الجمعة 19 / رمضان / 1445 - 29 / مارس 2024
(006-ب) من قوله تعالى "أفتطمعون أن يؤمنوا" الآية 74 إلى قوله "فلعنة الله على الكافرين" الآية 88
تاريخ النشر: ٠١ / صفر / ١٤٣٧
التحميل: 1852
مرات الإستماع: 3077

أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ۝ وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ۝ أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ ۝ وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ ۝ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ ۝ وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ۝ بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ۝ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ۝ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ ۝ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ ۝ ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ   ۝ أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ ۝ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ ۝ وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ ۝ وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ [البقرة:75-87].

أَفَتَطْمَعُونَ خطاب المؤمنين.

أن يُؤْمِنُوا، يعني: اليهود، وتعدّى باللام لما تضمن معنى الانقياد.

تعدى باللام في قوله: أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ لمن تضمن معنى الانقياد. تقول: آمن به. يُعدى بالباء، ويُعدى باللام يقال: آمن له. قد مضى الكلام على الإيمان في اللغة والفروقات بينه وبين التصديق، ذكرت كلام شيخ الإسلام -رحمه الله- وما ذكره من الفروقات السبعة بين الإيمان والتصديق في اللغة، فلفظ الإيمان غير لفظ التصديق والمعنى يختلف أيضًا، فإن لفظ الإيمان يختلف في تعديته عن التصديق، وفي لفظ الإيمان معنى الأمن، وتقول: صدقه. ولا تقول: آمنه. التصديق عُدي بنفسه، تقول: آمن به، وآمن له.

فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ [العنكبوت:26] التعدية هنا باللام تدل على معنى الانقياد، ولهذا يقول شيخ الإسلام: بأن الإيمان في اللغة هو تصديق خاص لا يفسر بالتصديق وإنما يقال: تصديق انقيادي. التصديق بمعنى الإقرار والانقياد والإذعان، وليس مطلق التصديق، وهذا مهم، تجد كثيرًا في كتب التفسير وغيرها، تفسير الإيمان بالتصديق. أما التضمين فقد مضى الكلام عليه، فبالتعدية تُعرف معاني الأفعال كما هو معلوم، فإن معاني الأفعال تُعرف على ضوء ما تتعدى به، فَآمَنَ لَهُ فإذا عدي بحرف فإن ذلك يُبين عن المعنى، معنى هذا الفعل، فإن كان لا يتعدى بهذا الحرف فإنه يكون قد ضُمّن معنى فعل آخر يصح أن يُعدى بهذا الحرف، ومثلنا لهذا بأمثلة مثل: عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا [الإنسان:6]، قلنا: العين لا يُشرب بها وإنما يُشرب منها. فالكوفيون يقولون: إن الباء بمعنى من. ضُمن الحرف معنى الحرف، قلنا: إن مذهب البصريين أوفى وأدق، البصريون لا يقولون بتضمين الحرف هنا معنى الحرف، إنما يقولون: تضمين الفعل معنى الفعل. يشرب ضُمن معنى فعل آخر يصح أن يُعدى بالباء: يرتوي بها، يلتذ بها، فدل على أنه شُرب بارتواء، شرب مع الالتواء والالتذاذ فزاد المعنى، عرفنا هذا من التعدية بحرف الباء.

فَرِيقٌ مِنْهُمْ، السبعون الذين سمعوا كلام الله على الطور ثم حرفوه، وقيل: بنو إسرائيل حرفوا التوراة.

مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ، بيان لقبح حالهم.

يعني كون الإنسان يحرف بعدما عقل غير لما يحرف عن جهل فذلك أشد، يعني يقولون: إنهم سمعوا الله -تبارك وتعالى- يأمر موسى وينهاه وأنزل عليه وحيه، قالوا في النهاية قال: فإن شئتم فاعملوا به، وإن شئتم فاتركوه. ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ أنه غير ملزم، فألغوا العمل بالوحي بهذه الزيادة والتحريف، هكذا قال بعض أهل العلم.

قَالُوا آمَنَّا قالها رجل ادعى الإسلام من اليهود، وقيل: قالوها ليدخلوا إلى المؤمنين ويسمعوا إلى أخبارهم.

يعني: وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا هذا في منافقي اليهود؛ لأن المنافقين كان بعضهم من المشركين من أهل المدينة، وبعضهم من الأعراب، وبعضهم من أهل الكتاب من اليهود.

أَتُحَدِّثُونَهُمْ 

توبيخ.

بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فيه ثلاثة أوجه: بما حكم عليهم من العقوبات، وبما في كتبهم من ذكر محمد ﷺ وبما فتح الله عليهم من الفتح والإنعام، وكل وجه حجة عليهم؛ ولذلك قالوا: لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ، قيل: في الآخرة، وقيل: أي في حكم ربكم وما أنزل في كتابه، فعنده بمعنى حكمه.

هنا يُنكر بعضهم على بعض إذا خلوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ يعني تحدثون المسلمين، بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ بما حكم عليهم من العقوبات، بأن الفتح بمعنى الحكم، فالحكم يقال له: فتح، رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ [الأعراف:89]، يعني: احكم، والحكم يُقال له: فُتاحة.

والحاكم يقال له: فاتح، وفتاح. إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ [الأنفال:19]، يعني: تطلبوا الفصل والحكم بينكم أن الله -تبارك وتعالى- يُهلك المبطل، فقد جاءكم الفتح، فهذا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ، يعني بما حكم عليكم من العقوبات، وأنزل بكم من المثُلات هذا الأول. وبما في كتبهم من ذكر محمد ﷺ.

