الجمعة 20 / جمادى الأولى / 1446 - 22 / نوفمبر 2024
(009-ب) من قوله تعالى "رب اجعل هذا بلداً ءامناً" الآية 125 - إلى قوله تعالى "ليضيع إيمانكم" الآية 142
تاريخ النشر: ٢٨ / صفر / ١٤٣٧
التحميل: 1637
مرات الإستماع: 2361

"لِلطَّائِفِينَ هم الذين يطوفون بالكعبة، وقيل: الغرباء القادمون على مكة، والأول أظهر.

وَالْعاكِفِينَ هم المعتكفون في المسجد، وقيل: المصلون، وقيل: المجاورون بمكة من الغرباء، وقيل: أهل مكة، والعكوف في اللغة: اللزوم، بَلَدًا يعني مكة، آمِنًا أي: مما يصيب غيره من الخسف والعذاب، وقيل: آمنًا من إغارة الناس على أهله؛ لأن العرب كان يغير بعضهم على بعض، وكانوا لا يتعرضون لأهل مكة، وهذا أرجح؛ لقوله: أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا [القصص:57]  أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ [العنكبوت:67] فإن قيل: لم قال في البقرة هذا بَلَدًا آمِنًا وفي إبراهيم: هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا [إبراهيم:35] فعرّف الْبَلَدَ في "إبراهيم" ونكَّر في "البقرة"؟

أجيب عن ذلك بثلاثة أجوبة:

الجواب الأول: قاله أستاذنا الشيخ أبو جعفر ابن الزبير، وهو أنه تقدّم في البقرة ذكر البيت، في قوله: الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ، وذكر البيت يقتضي بالملازمة ذكر البلد الذي هو فيه، فلم يحتج إلى تعريف، بخلاف آية إبراهيم، فإنها لم يتقدم قبلها ما يقتضي ذكر البلد، ولا المعرفة به، فذكره بلام التعريف.

الجواب الثاني: قاله السهيلي: وهو أن النبي ﷺ كان بمكة حين نزلت آية إبراهيم؛ لأنها مكية؛ فلذلك قال فيه: الْبَلَدَ بلام التعريف التي للحضور: كقولك: هذا الرجل، وهو حاضر، بخلاف آية البقرة، فإنها مدنية، ولم تكن مكة حاضرة حين نزولها، فلم يُعَرفها بلام الحضور؛ وفي هذا نظر؛ لأن ذلك الكلام حكاية عن إبراهيم فلا فرق بين نزوله بمكة، أو المدينة.

الجواب الثالث: قاله بعض المشارقة: أنه قال: هَذَا بَلَدًا آمِنًا قبل أن يكون بلدًا، فكأنه قال: اجعل هذا الموضع بلدًا آمنًا، وقال: هَذَا الْبَلَدَ بعد ما صار بلدًا، وهذا يقتضي أن إبراهيم دعا بهذا الدعاء مرتين، والظاهر أنه مرة واحدة حكي لفظه فيها على وجهين".

هذا الذي أضافه إلى بعض المشارقة، يقصد به الرازي، فالرازي[1]، ذكر هذا الجواب، وحاصله: أنه قال: اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا [إبراهيم:35] فأول مرة جاء لم يوجد بلد؛ لما وضع هاجر وإسماعيل قال: اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا لم يوجد بلد، وادٍ غير ذي زرع، فدعا أن يكون بلدًا، فلما جاء في المرة الأخرى، وكانت جُرهم قد نزلت مكة، فصار بلدًا، قال: اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا فدعا بعد وجود البلد، فهذا أوضح إن كان ذلك قد حصل مرتين، وأما إن لم يكن كذلك، فهذه الأجوبة لا تخلو من تكلف، والله تعالى أعلم، فالجواب الأول: أنه تقدم في البقرة ذكر البيت في قوله: الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ ومن ثم قال: اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا فما احتاج إلى تعريفه؛ لأنه قد مضى ما يُحدده، في قوله: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ فقال: اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا لكن هذا القول لا يخلو من إشكال؛ لأن ذكر القواعد جاء بعد هذا.

يقول في الجواب الثاني: وهو أن النبي ﷺ كان بمكة حين نزلت آية إبراهيم؛ لأنها مكية؛ فلذلك قال فيه: الْبَلَدَ بلام التعريف، التي للحضور: كقولك: هذا الرجل، وهو حاضر، بخلاف آية البقرة، فإنها مدنية، ولم تكن مكة حاضرة حين نزولها، فلم يُعَرفها، يعني أن (أل) تكون للعهد الحضوري اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ [إبراهيم:35] الذي نحن فيه مكة، وفي المدينة قال: اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا والله أعلم.

لكن كما قلت من قبل: بأن هذه الفروق اللفظية أنها ظنية، فما ظهر وجهه فلا بأس، وما كان متكلفًا فيُترك؛ لئلا يكون الإنسان قائلًا على الله بلا علم، ومن تتبع وتأمل ما يذكره البلاغيون، وأصحاب المصنفات، التي تتعلق بالمتشابه اللفظي في توجيه ذلك، حيث يذكرون أشياء يمكن أن يُعترض عليها بمواضع أخرى من القرآن، تدل على خلاف ما ذكروا، وهذا كثير؛ ولهذا بعض أهل العلم ينكر مثل هذا، والاشتغال به من أصله.

"مَنْ آمَنَ بدل بعض من كل".

قوله: وَارْزُقْ أَهْلَهُ "أهل" هنا مضاف إلى معرفة، فيفيد العموم، يعني ارزق جميع أهله، ثم قال: مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بدل بعض من كل، كأنه قال: وارزق من آمن من أهل مكة، فيكون ذلك مخصصًا بأهل الإيمان.

وبعض أهل العلم يقولون: أنه لما سأل مرة ثانية تأدب في السؤال، فسأل الرزق للمؤمنين، فبين الله له أن الرزق ليس كالإمامة، فالرزق يكون للمؤمنين والكفار، فقال: مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ.

"وَمَنْ كَفَرَ أي: قال الله: وأرزق من كفر؛ لأن الله يرزق في الدنيا المؤمن والكافر.

رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا على حذف القول أي: يقولان ذلك.

وَأَرِنا مَناسِكَنا أي: علمنا مواضع الحج وقيل: العبادات".

وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا يعني بيِّن لنا مشاعر الحج، ومواضع العبادة فيه، وعرفها لنا، فنراها، وقد مضى في الغريب الكلام على النسك، وأصل ذلك في اللغة، وهو في الشرع يقال: للعبادة نسك، فلان متنسك يعني متعبد، والمراد هنا مناسك الحج، وبعضهم خصه ببعضها، كمواضع الذبح، باعتبار أن الذبيحة يقال لها: نسيكة، لكن الأقرب أنه أعم من ذلك، وبعضهم يقول: جميع المتعبدات، يعني لا يختص بالحج وحده، فأعمال الحج يقال لها: مناسك، والعبادة يقال لها أيضًا: نُسك، والذبيحة يقال لها: نُسك.

يعني أن النُسك يطلق بإطلاق خاص على الذبيحة، ويطلق بإطلاق أوسع على العبادات التي تتعلق بالحج، ويطلق بإطلاق أوسع على سائر العبادات.

وابن جرير -رحمه الله- يقول: جمع مَنْسِك، هو الموضع الذي يُنسك لله فيه[2]، ويُتقرب إليه فيه بما يرضيه من عمل صالح، إما بذبح... إلخ ما قال، يعني الذبح، وغير الذبح.

قال: وأصل المنسك في كلام العرب الموضع المعتاد الذي يعتاده الرجل، ويألفه، ولهذا سميت المناسك لأنه تُعتاد ويُتردد إليها بالحج والعمرة[3].

فتكون أعمال الحج بما فيها الذبح يقال لها: مناسك.

وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا الرؤيا هنا تحتمل أن تكون بصرية، وهذا قد جاء في بعض الروايات، لكنها لا تصح، فهي من قبيل المراسيل، لتعليم جبريل لإبراهيم المناسك: الطواف، والسعي، والوقوف بعرفة، والمزدلفة، ومنى، وقال له: هل عرفت؟ قال: نعم، ثلاثًا[4].

فالمقصود أنه قيل: أن تلك الرواية رؤية بصرية، وهذا لا يصح، ويحتمل أن تكون رؤية علمية، يعني بالتعليم، والمعنى: علمنا مواضع الحج، وأعماله.

"فِيهِمْ أي في ذرّيتنا.

رَسُولًا مِنْهُمْ هو محمد ﷺ؛ ولذلك قال ﷺ: أنا دعوة أبي إبراهيم[5]، والضمير المجرور لذرية إبراهيم وإسماعيل، وهم العرب الذين من نسل عدنان، وأما الذين من نسل قحطان فاختلف هل هم من ذرّية إسماعيل أم لا؟

آيَاتِكَ هنا القرآن.

وَالْحِكْمَةَ هنا هي السنة".

الحكمة هنا هي السنة، فإذا ذُكرت مع الكتاب فهي السنة، هذا هو المتبادر، والغالب، والله تعالى أعلم، وهذا الذي قال به كثير من أهل العلم، من السلف، ومن بعدهم، مروي عن الحسن وقتادة ومقاتل، وأبو مالك، وغير هؤلاء وهو اختيار الحافظ ابن كثير[6].

وابن جرير حملها على معنى لا ينافي هذا، إذ يقول: بأن الحكمة يعني العلم بأحكام الله التي لا يُدرك علمها إلا ببيان رسول الله ﷺ[7]، فهو مأخوذ من الحُكم الذي بمعنى الفصل بين الحق والباطل، أي: وفصل قضائك، وأحكامك، وهذا يرجع إلى السنة وإن ذلك لا يوصل إليه -كما يقول- إلا بسنة رسول الله ﷺ.

"وَيُزَكِّيهِمْ أي: يطهرهم من الكفر والذنوب".

وأيضًا بمعنى: يرفعهم بالإيمان والطاعة؛ لأن التزكية تشمل الأمرين: تشمل التطهير، وتشمل أيضًا عمارة القلوب، وما يتبعها من الجوارح، بالإيمان والعمل الصالح، أصل هذه الكلمة -كما مضى في الغريب- زكى يزكو تدل على تطهير ونماء، فالزكاة التي شرعها الله في المال هي تطهير للنفس من الشُح، وتطهير للمال، وهي أيضًا نماء لهذا المال، وكذلك أيضًا تزكية النفوس قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا [الشمس:9] أي من طهرها من الشرك، والمعاصي والأرجاس، بالإضافة إلى عمارتها بالقلوب، كما قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: بأن ذلك بمثابة الزرع، فإنه لا يحصل تمامه إلا بتنقية المحل، يعني الأرض لا بد من استصلاحها وتنقيتها من الشوائب، والنباتات الطفيلية، ونحو هذا فيحصل بذلك نماء الزرع، فتطهير ونماء، هذه التزكية، فهنا ذكر الأول يطهرهم من الكفر والذنوب، ويضاف إليه ويرفعهم بالإيمان والطاعة.

"سَفِهَ نَفْسَهُ منصوب على التشبيه بالمفعول به، وقيل: الأصل في نفسه، ثم حذف الجار، فانتصب، وقيل: تمييز".

وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ يعني منصوب على التشبيه بالمفعول به، يعني أنه يُشبه المفعول به، وهو ليس بمفعول به، وقيل: الأصل في نفسِه، ثم حذف حرف الجر انتصب بنزع الخافض، حرف الجر، وقيل: تمييز، سفه ماذا؟ سَفِهَ نَفْسَهُ وبعضهم يقول المعنى: سَفِهَ نَفْسَهُ يعني إلا من كانت نفسه سفيهة، وهذا الذي اختاره ابن جرير[8]، وشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-، ومن المتأخرين: الطاهر بن عاشور[9].

وقال بعضهم: إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ أي: من ظلم نفسه، وامتهنها بجهله، وسوء تدبيره، بتركه الحق، هذا الذي قاله ابن كثير[10]، واختاره من المتأخرين: الشيخ عبد الرحمن بن سعدي[11]، وهذا في الواقع قريب من الذي قبله، فالذي يكون بهذه المثابة فإن نفسه سفيهة، وبعضهم يقول: سَفِهَ نَفْسَهُ أي: جهل أمر نفسه، فلم يفكر فيها، وضيعها، وقيل: أهلك نفسه، وهذا بنحو الذي قبله.

وبعضهم يقول: فعل بها من السفه ما صار به سفيهًا.

