بمعنى: العاصي، أو الكافر. يقول: هذا لم يرد شعرًا ولا نثرًا في كلام العرب[18]؛ ولذلك عدّوا ذلك من الألفاظ الإسلامية، فهناك ألفاظ لم تُستعمل في الجاهلية بهذا المعنى، مثل: (الصلاة) هل استعملت بمعنى الصلاة المعروفة؟ و(الصوم) بمعنى الصوم المعروف؟ إن كان استُعمل فهذه ليست أسماء إسلامية، لكن ما استُعمل في معنًى شرعيٍّ على خلافٍ بين أهل العلم: هل هذا يُعتبر من الـمُبتكرات؟ يعني: في أصل التَّسمية، أو أنَّ أصل ذلك يرجع إلى المعنى اللُّغوي، وزيد عليه شروط وزيادات؛ فصار بهذا الاعتبار يُطلق على معنى شرعيٍّ. بين أهل العلم خلافٌ في هذه الجُزئية؛ في الأسماء الإسلامية: هل هي مجرد زيادات، أو لا؟ وشيخ الإسلام له كلام في هذه المسألة يُراجع[19].

فهذا يُعتبر من الأسماء الإسلامية: إطلاق (الفسق) على الخروج عن طاعة الله -تبارك وتعالى- مطلقًا، أو خروجًا جزئيًّا، باعتبار أنَّها لم ترد في كلام أهل الجاهلية مُستعملة في هذا المعنى، وإن كان أصلها معروفًا، يُقال: فسقت الرُّطبة، فسقت الفأرة، ونحو ذلك.

يقول الله -تبارك وتعالى-: أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ [السجدة:18]، ولاحظ السياق بعدها لما ذكر الفاسقين: وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ [السجدة:20]، هذا الحكم لهم بها يدلّ على أنَّ المقصود الفسق الأكبر.

وكذلك أيضًا في قوله -تبارك وتعالى-: وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ [البقرة:99]، فهذا الفسق الأكبر، وكذلك في النِّفاق قال: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [التوبة:67]، وقال عن إبليس: فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ [الكهف:50] يعني: خرج عنه، خرج عن طاعته، فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ [الحديد:26]، وأطلق ذلك أيضًا على بعض الأشياء: أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ [الأنعام:145].

لكن قوله -تبارك وتعالى-: فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ [البقرة:197] المقصود به المعصية.

لاحظ: في قوله: أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ ۝ أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ۝ وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا [السجدة:18-20] هذا يدلّ على أنَّهم من أهل الخلود في النار: وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا.

والذين لا يُفرِّقون هذا التَّفريق هؤلاء يحكمون على أصحاب الكبائر أو المعاصي بالخلود في النار، الخوارج، وكذلك المعتزلة؛ المعتزلة يُسمّونه: الفاسق الملي، والخوارج يقولون عنه: أنَّه كافر.

هذه التي يُسمّونها: مسائل الأسماء والأحكام، ماذا يُسمّى؟ ماذا يُطلق عليه؟ فاسق ملي أم مؤمن؟ كالمرجئة يقولون: كامل الإيمان، أو يُقال عنه: أنَّه كافر، كما يقول الخوارج.

والأحكام: الحكم لهذا أو عليه بالخلود في النَّار، أو عدم الخلود فيها، هذه مسائل الأحكام، يُحكم عليه بالخلود، أو عدم الخلود: فلان مُخلّد في النار، أو مَن فعل كذا فهو مُخلّد في النار، الفاسق مُخلّد في النار، صاحب الكبيرة مُخلّد في النار. إذا قالوا هذا، وهذه مسائل حكموا بها؛ بالخلود.

"فتنة، لها ثلاثة معانٍ: الكفر، والاختبار، والتَّعذيب".

هذه أرجعها ابنُ فارس إلى أصلٍ واحدٍ، وهو الابتلاء والاختبار، ومن ذلك الفتنة، يُقال: فتنت الذَّهب بالنار، إذا امتحنته[20].

وقال الخليل: الفتن: الإحراق[21]. فالفتن يُقال للإحراق بالنَّار، والمفتون يُقال لما غيّرته النار، ومن ذلك: فتن الذهب والفضّة؛ ليُميز ذلك من شائبه، والله -تبارك وتعالى- يقول: ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ [الذاريات:14]، إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ [البروج:10]، يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ [الذاريات:13].