هذا الثاني، وهذه أقوال في تفسير الآية يعني أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ الأول: أنتم تخبرونهم بما أوقع عليكم من الأحكام والعقوبات لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ، يقولون: انظروا ما فعل الله بكم وأنتم تدعون أنكم أولياء الله -تبارك وتعالى- وأحبابه و لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى [البقرة:111].

والثاني: وبما في كتبهم من ذكر محمد ﷺ يقولون: أنتم تخبرونهم عن صفته فيحتجوا بذلك عليكم، ويقولون: هذا وصفه عندكم فلماذا تكفرون به. لا تخبرونهم عن ما جاء في كتبكم مما يكون تصديقًا لهم في وصف هذه الأمة ووصف نبيها ﷺ.

وهذا قول مشهور في تفسير الآية: أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فيكون الفتح هنا بمعنى العلم، تقول: فتح الله عليك. بما فتح عليكم من العلم، فيحتجون بذلك عليكم حيث لم تؤمنوا به.

قال: وبما فتح الله عليهم من الفتح والإنعام. أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ يقولون هنا من باب الحسد: لا تخبرونهم عن ما خصكم الله -تبارك وتعالى- به من العلم وما إلى ذلك فيحتجون بذلك عليكم.

وكذلك أيضًا لا يريدون أن تستووا معهم في العلم بما خصكم الله -تبارك وتعالى- به يعني حسدًا من عند أنفسهم، والفتح يأتي بمعنى النصر، هو يرجع إلى معنى الحكم، والله -تبارك وتعالى- أعلم، ولذلك تقول: فتح مكة، فتح المغلق، فتح الله عليك. ونحو ذلك، يأتي بمعنى النصر، ويأتي بمعنى القضاء، والحكم.

ابن جرير لما ذكر هذه المعاني يقول: وعليه فالمعنى أتحدثونهم بما حكم به عليكم وقضاه فيكم من الإيمان بمحمد ﷺ وأن جعل منكم القردة والخنازير هذا في المثُلات والعقوبات، هناك بصفته ﷺ وأخذ عليهم من الإيمان به، وهنا في العقوبات والمثلات، قال: وغير ذلك من أحكامه فيهم[1].

لاحظ عممها ابن جرير، أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ حكم من الإيمان بمحمد ﷺ وأعلمكم بصفته الكاشفة التي لا تلتبس، وكذلك بما أوقع عليكم من العقوبات، يقول: وأول الآية يدل على أن تلاومهم إنما كان في إظهار الإيمان والتصديق بنبوة محمد ﷺ وهو المثبت في كتابهم.

يقول: أنتم حينما تُظهرون الإيمان وتقولون: هذا النبي الذي نجد وصفه في كتابنا. يقولون: فأنتم بهذا تعطونهم الحجة التي يحتجون بها عليكم.

وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ هم الآن اتفقوا على النفاق، لكنهم إذا جاءوا إلى المسلمين وحصل حديث وانبساط، فمما يتكلم به بعضهم أن هذا النبي هو الذي نجده بصفته ونحو ذلك، فإذا رجعوا تلاوموا قالوا: أنتم صرحتم بأشياء ما كان ينبغي التصريح بها، قولوا لهم آمنا فقط، دون أن تذكروا أمورًا تكون حجة عليكم. يقولون: هذا النبي نجد وصفه. وكان الاتفاق على الإيمان أول النهار ثم بعد ذلك الكفر في آخر النهار من أجل ضعضعة أهل الإيمان، ومن أجل صد غير المؤمنين عن الدخول في الإيمان باعتبار أن هؤلاء اليهود أهل كتاب فدخلوا في هذا الدين فعرفوه من الداخل فوجدوا فيه ما يوجب الرجوع عنه، لكن إذا قلتم لهم: هذا النبي الذي نجده في كتابنا ونحو ذلك فأنتم ثبتموهم وأعطيتموهم الحجة التي يحتجون بها عليكم. أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ.

أَفَلا تَعْقِلُونَ من بقية كلامهم توبيخًا لقومهم.

أَوَلَا يَعْلَمُونَ  الآية من كلام الله ردًّا عليهم وفضيحة لهم.

أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ.

وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ، أي: الذين لا يقرءون ولا يكتبون فهم لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ والمراد قوم من اليهود وقيل: من المجوس وهذا غير صحيح، لأن الكلام كله عن اليهود.

هذا هو المشهور أن الأمي هو الذي لا يقرأ ولا يكتب، وقد مضى الكلام على هذا في الغريب، بعضهم يقول: الأميون نسبة إلى الأمة الأمية التي هي على أصل ولادتها. إنسان يخرج من بطن أمه لا يعلم، لا يقرأ ولا يكتب هذا القول الأول، بأي اعتبار؟ باعتبار الولادة، يعني حينما خرج من بطنها لا يقرأ، وابن جرير -رحمه الله- يرى أن ذلك الأمي نسبة إلى أمه.

أما ابن جرير فيرى أنه نسبة إلى أمه باعتبار أن الكتابة كانت في الرجال ولم تكن في النساء، فإذا نُسب إلى أمه معناها أنه يساوي لا يُحسن القراءة ولا الكتابة، ما كان ذلك من شأن النساء عند العرب، وأكثر السلف وهو الذي اختاره ابن كثير: إلى أن ذلك كما سبق يقال لمن لا يحسن الكتابة، والقرينة في هذه الآية على أن هذا هو المراد القراءة والكتابة: وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ فنفى عنهم العلم قال: إِلَّا أَمَانِيَّ، يعني: مجرد قراءة، كما قال الله : وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ [العنكبوت:48] فهذا يصلح أن يكون تفسيرًا للأمي، وقوله: والمراد قوم من اليهود وقيل: من المجوس وهذا غير صحيح، لأن الكلام كله عن اليهود. صحيح السياق في اليهود.