والمقصود إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ يعني إلا من كانت نفسه سفيهة، لا تميز بين ما ينفعها، أو يضرها، فيفعل بنفسه ما يكون سببًا لسفولها، وانحطاطها، وهلكتها، وهذا إنما يفعله الجاهل الذي لا يحسن النظر في عواقب الأمور، وما يجمل ويحسن، والسفه هو الخفة -كما سبق في الكلام في الغريب-، فالسفيه هو الذي لا يحسن التدبير والتصرف، فالذي يرغب عن ملة إبراهيم هذا يكون سفيهًا قد ضيع نفسه، وأهلكها.

يُؤخذ منه: أن كل من أعرض عن هذا الدين ففيه من السفه بحسب إعراضه، فإذا كان إعراضه كليًا، فهو غاية في السفه، فهؤلاء سفهاء؛ ولهذا قال الله : سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا [البقرة:142] فسماهم سفهاء، وقد يكون بعض هؤلاء من أعلم الناس بالدنيا، وتدبير المعايش، ولكنهم في جهلهم بالحق هم سفهاء، في إعراضهم عنه، وتركهم له، قد يكون في غاية الذكاء، وغاية العلم، ولكنه سفيه؛ لأنه لا يحسن التدبير والتصرف، وأعظم التدبير هو التدبير لآخرته، وعمارة النفس والقلب بالإيمان، والعمل الصالح، هذا أعظم التدبير الذي يتحقق به سعادة الدنيا والآخرة، فإذا تركه واشتغل في طلب لقمة، وتدبير معيشة قريبة يجفوها أو تجفوه عما قريب، فهذا في غاية السفه، لم يجاوز نظره أنفه، يعني يكون مثل البهيمة، إنما غاية ما يُفكر فيه هو هذه الأشياء القريبة: الأكل والشرب والنكاح، ويعيش لهذا.

"وَأَوْصَى بِهَا أي: بالكلمة والملة".

هذه قراءة نافع وابن كثير وابن عامر، والقراءة الأخرى قراءة الجمهور: وَوَصَّى بِهَا والمعنى واحد، إلا أن (وصّى) تدل على التكثير؛ لأن زيادة المبنى يدل على زيادة المعنى.

وَوَصَّى و (وأوصى) أي بالكلمة والملة، والكلمة هي قوله: إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ۝ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ [البقرة:131-132] وبعضهم يقول: الضمير يعود على الملة المتقدمة في قوله: وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ۝ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ۝ وَوَصَّى بِهَا [البقرة:130-131] ووصى بها، أي الملة، وهي: فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ.

ويمكن أن يرجح أنها الكلمة، وهي أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ باعتبار أنها أقرب مذكور، والضمير يرجع إلى أقرب مذكور، وهذا الذي اختاره صاحب البحر[12]، أعني أبا حيان، باعتبار أنه مصرح به، بخلاف الكلمة.

إضافة إلى أن الملة أجمع من عبارة من قال: الكلمة.

والقولان بينهما ملازمة، لكن الكلام في الضمير هنا، إلى ماذا يرجع من جهة اللفظ؟ فيحتمل أن يرجع إلى قوله: أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ، ويحتمل أن المقصود الملة المذكورة قبل ذلك، ووصيته إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ فهذا يصدق على قوله: أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ۝ وَوَصَّى بِهَا ويصدق على الملة، فإنه قوله: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فهذا هو الملة التي اختارها لهم.

"وَيَعْقُوبُ بالرفع عطف على إِبْرَاهِيمُ، فهو موصي، وقرئ بالنصب عطفًا على بَنِيهِ فهو موصى".

يعني القراءة بالنصب شاذة، والقراءة المتواترة وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ إبراهيم موصي، بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يعني يعقوب أيضًا وصّى أبناءه، ويدل عليه قوله تعالى: أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ الآية، فهذه وصية إبراهيم ووصية يعقوب فكلهم أوصى بنيه بهذا.

أما أن يعقوب موصى (ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوبَ) يعني وصى يعقوب أيضًا مع أبنائه، وهو حفيده، فهذه القراءة شاذة، لكن هذا المعنى يدخل في جملة قوله: بَنِيهِ فهو من أبنائه، فابن الابن ابن وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ لكن القراءة سنة متبعة، فهذه هي القراءة المتواترة وَيَعْقُوبُ أي وصى يعقوب بنيه، لكن من جهة المعنى فإن يعقوب داخل في جملة أبناء إبراهيم، الذين أوصاهم بلزوم هذه الملة، وهي الإسلام، وكذلك يعقوب أوصى بنيه، والله أعلم.

"أَمْ كُنْتُمْ أم هنا منقطعة معناها الاستفهام والإنكار".

(أم) هنا منقطعة، بمعنى (بل والهمزة) وبعضهم يقول: متصلة.

يقول: معناها الاستفهام أَمْ كُنْتُمْ والإنكار، وابن جرير -رحمه الله- حمل الخطاب على اليهود والنصارى[13]، أن هذا على سبيل الرد عليهم والإنكار.

والحافظ ابن كثير حمله على المشركين من العرب والكفار من بني إسرائيل[14]؛ لأن الكل يدعي أنه على ملة إبراهيم فالعرب كانوا يقولون ذلك، واليهود والنصارى كل طائفة تدعي أن إبراهيم منها، فيقول لهم: أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ فهو يوصي أبناءه بالإسلام مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي لكن هنا بالنسبة للعرب لو كان في إبراهيم لكان له وجه، لكن المراد هنا يعقوب فتوجيه هذا إلى بني إسرائيل -الكفار منهم- هو الأقرب، كما قال ابن جرير، والله أعلم.

"وَإِسْمَاعِيلَ كان عمه، والعم يسمى أبًا".

"والعم يسمى أبًا" هذا موجود إلى الآن، فهنا: قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ فيعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، وإسماعيل عمه، فقالوا: نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ وذكر إسماعيل في جملة الآباء، وهو عم، فدل على أن العم بمنزلة الأب.

"وَقالُوا كُونُوا أي: قالت اليهود: كونوا هودًا، وقالت النصارى: كونوا نصارى".

وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى فـ(أو) هذه ليست للتخيير؛ لأن اليهود لا يقولون: إن النصارى على حق، والنصارى لا يقولون: إن اليهود على حق، فليست للتخيير، وإنما هي للتقسيم، يعني اليهود قالوا: كونوا هودًا، والنصارى قالوا: كونوا نصارى.

"بَلْ مِلَّةَ منصوب بإضمار فعل".

