الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أما بعد:
اللهم اغفر لنا ولشيخنا والحاضرين، والمستمعين ولجميع المسلمين.
قال المصنف -رحمه الله تعالى- في قوله تعالى:
"لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ ... [البقرة:236] الآية.
قال: قيل: إنها إباحة للطلاق قبل الدخول، ولمَّا نهى عن التزويج بمعنى: الذوق، وأمر بالتزويج؛ طلب العصمة، ودوام الصحبة، ظنّ قومٌ أنّ من طلق قبل البناء وقع في المنهي عنه، فنزلت الآيةُ رافعةً للجناح في ذلك.
وقيل: إنها في بيان ما يلزم من الصداق والمتعة في الطلاق قبل الدخول؛ وذلك أنّ من طلق قبل الدخول، فإن كان لم يَفرِض لها صداقًا؛ وذلك في نكاح التفويض: فلا شيء عليه من الصداق؛ لقوله: لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ... الآية، والمعنى: لا طلب عليكم بشيءٍ من الصداق، ويؤمر بالمتعة؛ لقوله تعالى: وَمَتِّعُوهُنَّ وإن كان قد فرض لها: فعليه نصف الصداق، لقوله تعالى: فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ [البقرة:237] ولا متعة عليه؛ لأنّ المتعة إنما ذُكِرَت لمن لم يفرض لها".
فقوله: "لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ" قيل: إنه إباحة للطلاق قبل الدخول، وهذا ظاهر من الآية.
يقول: "ولما نهى عن التزويج بمعنى: الذوق، وأمر بالتزويج طلب العصمة، ودوام الصحبة، ظنّ قومٌ أنّ من طلق قبل البناء وقع في المنهي عنه، فنزلت الآية رافعةً للحرج في ذلك" هذا لا دليل عليه؛ لأن ذلك لم يثبت في حديثٍ صحيح، أنها نزلت بسبب هذا الوهم أو هذا الالتباس الذي وقع لهم.
"وقيل: إنها في بيان ما يلزم من الصداق والمتعة في الطلاق قبل الدخول" هي متضمنةٌ لهذا، فإن الله ذكره، وصرح به بعد ذلك، بمعنى: أنها لم تنزل لهذا السبب الذي ذُكِر.
يقول: "وذلك أنّ من طلق قبل الدخول فإن كان لم يَفرِض لها صداقًا وذلك في نكاح التفويض" ونكاح التفويض يقع على صورتين:
الصورة الأولى: أن يكون العقد على غير مهر، ويسمى: تفويض بضع.
الصورة الثانية: أن ترد المهر إلى وليها، فهذا تفويض مهرٍ.
يقول: "فلا شيء عليه من الصداق لقوله: لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً".
قال: "والمعنى: لا طلب عليكم بشيء من الصداق" معنى "لَا جُنَاحَ" أي: لا حرج، ونفي الجناح بمعنى: نفي الحرج والإثم.
يقول: "ويؤمر بالمتعة" وهذا نُقِلَ عليه الإجماع[1]، وهذه المتعة واجبة، وإن قال الله : حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ فإن هذا من الإحسان الواجب، الذي يقابله: ترك الإحسان، ويكون ذلك بالإساءة والتقصير في الحقوق الواجبة.
فهذه المتعة ثابتة للمرأة التي طُلِّقت قبل الدخول، ولم يسمَّ لها الصداق، فهذه تجب لها المتعة؛ لأنه لا مهر لها، فيكون ذلك كسرًا لقلبها بالطلاق، فلا تذهب من غير شيء، وهذه الشريعة جاءت بالإحسان، وجبر القلوب المنكسرة، والرحمة، لذلك فرض لها المتعة.
فهنا قال: "وَمَتِّعُوهُنَّ" وهذه المتعة لم تحدد في الآية، وقد جاء عن جماعة من السلف تحديد أعلى ذلك وأدناه، لكن هذا التحديد لم يرد في شيءٍ من نصوص الكتاب والسنة -والله تعالى أعلم-.
لكن جاء عن بعض الصحابة : كابن عباس وغيره: أن أعلاه الخادم[2]، وذكر بعضهم: الثوب والملحفة[3]، ونحو ذلك مما يكون من الكسوة واللباس، الذي تصلي فيه، أو يستر المرأة، ونحو ذلك.
والله -تبارك وتعالى- قال: وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ [البقرة:236] وهذا يختلف باختلاف الأزمان، والأمكنة، والأحوال، وتكلموا فيمن يُراعى فيه ذلك، يعني: هل يُراعى فيه حال الزوج من الغنى والفقر؟ أو يُراعى فيه حال أسرة المرأة من الغنى والفقر، فيعطيها ما يليق بها؟ فلهم كلامٌ في هذا، في المتعة، وفي النفقة، فحينما يقال: بِالْمَعْرُوفِ بالنظر إلى من؟ أو إليهما؟ لكن من أهل العلم من قال: إنه هنا في المتعة يُنظر إلى حال الزوج؛ لأن الله قال: عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ يعني: بحسب حاله من الغنى والفقر.