إِلَّا أَمانِيَّ تلاوة بغير فهم، أو أكاذيب، وما تتمناه النفوس.

تلاوة بغير فهم يعني إِلَّا أَمَانِيَّ: إلا قراءة، يعني: لا يعلمون معانيه وما تضمنه من الهدايات، إنما يقرؤونه قراءة مجردة، وهذا المعنى مشهور، وكما جاء في مدح عثمان :

تمني كتاب اللَّه أول لَيْلَة وَآخره لَاقَى حمام المقادر[2]

تمنى بمعنى قرأ، وبه فُسر قوله -تبارك وتعالى- على أحد الأوجه المشهورة في تفسير الآية: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ [الحج:52]، أمنيته يعني في قراءته، إلا إذا قرأ ألقى الشيطان في قراءته، على أحد المعاني المشهورة في تفسير الآية، فهنا لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ، يعني: إلا قراءة مجردة من غير فهم للمعنى، وهذا ظاهر كلام شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-[3]، والحافظ ابن القيم[4]، وغير هؤلاء: فسروه بأن المراد لا يعلمون إلا مجرد قراءة، فهم جهلة.

وهذا للأسف حال كثير من المسلمين اليوم، أنهم لا يعلمون الكتاب إلا أماني فأشبهوهم في هذا، يعني لا يعرفون معانيه ولا يتدبرون بهذا القرآن وما تضمنه من الهدايات.

وقوله: أو أكاذيب وما تتمناه النفوس. يعني إلا أماني جمع أُمْنِيّة، هناك جمع أُمْنِيّة يعني قراءة، وهذا جمع أُمُنِيَة يعني ما تطلبه النفوس يعني لا يعلمون الكتاب إلا بالأماني الكاذبة، وهذا جاء عن جماعة من السلف: قتادة، والربيع، وأبي العالية، وهو اختيار كبير المفسرين أبو جعفر ابن جرير -رحمه الله-: أن ذلك مجرد تمني فقط[5].

وهذا قال به أيضًا من المفسرين: الواحدي[6]، وهو من المعاصرين، والطاهر ابن عاشور[7]: أن القضية هي مجرد أماني. واختاره الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله- إِلَّا أَمَانِيَّ، يعني: يتمنون الأماني[8]، وما القرينة الدالة على هذا التفسير؟

قال: وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ يعني هم يقولون مثلًا: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً [البقرة:80]، و لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ [البقرة:111] فهم لا يقرأون الكتاب، لا يعلمون الكتاب إلا أماني، مجرد أمنيات يتمنونها، لا علم لهم بالكتاب، وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ لا يعلمون الكتاب لكن أماني يتمنونها، لا علم لهم، ولكن ظنون كاذبة يتعللون بها، أو ما تتمناه النفوس، فتفسيره على كل حال بالأمنيات الكاذبة قال به من ذكرت من السلف، وهو اختيار ابن جرير، والواحدي، وابن عاشور، والشنقيطي.

والقول الآخر: أنه مجرد قراءة من غير علم وفهم ومعرفة المعنى والتفسير. هذا الذي اختاره شيخ الإسلام[9] وابن القيم[10]، والشيخ عبد الرحمن بن سعدي[11]، فهما قولان معروفان في الآية.

بِأَيْدِيهِمْ تحقيق لافترائهم.

يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ، يعني: الكتابة لا تكون إلا بالأيدي كما هو معروف، فهذه يقال لها: الصفة الكاشفة. وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ [الأنعام:38]، فالطائر يطير بجناحيه فتكون صفة كاشفة؛ للتوكيد، لتأكيد المعنى، ابن جرير علل ذلك يعني أنهم يكتبون الكتاب بأيديهم، الكتابة قد تُضاف إلى غير الكاتب إذا كان ذلك عن أمره، هو الذي أمر بهذا، فيقال: كتب فلان. والذي كتب غيره، لكن إذا كان بأمره فإنه يُضاف إليه، فهنا أكده أن ذلك سطروه بأناملهم قال: يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ليس فقط أنهم أمروا غيرهم، فقد يقع فيه التحريف من غير علم أو قصد، وإنما يكتبونه بأيديهم هم لا يأمرون غيرهم فيقع ذلك ويجري على يد الكاتب.

ثَمَناً قَلِيلًا عرض الدنيا من الرياسة والرشوة وغير ذلك.

يعني: كل ما يستعيضون به من هذا الحطام فهو قليل، الرُشى التي يأخذونها وما يستعيضون به من الدنيا كل ذلك داخل فيه.

مِمَّا يَكْسِبُونَ من الدنيا أو هي الذنوب.

هنا أطلقه فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ فهذه المكاسب من الأموال والرُشى الواقع أيضًا أنها جنايات وجرائر يُعذبون بها ويحاسبون عليها، فيدخل في هذا المكاسب المادية، ويدخل في هذا المكاسب الأخرى من الذنوب والآثام، والحافظ ابن كثير -رحمه الله- يقول: مِمَّا يَكْسِبُونَ، يعني: مما أكلوا به من السحت[12].

وابن جرير -رحمه الله- زاد على هذا: وما اجترحوا من الآثام والخطايا[13]. وذكر أن أصل الكسب العمل، يعني ابن جرير جمع بين المعنيين: الآثام، والمكاسب التي يأخذونها من الرشى ونحو ذلك، ما أكلوا به من السحت هذا المعنى الأول الذي قاله ابن كثير، وزيادة عند ابن جرير: الخطايا والآثام.

أَيَّاماً مَعْدُودَةً، أربعين يومًا عدد عبادتهم العجل، وقيل: سبعة أيام.

