السبت 11 / شوّال / 1445 - 20 / أبريل 2024
(021-ب) قوله تعالى "يا أيها الذين ءامنوا أنفقوا مما رزقناكم .." الآية 252 إلى قوله تعالى "ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم..." الآية 257
تاريخ النشر: ١٤ / رجب / ١٤٣٧
التحميل: 1283
مرات الإستماع: 1441

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.

أما بعد:

قال المصنف -رحمه الله تعالى- في قوله تعالى:

"وَلا شَفَاعَةٌ [البقرة:254] أي: ليس في يوم القيامة شفاعةٌ إلّا بإذن الله، فهو في الحقيقة رحمة من الله للمشفوع فيه، وكرامةٌ للشافع، ليس فيها تحكمٌ على الله، وعلى هذا يُحمل ما ورد من نفي الشفاعة في القرآن، أعني: ألا تقع إلّا بإذن الله، فلا تعارض بينه وبين إثباتها، وحيثما كان سياق الكلام في أهوال يوم القيامة، والتخويف بها، نُفيت الشفاعة على الإطلاق، مبالغةً في التهويل، وحيث ما كان سياق الكلام تعظيم الله نُفيت الشفاعة إلّا بإذنه".

وَلا شَفَاعَةٌ [البقرة:254] هنا نفاها بإطلاق، والنصوص جاءت بإثبات الشفاعة، وهذا الضابط الذي ذكره المؤلف مفيد، وجيد لطالب العلم.

يقول: "وحيثما كان سياق الكلام في أهوال يوم القيامة والتخويف بها، نُفيت الشفاعة على الإطلاق، مبالغةً في التهويل، وحيث ما كان سياق الكلام تعظيم الله نفيت الشفاعة إلّا بإذنه" مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [البقرة:255] وهذا في سياق بيان عظمة الله -تبارك وتعالى- وكمال غناه.

والشفاعة ثابتة بنصوص كثيرة، بلغت حد التواتر، ولكن هذه الشفاعة لا تكون إلا بإذن الله -تبارك وتعالى- وبعض أهل العلم يقولون: بأن يوم القيامة يوم طويل، ففي وقتٍ لا يكون شفاعة، وكل أحدٍ مشغولٌ بنفسه، وفي وقتٍ يأذن الله بالشفاعة، فيشفع الأنبياء والملائكة والمؤمنون.

"قوله تعالى: وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ [البقرة:254] قال عطاء بن دينار: الحمد لله الذي قال هكذا، ولم يقل: والظالمون هم الكافرون".

باعتبار أنه لو قال: والظالمون هم الكافرون لكان ذلك يُفهم منه: أن الظالم كافر، وقد يكون الظالم مسلمًا، فهنا قال: وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ فجاء بضمير الفصل (هم) بين طرفي الجملة، من باب تقوية النسبة والتوكيد، ودخلت (ال) على الخبر الظَّالِمُونَ يعني: كأنهم هم الذين استحقوا، بل هم الذين استحقوا الوصف الكامل للظلم، فكان ذلك يُشبه الحصر؛ حصر الكافرين بهذا الوصف، وهو الظلم، وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ، كأنه لا ظالم إلا هم، كما قال: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13].

"قوله تعالى: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [البقرة:255] هذه آية الكرسي؛ وهي أعظم آية في القرآن، حسبما ورد في الحديث، وجاء فيها فضل كبير في الحديث الصحيح، وفي غيره".

هي أعظم آية في القرآن؛ لاشتمالها على توحيد الله، وتعظيمه، وتمجيده، وصفاته العظمى، ولا مذكور أعظم من الله -تبارك وتعالى- فهذه في صفته أعظم آية، قد ذُكِرَ فيها اسم الله -تبارك وتعالى- صراحةً، أو كنايةً بالضمير بنحوٍ من سبعة عشر موضعًا، أوصله بعضهم إلى واحدٍ وعشرين موضعًا، في آيةٍ واحدة.