إضمار فعل، يعني: بل نتبع ملة، أو بل اتبعوا ملة، يعني الذي عمل فيه النصب، فعل مقدر محذوف اتبعوا ملة، أو بل اتبعوا ملة، أو الزموا ملة، أو على نزع الخافض والتقدير: نقتدي، أو اقتدوا بملة إبراهيم، ولما حذف حرف الجر صار منصوبًا.

"لا نُفَرِّقُ أي: لا نؤمن بالبعض دون البعض، وهذا برهان؛ لأن كل من أتى بالمعجزة فهو نبي، فالكفر ببعضهم والإيمان ببعضهم تناقض".

"وهذا برهان" البرهان هو الدليل القاطع للعذر، أهل المنطق يطلقونه على القياس العقلي، المؤلَّف من اليقينيات، ويسمونها البرهان، وتجدون هذا في كلامهم كثير، نوع من الأقيسة العقلية، يسمى البرهان، وقد مضى الكلام عليه في شرح كتاب (قواعد الأصول ومعاقد الفصول) في أصول الفقه، في أواخره ذكر البرهان، ذكر أشياء منطقية في الأقيسة، منها القياس العقلي، والقياس العقلي المبني على اليقينيات يقال له: البرهان.

فهنا يقول: "هذا برهان" ولا يقصد مطلق الدليل، وإنما يقصد مصطلح معين عند أهل المنطق، الدليل قياس عقلي مبني على اليقينيات، ومقدمات الأقيسة -كما هو معروف- يكون مقدمة أولى، ومقدمة ثانية، ثم نتيجة مثلًا، فإذا كانت هذه المقدمات يقينية، فهذا عندهم برهان على تفاصيل كثيرة لهم في هذا، فهنا لَا نُفَرِّقُ لا نؤمن بالبعض دون البعض هذا برهان؛ لأن كل من أتى بالمعجزة فهو نبي، فالكفر ببعضهم والإيمان ببعضهم تناقض، يعني إذا كنت تؤمن بموسى وتقول: لأنه جاء بالمعجزة، طيب فلماذا لم تؤمن بعيسى وقد جاء بمعجزات؟! ولماذا لم تؤمن بمحمد ﷺ وقد جاء بمعجزات؟ وأعظم هذه المعجزات القرآن، والتحدي قائم، فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ [البقرة:23]؟!، فهذا تفريق بلا موجب، يلزمكم الإيمان بجميع الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام-؛ لأنهم جاءوا بالمعجزات.

"فَسَيَكْفِيكَهُمُ وعد ظهر مصداقه بقتل بني قريظة، وإجلاء بني النضير، وغير ذلك".

فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ هذا مثال لما حصل من إجلاء بني النضير، وقتل بني قريظة، وإظهاره الله على أهل خيبر، وكفاه الله ما كانوا يدبرون، من محاولة قتله ﷺ، والمعنى يشمل هذا وغيره.

"صِبْغَةَ اللَّهِ أي: دينه، وهو استعارة من صبغ الثوب وغيره، ونصبه على الإغراء، أو على المصدر، من المعاني المتقدمة، أو بدل من مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ".

صِبْغَةَ اللَّهِ أي دينه، وهذا قال به أكثر السلف، منقول عن ابن عباس، ومجاهد، وأبي العالية، وعكرمة، وإبراهيم النخعي، والحسن، وقتادة، والضحاك، والعوفي، وعبد الله بن كثير، والربيع بن أنس، والسُّدي.

قال: "وهو استعارة من صبغ الثوب وغيره" باعتبار أن الصِّبِغ يظهر أثره واضحًا جليًا على المصبوغ، فصبغة الله هي دينه، وهذا يظهر على سمت صاحبه، فيظهر في أفعاله وهديه ودله وسمته، فيتميز بذلك، هذا هو المشهور.

وبعض المعاني التي يذكرها السلف ترجع إلى هذا، وبعضهم: كقتادة قال في قوله: صِبْغَةَ اللَّهِ بأن اليهود تصبغ أولادها يهودًا، والنصارى تصبغ أولادها نصارى[15]، وإن صبغة الله هي الإسلام، فهذا يرجع إلى ما سبق.

يقول: "ولا صبغة أحسن من صبغة الإسلام، ولا أطهر" وبنحو هذا المعنى قال ابن جرير -رحمه الله-[16]، فهذا يرجع إلى معنى الدين.

وبعضهم ذكر بعض المعاني، فقال: صِبْغَةَ اللَّهِ أي: الاغتسال لمن أراد الدخول في الإسلام، فهذه صبغة الله، وبعضهم يقول: الختان، وبعضهم عبّر بعبارة قريبة فقال: تطهير الله.

وفسره مجاهد بالفطرة، صِبْغَةَ اللَّهِ أي فطرة الله[17]، والواقع أن الدين تطهير، ومن شرائع الدين الختان، وسنن الفطرة، والدين هو دين الفطرة، فصبغة الله هي دينه، بعض أهل العلم يقولون: كان النصارى إذا ولد المولود يصبغونه بماء أصفر، يقال له: ماء المعمودية، يسمونها التعميد، فإذا صبغوه بهذا -غمسوه بهذا الماء- قالوا: الآن صار نصرانيًا، فالله يقول: صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً فصبغته هي دينه، كما قال الشاعر:

وكُلُّ أُنَاسٍ لَهُمْ صِبْغَةٌ وَصِبْغَةُ هَمْدَانَ خَيْرُ الصِّبَغِ
صَبَغْنَا عَلَى ذَلِكَ أَبْنَاءَنَا فَأَكْرِمْ بِصِبْغَتِنَا فِي الصِّبَغِ[18]