يعني: بعضهم يقول: إن قولهم: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً، يعني: بقدر عبادتنا العجل. وعبادتهم العجل كانت في مدة غياب موسى ﷺ في الميقات وذلك في أربعين ليلة، فبعضهم يقول هذا هو المراد، والله أعلم.

أَتَّخَذْتُمْ الآية تقرير يقتضي إبطال قولهم.

بَلى تحقيق لطول مكثهم في النار، أو لقولهم ما لا يعلمون.

يعني: بَلَى أي ليس الأمر كما تمنيتم ولا كما تشتهون، بل الأمر أنه مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ، وكما ذكرنا في القاعدة سابقًا أن القرآن حينما يورد مقالة فإما أن يذكر قبلها أو معها أو بعدها ما يدل على بطلانها أو يسكت عنها، فإن سكت عنها فهذا يدل غالبًا على أنها صحيحة، وذكرنا لهذا أمثلة. بَلَى تحقيق لطول مكثهم في النار بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ فذكر الصحبة هنا للنار يدل على الملازمة والخلود الأبدي السرمدي، أو لقولهم ما لا يعلمون. قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ يعني تقولون على الله ما لا تعلمون.

مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً الآية في الكفار؛ لأنها ردّ على اليهود.

يقول: الآية في الكفار. يعني لئلا يُتوهم أن فعل المعاصي والسيئات يكون سببًا في الخلود في النار كما يقوله الوعيدية من الخوارج والمعتزلة، فإنهم يحكمون بالخلود عليه في النار هذا من جهة الحكم، أما من جهة الاسم فيختلفون فيه: فالخوارج يقولون: كافر. والمعتزلة يقولون: في منزلة بين المنزلتين. لكن في المآل يقولون: هو مخلد في النار. هذه التي يسمونها مسائل الأسماء والأحكام، ماذا يسمى؟ هذه الأسماء، وما مصيره وما حكمه؟ الخلود في النار، هذا من جهة الحكم.

يقول: من مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً الآية في الكفار؛ لأنها رد على اليهود. السيئة هنا المقصود بها الشرك، وهذا الذي قال به السلف : كابن عباس، وأبي وائل، ومجاهد، وقتادة، وعطاء، والربيع[14]؛ لأنه لا يحيط بالإنسان من الذنوب وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ إلا الشرك.

ولقوله بعدها: وَالَّذِينَ آمَنُوا فلا حجة فيها لمن قال بتخليد العصاة في النار.

لأنه قابل بين هؤلاء وبين أهل الإيمان فدل على أن من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته هو الكافر، ثم ذكر بعده ما يقابله: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ.

لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ جواب لقسم يدل عليه الميثاق، وقيل: خبر بمعنى النهي، ويرجحه قراءة لا تعبدوا، وقيل: الأصل بأن: لا تَعْبُدُوا ثم حذفت الباء وأن.

لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ جواب لقسم يدل عليه الميثاق. يعني هذا القسم أين هو في الآية؟ الله يقول: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ أخذنا ميثاق أين القسم؟ أن الميثاق يدل على القسم، والحافظ ابن القيم -رحمه الله- ذكر جملة من الألفاظ التي تدل على القسم، فقد لا ترد لفظة القسم بعينها ولكن قد يوجد ما يقوم مقامها أو ما يدل عليها، وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ يقول: جواب لقسم يدل عليه الميثاق. والتقدير: استحلفناهم: والله لا تعبدون إلا الله.

هكذا قال بعض أهل العلم، وهذا الذي اختاره شيخ النحاة سيبويه -رحمه الله-.

وقيل: خبر بمعنى النهي. لَا تَعْبُدُونَ لاحظ أنه ما جاء هنا مجزومًا، يعني: لو كان نهيًا صريحًا: لا تعبدوا. لجاء مجزومًا، فقال: لَا تَعْبُدُونَ فهو خبر، صيغة خبرية قال بمعنى النهي، ويرجحه قراءة (لا تعبدوا) وهذا القراءة غير متواترة، قراءة تُنسب لأُبي [15]، وهي أيضًا منسوبة لابن مسعود [16]، وعلى هذا إذا قيل: إنه خبر بمعنى النهي يكون قد ارتفع باعتبار أن لَا نافية لا عمل لها، لَا تَعْبُدُونَ نافية، لا تعمل فهي لا تجزم الفعل، فجاء الفعل مرفوعًا لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ، فأحيانًا تكون الصيغة خبرية والمقصود بها الإنشاء: الأمر أو النهي، مثل: وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ [البقرة:233]، قيل: هو صيغة خبرية والمعنى الأمر، يعني هو أمر لهن بالإرضاع وإلا فإن صيغة الأمر الصريحة هي: افعل أو لِتفعل، الفعل المضارع التي دخلت عليه لام الأمر لتفعل كذا، وقيل: الأصل بأن لا تعبدوا ثم حذفت الباء وأن. بأن لا تعبدوا يعني فارتفع الفعل، بألا تعبدوا، لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ.

وَبِالْوالِدَيْنِ يتعلق بـ إحسانًا، أو بمحذوف تقديره: أحسنوا، ووكد بـ إحسانًا.

يعني يدل عليه المذكور بعده إِحْسَانًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا، أو بمحذوف تقديره: أحسنوا، وأكد بـ إحسانًا. يعني الله -تبارك وتعالى- أخذ الميثاق وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وأحسنوا بالوالدين إحسانًا، أو وإحسانًا بالوالدين، وأُكد بـ إحسانًا.

وَذِي الْقُرْبى القرابة الْيَتامى جمع يتيم: وهو من فقد والده قبل البلوغ، واليتيم من سائر الحيوان من فقد أمه.