ولهذا قال: حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ والزيادة في الإحسان لا تُحد، لكن الكلام في القدر الواجب، والقدر الواجب لم يُحدد، وإنما أُحيل إلى العرف؛ لأن ذلك يتغير، فقد يكون الشيء كثيرًا في وقت، أو في ناحية، ولكنه قليل في ناحيةٍ أخرى، وقد يكون كثيرًا بالنسبة إلى بعض الأزواج؛ لقلة ما في يده، ويكون قليلًا بالنسبة لبعضهم؛ لكثرة ما في يده.
وقد تزوج النبي ﷺ أميمة بنت شُراحيل، فلما أُدخلت عليه بسط يده إليها، فكأنها كرهت ذلك، فأمر أبا أُسيد أن يُجهزها، ويكسوها ثوبين رازقيين[4]، والثوب الرازقي: ثياب بيضاء من الكتان، وقيل: يُخالط بياضها زرقة، يعني: كأنه كما نسميه نحن: النيلي، فهذه المرأة طلقها النبي ﷺ قبل الدخول، فأمر لها بالمتعة، ثوبين رازقيين، لكن هذا لا يدل على أن ذلك حد في أعلى المتعة، أو في أدناها.
يقول: "وإن كان قد فرض لها" فهذه الحالة الثانية: إذا طلقها بعد أن فرض لها صداقًا، يعني: سمى الصداق، سواء أعطاها إياه، أو لم يُعطها، يعني اتفقوا على أن يتزوج هذه المرأة على خمسين ألف من المهر، أعطاها أو لم يعطها، وصل إليها هذا المهر أو لم يصل، ففي هذه الحالة: عليه نصف الصداق، وهذا بالإجماع[5]؛ لقوله تعالى: فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ فإن كانت قد قبضت المهر كله، فتعيد إليه النصف، وإن كانت لم تقبض، فإنه يدفع إليها النصف.
قال: "ولا متعة عليه؛ لأنّ المتعة إنما ذُكِرَت لمن لم يُفرض لها" كما قال: مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً، وهذا الذي اختاره ابن كثير -رحمه الله-[6].
وقال: "أو فيه بمعنى الواو" يعني: ما لم تمسوهن وتفرضوا لهن فريضة، فهنا صار ذلك مقيدًا بقيدين:
الأول: أنه طلاقٌ قبل الدخول.
والأمر الثاني: مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً الحالة الأولى: لم يسمِّ لها صداقًا، في الحالة الثانية: بقيدين: لم يمس، وقد فرض لها فريضة -سمى لها الصداق- فهنا نصف ما فرض، في الحالة الأولى: المتعة، وليس لها شيء من المهر، والمقصود بالمسيس هنا في قوله: مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ: الجماع، كما قال ابن عباس وطاووس، إبراهيم النخعي، والحسن[7]، وذهب الجمهور، والذي عليه عامة السلف من الصحابة فمن بعدهم: إلى أن الخَلوة تقوم مقام الدخول، فإذا أغلق بابًا، أو أرخى سِترًا، ولو لم يجامع، فيكون في ذلك حكم الدخول، فتستحق به نصف المهر -تنزيلًا للمظنة منزلة المئنة- فقالوا: هذا مظنة للدخول، وهذا قال به الخلفاء الراشدون[8].
وهنا يقول: "أو فيه بمعنى الواو" وابن جرير -رحمه الله- فسر الآية هكذا: لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ المفروض لهن من نسائكم الصداق قبل أن تمسوهن، وغير المفروض لهن قبل الفرض[9]، وبناءً عليه اعتبر أن الآية بعدها وهي: وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ في نفس المذكورات في الآية قبلها.
يعني هذه الآية تشمل الصورتين عند ابن جرير لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً والآية التي بعدها: وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً هي في نفس المذكورات، لكنها تفصيل لما سبق.
لكن قد يكون ظاهر الآية يُنبئ عن غير هذا مما ذهب إليه عامة المفسرين: أن هذه فيمن طُلقت قبل الدخول، وقبل المسيس فقط، والآية الثانية: فيمن طُلقت قبل الدخول، ولكن بعد أن يفرض لها فريضة.
متعة المرأة المطلقة قبل المسيس، إن كانت لم يُفرض لها فريضة، فهي واجبة بالإجماع[12]، لكن الكلام هنا فيمن فُرِضَ لها فريضة، فهنا يكون لها نصف المهر، فبعض أهل العلم يقولون بأن هذا المهر الذي أخذته وهو الشطر يُغني عن المتعة، فيحصل لها بذلك من الانتفاع بهذا المهر.
وأما الحالة الأولى: فإن ذلك باعتبار أنها لم تخرج بشيء، لم يسمَّ لها مهرًا، فجاء الشرع بما يكون فيه الجبر لقلبها، فشُرِعَت المتعة، فهنا يقول: "والأمر بالمتعة مندوبٌ عند مالك، وواجبٌ عند الشافعي" وهو الذي اختاره ابن جرير -رحمه الله-[13].