فهي ما يظهر على الإنسان من الدين، في أعماله، وأحواله، وأقواله، وسمته، وهديه، فيتميز بذلك عن غيره، صِبْغَةَ اللَّهِ تصبغ بها القلوب بالإيمان، والاعتقاد الصحيح، بعيدًا عن الشرك والرجز، والاعتقادات الفاسدة، وتصبغ بها الجوارح، وتصبغ بها اللسان، ويصبغ بها ظاهر الإنسان فيتميز عن غيره، فإذا رأيته علمت أنه من أهل الإسلام، يرى ذلك في وجهه، من الاستنارة، وعلامات الفطرة، ويدخل فيه إعفاء اللحية، والسمت الحسن، ويدخل فيه الأعمال التي شرعها الله -تبارك وتعالى-، فيقوم بها ظاهرًا وباطنًا، فهذه صبغة الله، يصطبغ بها في باطنه وظاهره؛ ولهذا كان التشبه بالكفار هو خروج عن هذه الصبغة، وكان الترك لشرائع الدين، والعمل بها، ومخالفة ذلك هو نقص في هذه الصبغة، فيتكدر القلب، ويتكدر اللسان، ويحصل الانحراف في أعمال الجوارح، ويظهر أثر ذلك على الوجه، حتى يتلاشى أثر هذه الصبغة، فلا تمييز بين هذا المسلم وهذا الوثني، أو النصراني، أو اليهودي، ترى صورًا وأشكالًا، لا تدري هل هذا مسلم أو غير مسلم؟  مع أن اللائق أن المسلم حينما تراه تعرف ذلك، وكلما تحقق بالإيمان، وبصبغة الله كان فيه ذلك أظهر، تظهر عليه أنوار السنة؛ ولذلك فإن أهل البدع يظهر على وجوههم من أثر البدعة بحسب بدعهم، قد تجد أثر العبادة في جبينه، أو نحو ذلك، لكن الوجه أسود، مظلم، إذا رأيته تنقبض منه؛ لما ترى من ظلمة البدعة في وجهه، وهذا مشاهد في طوائف من أهل البدع الغليظة، كالرافضة، ونحوهم، تميزه من بين ملايين الناس، مباشرة تعرف أن هذا صاحب هوى وبدعة، ونحو ذلك، فهذا داخل في قوله: صِبْغَةَ اللَّهِ والله المستعان.

يقول: "ونصبه على الإغراء، أو على المصدر، من المعاني المتقدمة، أو بدل من مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ" أي الملة التي جعلها الله شعارًا كالصبغة عند اليهود والنصارى، أي الزموا صبغة الله، وبعضهم يقول: مفعول مطلق، نائب عن عامله، يعني صبغنا صبغة الله، أو أنه وصف لمصدر محذوف، دل عليه فعل (آمنا بالله) والتقدير آمنا إيمانًا، صبغة الله، أو على التمييز، فهذا يحتمل، لكن معنى الصبغة هي الدين، وكثير من المعاني المذكورة ترجع إليه، والقول بأن هذا على الإغراء، قريب، والله أعلم.

"كَتَمَ شَهادَةً هي الشهادة بأن الأنبياء على الحنيفية.

مِنَ اللَّهِ يتعلق بـكَتَمَ أو بـعنده كأن المعنى شهادة تخلصت له من الله".

يعني ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله، أي شهادة تخلصت له من الله، يعني وصلت إليه من الله، عن طريق الكتاب، والوحي الذي بين أيديهم، ويحتمل أن يتعلق بـ(عنده).

"سَيَقُولُ ظاهره الإعلام بقولهم قبل وقوعه، إلا أن ابن عباس قال: نزلت بعد قولهم".

سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ ظاهره أن ذلك قبل الوقوع، قال: "إلا أن ابن عباس قال: نزلت بعد قولهم" فيكون عبّر بالمستقبل للدلالة على استدامته، أي إنهم لا يزالون يرددون مثل هذه، ويلوكونها بألسنتهم.

ابن عباس -ا- روى في سبب نزول سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ أن نفرًا من اليهود جاءوا إلى النبي ﷺ وقالوا: يا محمد ما ولاك عن قبلتك التي كنت عليها، يعني بيت المقدس؟، يعني بعد ما حولت القبلة، يقول: فنزلت الآية، معناها أنها نزلت بعد تحويل القبلة، وبعد قولهم، هذا على قول ابن عباس، لكن هذه الرواية لا تصح عن ابن عباس[19]، ولا تصح في سبب النزول أصلًا، وهكذا جاء عن السدي بأن السبب هو اعتراض المنافقين؛ ولهذا فإن بعضهم قال: سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ المراد اليهود، وبعضهم قال: اليهود والمنافقون، لكن الرواية هنا عن السُّدي بأنها نزلت بسبب قول المنافقين لا يصح، فإذا كان هذا لا يثبت في سبب النزول، فيبقى على ظاهره أن ذلك قبل قولهم، فالله أعلم بذلك قبل وقوعه، وأعلمهم قبل وقوعه ليكون ذلك تخفيفًا لوطأته، ووقعه على نفوس أهل الإيمان، فإذا قيل، تكون النفوس قد مهدت لمثل هذا، فلا يحصل بسبب ذلك انزعاج لها، ولا اضطراب.

"السُّفَهاءُ هنا اليهود أو المشركون، أو المنافقون".

جاء عن ابن عباس -ا- أن السفهاء: هم اليهود[20]، وكذلك قال مجاهد[21] أو المشركون، وبعض أهل العلم يقولون: بأن مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا ما حولهم عن مكة، ولكن هذا بعيد، أو المنافقون بناء على قول السُّدي[22].

وجاء في حديث البراء بن عازب في الصحيحين: وقال السفهاء من الناس وهم اليهود[23].

وفسره ابن جرير: باليهود والمنافقين[24]، لكن إذا قلنا: بأن ذلك لا يصح في سبب النزول بالنسبة للمنافقين، فيبقى أن ذلك في اليهود، وكل ما صدر عنه ذلك -وإن كان من غيرهم- فهو سفيه؛ لأنه قد قال: سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ قاله في اليهود، وهم أهل كتاب، وأهل علم، ومع ذلك قال: سفهاء، فقد يكون الإنسان مع العلم الذي لا يعمل به، ويخالف مقتضاه يكون بذلك سفيهًا.

"ما وَلَّاهُمْ أي: ما ولى المسلمين".

يعني ما صرفهم وحوّلهم؟ ومضى الكلام على أصل هذا الفعل، وهو (ولى) إذا عُدي بـ(عن) اقتضى معنى الإعراض والترك مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا وإذا عُدي بنفسه اقتضى معنى الولاية.

"عَنْ قِبْلَتِهِمُ الأولى، وهي بيت المقدس إلى الكعبة.

لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ الآية رد عليهم بأن الله يحكم ما يريد، ويولي عباده حيث شاء؛ لأن الجهات كلها له.

وَكَذلِكَ بعد ما هديناكم".

يعني وكذلك كما هديناكم يعني إلى أفضل قبلة.

"جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطًا أي: خيارًا".

في حديث أبي سعيد فسره رسول الله ﷺ: عدلًا[25]، هذا في البخاري، فهذا هو التفسير النبوي: أُمَّةً وَسَطًا أي عدلًا.