من فقد أحد أبويه؛ لأنهما يذقانه بالطعام، الحيوان إذا فقد أمه؛ لأنها هي التي ترضعه، والأب لا يعرفه بعد ذلك، أما الطيور فيشترك الطيور في إطعامه.

وجاء الترتيب في هذه الآية بتقديم الأهم، فقدم الوالدين لحقهما الأعظم، ثم القرابة لأن فيهم أجر الإحسان وصلة الرحم، ثم اليتامى لقلة حيلتهم، ثم المساكين.

يعني: العلاقة الوشيجة ما هي؟ هي الرحم عن طريق الأبوين، فأخو الأب عم، وأخو الأم خال، وهكذا، والآن هذه المذكورات: اليتامى هذا صغير لا يُنتفع به من جهة العمل والكسب، ولا ينتفع أحد بمصاحبته ونحو ذلك؛ لأنه يحتاج من يقوم عليه، ثم هو لا يستطيع أن يدفع عن حقه وعن نفسه، وقد يُبتز ويُؤخذ ماله، فجاء التشديد في حق اليتيم؛ لأنه يضيع إذا تُرك من غير رعاية ولا حرمة، أما المسكين فهو فقير محتاج لكن ليس كاليتيم، فيستطيع أن يعمل، يستطيع أن يدفع عن نفسه، يعرف مصالحه بخلاف اليتيم، وتجدون في بعض الآيات يُذكر بعد المساكين والفقراء، يذكر ابن السبيل، لماذا؟ لأن ابن السبيل حالة عارضة ليست كالمسكين، فالمسكين فقره ملازم له، بينما ابن السبيل هو الذي لربما يحتف بأهل البلد عابر سبيل فيفتقر أو تذهب نفقاته أو نحو ذلك، هذه حالات قليلة بالنسبة للمساكين، حالة عارضة ليس كالمسكين الذي يكون فقره مستمرًا، فأخره، المساكين وابن السبيل.

لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ لا يسفك بعضكم دم بعض، وإعرابه مثل لا تعبدون.

كما سبق هنا لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ ليس المقصود أن لا يقتل الإنسان نفسه، فهذا لا شك أنه حرام، ولكن لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ أي: لا يسفك بعضكم دم بعض، وهذا كما سبق في بعض المناسبات أنه ينزل النفوس المجتمعة على ملة واحدة ودين منزلة النفس الواحدة، كما في قوله: لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ [النساء:29]، يعني: لا يأكل أحدكم مال أخيه، وكقوله -تبارك وتعالى-: فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [البقرة:54]، يعني: ليقتل بعضكم بعضًا.

وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ لا يخرج بعضكم بعضًا.

ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ بالميثاق واعترفتم بلزومه.

وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ بأخذ الميثاق عليكم.

هؤُلاءِ منصوب على التخصيص بفعل مضمر.

ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ منصوب على التخصيص بفعل مضمر يعني أخص هؤلاء.

وقيل: هؤلاء مبتدأ وخبره (أنتم) وتقتلون حال لازمة تم بها المعنى.

ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ هؤلاء أنتم فيكون مبتدأ مؤخرًا، ثم هؤلاء أنتم تقتلون أنفسكم. تكون حالًا، عند ابن جرير: يحتمل معنيين:

الأول: ثم أنتم يا هؤلاء تقتلون أنفسكم ... إلخ.

الثاني: معناه: ثم أنتم قوم تقتلون أنفسكم. فيرجع إلى الخبر عن "أنتم". وقد اعترض بينهم وبين الخبر عنهم "بهؤلاء"[17].

تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ كانت قريظة حلفاء الأوس، والنضير: حلفاء الخزرج، وكان كل فريق يقاتل الآخر مع حلفائه، وينفيه من موضعه إذا ظفر به.

تَظاهَرُونَ أي تتعاونون.

تُفادُوهُمْ قرئ بالألف وحذفها والمعنى واحد.

بالألف تُفَادُوهُمْ هذه قراءة نافع وعاصم والكسائي، والقراءة الأخرى: (تفدوهم) هذه قراءة باقي القرّاء. قال: والمعنى واحد.

المفاداة يمكن أن تكون باعتبار أن ذلك من الطرفين تُفَادُوهُمْ، و (تفدوهم) يعني تشتروهم من العدو وتنقذوهم، فقراءة تُفَادُوهُمْ باعتبار أن هذه بين طرفين من بيدهم الأسرى مع من يريد من يقابل ذلك من يريد الفداء، دفع الفدية.

وكذلك أسارى بالألف وحذفها جمع أسير.

يقال: الأسارى جمع أسرى، وأسرى جمع أسير، أسير يُجمع على أسرى، والأسرى يُجمع على أسارى هكذا يقول بعض أهل العلم، فهو جمع الجمع، الأسارى جمع أسرى، والأسرى جمع أسير، وأصل الأسر يقال بمعنى الحبس والإمساك كما هو معلوم، وبعضهم يقول: مأخوذ من الإسار. يعني كان يُربط الأسير بعصب أو بجلد من البعير الحديث القطع أو السلخ فييبس عليه يصير مثل الحديد.

وَهُوَ مُحَرَّمٌ الضمير للإخراج من ديارهم، وهو مبتدأ وخبره محرّم و إِخْراجُهُمْ بدل، والضمير للأمر والشأن، وإخراجهم: مبتدأ، ومحرّم خبره، والجملة خبر الضمير.

ما هو المحرم عليهم؟ الإخراج، فهو محرم عليكم إخراجهم، و إِخْرَاجُهُمْ بدل، أو الضمير وَهُوَ أي الشأن، والأمر مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ

أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ فداؤهم الأسارى موافقة لما في كتبهم.

وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ القتل والإخراج من الديار مخالفة لما في كتبهم.

يقولون يعني تتناقضون تخرجونهم وتقتلونهم، وإذا وقعوا في الأسر عند العدو دفعتم الفداء، فتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض، كل ذلك حرام عليكم الإخراج والقتل، ويجب عليكم دفع الفداء لاستنقاذهم وفكاكهم من الأسر، فأنتم تفعلون هذا وتفعلون أيضًا ما حُرم عليكم من القتل والإخراج.

خِزْيٌ الجزية أو الهزيمة لقريظة والنضير وغيرهم، أو مطلق.

مطلق أي جزاء من يفعل ذلك، والخزي أصله الهوان والهلاك، أصله الإبعاد.

وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ، أي: جئنا من بعده بالرسل، وهو مأخوذ من القفا أي جاء بالثاني في قفا الأول.

يعني: يتتابعون وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ كان بنو إسرائيل يسوسوهم الأنبياء -عليهم السلام-.

الْبَيِّناتِ المعجزات من إحياء الموتى وغير ذلك.

بِرُوحِ الْقُدُسِ جبريل، وقيل الإنجيل، وقيل الاسم الذي كان يحيى به الموتى، والأول أرجح لقوله: قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ؛ ولقوله ﷺ لحسان: اللهم أيده بروح القدس[18].

وهكذا في قوله تعالى: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ [الشعراء:193]، فالمقصود به جبريل ، وسمي بذلك روح القدس، قيل: لأنه يأتي بما به حياة الأرواح وهو الوحي.

أو لأنه ينزل بما يطهر النفوس، يحصل به تطهير النفوس، وهذا الوحي، يعني بمعنى أن هذه المادة القاف والدال والسين تدل على التطهير، والله من أسمائه القدوس، قيل: الطاهر.

هذا هو المشهور في تفسيره، وذكرت في بعض المناسبات أن هذه الكلمة تدل على تطهير وزيادة، يعني تعظيم، والله أعلم، وهو من باب إضافة الموصوف إلى الصفة: روح القدس يعني الروح المقدسة، فالموصوف روح والصفة القدس، فالقدس الطهارة. وقيل: سمي بذلك لأنه كان بتكوين من الله من غير ولادة.

وقيل: بأن القدس هو الله. روح القدس يعني أضيف إلى الله -تبارك وتعالى- إضافة مخلوق إلى الخالق: كبيت الله، وكما قال الله في عيسى : وَرُوحٌ مِنْهُ [النساء:171]، يعني مخلوقة، وقيل غير هذا.

تَقْتُلُونَ جاء مضارعًا مبالغة لأنه أريد استحضاره في النفوس، أو لأنهم حاولوا قتل محمد ﷺ لولا أن الله عصمه.

استحضاره في النفوس يعني استحضار هذا الفعل القبيح الشنيع في النفوس، كأنك تشاهد هذا العمل ماثلًا أمامك، يعني عُبّر عن الشيء الذي مضى وانقضى بالمضارع لتصوير الواقع في الماضي بحيث كأنك تشاهده ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ عَبّر بالمضارع، وهنا قال: فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ [البقرة:91]، وما قال: فلم قتلتم.

هو في الماضي؟ فإما أن يكون ذلك لتصوير الواقع في الماضي بحيث كأنك تشاهده فعَبّر بالمضارع، أو يكون ذلك باعتبار أن هذا مستمر فقد وضع السُّم للنبي ﷺ وحاولوا قتله بإلقاء الرحى عليه، وفي آخر حياته ﷺ كان يقول: يا عائشة ما أزال أجد ألم الطعام الذي أكلت بخيبر، فهذا أوان وجدت انقطاع أبهري من ذلك السم[19]، فكان ذلك يُعاوده، يقول: فَلِمَ تَقْتُلُونَ، فعبر بالمضارع باعتبار أن القتل مستمر، وآخر ذلك هذه المحاولة لقتل النبي ﷺ، فهذان وجهان في تعليل التعبير بالمضارع.

غُلْفٌ جمع أغلف: أي عليها غلاف، وهو الغشاء فلا تفقه.

هذا المعنى وهذا قال به أبو العالية[20]، وهو اختيار شيخ الإسلام[21]، والحافظ ابن القيم[22]، يعني خلافًا لمن قال مثلًا: وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ، يعني: أوعية للعلم ما نحتاج إلى إضافة من عندك، لسنا بحاجة إلى اتباعك، لا، إنما غلف يعني لا تفقه، جمع أغلف عليها غلاف، لا يصل إليها ما تقول، قالوا ذلك على سبيل المكابرة والعناد وتيئيسه من هدايتهم.

بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ ردًّا عليهم، وبيان أن عدم فقههم بسبب كفرهم.

يعني لم يكن الله قد جعل على قلوبهم هذا، لم يخلقهم هكذا، وإنما كما قال في الحديث القدسي: إني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم[23] فالله جعل للعباد السمع والأبصار والأفئدة لكن هؤلاء لعتوهم على الله -تبارك وتعالى- يكابرون هذه المكابرة ويدعون هذه الدعاوى.

فَقَلِيلًا أي إيمانًا قليلًا (ما يؤمنون).