وقد تُستعمل الفتنةُ في الإيذاء مطلقًا، وصدّ الناس عن دينهم أيضًا، لا الإحراق خاصةً، ويُراد بها أحيانًا الحرب، أو الإثم، أو الضَّلال: كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا [النساء:91]، فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ [الحديد:14]، إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا [النساء:101]، مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا [النحل:110].

هنا كذلك: أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ [التوبة:126]، هنا ليس معناه: الإحراق بالنار في هذه الآيات، وإنما الفتنة: الامتحان، والابتلاء، والاختبار، فهذا الابتلاء أحيانًا يكون بالحرب، وقد يكون بغيرها؛ قد يكون بالأذى الذي يقع عليهم، وقد يُقال أيضًا لما يكون سببًا للامتحان، يُمتحن الناسُ به: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ [الأنفال:28]، والإضلال: وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ [البقرة:191]، وصرف الناس عن دينهم، والكفر بالله -تبارك وتعالى-: وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ [المائدة:41] أي: ضلالته، ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا [الأنعام:23].

فهنا: فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ [طه:85]، الفتنة تُقال للامتحان، ولنتيجة الامتحان أيضًا، فهؤلاء امتحنوا، فأصرّوا مفتونين: لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ [الأعراف:27].

وهكذا في قوله: إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ [البقرة:102]، وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا [طه:40]، هذا يكون بالامتحان، فأصل ذلك كأنَّه يكون بالإحراق بالنار، أو بعرض المعدن على النَّار؛ لتمييز خالصه من شائبه، فلمَّا كان الفتنُ يحصل به التَّمييز، والتَّخليص، ونحو ذلك؛ صار ذلك يُستعمل فيه: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فُسّر بأنَّهم أحرقوهم بالنار، والمعنى الآخر أيضًا متحقق فيه؛ فهذا الفتن الذي هو الإحراق بالنار هو ابتلاء واقع على هؤلاء الذين عُذِّبوا بالنار، فيحصل لهم بسبب ذلك التَّمييز، والتَّمحيص، ونحو ذلك.

فمَن فسّره بالإحراق، فهذا في بعض المواضع يمكن أن يتأتى، ولكن الفتن يُقال عمومًا للاختبار، وقد يُقال لنتيجة الاختبار أيًّا كانت، والله أعلم.

"فاء، يفيء؛ أي: رجع".

هذه المادة أيضًا أعادها ابنُ فارس إلى هذا المعنى: الرجوع، فاء الفيء: إذا رجع الظلُّ من جانب المغرب إلى جانب المشرق[22]. يعني: الذي يكون في أول النَّهار لا يُقال له: فيء، وإنما يُقال له: ظلّ. فهذا في هذا الوقت قبل شروق الشمس مثلًا: كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ [الفرقان:45] فهو مُمتدّ، فإذا طلعت الشمسُ يبدأ الظلُّ بالانحسار، ينكمش شيئًا فشيئًا إلى وقت الزَّوال، فيكون ذلك غايةً في انكماشه، ثم يتحوّل إلى الناحية الأخرى، يتحوّل إلى ناحية الشرق، فهذا التَّحول رجوعه؛ رجوع الظلِّ إلى الناحية الأخرى يُقال له: فيء، فاء بمعنى: رجع. مع أنَّ بعض أهل العلم يقولون: أنَّ الذي يكون بعد الزوال أيضًا يُقال له: ظلّ، لكن لا يُقال: (فيء) لما قبل الزوال.

ولعله مرَّ شيءٌ من هذا في مناسبةٍ سابقةٍ، ومن ثَمَّ فإنَّ استعمال هذه المادة صار يُقال في غير الظلِّ، الفيء بمعنى: الرجوع.

ولاحظ: حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ [الحجرات:9] يعني: حتى ترجع إلى أمر الله.

والفيء على خلافٍ بين أهل العلم في تفسيره، لكن الأقرب أنَّه أموال الكفَّار التي نزلوا عنها من غير قتال المسلمين، رجعت إلى المسلمين من الكفَّار، انتقلت إلى المسلمين، وأفاءها الله على أهل الإيمان.

يُقال: فلان سريع الفيء والفيئة من غضبه، يعني: يرجع سريعًا إذا غضب، ولا يبقى مُتماديًا في غضبه ويستمرّ على ذلك، سريع الفيئة: يرجع سريعًا.

والله يقول: يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ [النحل:48] بمعنى: يرجع وينتقل.