سؤال: أحسن الله إليكم، في قول ابن جرير -رحمه الله- كأنه يريد أن المتعة واجبة للمدخول بها، والمفروض لها؟
الجواب: المتعة واجبة للجميع، غير من سمى الله -تبارك وتعالى-: مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً [البقرة:236] هذه في نص الآية، فلا إشكال فيه، لكن الخلاف وقع بين أهل العلم في المرأة التي طُلقت قبل الدخول، وقد سُميَّ لها الصداق، فهل يكفي شطر المهر عن المتعة؟
وكذلك المدخول بها: هل لها متعة أو لا؟ وسيأتي مزيد إيضاح لهذا، فمثل هذه هل لها متعة أو لا؟ فبعض أهل العلم يقول: لا متعة لها، وإنما كان لها الصداق، أو شطر الصداق، إن كان قبل المسيس، وبعضهم يقول: لها المتعة، لكن على سبيل الندب، لا الوجوب، وبعضهم يقول: بأن المتعة واجبة لكل مطلقة، كما قال الله : وَلِلْمُطَلَّقَاتِ [البقرة:241]، سيأتي الكلام عند هذا -إن شاء الله-؛ لأنه قال: وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ [البقرة:241] وفي الموضع السابق قال: عَلَى الْمُحْسِنِينَ [البقرة:236] وسيأتي -إن شاء الله- ما يوضحه.
"وهما بمعنى" يعني أن القراءتين بمعنًى واحد: قَدْرُهُ، وقَدَرُهُ، ففي قراءة حمزة والكسائي وحفص: بفتح الدال، وعند الباقين بالإسكان[14]، قَدْرُهُ، قَدَرُهُ، والمعنى واحد.
فهذه من المواضع التي أُحيل فيها إلى المعروف، المعاشرة بالمعروف، والنفقة بالمعروف، والمتعة بالمعروف، ونحو ذلك، فهذه الإحالة إلى المعروف غير مقيدة بقدرٍ معين من المال، أو النفقة، أو صفةٍ معينة محددة في المعاشرة؛ لأن ذلك يختلف كما سبق باختلاف الأحوال، والأزمان، والأشخاص، ففي مثل هذه الأمور التي لا تنضبط، وتختلف من وقت إلى وقت، يُحيل الشارع فيها إلى المعروف، وقد مضى الكلام على مثل هذا في الفوائد المنقولة التي جمعها الشيخ: عبد الرحمن بن سعدي في كتابه: "طريق الوصول إلى العلم المأمول في معرفة القواعد وضوابط الأصول" وذكر هذه القاعدة أيضًا في كتابه: "القواعد الفقهية"، وكذلك أيضًا في كتابه: "القواعد الحسان"، وذكر أمثلةً لذلك، يمكن أن يُراجع كلامه، لكن هذا حاصله: أن الأمور التي لا تنضبط، وتختلف من وقت إلى آخر بحسب ما ذُكِر يُحال فيها إلى المعروف.
"وتعلق مالكٌ في الندب" أو "بالندب" لا إشكال؛ لأن حروف الجر تتناوب، فقوله: عَلَى الْمُحْسِنِينَ لأنّ الإحسان تطوّع بما لا يلزم، ومضى نقل الإجماع فيما يتعلق بالمطلقة قبل الدخول، وقبل تسمية المهر أنه يجب لها المتعة.
لكن قوله -تبارك وتعالى-: حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ تمسك به الشافعي -رحمه الله- على الوجوب، باعتبار أنه قال: حَقًّا والحق: هو الشيء الثابت؛ وذلك يدل على الوجوب، ومالك -رحمه الله- نظر إلى ما بعده، وهو قوله: عَلَى الْمُحْسِنِينَ يعني أن ذلك من باب الإحسان فلا يجب، فهو من الكمالات، فهذا نظر إلى لفظة حَقًّا وذاك نظر إلى لفظة الْمُحْسِنِينَ وسيأتي قول بعض أهل العلم في قوله: وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ فإن منهم من قال: هذه تشمل ما سبق، لكنه ذكر هذه الصورة، ونصَّ عليها، وهي إحدى الصور والأفراد الداخلة تحت العموم في قوله: وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ فقالوا: حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ هو بإزاء حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ فكل ذلك في المطلقات، فلهنَّ المتعة، سواءً كانت من المدخول بهن، أو بغير المدخول بهن، وسواء سمى لها الصداق، أو لم يسمِّ لها الصداق، فلها المتعة، لكنه نصَّ على هذه الحالة قبل الدخول، وقبل تسمية الصداق للحاجة إلى ذلك؛ لأنها تخرج بلا شيء، فنصَّ عليها، يعني أنها آكد.
قد عرفنا نكاح التفويض، فبالنسبة للتفويض: الآن بعض الناس يتزوجون، ولا يسمون الصداق، لا يذكرونه أصلًا، ويفوضون ذلك إلى الزوج، الذي يأتي به يأخذونه، فلو أنه طلقها قبل أن يعطيهم الصداق، وقبل أن يسمي ذلك، أو يسمونه له، بعض الناس يفعل هذا حياءً، أو ترفعًا عن تحديد شيءٍ بعينه مثلًا، فيترك ذلك للرجل ومروءته، فهذا يعطيها المتعة، لو طلقها قبل الدخول.
وهذا الذي اختاره ابن كثير[15]؛ لأنه إذا أردت أن تعرف هذا المعنى بوضوح، قابله بما بعده إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ [البقرة:237] فإذًا يَعْفُونَ الزوجات، فتعفو عن نصف الصداق، فيكون ذلك للزوج جميعًا.