يعني يحتمل هذا أن الإيمان الذي يقع منهم قليل، يعني يؤمنون بما يوافق ما عندهم مثلًا مما يهوونه، يؤمنون بأنبيائهم ويكفرون بالنبي ﷺ وبعيسى ، فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ فالذي يؤمن بنبي أو يؤمن بالأنبياء ويكفر بنبي واحد يكون كأنما كفر بهم جميعًا، ويحتمل أن يكون فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ باعتبار أنه لا يؤمن منهم إلا القليل، فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ، يعني: قليلًا من يؤمن من اليهود ويدخل في الإسلام، أكثرهم لا يؤمنون، كما هو مشاهد، أقل الناس دخولًا في الإيمان هم اليهود؛ لأنهم معدن الشر والحسد وهذه الأشياء التي أخبر الله عنهم من العتو على أنبيائهم يفعلون بهم هذه الأفاعيل، فكيف يؤمنون بالنبي ﷺ! وهم يقولون لموسى : لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً [البقرة:55].

ما يُؤْمِنُونَ ما زائدة.

يقصدون إعرابًا وإلا فيكون ذلك للتوكيد، وتكلمنا قبل على مسألة الزيادة، وهل يليق أن يقال في القرآن شيء زائد، وقلنا: إنهم يقصدون زائدًا إعرابًا. وإلا فقد صرح بعض أهل العلم إن ذلك لا يقال، ولهذا يعبر بعضهم ويقول: صلة. تأدبًا في العبارة.

ويجوز أن تكون القلة بمعنى العدم أو على أصلها؛ لأن من دخل منهم في الإسلام قليل، أو لأنهم آمنوا ببعض الرسل وكفروا ببعض.

باعتبار أن هذا الإيمان لا ينفعهم، لكن يحتمل أن تكون القلة بمعنى العدد فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ كما تقول العرب: قلما رأيت مثل هذا قط. يعني ما رأيت، وهذا في نظائره في القرآن، أحيانًا قد يُراد به العدد.

كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هو القرآن.

مُصَدِّقٌ تقدم أن له ثلاثة معان.

يعني المعاني التي مضت ما هي؟ مصدق لما معهم باعتبار أنه جاء على الوصف الذي في كتبهم، جاء صفته في كتبهم، صفة هذه الأمة، وصفة النبي ﷺ، فجاء تصديق ذلك في الواقع، فهذا مصدق لما معهم. وكذلك أيضًا أنه يشهد لهذه الكتب أنها من عند الله وأن أنبياءهم -قبل التحريف طبعًا- أيضًا هم رسل الله وأنبياؤه فهو مصدق لما معهم. وكذلك أيضًا ما يوجد من التوافق بين ما جاء في القرآن: أصول الشرائع والتوحيد ونحو ذلك، وما في كتبهم، فهذا تصديق، يصدق بعضه بعضًا، هذه ثلاثة أوجه مضت. 

يَسْتَفْتِحُونَ، أي: يستنصرون على المشركين، إذا قاتلوهم قالوا: اللهم انصرنا بالنبي المبعوث في آخر الزمان، ويقولون لأعدائهم المشركين: قد أظل زمان نبي يخرج فنقتلكم معه قتل عاد وإرم.

يستنصرون يعني يطلبون النصر، إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ [الأنفال:19]، تطلبوا الحكم بالغلبة ونحو ذلك، أو بإهلاك المكذب، يَسْتَفْتِحُونَ هؤلاء كانوا يستنصرون على المشركين، يعني يقولون لهم: سيُبعث نبي قد أظل زمانه وسنقتلكم معه قتل عاد وإرم.

وقيل: يستفتحون أي يعرفون الناس النبي ﷺ فالسين على هذا للمبالغة كما في استعجب واستسخر، وعلى الأول للطلب.

وفي النسخة الخطية فالسين. يعني باعتبار أن زيادة المبنى لزيادة المعنى، يستفتحون يعني يفتحون عليهم، ولاحظ المعنى الذي مضى أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ من صفة النبي ﷺ وأعلمكم به فيحتجون عليكم بعد ذلك، يعرفون الناس بالنبي ﷺ فالسين على هذا للمبالغة كما في استعجب واستسخر، وعلى الأول للطلب. السين للطلب (استفتح) يعني طلب الفتح، إِنْ تَسْتَفْتِحُوا [الأنفال:19]، يعني: تطلبوا الفتح، الحكم بينكم، تقول: استنصر. طلب النصر، وعلى المعنى الآخر أنها للمبالغة وليست للطلب.

فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا القرآن والإسلام ومحمد ﷺ قال المبرّد: كفروا جوابًا (لما) الأولى والثانية، وأعيدت الثانية لطول الكلام، ولقصد التأكيد، وقال الزّجّاج: كفروا جوابًا (لما) الثانية، وحذف جواب الأولى للاستغناء عنه بذلك، وقال الفرّاء: جواب (لما) الأولى فلما، وجواب الثانية كفروا.

لاحظ الآن وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فلما هذه (لما) الثانية، الأولى في أول الآية وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا إلى الآن ما جاء الجواب، فهنا يقول: قال المبرد: كفروا جواب (لما) الأولى والثانية.

يعني: أن الجواب واحد لهما، تقول: لما جاء زيد أكرمته. أكرمته هذا هو الجواب، فهنا وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ يعني تكون كفروا هذه جواب (لما) الأولى والثانية، وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا كفروا بهذا النبي الذي جاءهم فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فتكون كفروا جواب لـ (لما) الأولى والثانية. وأعيدت الثانية لطول الكلام ولقصد التأكيد؛ لأنه إذا طال الكلام فإنه يُعاد الرابط من أجل ألا يذهب الذهن وينسى الكلام أول الكلام فلا يربط في المعنى. وقال الزجاج: كفروا جواب لـ (لما) الثانية وحُذف جواب الأولى للاستغناء عنه بذلك.