فَإِنْ فَاءُوا الأزواج، يعني: رجعوا، لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا [البقرة:226] فإن رجعوا؛ لأنَّه هو حلف ألا يطأ امرأته مطلقًا، هكذا من غير أن يُحدد مدةً، فهذا لا يجوز له أن يتجاوز الأربعة أشهر، فإن رجع.

وهكذا في قوله: مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ [الأحزاب:50]، الفيء هنا: ما أُخِذَ من الكفَّار من غير قتالٍ. على خلافٍ في تفسيره. على كل حالٍ، ليس هذا محلّ اتِّفاق.

"فُلك -بضم الفاء- سفينة، ويستوي فيه المُفرد والجمع".

والمادة التي بعده تابعة له.

"فَلك –بفتحتين- القُطب الذي تدور به الكواكب".

هذه المادة في أصلها عند ابن فارس ترجع إلى معنى الاستدارة، تدلّ على استدارة في الشيء، من ذلك: فِلكة المغزل؛ لاستدارتها، وكذلك يُقال: تفلك، أو فلك ثدي الجارية؛ إذا استدار.

وكذلك أيضًا من هذا القياس عند ابن فارس: فلك السماء؛ لمعنى الاستدارة فيه، لكن السَّفينة عنده يُقال لها: فُلك، يقول: لعلَّ ذلك لكونها تُدار في الماء[23]. يعني: هو يُرجع ذلك إلى معنى الدَّوران: تُدار في الماء، فُلك.

ويحتمل أنَّه لصورتها وهيئتها؛ فيها شيءٌ من الاستدارة؛ ولهذا قيل لمدار الكوكب: فلك، هذا الذي قال عنه ابنُ جُزي: القُطب الذي تدور به الكواكب. مدار الكوكب، هذا فيه معنى الاستدارة.

فعلى كل حالٍ، الله -تبارك وتعالى- يقول: هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ [يونس:22] يعني: السُّفن، وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا [هود:37]، كذلك: فَأَنجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ [الشعراء:119]، وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ [الحج:65] يعني: كلّ هذا يرجع إلى معنى السَّفينة.

لكن قوله -تبارك وتعالى-: وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ [يس:40]، فهذا بمعنى ما ذكره في المادة الأخرى التي فصلها: الفلك، قلنا: مدار الكواكب: لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [يس:40]، وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [الأنبياء:33].

هذا أصل هذه المادة -والله أعلم- يرجع إلى معنى الاستدارة.

"فزع، له معنيان: الخوف، والإسراع. ومنه: إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ [سبأ:51]".

هذه المادة أرجعها ابنُ فارس إلى أصلين:

الأول: الذي هو الذُّعر، الخوف الشَّديد، يُقال: فزع فزعًا؛ إذا ذُعِرَ، أفزعته يعني: أنا، إذا أوقعت ذلك له، يُقال: هذا مفزع القوم إذا فزعوا إليه فيما يدهمهم، لكن حينما يُقال: فزعت عنه، يعني: كشفت عنه الفزع: حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ [سبأ:23][24].

لاحظ: فُزع يُقال: أفزعته، قال: فزع من نومه؛ إذا هبَّ، فهذا الفزع فيه انقباضٌ ونفارٌ يعتري الإنسان من الـمُخيف، فهو يزيد على الخوف بما فيه من معنى النُّفور، يعني: الآن الشَّفقة: خوفٌ خاصٌّ، الشَّفقة: خوفٌ مع ربما رقّة، والخشية: خوفٌ مع علمٍ بالمخوف منه، أمَّا الخوف فهو مُطلق.

خوفٌ مع علمٍ بالمخوف منه يُقال لها: خشية، يخشى الله. والفزع: خوفٌ مع نفورٍ، خوفٌ خاصٌّ، خوفٌ مع نفورٍ؛ ولهذا يقولون: ما يُقال: فزعت من الله؛ لأنَّ مَن خاف الله أقبل عليه، والتجأ إليه، وإنما يُقال: خاف الله، وخشي الله، ونحو ذلك.

المعنى الثاني الذي ذكره ابنُ فارس: هو الإغاثة[25]، يُقال: أفزعته، يعني: أغثته، أفزعني بمعنى: أغاثني، وهذا الذي يستعمله الناسُ اليوم بمعنى: فلان يفزع لفلان، الفزعة، ونحو هذا، بمعنى: الإغاثة، وليس بمعنى: الخوف، وهذا الذي عبّر عنه ابنُ جُزي بالإسراع، يعني: إسراع بالنَّجدة، أو الإغاثة والغوث، ونحو ذلك، أنَّه لا بدَّ فيه من معنى الإسراع، لا بدَّ من إسراعٍ.