وابن جرير -رحمه الله- يقول: بأن المراد بالوسط توسطهم بين الغلو والتفريط[26]، واعتبر تفسير ذلك بالعدل والخيار أنه يرجع إلى معنى واحد، فمن قال: خيارًا، أو قال: عدولًا، فالمعنى واحد.

والعلماء يقولون -بعبارة كثيرًا ما يذكرونها- عدولًا خيارًا، والمعنى واحد، كما قال الله : كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران:110] هذا معنى خيارًا تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران:110]، وفي حديث معاوية بن حيدة مرفوعًا: أنتم توفون سبعين أمة، أنتم خيرها وأكرمها على الله[27].

"شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ أي تشهدون يوم القيامة بإبلاغ الرسل إلى قومهم".

كما في حديث أبي سعيد مرفوعًا إلى النبي ﷺ: يجيء النبي يوم القيامة ومعه الرجل، والنبي ومعه الرجلان، وأكثر من ذلك، فيُدعى قومه فيقال لهم: هل بلغكم هذا؟ فيقولون: لا، فيقال: هل بلغت قومك؟ فيقول: نعم، فيقال له: من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمته، فيُدعى وأمته فيقال لهم: هل بلغ هذا قومه؟ فيقولون: نعم، فيقال: وما عِلْمكم؟ فيقولون: جاءنا نبينا فأخبرنا أن الرسل قد بلغوا، فذلك قوله: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا[28]، فهذا تفسير نبوي، لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ: يعني تشهدون يوم القيامة أن الأنبياء قد بلغوا قومهم.

"عَلَيْكُمْ شَهِيدًا أي: بأعمالكم".

وقيل: على صدق شهادتهم على تبليغ الرسل.

وقيل: بأنه بلغهم.

وقيل: بأنهم آمنوا به، وبما جاء به، يشهد عليهم بهذا.

"قال -عليه الصلاة والسلام-: أقول كما قال أخي عيسى: وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا ما دُمْتُ فِيهِمْ [المائدة:117] الآية، فإن قيل: لم قدّم المجرور في قوله: عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وأخره في قوله: شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ؟ فالجواب: أن تقديم المعمولات يفيد الحصر، فقدّم المجرور في قوله: عَلَيْكُمْ شَهِيدًا لاختصاص شهادة النبي ﷺ بأمته، ولم يقدّمه في قوله: شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ لأنه لم يقصد الحصر".

هذا المعنى الذي ذكره هو في الفروقات اللفظية لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وفي شهادة النبي ﷺ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا فقصد الحصر في هذا الموضع، وأما شهادتهم على الناس، فهي عامة لا يقصد بها الحصر، وبعضهم يقول: لأن الغرض في الأول هو إثبات شهادة هذه الأمة على الأمم، وفي الثاني: لإفادة اختصاصهم بشهادة النبي ﷺ عليهم، فيكون من باب تقديم الأهم وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ ما قال: ويكون الرسول شهيدًا عليكم.

فالمقصود هنا في هذا المقام الذي يتعلق بشهادتهم على الأمم لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ جعل الجار والمجرور مؤخر، لإثبات هذه المزية، والمنقبة لهم بالشهادة، لذا قدمها، فجاء الكلام على هذا النسق لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ فهذه منقبة لهذه الأمة بشهادتهم على الأمم.

وفي شهادة النبي ﷺ عليهم، قال: وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا فقدمهم لاختصاصهم بشهادته -عليه الصلاة والسلام-؛ ولتشريفهم بذلك، قدمهم هم على الشهادة فقال: وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ولم يقل: ويكون الرسول شهيدًا عليكم؛ لأن المهم هنا هو المشهود عليهم، وهم هذه الأمة، فهم يختصون بشهادة النبي ﷺ يريد هذا.

وكما قلت: مثل هذه الفروقات هي أمور ظنية، وهي غاية من هنالك أنها من المُلح، ولا يتوقف عليها فهم المعنى، فلو تُركت فالمعنى قد يُفهم بعيدًا عنها.

فالمقصود أن المنة حاصلة من الجهتين والجانبين: بشهادتهم على الناس فقدمها لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ، وبشهادة الرسول ﷺ عليهم، قدم عليكم، فذلك يختص بهم، فهذه المنة حاصلة في هذا وهذا، والله أعلم.

"الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها فيها قولان:

أحدهما: أنها الكعبة، وهو قول ابن عباس[29].

والآخر: هو بيت المقدس، وهو قول قتادة وعطاء والسدّي[30]".

وهذا اختيار ابن كثير[31]، والامتحان حصل لما حولوا من بيت المقدس إلى الكعبة وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا التي هي بيت المقدس، هذا الذي عليه الأكثر، ويدل عليه ظاهر السياق، والله أعلم.

"وهذا مع ظاهر قوله: كُنْتَ عَلَيْها لأن النبي ﷺ كان يصلي إلى بيت المقدس، ثم انصرف عنه إلى الكعبة، وأما قول ابن عباس: فتأويله بوجهين".

يعني هنا يوجه قول ابن عباس -ا-: أن المقصود بـوَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا يعني الكعبة.

"الأول: أن (كنت) بمعنى أنت".

يعني (وما جعلنا القبلة التي أنت عليها) يعني الآن، وهي بعد النسخ وبعد التحويل إلى الكعبة، إِلَّا لِنَعْلَمَ الذي كنت عليها الآن، فهي الكعبة هذا توجيه.

"والثاني: قيل: إن النبي ﷺ صلى إلى الكعبة قبل بيت المقدس.

وإعراب الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها مفعول بـ(جعلنا)، أو صفة للقبلة، ومعنى الآية على القولين: اختبار وفتنة للناس بأمر القبلة، وأما على قول قتادة: فإن الصلاة إلى بيت المقدس فتنة للعرب؛ لأنهم كانوا يعظمون الكعبة، أو فتنة لمن أنكر تحويلها، وتقديره على هذا: ما جعلنا صرف القبلة [التي كنت عليها، وهذا أظهر؛ لأن الفتنة إنما وقعت عند صرف القبلة]، وأما على قول ابن عباس: فإن الصلاة إلى الكعبة فتنة لليهود؛ لأنهم يعظمون بيت المقدس، وهم مع ذلك ينكرون النسخ، فأنكروا صرف القبلة، أو فتنة لضعفاء المسلمين، حتى رجع بعضهم عن الإسلام حين صرفت القبلة".