قال: "وهي أعظم آية" كما جاء عن النبي ﷺ لما قال لأُبي بن كعب : أي آية معه أعظم؟ فقال: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ فضرب النبي ﷺ بصدره، وقال: ليهنك العلم أبا المنذر[1]، يعني: هنيئًا لك بالعلم، كيف استطاع أن يعرف بين هذه الآيات التي تزيد على 6000 آية، أن يستخرج ويستنبط أعظم آية في كتاب الله -تبارك وتعالى-.

فهذا يدل على أنها أعظم آية في كتاب الله -تبارك وتعالى- وكما جاء في حديث أبي هريرة المشهور، مع الشيطان، لما أخذه وهو يحثو من الثمر أو من تمر الصدقة، وفيه: "إذا أويت إلى فراشك، فاقرأ آية الكرسي، لن يزال معك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح[2] وهذا في الصحيح.

"قوله تعالى: لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ [البقرة:255] تنزيهٌ لله تعالى عن الآفات البشرية، والفرق بين السنة والنوم: أن السنة هي ابتداء النوم، لا نفسه: كقول القائل: في عينه سنة، وليس بنائمِ".

وكما في الصحيح حديث أبي موسى قام فينا رسول الله ﷺ بأربع كلمات فقال: إن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام[3]، اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ، فابتدأ هذه الآية بهذا الاسم الذي هو أعظم الأسماء الحسنى، والجمهور يقولون: الله هو الاسم الأعظم، وهو المتضمن لأوسع الصفات، صفة الإلهية، وجميع الأسماء الحسنى كما ذكرنا في الكلام على الأسماء الحسنى تعود إليه لفظًا ومعنى، لفظًا يعني: إنها تُعطف عليه دائمًا، ولا يُعطف على شيءٍ منها، هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ [الحشر:23].

وتعود إليه معنىً، بأن معاني الصفات ترجع إلى صفة الإلهية، أي المألوه المعبود، فهذه الصفة الإلهية تتضمن صفة الربوبية وسائر الصفات، الإله هو الذي بيده النفع، والضر، والعطاء، والمنع، والخلق، والرزق، والإحياء، والإماتة، وما أشبه ذلك.

اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وذكر كلمة التوحيد المركبة من المنفي والإثبات "لا إله إلا هو" لا معبود بحق سواه، وهي أجلُّ كلمة تضمنتها هذه الآية.

وكذلك أيضًا ذكر بعده الحي والقيوم، والحي: ترجع إليه جميع صفات الذات، والقيوم: ترجع إليه جميع صفات الأفعال، فالحي: الذي له الحياة الكاملة، التي لم تسبق بعدم، ولا يلحقها عدم، ولا يعتورها النقص بوجهٍ من الوجوه، الْحَيُّ الْقَيُّومُ قائم بنفسه، المقيم غيره، القائم على خلقه بآجالهم وأرزاقهم وأعمالهم.

لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ [البقرة:255] السِنة بعضهم يفسرها بالنُعاس، وبعضهم يقول: السِنة في الرأس، والنعاس في العين، والنوم في القلب، المقصود لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ [البقرة:255] مقدمة النوم، وهي الضعف الطبيعي الذي يعتور الإنسان بين يدي النوم، لكن لا يرتفع معه الإدراك، والنوم يحصل معه ارتفاع الإدراك.

لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ [البقرة:255] فهنا يقول: "تنزيه لله تعالى عن الآفات البشرية" يعني: ليس فقط السنة والنوم، وهذا المعنى ذكره ابن جرير -رحمه الله-[4]، يعني: إذا كان لا تأخذه سنة ولا نوم، وهي العوارض التي تكون نقصًا في الحياة، فالمراد: أن الله لا تعتريه الآفات كلها.

