السبت 21 / جمادى الأولى / 1446 - 23 / نوفمبر 2024
(013-ب) من قوله تعالى "الذين يقاتلونكم" الآية 189 – إلى قوله تعالى "ولا تلقوا بأيدكم إلى التهلكة" الآية 194
تاريخ النشر: ١١ / ربيع الآخر / ١٤٣٧
التحميل: 1358
مرات الإستماع: 1646

"الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ كان القتال غير مباح في أول الإسلام، ثم أمر بقتال الكفار الذين يقاتلون المسلمين دون من لم يقاتل، وذلك مقتضى هذه الآية، ثم أمر بقتال جميع الكفار في قوله: قاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً اقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ فهذه الآية منسوخة، وقيل: إنها محكمة، وأن المعنى: قاتلوا الرجال الذين هم بحال من يقاتلونكم، دون النساء والصبيان الذين لا يقاتلونكم، والأول أرجح وأشهر".

قوله: الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ المعنى الذي ذكره أولًا: أن ذلك يختص بمن يقاتل المسلمين دون غيرهم، بمعنى أن هذه مرحلة في تشريع الجهاد، في البداية إذن لهم أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا [الحج:39]، ثم بعد ذلك صار تشريع الجهاد في خصوص من يقاتل المسلمين دون غيرهم، كما جاء عن أبي العالية -رحمه الله- قال: هذه أول آية نزلت في القتال بالمدينة، فلما نزلت كان رسول الله ﷺ يقاتل من قاتله، ويكف عمن كف عنه، حتى نزلت سورة براءة[1]، والذين يقولون: بأن هذه مرحلة في تشريع القتال كثير منهم يقولون: بأن هذه الآية منسوخة بـوَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً [التوبة:36] وكذلك بـآية براءة، وهي الآية الخامسة، آية السيف فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التوبة:5] فيقولون: إنها نسخت هذه الآية.

لكن هذا ليس محل اتفاق، فإن هذا القيد: الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ يحتمل أن يكون المراد به أنه أمرٌ بقتال من يكون من شأنه القتال، وهم الرجال دون الصبيان والنساء والرهبان، ونحو ذلك، يعني قاتلوا المقاتلين دون اعتداء على النساء والأطفال والرهبان، الذين لا يقاتلون، وهذا على اعتبار أن الآية محكمة، وهما قولان للسلف.

وممن جاء عنه أنها منسوخة غير ما ذكرت من قول أبي العالية: عبد الرحمن بن زيد -رحمه الله-[2].

والحافظ ابن كثير -رحمه الله- يرد القول بالنسخ، ويقول: بأن هذا القيد: الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ للتهييج والإغراء بالأعداء الذين همتهم قتال الإسلام وأهله، أي: كما يقاتلونكم فاقتلوهم أنتم، كما قال تعالى: وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً [التوبة:36] قال: ولهذا قال: وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ أي: لتكن همتكم منبعثة على قتالهم، كما همتهم منبعثة على قتالكم، وعلى إخراجكم من بلادهم التي أخرجوكم منها قصاصًا[3]، يعني فهم أهل لذلك، فيكون هذا وصف للأعداء من الكفار المحاربين، سواء قاتلوا المسلمين، أو لم يقاتلوهم؛ لأن هممهم منبعثة على قتال المسلمين، وإذهاب وإبطال دين الإسلام، كما في آية الممتحنة: لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ [الممتحنة:1] فهو يحرضهم على قطع موالاة المشركين، فقال: عَدُوِّي فقدم العداوة المختصة به -تبارك وتعالى- ثم قال: وَعَدُوَّكُمْ فكيف تتخذ عدوك ولي؟! تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ [الممتحنة:1] وذكر ما ينفرهم من موالاتهم فقال: وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ [الممتحنة:1] وذكر أن هذا الإخراج من غير ذنب ولا حق فقال: أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ [الممتحنة:1] يعني بسبب الإيمان، وذكر لهم إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ [الممتحنة:2] وذكر جملة من الأمور التي تبعث على قطع الموالاة مع المشركين، فيكون هذا في هذا الموضع بهذا المعنى، والنسخ لا يثبت بالاحتمال، وبعض أهل العلم يقول: هي مراحل في تشريع القتال، فكان المنع، ثم الإذن، ثم بعد ذلك الأمر مع هذا التقييد، قاتل من يقاتل المسلمين من الكفار، فيكون النهي عن الاعتداء وَلَا تَعْتَدُوا بقتال من لم يقاتلكم من الكفار، وعلى أنها محكمة يكون النهي عن الاعتداء بالتجاوز، بقتل النساء والأطفال، والتمثيل بالقتلى، ونحو ذلك من الممارسات التي لا تحل، يكون هذا معنى الاعتداء في قوله: وَلَا تَعْتَدُوا.