يعني وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إذا قلنا بأن المقصود بيت المقدس، فهي فتنة بهذا الاعتبار لليهود؛ لكونهم يعظمون بيت المقدس، فما الذي حوله عنه مثلًا؟ وهذا في الواقع لا يخلو من بُعد.

وإنما كانت فتنة لمن فُتن بذلك من ضعفاء المسلمين، شق عليهم تحويل القبلة، كما قال الله: وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ.

فما جعلنا القبلة التي هي بيت المقدس، وإذا قيل: بأن ذلك هو الكعبة، على قول ابن عباس -ا- التي أنت عليها الآن، يعني هذا يقتضي التحويل إِلَّا لِنَعْلَمَ يعني بعد أن حُوّلت من بيت المقدس، وكذلك أيضًا إذا حُمل ذلك على كون النبي ﷺ بمكة، كان يصلي إلى الكعبة، والواقع الذي عليه الجمهور أن النبي ﷺ كان يصلي إلى الكعبة، ويجعلها بينه وبين بيت المقدس، حينما كان بمكة، فلما هاجر إلى المدينة لم يتأتى ذلك؛ لأن الكعبة تكون جنوبًا، وبيت المقدس شمالًا، فوجه إلى بيت المقدس، فكان ذلك فتنة للعرب، أو للمشركين، حيث كانوا يعظمون الكعبة، فتساءلوا لماذا ترك التوجه إليها وهو يقول: إنه على ملة إبراهيم؟

لكن الأقرب -والله أعلم- وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا وهي بيت المقدس فما حصل من النسخ والتحويل إلى الكعبة كان ذلك فتنة؛ لأن القبلة شعار، والله يقول: وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وحصل اضطراب لدى الكثيرين، وأرجف اليهود بهذه القضية، مع علمهم أن هذا التحويل -كما سيأتي- حق، وأنه من عند الله -تبارك وتعالى-، وأن هذه قبلة الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام-.

"لِنَعْلَمَ أي: العلم الذي تقوم به الحجة على العبد، وهو إذا ظهر في الوجود ما علمه الله".

بنحو هذا قال أهل العلم: كابن كثير، وغيره، وعبارة ابن القيم: شاء أن يُعلم معلومه الغيبي عيانًا، مشاهدًا، يعني علم الظهور والانكشاف لِنَعْلَمَ العلم الذي يترتب عليه الجزاء، وإلا فالله يعلم ما كان، وما يكون.

"يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ عبارة عن الارتداد عن الإسلام، وهو تشبيه بمن رجع يمشي إلى وراء.

وَإِنْ كانَتْ إن مخففة من الثقيلة، واسم (كان) ضمير الفعلة، وهي التحول عن القبلة".

على قول البصريين أنها مخففة من الثقيلة، واسم (كان) ضمير الفعلة، وهي التحول عن القبلة، لكن على قول الفرّاء تكون نافية، وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً يعني وما كانت كبيرة على الذين هدى، لكن قول البصريين أظهر، والله أعلم.

"إِيمانَكُمْ هنا قيل: صلاتكم إلى بيت المقدس، واستدل به من قال إن الأعمال من الإيمان، وقيل: معناه: ثبوتكم على الإيمان حين انقلب غيركم بسبب تحويل القبلة".

وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ أي صلاتكم إلى بيت المقدس، وهذا مروي عن ابن عباس -ا-، والبراء بن عازب وقتادة، والسدي، والربيع بن أنس، وابن زيد[32]، وهو قول أكثر أهل العلم من السلف، فمن بعدهم.

وبعض أهل العلم يقول: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ يعني ثواب أعمالكم وصلاتكم، فإذا قيل: بأن معنى وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ يعني صلاتكم إلى بيت المقدس، وهذا يستلزم قول من قال: بأن المراد الثواب، وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ يعني ثوابها، إذا كان فُسر بصلاتكم إلى بيت المقدس؛ لأنها هي المعني بالسياق، فالثواب من لوازمه.

وجاء عن ابن عباس -ا- وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ يعني بالقبلة الأولى[33]، وقيل غير هذا، لكن المشهور وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ أي صلاتكم إلى بيت المقدس، فالعمل إيمان، الصلاة إيمان، ولا إشكال. قال: "واستدل به من قال: إن الأعمال من الإيمان" وهذا قول أهل السنة "وقيل: معناه: ثبوتكم على الإيمان حين انقلب غيركم بسبب تحويل القبلة" وسبب النزول كما في حديث البراء بن عازب في تحويل القبلة، وفيه: أنه مات على القبلة قبل أن تحول رجال قُتلوا، فلم ندرِ ما نقول فيهم؟ فأنزل الله: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ وهذا مخرج في الصحيحين[34]، فكان سبب النزول هو هذا التساؤل عن أولئك الذين قضوا وماتوا قبل تحويل القبلة، وعن صلاتهم إلى بيت المقدس هل كانت محتسبة لهم؟ أو أن ذلك قد ذهب، ولا تحتسب هذه الصلاة؟، فيكون سبب النزول قطعي الدخول في العام، وإخراجه بالاجتهاد ممنوع، هذه قاعدة بأسباب النزول.

أسئلة:

س: يقول: أرجو التوضيح، لما قدم النبي ﷺ على المدينة سُئل عن صوم اليهود يوم عاشوراء، فقال: لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع[35]، كيف وقد مكث النبي ﷺ مدة إحدى عشرة سنة، الخمس سنوات الأولى واليهود فيها، كيف يكون التوفيق إلى قابل؟

ج: النبي ﷺ وجدهم يصومون حينما هاجر، فسأل عن ذلك، فقال: نحن أحق بموسى منهم[36] لكنه قال: لئن بقيت إلى قابل[37] يعني في آخر عهده ﷺ في آخر المدة التي كان فيها في المدينة، فقُبض رسول الله ﷺ قبل ذلك.