والتي لا تملك أمر نفسها، كالصبية الصغيرة، والمجنونة، والسفيهة، فهذه يُحجر عليها، فلا تتصرف بمالها.
"قوله: أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ قال ابن عباس ومالك وغيرهما: هو الولي الذي تكون المرأة في حجره[16]؛ كالأب في ابنته المحجورة، والسيد في أمته، فيجوز له أن يسقط نصف الصداق الواجب لها بالطلاق قبل الدخول، وأجاز شريحٌ إسقاط غير الأب من الأولياء[17].
وقال علي بن أبي طالبٍ والشافعي: الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ هو الزوج[18]، وعفوه أن يعطي النصف الذي سقط عنه من الصداق، ولا يجوز عندهما أن يُسقِطَ الأب النصف الواجب لابنته، وحجة مالك: أن قوله: الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ أي: في الحال، والزوج ليس بيده بعد الطلاق عقدة النكاح، وحجة الشافعي: قوله تعالى: وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى فإن الزوج إذا تطوّع بإعطاء النصف الذي لا يلزمه، فذلك فضل، وأما إسقاط الأب لحق ابنته، فليس فيه تقوى؛ لأنه إسقاط حق الغير".
قول ابن عباس هنا -ا- ومالك هو الولي، وهو اختيار القرطبي[19]، وقال به جماعة، كعلقمة، والأسود بن يزيد النخعي، والحسن البصري، وعطاء، طاووس بن كيسان، والزهري، وربيعة -شيخ مالك- وزيد بن أسلم، والشعبي، وأبي صالح، وعبد الرحمن بن زيد، والسُدِّي، وإبراهيم النخعي[20]، فكل هؤلاء يقولون: بأن المراد بـأَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ الولي، لكن الولي كيف يتصرف بمالها ويُسقط، وهو حقٌّ لها؟ بينه في قوله: "الذي تكون المرأة في حجره، كالأب في ابنته المحجورة" محجورة: يعني بسبب الصغر، أو السفه، أو الجنون.
لكن هنا في هذا العموم: إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ يُحمل على هذا المعنى الخاص القليل، يعني الغالب في النساء اللاتي يتزوجن ويُطلقن أن تكون مالكة لأمرها، ليست بمحجورة، ولا سفيهة، ولا مجنونة، فهذه حالات قليلة، فلا يُحمل عليها مثل هذا العموم.
يقول: "وأجاز شريح إسقاط غير الأب من الأولياء" يعني: بعضهم يخصه بالأب، وتصرفات في مال الصبي والمجنون، ونحو ذلك، والفقهاء لهم تفاصيل في هذا، فبعضهم يخص ذلك بالأب، ويخرجون غير الأب من الأولياء كالجد مثلًا، وقد ذكرت شيئًا من هذا في الكلام قديمًا على أحكام الطفل.
فهنا يقول: "وقال علي بن أبي طالب والشافعي: الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ هو: الزوج" وهذه رواية عن ابن عباس -ا- وبه قال جمعٌ كبير من السلف من الصحابة فمن بعدهم، وهو منقول أيضًا عن جبير بن مطعم، ومن التابعين: سعيد بن جبير، وابن المسيب، وشُريح، ومجاهد، والشعبي، وعكرمة، ونافع، ومحمد بن سيرين، والضحاك، ومحمد بن كعب، وجابر بن زيد، وأبو مِجلز، والربيع بن أنس، وإياس بن معاوية، ومكحول، ومقاتل بن حيان، وسفيان[21]، باعتبار: أن بيده عقدها، وإبرامها بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ فالذي يملك هذا هو الزوج، يملك بيده عقد عقدة النكاح، يعني: إبرامها ونقضها وانهدامها، فكما أنه لا يجوز للولي أن يهب من مالها، فكذا الصداق؛ لأنه ثابت لها، فلا يجوز للولي أن يُسقطه، اللهم إلا إذا كانت هذه المولية من المحجور عليهن، كما سبق: كصغيرة، وسفيهة، ومجنونة، فيتصرف الأب نيابةً عنها.
قال: "وعفوه أن يعطي النصف الذي سقط عنه من الصداق" يعني يتنازل عنه، ويكون هذا مقابلًا لقوله: إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أي: النساء، يعني: أو يعفوا الأزواج، وهذا هو الأقرب والأرجح في معنى الآية، والله تعالى أعلم.