فيقول الله -تبارك وتعالى-: مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ [النمل:89]، هنا الفزع بمعنى: الخوف: وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ يعني: الخوف، الفزع الأكبر بمعنى: الخوف أيضًا: فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ [النمل:87] بمعنى: الخوف.

إذًا هنا لاحظ الهمزة في التَّعدية إذا دخلت عليه تقول: أفزعته، هنا بمعنى: أخفته، وتأتي بمعنى: كشفت عنه الفزع: حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ، كشفت عنه الفزع، أفزعته، فيكون من الأضداد، كما سيأتي أيضًا في بعض المواد الأخرى التي ستأتي، مثل المادة التي بعد (فَرِح)، كذلك في (شكى)، وفي نظائر هذا أيضًا فيما إذا دخلت عليه الهمزة.

"فرح، له معنيان: السُّرور، والبطر".

لاحظ: السرور، والبطر. ابن فارس أرجعه إلى أصلين، المادة هذه (الفاء، والراء، والحاء):

الأول: خلاف الحُزن، هذا الذي قال عنه ابنُ جُزي: السُّرور، يُقال: فرِح، يفرح، فرحًا، فهو فرِح: ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ [غافر:75].

(الـمِفراح) نقيض الـمِحزان[26]، فلان مِفراح، يعني: دائمًا في حالٍ من السرور والفرح، فهذا قد يكون جِبلةً في الإنسان: إنسان مِفراح، امرأة مِفراحة، يعني: نفسه بها سرور، بخلاف مَن كان فيه انقباضٌ، فهذا قد يكون جِبلةً، وقد يكون الفرحُ عارضًا لسببٍ يستدعيه، كما يكون الانقباضُ عارضًا لسببٍ يستدعيه، وقع له مكروهٌ، أو سمع بشيءٍ يكرهه، ونحو ذلك؛ فحصل له انقباضٌ، لكن أحيانًا يكون الإنسانُ في جبلته مُنقبضًا، وأحيانًا يكون مِفراحًا، يعني: نفس مُتألقة، تمتلئ بالسُّرور، ونحو ذلك، خلاف الـمِحزان؛ كثير الحُزن.

هذا الأصل الأول: الفرح، أن يجد في قلبه خِفَّةً؛ فينشرح صدره، وأكثر ما يكون هذا في اللَّذات البدنية، والهمزة معه -كما أشرتُ قبل قليلٍ- كالهمزة مع ما سبق: الفزع، وكذلك شكى؛ تكون للجلب، أفرحه يعني: سرَّه، وتكون للإزالة، بمعنى: غمَّه وأحزنه، أفرحه أي: غمَّه، أزال فرحه. شكاني فأشكيته؛ يعني: أزلتُ شكايته، وقد تقول: أشكيته، يعني: جعلتُه ذا شكايةٍ، أوقعتُ به ما يُوجب الشَّكوى، من الأضداد.

الأصل الثاني الذي ذكره ابنُ فارس: وهو الإثقال، الإفراح: الإثقال[27].

إذا أنت لم تبرح تُؤدِّي أمانةً وتحمل أخرى أفرحتك الودائع[28]

يعني: أثقلتك الودائع، الإثقال، أفرحتك، أفرحته -كما سبق- يعني: أحزنته وأثقلته، كأنَّه خلاف المعنى الأول بهذا الاعتبار، نحن قلنا: من الأضداد؛ لما للحزن من إثقال وثقل على النفس، فالحُزن يُثقلها، فلا تكن في الإنسان همَّة، وعزيمة، وقوة على الانطلاق والذَّهاب؛ ولذلك في خبر الثلاثة الذين خُلِّفوا: كعب بن مالك  كان يذكر عن نفسه: "أنَّه كان شابًّا، وكان يأتي إلى المسجد؛ مسجد النبي ﷺ، وأمَّا صاحباه فبقيا في بيوتهما يبكيان"[29]، يعني: لم يكن عندهم من النَّشاط للذَّهاب والصَّلاة مع النبي ﷺ في المسجد، ونحو ذلك، أو الذَّهاب إلى الأسواق، أمَّا كعب بن مالك فكان يذهب إلى الأسواق، وإلى المسجد.