س: يقول: كيف نميز بين التفسير بالمثال، والتحديد في أقوال السلف؟

ج: يكون معنى العموم ظاهر من السياق، فيُذكر بعض الأمثلة، يعني مثلًا: فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ [فاطر:32] فيقول: الظالم لنفسه هو الذي يصلي بعد خروج الوقت، أو في آخر الوقت، والمقتصد: هو الذي يصلي في وسط الوقت، والسابق: هو الذي يصلي في أول الوقت، فهذا لا يوجد دليل على حصر ذلك في الصلاة، لكنه أراد التمثيل، فأحيانًا يكون هذا ظاهر، وأحيانًا يكون محتملًا، من اللفظ والسياق، ونحو ذلك، وهم عرب خُلّص فيفهمون العموم، ومحامل الألفاظ، فيحمل تفسيرهم أحيانًا على أن ذلك من قبيل المثال، وقد يقال من قبيل اللازم، بمعنى أنه ليس هو بالتفسير المطابق للفظه.

س: يقول: من المعلوم أن مقام إبراهيم كان ملاصقًا للكعبة في زمن النبي ﷺ وسيدنا أبي بكر إلى أن اجتهد عمر بتغيير مكانه إلى ما هو عليه حاليًا، ما الحكمة التي دفعت لهذ؟

ج: الحكمة هي التوسعة على الناس في الطواف، ثم أُبعد أيضًا أكثر، كان أقرب إلى الكعبة، ثم أبعد أكثر في التوسعة الثانية للحرم.

...........

فائدة:

الأفراد الداخلة تحت العام على مراتب ثلاث:

الأولى: مرتبة قطعية، مثل سبب النزول.

الثانية: مرتبة وسط، وهي مثل ما يدخل في العموم بطريق المجاورة، فيكون له مزيد قوة، التي هي وجود ارتباط في اللفظ بالمناسبة، جاء بعده مباشرة، أو نحو ذلك، مثل: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا [النساء:58] فالأمانات لفظ عام، إذا نظرت إلى سبب النزول، وإن كان لا يصح من جهة الرواية، لكن المقصود التقريب بالمثال، في قصة مفاتيح الكعبة قال: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا فهذا قطعي الدخول في العام، والمجاور ما هو؟ قصة اليهود لما سُئلوا نحن أهدى أم محمد؟ سألهم المشركون، فقالوا: أنتم أهدى من محمد، قال الله: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا ۝ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا ۝ أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا ۝ أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا ۝ فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا ۝ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا ۝ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحَاتِ [النساء:51-57]  إلى أن قال بعده: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا فكتمان هذه الشهادة هو تضييع للأمانة، لكن هذه وردت بسبب قصة مفاتيح الكعبة عام الفتح سنوات، فهذا حينما ذهب بعض اليهود بعد أُحد إلى مكة يحرضون على غزو المدينة واستئصال المسلمين، فجاءوا في الأحزاب، فسألهم المشركون نحن أهدى أم محمد؟[38] قالوا: أنتم أهدى من محمد، وإن كانت الرواية لا تخلو من ضعف أيضًا من جهة الإسناد.

فهذا سبب النزول، وهو مفاتيح الكعبة لو صح، الداخل في المناسبة والمجاورة، وهي شهادة هؤلاء الكتمان، فهذا تضييع للأمانة، فهذا أقوى من سائر الأفراد في الأمانات، فالأمانات لفظ عام يدخل فيها أمانات كثيرة، فأقوى ما يدخل فيها سبب النزول، ثم كتمان الشهادة بالحق، لماذا؟ لأنه مذكور قبله في الآيات، وإن كان لا تعلق له بسبب النزول، ثم بقية الأفراد التي لم يرد لها في السياق أي تعلق، بقية الأمانات، لو صحت الرواية، لكن لا تصح.

  1. تفسير الرازي = مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير (4/49).
  2. تفسير الطبري (3/79).
  3. تفسير الطبري (3/80).
  4. مسند أحمد (4/436-2707) وقال محققو المسند: "رجاله ثقات رجال الصحيح غير أبي عاصم الغنوي".
  5. أخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق (1/173) وصححه الألباني في صحيح الجامع (1/306-1463) ولفظه: ((أنا دعوة إبراهيم)) ونسبه لكتاب ابن عساكر.
  6. تفسير ابن كثير (1/444-445).
  7. تفسير الطبري (3/87).
  8. تفسير الطبري (3/90).
  9. التحرير والتنوير (1/725).
  10. تفسير ابن كثير (1/445).
  11. تفسير السعدي = تيسير الكريم الرحمن (ص:66).
  12. البحر المحيط في التفسير (1/636).
  13. تفسير الطبري (3/97).
  14. تفسير ابن كثير (1/447).
  15. تفسير الطبري (3/118).
  16. تفسير الطبري (3/118).
  17. تفسير الطبري (3/119).
  18. للشاعر يزيد ابنُ ذي المشعال الهمداني، كما في شمس العلوم ودواء كلام العرب من الكلوم (6/3652).
  19. تفسير الطبري (3/132).
  20. تفسير الطبري (3/130).
  21. تفسير الطبري (3/130).
  22. تفسير الطبري (3/130).
  23. أخرجه البخاري في كتاب الصلاة، باب التوجه نحو القبلة حيث كان برقم (399) ومسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب تحويل القبلة من القدس إلى الكعبة برقم: (525) وليس في مسلم التفسير المذكور.
  24. تفسير الطبري (3/131).
  25. أخرجه البخاري في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب قوله تعالى: {وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة:143] وما أمر النبي ﷺ بلزوم الجماعة، وهم أهل العلم برقم (7349).
  26. تفسير الطبري (3/145).
  27. أخرجه الترمذي ت شاكر في أبواب تفسير القرآن، باب: ومن سورة آل عمران برقم: (3001) وابن ماجه في كتاب الزهد باب صفة أمة محمد ﷺ برقم: (4288) وحسنه الألباني.
  28. أخرجه البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء، باب قول الله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوْمِهِ أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [نوح:1] إلى آخر السورة برقم: (3339).
  29. تفسير الطبري (3/155-156).
  30. تفسير الطبري (3/155-156).
  31. تفسير ابن كثير (1/457).
  32. تفسير الطبري (3/169).
  33. تفسير ابن كثير (1/458).
  34. أخرجه البخاري في كتاب الإيمان، باب الصلاة من الإيمان (40) ومسلم في الصلاة، باب تحويل القبلة من القدس إلى الكعبة رقم (525).
  35. أخرجه مسلم في كتاب الصيام، باب أي يوم يصام في عاشوراء برقم: (1134).
  36. أخرجه البخاري في كتاب الصوم، باب صيام يوم عاشوراء برقم: (2004).
  37. سبق تخريجه.
  38. الدر المنثور في التفسير بالمأثور (2/564).

مواد ذات صلة