قال: "وحجة مالك: أن قوله: الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ أي: في الحال، والزوج ليس بيده بعد الطلاق عقدة النكاح" يعني هذا الطلاق ليس بطلاقٍ رجعي، وإنما هو طلاقٌ بائن إذا كان قبل الدخول، يعني الصورة التي أمامنا هي صورة طلاق قبل الدخول، وقد سمى لها صداقًا، فلها نصف الميراث، إذا كان الرجل طلق قبل الدخول، فإنها تبين منه مباشرةً، ولا عدة عليها، يعني رجل عقد على امرأة، ثم قال لها: أنتِ طالق، انتهى كل شيء؛ لأنه ليس بطلاق رجعي، يملك فيه الرجعة، وتكون في وقت العدة عنده، ويستطيع أن يُراجع، فهنا لا يوجد عدة، وليس ذلك بطلاقٍ رجعي، إنما هي طلقةٌ بائنة، يعني تحتاج إذا أراد أن يرجع إليها إلى عقد جديد، ومهر جديد، وكثير من الناس يجهل هذا، وبعضهم قد يُطلق في أيام العقد مازحًا هازلًا، وما يدري أنها تكون قد بانت أصلًا منه، وإذا قيل له ذلك، قال: طيب أنا أراجعها فيما بيني وبينها، يقال: لا، فلا بد من نكاح جديد، وبولي، وصداق، فبعضهم يقول: هذا يوقع في حرج أمام أهلها؛ لأنه كان يمازحها، فبعضهم للأسف لا يجد شيئًا يمازح به سوى هذا، يقول: كنت معها في حالٍ من الحياء والحرج، وجلست معها، فلم تجد شيئًا تقوله إلا أن قالت: أتحداك تطلقني، فقال لها: أنتِ طالق، هذا يقع، فهذا ما وجد شيء يعبث به، أو تعبث هي به إلا الطلاق، فتبين منه.
ففي هذه الحال عند الإمام مالك -رحمه الله- أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ قال: بعد ما طلق بانت منه، فليس عقدة النكاح بيده، لكن هذا باعتبار ما سبق، كما قال الله في العضل: فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ [البقرة:232] هو ليس بزوج لتلك المطلقة التي انتهت العدة، ثم كان لها الرغبة أن ترجع إلى زوجها الذي طلقها، ولديه الرغبة في الرجوع إليها، فليس للأولياء أن يمنعوها منه، بعقد جديد؛ لأنها طُلِّقت طلاقًا رجعيًّا، وانقضت العدة، أو طلقة بائنة، يعني: طُلِّقت قبل الدخول، فهنا ليس لهم أن يمنعوها من زوجها، فقال: أَنْ يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ هذا باعتبار الماضي، وهنا قال بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ أي: باعتبار ما سبق، أو كما قيل: أن بيده إبرام ذلك والنقض، فهو الذي يملك الإبرام والحل.
قال: "وحجة الشافعي: قوله تعالى: وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى فإن الزوج إذا تطوّع بإعطاء النصف الذي لا يلزمه فذلك فضل، وأما إسقاط الأب لحق ابنته فليس فيه تقوى؛ لأنه إسقاط حق الغير".
وقال بعضهم: هذا الخطاب وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى خوطب به الجميع، الرجال والنساء، وهذا مروي عن ابن عباس -ا- والشعبي[22]، فيكون الخطاب في قوله: وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى للجميع، ففيه حث للطرفين على العفو، فالمرأة تعفو عن نصيبها، والرجل يعفو عن نصيبه.
اللفظ أعم من هذا، لكن حمله على الإسقاط جماعة من السلف، فهو مروي عن مجاهد، والنخعي، والضحاك، ومقاتل، والربيع بن أنس، والثوري[23]، حيث قالوا: وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ فيتنازل عن نصيبه، أو تتنازل عن نصيبها، لكن المعنى أعم من هذا، فيدخل فيه ذلك: العفو والإسقاط، وهو تذكيرٌ أيضًا للأزواج بـالفضل بالإحسان، فإن رأى منها خلقًا أعجبه آخر، فلا ينسى الأيام الجميلة التي عاشها معها، ولا ينسى ما كان منها من إحسانٍ إليه، وعمل على إسعاده.
وكذلك هي لا تنسى ذلك منه، فتكون كما قال النبي ﷺ: يكفرن العشير، ويكفرن الإحسان، لو أحسنت إلى إحداهن الدهر، ثم رأت منك شيئًا، قالت: ما رأيت منك خيرًا قط[24]، فمثل قوله: وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إذا حُمِلَ على العموم يشمل ذكر الجميل والمعروف السابق، مع بذل المعروف في الحال والمستقبل.
فقال: وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ أي: ليكن ذلك على ذكرٍ منكم، وعلى بال، وليكن ذلك أيضًا منكم حالًا وفعالًا، فيرفعهم ويرقيهم، فإن الكثيرين في مثل الحالات يذكرون الإساءات، ويحصونها، ويقدمون قائمة بالتقصير من أول لقاء إلى ما بعد الفراق، وهذا غير صحيح، يحسن إليها سواءً أبقاها أو طلقها؛ ولهذا قال: وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ يحثهم على البذل، والإحسان، والكرم.
"قوله: وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى [البقرة:238]، جرّد ذكرها بعد دخولها في الصلاة اعتناءً بها، وهي الصبح عند مالك وأهل المدينة[25]، والعصر عند علي بن أبي طالب[26]لقوله -صلى الله عليه وآله وسلم-: شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر[27].
وقيل: هي الظهر، وقيل: المغرب، وقيل: هي العشاء الآخرة، وقيل: الجمعة، وسميت الوُسْطَى لتوسطها في عدد الركعات، وعلى القول بأنها المغرب؛ لأنها بين الركعتين والأربع، أو لتوسط وقتها على القول بأنها الصبح؛ لأنها متوسطةٌ بين الليل والنهار، وعلى القول بأنها الظهر أو الجمعة؛ لأنها في وسط النهار، أو لفضلها من الوسط: وهو الخيار، وعلى هذا يجري اختلاف الأقوال فيها".