"وَلا تَعْتَدُوا أي: بقتال من لم يقاتلكم على القول الأول، وبقتال النساء والصبيان على القول الثاني".

كذلك قتل الشيوخ، الذين لا رأي لهم، ولا قتال، أي لا يرجعون إليه في الحرب، مثل دريد بن الصمة، فكان ذا رأي في الحرب، ومعروف في وقعة حنين لما خرجت هوازن ومن معها لقتال النبي ﷺ خرج دريد بن الصمة إلى أرض المعركة، وكان شيخًا كبيرًا، قد ذهب بصره، فكان يسمع بكاء الصغير، ورغاء البعير، ونحو ذلك، فسأل عن هذا؟ فقالوا: إن مالك بن عوف النصري -وهو سيد هوازن- قد أمر الناس بأن يخرجوا بنسائهم وأولادهم وأموالهم، يقول: بأن ذلك لئلا ينهزموا، فخرجوا بكل شيء، لكي يثبتوا في المعركة، فأصدر دريد صوتًا بشفته، كالمستخف والمستهزئ بمالك بن عوف، وقال: "روعي غنم" وذكر أن هذا ليس بالرأي، وأن المنهزم لا يلوي على شيء، وكان يقول كلامه المعروف:

يا لَيتَني فيها جَذَع أَخُبُّ فيها وَأَضَع[4]

... إلخ.

وفي كتب السيرة أنه قُتل بعد المعركة، أُخذ ثم ضربت عنقه؛ لكونه له رأي في المعركة، مع أن هذا من جهة الإسناد لا يثبت[5].

فالمقصود: أن الشيوخ وكبار السن إن لم يكن لهم رأي في الحرب، ومشورة وخبرة، يقدمونها، فإنهم لا يُقتلون، وهكذا أيضًا الرهبان، وهكذا يحرم ارتكاب الأعمال المنهي عنها: كالمثلة، وقتل الحيوانات، وقطع الأشجار، من غير حاجة ومصلحة، تقتضيها المعركة، كما جاء عن ابن عباس -ا- وعمر بن عبد العزيز، ومقاتل[6].

وكذلك لا يُقَاتل من أعطى الجزية، فيكون معنى: وَلَا تَعْتَدُوا بقتال من دفع إليكم الجزية، كما قال ابن جرير -رحمه الله-[7].

وعلى كل حال النسخ لا يثبت بالاحتمال، والنبي ﷺ رأى امرأة مقتولة في بعض الطريق "فنهى عن قتل النساء، والصبيان"[8] وذكر أن هذه لم تكن لتقاتل، فهذا الأصل، لكن لو كانت تقاتل فإنها تُقتل، كذلك الطفل إذا كان يقاتل فإنه يقتل، وإذا كانت المرأة تعين بمال ورأي، أو نحو ذلك فهل تقتل؟ هي لا تقتل في أرض المعركة؛ لأنها لا تحمل سلاحًا تقاتل فيه، لكن بعد ذلك يُنظر إلى أثرها، وعملها، ونحو ذلك فإذا رأى الإمام أنها تقتل، فتضرب عنقها.

وأما المرأة التي تخرج لتسعف المقاتلين؟ فالناس كانوا يخرجون معهم بالنساء، سواء كان من المسلمين، أو من الكفار، فهذه المرأة التي رآها النبي ﷺ وذكر أنها لم تكن تقاتل، هي خرجت مع زوجها تعينه وتصنع له الطعام، وكن نساء الكفار يضربن بالطبول، يلهبن الحماس في نفوس المقاتلين، ويرددن بعض الأراجيز والأشعار يعرضن بمن ينهزم، ونحو ذلك، ويمدحن من ثبت، ومع ذلك ما كنا يُقصدن بالقتل في أرض المعركة، اشتركن في عدد من الغزوات التي لقي فيها النبي ﷺ الكفار، وفي أحد انهزم النساء إلى الجبل في أول المعركة لما انهزم المشركون، ولم يرد أن هؤلاء كن يُقصدن بالقتل، والله أعلم.

"وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ أي: من مكة؛ لأن قريشًا أخرجوا منها المسلمين".

وهذا يؤيد أن المقصود: إلهاب النفوس من أجل مقاتلة الكفار، وأن ذلك ليس بنسخ، يعني يقال لهم: هؤلاء يقاتلونكم، ويخرجونكم من دياركم، فكيف تقعدون عن قتالهم؟ أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ [التوبة:13] فهو يحرضهم على القتال، يقول: وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [التوبة:13].

"وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ أي: فتنة المؤمن عن دينه أشد عليه من قتله، وقيل: كفر الكفار أشد من قتل المؤمنين لهم في الجهاد".

وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ الفتنة هنا مصدر، يقول: "أي فتنة المؤمن عن دينه أشد عليه من قتله" يعني وقع الفتنة وهي صرف الناس عن دينهم بالقهر والغلبة والتنكيل والتضليل بإثارة الشبهات والأباطيل، ونحو ذلك أشد من إزهاق النفس، ففتنة المؤمن في دينه أشد عليه من القتل، يعني لو قُتل أيسر من أن يُفتن في دينه، وهذا الذي اختاره ابن جرير -رحمه الله-[9].

المعنى الثاني: أن كفر الكفار أشد من قتل المؤمنين لهم، فما هم فيه من الكفر أعظم من وقوع القتل عليهم، فجنايتهم عظيمة، وهذا قال به جماعة من السلف: كأبي العالية، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وعكرمة، والحسن، وقتادة، والضحاك، والربيع بن أنس[10]، فالفتنة هنا بمعنى الشرك، وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ يعني: الشرك بالله أعظم من القتل.

"عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ منسوخ بقوله: حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التوبة:5] وهذا يقوي نسخ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ".

قوله: وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ابن جرير يقول: بأنها منسوخة بقوله: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ، وبقوله: حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [النساء:88] [التوبة:5][11].

وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ يعني حتى لا يكون شرك، وحَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ هذا عام في الأمكنة، أي في كل مكان، لكن هذا لا يخلو من إشكال، والحديث المعروف المخرج في الصحيحين أن النبي ﷺ قال: فإن هذا بلد حرم الله يوم خلق السموات والأرض، وهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، وإنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي، ولم يحل لي إلا ساعة من نهار، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة[12] ... وقال: فإن أحد ترخص لقتال رسول الله ﷺ فيها، فقولوا: إن الله قد أذن لرسوله، ولم يأذن لكم[13].

والمقصود بالمسجد الحرام في قوله: وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الحرم أجمع، فهذا الحديث نص صريح بأنه لا يجوز القتال في الحرم، وإنما أُحل ذلك للنبي ﷺ ساعة من نهار، فالقول: بأن هذا منسوخ يرده هذا الحديث، ويكون قوله: وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ على سبيل المقابلة والجزاء بالمثل.

"فَإِنِ انْتَهَوْا أي: عن الكفر، فأسلموا، بدليل قوله: غَفُورٌ رَحِيمٌ وإنما يغفر للكافر إذا أسلم".

ويحتمل هذا الموضع أيضًا: فإن انتهوا عن قتالكم، فكفوا عنهم، لكن هذا غير مترجح؛ لأن الله عقّب ذلك بقوله: فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ فمعنى ذلك أن الانتهاء يكون إلى الدخول في الإسلام، فإن انتهوا أي عن الكفر، فإن الله غفور رحيم، لكن انتهوا عن القتال مع كفرهم فهنا لا يتفق مع قوله: فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ، فرجح هذا الاحتمال ولم يذكر الآخر، وهو: إن انتهوا عن القتال، فهذه قرينة في الآية ترجح أحد المعنيين؛ لأنه أحيانًا الآية تحتمل معنين ويكون فيها قرينة ترجح أحد الاحتمالين كما ذكر العلماء في وجوه الترجيح، ومنهم: الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله- في مقدمته لأضواء البيان، وفي مواضع في ثنايا الكتاب، ذكر أن الآية قد تحتمل معنيين، ويكون في الآية قرينة ترجح أحد هذين المعنيين[14]، فهذه قرينة هنا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ يدل على أن ذلك يكون بالإيمان وترك الكفر، والمعنى: انتهوا عن الكفر.