يقول: "والفرق بين السنة والنوم: أن السنة هي ابتداء النوم" يعني: هنا يرد سؤال أنه قد يقول قائل: لو نفى النوم لربما كفى عن نفى السِنة، أو لو نفى السِنة كان من باب أولى أن ينتفي النوم، فيُقال: إن السِنة قد تقع، ولا يقع النوم، يدفعها الإنسان، يدفعه عن نفسه، وقد يقع النوم من غير مقدمات، من غير سِنة، فنفى السنة ونفى النوم، لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ [البقرة:255] ولذلك أعاد حرف النفي، (ولا) ولم يقل: "لا تأخذه سنةٌ ونوم" قد يُفهم منه نفي مجموع الأمرين، لكن حينما قال: وَلا نَوْمٌ فلا يحصل شيءٌ من هذين على سبيل الاستقلال، كما لا يحصلان على سبيل الانضمام والاجتماع.

لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لا تعتريه الآفات، ولا يرد على حياته شيءٌ من النقص؛ لأن النوم نقص في الحياة.

"قوله تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ [البقرة:255] استفهام مراد به نفي الشفاعة إلّا بإذن الله، فهي في الحقيقة راجعة إليه".

يعني هذا الاستفهام مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ استفهامٌ بمعنى النفي، يعني: لا أحد يشفع عنده إلا بإذنه، وهذا أبلغ في النفي مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ أي: كائنًا من كان إلا بإذن، فلاحظ هنا هذا النفي في مقام الشفاعة في مقام التعظيم، فذكر معه الاستثناء إِلَّا بِإِذْنِهِ كما قال ابن جزي قبل قليل: إن ذلك النفي للشفاعة إن كان في مقام التهويل وذكر القيامة كان النفي لها مطلقًا، وإن كان في مقام تعظيم لله كان ذلك مع هذا الاستثناء إِلَّا بِإِذْنِهِ.

في جميع النسخ: "استفهامٌ يراد به"

نفي الشفاعة إلا بإذن الله، فهي في الحقيقة راجعةٌ إليه، يعني بمعنى: إذا كانت بإذنه واقعة، وهي بإذنه فهي ترجع إليه، وهذا يدل على كمال عزته، وكمال ملكه، وكمال غناه، وكمال عظمته؛ لأن أهل الدنيا مهما عظم شأنهم، فإن الناس يتقدمون بين أيديهم بالشفاعة من غير إذن، سواء قبلوها أو لم يقبلوها، وقد يقبلون، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-[5]: حياءً من الشافع، أو لمودة، أو خوفًا من غوائله إذا رُدَّت شفاعته، أو كان ذلك لمصلحةٍ أو حاجةٍ، كل ذلك يحصل به قبول الشفاعة، أما الله -تبارك وتعالى- فله الغنى الكامل والمطلق، والعز، والعظمة، فلا يشفع أحد عنده إلا بإذنه، فلا يرد عليه شيء من هذه الواردات التي ترد على المخلوقين، فيقبلون الشفاعة لأجلها.

"قوله تعالى: يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ [البقرة:255] الضميران عائدان على من يعقل، ممن تضمنه قوله: لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ [البقرة:255] والمعنى: يعلم ما كان قبلهم، وما يكون بعدهم".

فالضميران الهاء في قوله: أَيْدِيهِمْ وخَلْفَهُمْ "عائدان على من يعقل ممن تضمنه قوله: لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ" (ما) تستعمل لغير العاقل، فيدخل في هذا العموم (ما في السماوات) العقلاء وغير العقلاء، ولكن قد يُعبر بـ(ما) التي تكون لغير العاقل من باب التغليب مثلًا؛ لأن الغالب فيما يكون للسماوات والأرض هو غير العاقل من الشجر، والحجر، وحبات الرمل، وما أشبه ذلك، هذا لما لا يعقل، فيُغلب على العاقل من الملائكة، والإنس، والجن، والملائكة لم يرد وصفهم بالعقل؛ ولهذا بعض العلماء حينما يُعبر عن ذلك يعني يقولون: (ما) لما لا يعقل، و(من) لمن يعلم، ما يقولون يعقل، يقولون: من أجل أن يدخل فيه الملائكة؛ لأنهم يوصفون بالعلم، ولم يرد الوصف بالعقل، فيقولون: (من) لمن يعلم يوصف بالعلم، و(ما) لما لا يعقل، أو لما لا يعلم، وهو احتراز في العبارة.