قال هنا: حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى [البقرة:238] جاء به في وسط آيات الطلاق، بعض أهل العلم يقولون: إن هذه المشوشات والمشغلات، والمشكلات وما يحصل من التجاذب بين الزوجين، وما قد يحصل من الفراق، لا ينبغي أن يشغل عن ذكر الله، وطاعته، وأعظم ذلك من الاتصال به الصلاة، حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى فإذا كان الإنسان في غمرة الاشتغال، وفي أخذٍ وجذبٍ مع هذه المرأة، في مشكلة تفاقمت، حتى أُغلقت الأبواب، وأدى الأمر إلى الفراق، فذلك لا يشغل عن الأهم والمطلوب الأكبر الذي هو الصلاة، هذا بالإضافة إلى أن النبي ﷺ كان إذا حزبه أمرٌ فزع إلى الصلاة، وأيضًا فالصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، فهو يقول: وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ ويأمرهم بالإحسان، ونحو ذلك، فهذه الصلاة تكفه عن الإساءة، وكثير من التصرفات، والأقوال التي لا تجمل، بعض الناس إذا حصل بينهم طلاق ساءت أخلاقهم على هؤلاء الزوجات، وعلى أهلهن وذويهن، ولربما أدى الأمر إلى أمور كبيرة من ضرب، أو تهديد بالقتل لها، أو لأبيها، أو لأخيها، أو لأهلها أجمعين، وهذا -أعوذ بالله- في غاية الإساءة والإجرام، كيف تصير الأمور إلى هذا؟! أكرموه، وزوجوه، وأفرشوه موليتهم، وينتهي الأمر إلى مثل هذا الحال! نسأل الله العافية.
وبعض أهل العلم يقول: لما ذكر حقوق الخلق، ذكر حق الخالق، يعني هذا وجه الارتباط؛ لأنه قد يرد هذا السؤال: لماذا ذُكِرَت هذه الآية حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى في ثنايا الطلاق؟
ثم جاء كلام ابن جزي -رحمه الله- في الوُسْطَى فوسط الشيء في اللغة يقال لخياره، أو ما كان في الوسط قَالَ أَوْسَطُهُمْ [القلم:28] قيل: أعدلهم، وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا [البقرة:143] يعني: عدولًا خيارًا، فالوسط يقال للخيار، ويقال للمتوسط بين شيئين، التوسط؛ وذلك أمرٌ نسبي.
فهنا من نظر إلى أن المعنى: التوسط بين شيئين، قال: هي متوسطة بين الصلوات، ومنهم من نظر إلى هذا المعنى باعتبارٍ آخر وهو توسط في النهار، مثل: الظهر والجمعة.
والعجيب: أن الصلاة الوسطى أورد فيها بعض المفسرين؛ كالشوكاني ثمانية عشر قولًا[28]، مع أن الصلوات خمس، كما قيل في ليلة القدر، فالشهر ثلاثون يومًا، وقد ذكر الحافظ ابن حجر في الفتح أكثر من أربعين قولًا في ليلة القدر[29].
وروي عن ابن عمر -ا- أنه سُئِلَ: ما هي الصلاة الوسطى؟ قال: "هي فيهن، فحافظوا عليهن كلهن"[30]، هذا جواب حكيم، حافظ على الصلوات تدرك الصلاة الوسطى قطعًا، سواء كانت الصبح أو العصر، أو الجمعة، أو الظهر، أو المغرب، أو العشاء، ووقع نحو هذا أيضًا الجواب لجماعة مثل: شريح[31] والربيع بن خثيم[32].
يقول: "جرّد ذكرها بعد دخولها في الصلاة اعتناءً بها" يعني من باب ذكر الخاص بعد العام، حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ يشمل الصلاة الوسطى، وقال: وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى فذكر أحد أفراد العام بعده يدل على الاهتمام به، كقوله: مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ [البقرة:98] فهذا يدل على منزلة جبريل وميكال -عليهما الصلاة والسلام-.
قال: "وهي الصبح عند مالك وأهل المدينة" باعتبار أنها متوسطة بين صلاة الليل وصلاة النهار، المغرب والعشاء في الليل، الظهر والعصر في النهار.
"والعصر عند عليّ بن أبي طالب" وهذا مروي عن كثير من السلف، منهم: ابن عباس، وأبو هريرة، وابن عمر، وأبو سعيد الخدري، وعائشة، وأبو أيوب الأنصاري، وسمرة بن جندب، وحفصة وأم حبيبة، وأم سلمة، وعائشة[33]، ونسبه الترمذي[34] والبغوي[35] إلى أكثر علماء الصحابة، وغيرهم، وقال ابن عبد البر: وهو قول أكثر أهل الأثر[36]، وقال ابن عطية: هو قول جمهور الناس[37]، وروي هذا عن جماعةٍ من التابعين؛ كالحسن والنخعي، وسعيد بن جبير، وعَبيدة السلماني، وزر بن حبيش، قتادة والضحاك، ومجاهد، وابن سيرين[38]، بل هو مروي أيضًا عن عمر وابن مسعود[39]، من علماء الصحابة.