"لا تَكُونَ فِتْنَةٌ أي: لا يبقى دين كفر".

قوله: لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ يعني كفر؛ وهذا قال به جماعة من السلف؛ ويحتمل أن يكون فتنة يعني فَتْن الناس عن الدين، بمعنى المصدر، لكن بحيث لا يبقى كفر، وهذا الذي جاء عن ابن عباس -ا- وأبي العالية، ومجاهد، والحسن، وقتادة، والربيع بن أنس، ومقاتل بن حيان، والسدي، وزيد بن أسلم[15].

حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ هذا غاية للقتال، حتى يكون دين الإسلام ظاهرًا على سائر الأديان، وهؤلاء الكفار مما يؤخذ منه الجزية إذا أعطوا الجزية قُبِلت منه، بحيث يكون تحت حكم المسلمين، وتكون أحكام الإسلام ظاهرة، والجميع تحتها.

"الشَّهْرُ الْحَرامُ الآية، نزلت لما صد الكفار النبي ﷺ والمسلمين، عن دخول مكة للعمرة عام الحديبية، في شهر ذي القعدة، فدخلها في العام الذي بعده في شهر ذي القعدة، أي: (الشهر الحرام) الذي دخلتم فيه مكة بالشهر الحرام الذي صددتم فيه عن دخولها".

هذا الذي قاله أكثر المفسرين، وقد جاء عن ابن عباس -ا- والضحاك، والسدي، وقتادة، والربيع ابن أنس، وعطاء[16]، وغير هؤلاء، قالوا: إنه لما سار النبي ﷺ معتمرًا في سنة ست من الهجرة (6هـ) وحبسه المشركون عن الدخول والوصول إلى البيت، وصدوه بمن معه من المسلمين في ذي القعدة، وهو شهر حرام، حتى قاضاهم على الدخول من قابل، فدخلها في السنة الآتية، هو ومن كان معه من المسلمين، وأقصه الله منهم -يعني اقتص منهم- فنزلت في ذلك هذه الآية: الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ يعني كل هؤلاء من السلف يقولون: بأن ذلك نزل فيما وقع من صدهم النبي ﷺ في ذي القعدة، وهو شهر حرام، في السنة السادسة، فأقصه الله منهم في السنة السابعة، فاعتمر في شهر ذي القعدة، وهو شهر حرام، فقال: الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ.

"وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ أي: حرمة الشهر والبلد حين دخلتموها قصاص بحرمة الشهر والبلد حين صددتم عنها".

هي بلد حرام، وفي شهر حرام: شهر ذي القعدة، والحرمات: جمع حُرمة، وهي: كل ما منع الشرع من انتهاكه، فيقال له: حرمة؛ ولهذا يقال للمرأة: حُرمة، بمعنى أنها تصان، ولا يُعتدى عليها، ولا تُطال بريبة، فهذا من صيانة الشرع لها، وصار ذلك شائعًا كالاسم، حيث يقال: حريم، وحرمة، وكل ذلك حفظًا للنساء والأعراض من كل دنس، حتى في الاسم صار يقال لها ذلك.

"فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ تسمية للعقوبة باسم الذنب، أي: قاتلوا من قاتلكم، ولا تبالوا بحرمة من صدكم عن دخول مكة".

الذنب هو الاعتداء، والعقوبة -المقابلة له- "سماها اعتداء" تسمية للعقوبة باسم الذنب الذي هو الاعتداء، وهذا قريب من قول من قال: بأن ذلك على سبيل المشاكلة، يعني أن المقابلة بالمثل هو من قبيل العدل، وليس من الاعتداء، فسماه اعتداء من قبيل المشاكلة، أو من باب تسمية العقوبة باسم الذنب.