يقول الله -: فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [آل عمران:170]، لاحظ: هذا الفرح المحمود، كما في قوله -تبارك وتعالى-: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا [يونس:58]، هذا فرحٌ محمودٌ.

لكن في قوله -تبارك وتعالى-: إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ [هود:10]، مثل هذا الاستعمال: ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ [غافر:75]، لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ [القصص:76]، فما المقصود بهذا الفرح؟

الفرح هنا بمعنى: الأشر، الفرح الذي يحمل على الأشر والبطر؛ ولهذا يقولون: أنَّه لما وُجد في الفرح من السُّرور باللَّذة المادية -كما سبق أنَّ أكثر ذلك يكون في الأمور المادية-؛ خُشِيَ من الأشر الذي قد يُداخله، فإذا كثُر ماله، أو نحو ذلك؛ قد يكون في حالٍ من الفرح، فيكون الفرحُ ذلك أحيانًا مذمومًا؛ باعتبار أنَّه يكون عنده شيءٌ من الأشر والبطر؛ ولهذا لا زال الناسُ يستعملون هذا إلى اليوم بهذا المعنى، يُقال: فلانٌ فرح بنفسه، فلانٌ فرح بماله، فلانة فرحة بنفسها، فرحة بجمالها، فرحة بحُليِّها ومالها، ونحو ذلك، آل فلان فرحون بأنفسهم، بأموالهم، على سبيل الذَّم، لكن الفرح لا يُذمّ مُطلقًا كما هو معلومٌ.

لكن قوله -تعالى- مثلًا: لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ في خبر قارون، فهذا الفرح الذي يحمل على الأشر والبطر: وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ [الحديد:23].

إذا علم الإنسانُ أنَّ كل شيءٍ قد قدَّره الله فإنَّه لا يخف في حال النِّعمة، كما أنَّه لا يخف في حال المصيبة، وإن شئتَ أن تقول: لا يثقل في حال المصيبة، وإنما يكون في حالٍ من الاعتدال، والله أعلم.

  1. انظر: "مقاييس اللغة" لابن فارس (4/380).
  2. انظر: "المفردات" للراغب الأصفهاني (ص359).
  3. انظر: "مقاييس اللغة" لابن فارس (4/405).
  4. انظر: المصدر السابق (4/405).
  5. انظر: المصدر السابق (4/401).
  6. انظر: "بحر العلوم" للسمرقندي (3/609).
  7. انظر: "تفسير الطبري" (24/559).
  8. انظر: "تفسير البغوي" (8/508).
  9. انظر: "مقاييس اللغة" لابن فارس (4/395).
  10. انظر: المصدر السابق (4/493).
  11. انظر: "إعلام الموقعين" لابن القيم (2/173).
  12. انظر: "المفردات" للراغب الأصفهاني (ص389).
  13. انظر: "مقاييس اللغة" لابن فارس (4/505).
  14. انظر: المصدر السابق (4/508).
  15. أخرجه البخاري: كتاب تفسير القرآن، باب قوله: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء:79]، برقم (4719).
  16. انظر: "مقاييس اللغة" لابن فارس (4/502).
  17. أخرجه الترمذي في "سننه"، برقم (1497)، وصححه الألباني في "صحيح وضعيف سنن الترمذي"، برقم (1497).
  18. انظر: "المزهر في علوم اللغة وأنواعها" للسيوطي (1/240).
  19. انظر: "الفتاوى الكبرى" (4/12).
  20. انظر: "مقاييس اللغة" لابن فارس (4/472).
  21. انظر: "غرائب القرآن ورغائب الفرقان" للنيسابوري (3/222).
  22. انظر: "مقاييس اللغة" لابن فارس (4/43).
  23. انظر: المصدر السابق (4/453).
  24. انظر: المصدر السابق (4/501).
  25. انظر: المصدر السابق (4/501).
  26. انظر: المصدر السابق (4/499-500).
  27. انظر: المصدر السابق (4/500).
  28. انظر: "الحور العين" لنشوان الحميري (ص317).
  29. متفق عليه: أخرجه البخاري: كتاب المغازي، باب حديث كعب بن مالك، وقول الله -عزَّ وجلَّ-: {وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} [التوبة:118]، برقم (4418)، ومسلم: كتاب التوبة، باب حديث توبة كعب بن مالك وصاحبيه، برقم (2769).

مواد ذات صلة