وجاء في صحيح مسلم من حديث البراء بن عازب قال: نزلت هذه الآية: "حافظوا على الصلوات وصلاة العصر" فقرأناها ما شاء الله ثم نسخها الله، فنزلت: حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى فقال رجلٌ كان جالسًا عند شقيقٍ له: هي إذًا صلاة العصر، فقال البراء: قد أخبرتك كيف نزلت، وكيف نسخها الله[40]، وهذا نسخ اللفظ، دون الحكم.
فقوله: "حافظوا على الصلوات وصلاة العصر" على اللفظ الأول الذي نُسِخ بإزائه: حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى إذًا الوسطى هي: العصر، فهذا صريح في هذا المعنى، وجاء عن سمرة مرفوعًا: "الصلاة الوسطى: صلاة العصر"[41].
وفي الباب عن ابن عمر[42]، وابن عباس[43]، وأبو هريرة[44]، وأبي مالك الأشجعي[45]، أن النبي ﷺ يقول: شغلونا عن صلاة الوسطى، صلاة العصر[46]، وللحافظ الدمياطي كتاب بعنوان: "كشف المغطى في تبيين الصلاة الوسطى".
وجاء عن علي : "كنا نراها الفجر، فقال رسول الله ﷺ: هي صلاة العصر، يعني: صلاة الوسطى"[47]، فهذا نص صريح لتحديد صلاة الوسطى، وأنها العصر؛ وذلك هو الذي ينبغي الوقوف عنده، والله أعلم.
وَقُومُوا لِلَّهِ يعني في صلاتكم قَانِتِينَ قال: "ساكتين، وكانوا يتكلمون في الصلاة حتى نزلت، وقيل: خاشعين، وقيل -هنا-: طول القيام" ومضى الكلام على القنوت في الغريب من الألفاظ في المقدمة الثانية من هذا الكتاب، وذكرت قول شيخ الإسلام -رحمه الله- بأنه في مجموع استعمالاته في القرآن يرجع إلى معنى طول العبادة، وله رسالة في قنوت الأشياء لله تعالى، ضمن مجموعة الرسائل.
فالقنوت هو دوام الطاعة، ولزومها مع الخضوع، فأصل (قَنَتَ) يدل على طاعة وخير في دين، يقال: فلان من القانتين، وذكر بعضهم له ثلاثة عشر معنى، وهذا يولع به من يذكرون الأشباه والنظائر، ويكثرون المعاني، وكذلك أيضًا ما يُعرف بالتفسير الموضوعي، ومن أنواع التفسير الموضوعي: أن تُدرس لفظة في القرآن وتُتتبع استعمالاتها في القرآن، كالمراد بالقنوت في القرآن.
ويقول أبو جعفر بن جرير: وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ أي بالطاعة، وذلك بالخشوع وترك الكلام، وبالدعاء وإطالة القيام، وكل ما أمركم الله به[50]، فجمع بين هذه المعاني: طول القيام، والسكوت، والخشوع، وهذا جيد، وقال مجاهد: من القنوت: الركوع، والخشوع، وطول الركوع -أي طول القيام- وغض البصر، وخفض الجناح، والرهبة لله تعالى[51].
وفسر ابن كثير وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ أي: خاشعين ذليلين، مستكينين بين يديه، وهذا الأمر يستلزم ترك الكلام في الصلاة؛ لمنافاته إياها[52]، يعني: جعل بين المعنيين ملازمة، فذكر الخشوع وترك الكلام وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ يعني هذا يتضمن المواظبة على ذلك، والمداومة فيها، على الخشوع والطمأنينة مع السكوت التام، عن سوى ما أمر الله تعالى فيها من الذكر والقراءة.
وقد جاء في الصحيحين عن زيد بن أرقم قال: "كنا نتكلم في الصلاة، يكلم أحدنا أخاه في حاجته، حتى نزلت هذه الآية: حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ فأُمرنا بالسكوت"[53]، فيدخل في قوله: وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ دخولًا أوليًّا السكوت عن الكلام.
وقد أورد عليه الحافظ ابن كثير إشكالًا للعلماء[54]؛ لكون تحريم الكلام في الصلاة كان بمكة قبل الهجرة، كما في حديث ابن مسعود في الصحيح: " كنا نسلم على النبي ﷺ وهو في الصلاة، فيرد علينا، فلما رجعنا من عند النجاشي سلمنا عليه، فلم يرد علينا، وقال: إن في الصلاة شغلًا[55].
فالشاهد: أن النبي ﷺ أخبره بما وقع وجدّ من الأمر بالسكوت في الصلاة، وترك الكلام، فهذا كان في مكة والآية مدنية -بلا خلاف- إذ أن سورة البقرة معروف أنها من السور المدنية بالإجماع، فحمل بعضهم حديث زيد: "كنا نتكلم في الصلاة" على الإخبار عن جنس الناس، وزيد بن أرقم من صغار الصحابة، من الأنصار، وتحريم الكلام والمنع منه كان بمكة قبل الهجرة، فزيد بن أرقم ما أدرك هذا، ولكنه يخبر عن جنس الناس، فالمراد بقوله: "كنا نتكلم" يعني: الناس.