لكن من أهل العلم من يقول: بأنه يقال له: اعتداء، وليس من قبيل المشاكلة اللفظية، والاعتداء قد يكون بحق، وقد يكون بباطل، فالمحرم هو الاعتداء بغير حق، هكذا بعضهم يقول، فلا يعُد ذلك مشاكلة، ولا من باب تسمية العقوبة باسم الذنب، فيجعل الاعتداء منقسمًا، ولكن الأكثر على خلاف هذا.

"وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ  قال أبو أيوب الأنصاري: المعنى لا تشتغلوا بأموالكم عن الجهاد، وقيل: لا تتركوا النفقة في الجهاد خوف العيلة، وقيل: لا تقنطوا من التوبة، وقيل: لا تقتحموا المهالك، والباء في بِأَيْدِيكُمْ زائدة، وقيل: التقدير: لا تلقوا أنفسكم بأيديكم".

بأيديكم أي: بأنفسكم، والعرب تقول للمستسلم: أعطى فلان بيديه، والمعنى: لا تستلموا للهلكة، فالإنسان يدفع بيديه، ويقاتل بيديه، فإذا أعطى بيديه فيكون قد ترك الدفع والقتال، ويكون ذلك بمعنى الاستسلام، ويدخل فيه كل ما يؤدي إلى الهلكة، كما اختاره ابن جرير -رحمه الله-[17]، فيدخل في هذا معانٍ ذُكرت، منها: لا تشتغلوا بأموالكم عن الجهاد، كما قال أبو أيوب الأنصاري [18].

وقيل: لا تتركوا النفقة، وهذا جاء في الصحيح عن حذيفة قال: نزلت في النفقة[19]. وجاء نحو هذا عن جماعة من السلف: كابن عباس -ا- ومجاهد، وعكرمة، وسعيد بن جبير، وعطاء، والضحاك، والحسن، وقتادة، والسدي، ومقاتل بن حيان، كل هؤلاء يقولون: إنها نزلت في النفقة[20]. أي: لا تتركوا النفقة في الجهاد خوف العيلة، فهذا معنى صحيح، وقد جاء عن ابن عباس معنى جيد في هذا، حاصله: أنهم إن منعوا النفقة في سبيل الله -يعني الجهاد- فإن عدوهم يقوى بذلك، ويضعف المسلمون، فيتغلب عليهم، فيزهق النفوس، ويأخذ الأموال، فيكونون بذلك قد تسببوا في هذا الذي حصل لهم[21]، ووقع عليهم، ألقوا بأيديهم إلى التهلكة، حيث حبسوا النفقة في سبيل الله -تبارك وتعالى- سواء كان ذلك شحًا وبخلًا وخوف العيلة، أم كان ذلك للاشتغال بالأموال.

وحديث أبي أيوب الأنصاري في القصة المعروفة، لما كانوا يحاصرون القسطنطينية، فخرج صف عظيم من الروم، فخرج رجل ليس عليه درع من المسلمين، فشق صف الروم، وخرج من الناحية الأخرى، فقال أُناس: سبحان الله! ألقى بيده إلى التهلكة[22]، يعني أنه غامر وخاطر بدخوله في صف الكفار من غير درع، فأنكر عليهم أبو أيوب الأنصاري هذا الفهم، وبين لهم المراد، وذكر لهم أنهم حينما نصر الله دينه، وأعز رسوله ﷺ قال الأنصار فيما بينهم: إن الله قد أعز دينه ورسوله ﷺ فلو التفتنا إلى أموالنا فأصلحناها، وكانوا قد تركوا أموالهم وزروعهم، ونحو ذلك اشتغالًا بالجهاد في سبيل الله، وكأنهم قالوا: قد كثر الداخلون في الإسلام، وأعز الله دينه، فلو رجعنا إلى أموالنا، وأصلحناها، فأنزل الله: وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ بالاشتغال بالأموال عن الجهاد، فهذا داخل في الآية بلا شك، ويدخل فيها كذلك منع الإنفاق في سبيل الله، ويدخل فيها سائر الصور، كما قال ابن جرير -رحمه الله-[23].