يعني أن جواب الثاني دل على جواب الأولى يعني يكون وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا كفروا فحُذف الجواب استغناء بجواب الثانية فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ ففهمنا أن جواب الأولى أيضًا كفروا لكنه حُذف. وقال الفرّاء: جواب (لما) الأولى فلما، وجواب الثانية كفروا. لاحظ: وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أين الجواب؟ فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ ويكون جواب (لما) الثانية كفروا، وجواب الأولى فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ، هذه ثلاثة أوجه في الجواب، وعلى كل حال هي تحتمل، والله أعلم.

عَلَى الْكافِرِينَ، أي: عليهم يعني اليهود.

يعني: في قوله هنا: فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ هنا عام لكن مثل هذا يكون له اتصال بما قبله، فهو يذكر من كفر هؤلاء بهذا النبي الذي عرفوا صفته، وكانوا يستفتحون على هؤلاء المشركين فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ، فهؤلاء اليهود يدخلون فيه دخولًا أوليًا، لكن هل هذا ينفي عن غيرهم؟ لا ينفي عن غيرهم؛ ولهذا كما قال الشيخ عبد الرحمن السعدي -رحمه الله- في كتابه القواعد الحسان: بأن "السياق الخاص يراد به العام إذا كان سياق الآيات في أمور خاصة وأراد الله أن يحكم عليها وذلك الحكم لا يختص بها، بل يشملها ويشمل غيرها، جاء الله بالحكم العام"[24].

فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ ليشمل هؤلاء وغيرهم. لكن الذي عليه صنيع أكثر المفسرين من السلف فمن بعدهم: أنهم يربطون مثل هذا عادة بالذي قبله، وهكذا يفعل ابن جرير إذا تتبعت تفسيره، يربطونه بالذي قبله فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ، يعني: من هؤلاء؛ لأن السياق فيهم.

ووضع الظاهر موضع المضمر ليدل أن اللعنة بسبب كفرهم، واللام للعهد أو للجنس، فيدخلون فيها مع غيرهم من الكفار.

لاحظ الآن أي عليهم يعني: اليهود، ووضع الظاهر موضع المضمر ليدل على أن اللعنة بسبب كفرهم. ما معنى هذا الكلام؟ لاحظ فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ ما قال: فلعنة الله عليهم. على التفسير بأن فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ أن المقصود اليهود، فلماذا لم يقل: فلعنة الله عليهم؟ فأظهر جاء بالظاهر الذي هو الكافرين مقام المضمر الذي هو الضمير: فعلنة الله عليهم، لو قال: فلعنة الله عليهم. فُهم المراد، والعرب تأتي بالضمائر اختصارًا، فلماذا أظهر في موضع يصح فيه الإضمار على هذا التفسير أن فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ أي: اليهود؟

فلماذا لم يقل: فلعنة الله عليهم؟ فأظهر في موضع الإضمار؟ قال: ليدل على أن اللعنة بسبب كفرهم.

يعني: حينما يقول: فلعنة الله عليهم. لماذا لعنهم؟ لأنهم لما جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ كونهم مثلًا كفروا مع علم أم ماذا؟ لكن لما قال: فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ فُهِم منها أن سبب اللعنة هو الكفر، أظهر في موضع يصح فيه الإضمار ما قال فلعنة الله عليهم؟ لماذا؟ هنا فيه فائدة وهي: أنه دلنا على أن سبب اللعن هو الكفر.

قال: واللام للعهد. إذا قلنا: إنها للعهد فإن المقصود اليهود. فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ يعني المعهودين الذين ذكروا قبل قليل من اليهود، أو للجنس فيدخلون فيها مع غيرهم من الكفار يعني يكون هذا عام كما ذكر الشيخ عبد الرحمن السعدي في القاعدة: أنه إذا أراد أن يأتي بالحكم العام بعد قضية خاصة أو حال خاصة جاء بالحكم العام ليعُم هؤلاء وغيرهم. فتكون للجنس فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ كل الكافرين ليس فقط اليهود، يعني ليس بالضرورة فقط هؤلاء الذين جاءهم ما عرفوا فكفروا به وكانوا يستفتحون، لا، لو أنه كافر لأول وهلة وحصل منه من هذه التفاصيل فهو داخل في ذلك فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ.

  1. تفسير الطبري (2/254).
  2. لسان العرب (15/294).
  3. انظر: مجموع الفتاوى (14/71).
  4. الصواعق المرسلة في الرد على الجهمية والمعطلة (1/163).
  5. تفسير الطبري (2/262).
  6. التفسير الوسيط للواحدي (1/162).
  7. التحرير والتنوير (1/674).
  8. أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (1/39).
  9. مجموع الفتاوى (16/12).
  10. الصواعق المرسلة في الرد على الجهمية والمعطلة (1/163).
  11. تفسير السعدي = تيسير الكريم الرحمن (ص:56).
  12. تفسير ابن كثير (1/313).
  13. تفسير الطبري (2/273).
  14. تفسير ابن كثير (1/315).
  15. تفسير الطبري (2/293).
  16. تفسير ابن كثير (1/317).
  17. تفسير الطبري (2/303-304).
  18. أخرجه البخاري، كتاب الأدب، باب هجاء المشركين، رقم: (6152)، ومسلم، كتاب فضائل الصحابة -، باب فضائل حسان بن ثابت -، رقم: (2485).
  19. أخرجه البخاري، كتاب المغازي، باب مرض النبي ﷺ ووفاته، رقم: (4428).
  20. تفسير ابن كثير (1/324).
  21. مجموع الفتاوى (16/13).
  22. بدائع الفوائد (3/116).
  23. أخرجه مسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب الصفات التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنة وأهل النار، رقم: (2865).
  24. القواعد الحسان لتفسير القرآن (ص:122).

مواد ذات صلة