وقيل بأن ذلك وقع مرتين من جهة الإباحة والمنع، فحصل في مكة حيث كانوا يسلمون على النبي ﷺ ويرد عليهم السلام ويتكلمون، ثم مُنعوا، ثم أبيح، ثم مُنعوا، لكن هذه الطريقة لا دليل عليها في الجمع.
وقد ذكر شيخ الإسلام ليس في هذا الموضع، بل في موضعٍ آخر لا علاقة له بهذا الموضوع: بأن هذه الطريقة طريقة الضعفاء من بعض الفقهاء، فحينما يرى تعارضًا يبادر إلى القول بتعدد ذلك، أو تعدد الوقائع في أسباب النزول، أو نحو هذا من غير تحقيق، والله أعلم.
- انظر: التفسير البسيط (4/279) ونظم الدرر في تناسب الآيات والسور (3/353).
- تفسير ابن كثير ت سلامة (1/641).
- تفسير ابن كثير ت سلامة (1/641).
- أخرجه البخاري في كتاب الطلاق، باب من طلق، وهل يواجه الرجل امرأته بالطلاق برقم: (5256).
- مراتب الإجماع (ص:70).
- تفسير ابن كثير ت سلامة (1/642).
- تفسير ابن كثير ت سلامة (1/641) وتفسير ابن أبي حاتم (2/442).
- فتح القدير للشوكاني (1/293).
- تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (4/288).
- المدونة (2/239) وضوء الشموع شرح المجموع (2/459).
- المجموع شرح المهذب (16/390).
- نظم الدرر في تناسب الآيات والسور (3/353).
- تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (4/301).
- السبعة في القراءات (ص:184) وحجة القراءات (ص:137).
- تفسير ابن كثير ت سلامة (1/642).
- تفسير ابن عطية = المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (1/320).
- تفسير ابن عطية = المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (1/320) وتفسير الثعلبي = الكشف والبيان عن تفسير القرآن (2/193).
- زاد المسير في علم التفسير (1/213).
- تفسير القرطبي (3/207).
- تفسير ابن أبي حاتم (2/445).
- تفسير ابن أبي حاتم (2/445) وزاد المسير في علم التفسير (1/213) وتفسير ابن كثير (1/487).
- تفسير ابن كثير ت سلامة (1/644).
- تفسير ابن كثير ت سلامة (1/644).
- أخرجه البخاري في كتاب الإيمان، باب كفران العشير، وكفر دون كفر برقم: (29) ومسلم في كتاب الكسوف، باب ما عرض على النبي ﷺ في صلاة الكسوف من أمر الجنة والنار برقم: (907).
- التفسير الوسيط للواحدي (1/350).
- تفسير الطبري = جامع البيان (5/177-5403).
- أخرجه مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب الدليل لمن قال الصلاة الوسطى هي صلاة العصر برقم: (627).
- فتح القدير للشوكاني (1/293) ونيل الأوطار (1/384).
- فتح الباري لابن حجر (4/262).
- تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (4/371) وفتح القدير للشوكاني (1/296).
- فتح القدير للشوكاني (1/296).
- تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (5/220-5491).
- زاد المسير في علم التفسير (1/215) وتفسير ابن كثير ت سلامة (1/648).
- سنن الترمذي ت شاكر (1/342).
- تفسير البغوي - إحياء التراث (1/323).
- الاستذكار (2/191) والتمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد (4/289).
- تفسير ابن عطية = المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (1/323).
- زاد المسير في علم التفسير (1/215).
- زاد المسير في علم التفسير (1/215).
- أخرجه مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب الدليل لمن قال الصلاة الوسطى هي صلاة العصر برقم: (630).
- أخرجه الترمذي في أبواب الصلاة، باب ما جاء في صلاة الوسطى أنها العصر برقم: (182) وقال الألباني: "صحيح لغيره".
- أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار، برقم (1010).
- أخرجه الطبراني في المعجم الكبير برقم: (12069).
- أخرجه ابن خزيمة برقم: (1338) وقال الأعظمي: "إسناده صحيح"
- تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (5/198-5445) لكنه فيه الأشعري، لا الأشجعي.
- سبق تخريجه.
- بهذا اللفظ أخرجه أحمد ط الرسالة (2/284-990) وقال محققو المسند: "حديث صحيح" وحديث علي هذا أصله في مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب الدليل لمن قال الصلاة الوسطى هي صلاة العصر برقم: (627).
- تفسير ابن عطية = المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (1/323).
- تفسير السمرقندي = بحر العلوم (1/157).
- تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (4/383).
- تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (4/382).
- تفسير ابن كثير ت سلامة (1/654).
- أخرجه البخاري في كتاب تفسير القرآن، باب {وقوموا لله قانتين} [البقرة:238] برقم: (4534) ومسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب تحريم الكلام في الصلاة، ونسخ ما كان من إباحته برقم: (539).
- تفسير ابن كثير ت سلامة (1/655).
- أخرجه البخاري في أبواب العمل في الصلاة، باب ما ينهى عنه من الكلام في الصلاة برقم: (1199) ومسلم في المساجد ومواضع الصلاة، باب تحريم الكلام في الصلاة رقم: (538).