ويستدل العلماء بقوله: وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ عادة على منع ما من سبيله الضرر، وما يؤدي إلى الهلاك، فيقولون مثلًا في الاستدلال على تحريم التدخين مثلًا: وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ لأنه يضر ويؤدي إلى أمراض مستعصية، ونحو ذلك، وهكذا في سرعة الإنسان وهو يقود مركبته مثلًا بطريقة يخاطر بها، ونحو ذلك، أو يفعل بعض الأفعال التي يفعلها بعض السفهاء، ويتعرض للأخطار، ويعرض الآخرين كذلك، فيُحتجون على منع ذلك بقوله: وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ أخذًا بعموم اللفظ؛ ولهذا قال: "وقيل: لا تقتحموا المهالك".

وقوله: التَّهْلُكَةِ بمعنى الهلاك؛ وذلك يقال بحيث يصير الشيء إلى الاضمحلال والذهاب، لا يُدرى أين هو؟ فتهلكة مصدر (هلك هلاكًا وتهلكة) لا تلقوا بأيديكم إلى الهلكة أو الهلاك.

وقوله هنا: "الباء زائدة" ومضى الكلام في بعض المناسبات على الزيادة، وهم يقصدون (زائدة) إعرابًا، لكن من أهل العلم من منع من هذا تأدبًا، فقال: لا يقال في القرآن شيء زائد، وهم متفقون على أنه لا يوجد شيء زائد في المعنى؛ لأنه لا يوجد في القرآن حشو، لكن الكلام في الإعراب، فيقولون: زائدة إعرابًا.

وبعضهم يُغير هذه اللفظة فيقول: صلة، أو نحو ذلك.

أسئلة وردت للشيخ:

س1: يقول: ما حكم من يعطي رشوة لاسترجاع أو أخذ ماله، كما يحصل مع التجار... إلخ؟

ج: العلماء يجيبون عن هذا في مسائل تتعلق بفتاوى خاصة في بعض الأحوال، ولا يُجاب بهذا على سبيل العموم، والرشوة فيها لعن، وليست بالشيء السهل.

س2: يقول: هل يُلحق من يتعامل بالتقييم والتوقيت الشمسي إثم؟

ج: الإثم، عند الله لكن يكون قد استبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير، فإن ترتب عليه تضييع أمر شرعي، فهذا يكون مستحقًا للإثم، مثل الحج، ورمضان، ونحو ذلك، وإنما العبرة في هذا برؤية الهلال.

  1. تفسير ابن أبي حاتم - محققا (1/325).
  2. التفسير الوسيط للواحدي (1/292) وتفسير ابن كثير ت سلامة (1/523).
  3. تفسير ابن كثير ت سلامة (1/523-524).
  4. السيرة النبوية لابن كثير (3/612).
  5. سيرة ابن هشام ت السقا (2/453).
  6. تفسير ابن كثير ت سلامة (1/524).
  7. تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (3/292).
  8. أخرجه ابن ماجه في كتاب الجهاد، باب الغارة، والبيات، وقتل النساء، والصبيان برقم (2841) وصححه الألباني.
  9. تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (3/294).
  10. تفسير ابن أبي حاتم (1/326).
  11. تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (3/296).
  12. أخرجه البخاري في كتاب جزاء الصيد، باب لا يحل القتال بمكة برقم: (1834) ومسلم في الحج، باب تحريم مكة وصيدها وخلاها وشجرها ولقطتها، رقم: (1353).
  13. أخرجه البخاري في كتاب العلم، باب ليبلغ العلم الشاهد الغائب برقم: (104) ومسلم في كتاب الحج، باب تحريم مكة وصيدها وخلاها وشجرها ولقطتها، إلا لمنشد على الدوام (1354).
  14. أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (8/376).
  15. تفسير ابن كثير ت سلامة (1/525).
  16. تفسير ابن عطية = المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (1/263).
  17. تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (3/325).
  18. تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (3/322).
  19. تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (3/312).
  20. تفسير ابن أبي حاتم (1/331).
  21. تفسير السمرقندي = بحر العلوم (1/129).
  22. تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (3/323) ومسند أبي داود الطيالسي (1/491-600) وشرح مشكل الآثار (12/99-4685).
  23. تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (3/325).

مواد ذات صلة