فقوله: لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ هذا عام، لما قال: يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ "الضميران عائدان على من يعقل" لماذا هنا قال: على من يعقل؟ لأن الضمائر منها ما يكون لما يعقل، ومنها ما يكون لما لا يعقل، فلما لا يعقل، لو قال: يعلم ما بين أيديها، يعني هذه المخلوقات، وما خلفها لكن لما قال: أَيْدِيهِمْ فهذا للعقلاء، وخَلْفَهُمْ للعقلاء، وهكذا في الصيغ التي تكون للعقلاء، قال: وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ [يوسف:4] ولم يقل: رأيتها، والشمس والقمر لا توصف بالعقل، لكن لما أضاف إليها فعلًا من أفعال العقلاء وهو: السجود، عاملها بمقتضى ذلك، فأجرى عليها ما يجري على العقلاء، فقال: رَأَيْتُهُمْ ولم يقل: رأيتها، وقال: سَاجِدِينَ [يوسف:4] وهذه الصيغة للعقلاء، وغير العقلاء يُقال: ساجدة؛ لهذا قال: أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا [الأعراف:195] غير العقلاء يُقال: تبطش، وهنا قال: يَبْطِشُونَ، باعتبار أنهم ما عاملوها مجرد معاملة عقلاء، بل قالوا: هي آلهة، فأجرى عليها صيغ العقلاء، فهكذا في الاستعمالات.

فهنا يقول: "يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ [البقرة:255] الضميران عائدان على من يعقل" يعني: من الإنس والجن والملائكة، وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ [البقرة:255] فالضمير يحتمل أن يرجع إلى المذكور قبله، ولا يحيطون بشيءٍ من علمه يعني علم ما بين أيديهم وما خلفهم، يعني ما مضى وما يأتي، ويحتمل أن يعود الضمير في وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ [البقرة:255] أي: علم الله، يَعْلَمُ أي: الله مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ [البقرة:255] ويُمكن أن يُحمل الضمير على ذلك جميعًا؛ لأن القولين بينهما ملازمة، أو الاحتمالين، أو المعنيين، فإن علم ما بين أيديهم وما خلفهم هو من جملة علم الله، وبعض علم الله فإذا كانوا لا يعلمون ما بين أيديهم وما خلفهم، فمن باب أولى لا يحيطون بعلم الله، وكذلك إذا قيل بأنه يرجع إلى الله وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ [البقرة:255] علم الله، فشيء: نكرة في سياق النفي، وهي للعموم، فيدخل في ذلك علم ما بين أيديهم وما خلفهم، فالقولان متلازمان، ولا حاجة للترجيح في مرجع الضمير هنا، وبعضهم يقول: إن وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ أي: الله، ولا يحيطون به علمًا، فهو أعظم من أن تحيط به مدارك الخلق.

"وقال مجاهد: مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ الدنيا، وَمَا خَلْفَهُمْ [البقرة:255] الآخرة، قوله تعالى: مِنْ عِلْمِهِ [البقرة:255] من معلوماته، أي: لا يعلم عباده من معلوماته إلّا ما شاء هو أن يعلموه".

هنا تعليق على آية الكرسي في الهامش صفحة 316، يقول: روى أبو داود أن رسول الله ﷺ قال: يا أبا المنذر! أي آية معك أعظم في كتاب الله؟ قال: قلت: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [البقرة:255] قال: فضربني في صدري وقال: ليهن لك يا أبا المنذر العلم[6]رواه أبو داود، وفي سنن الترمذي: ما خلق الله من سماء ولا أرض أعظم من آية الكرسي قال سفيان: "لأن آية الكرسي هو كلام الله، وكلام الله أعظم من خلق الله من السماء والأرض"[7]، هذه الرواية إيرادها هنا ليس له حاجة، لا سيما أنه لم يعلق على هذا.

ويقول سفيان بن عُيينة: "لأن آية الكرسي هو كلام الله، وكلام الله أعظم من خلق الله من السماء والأرض" يعني هذا معناه، وهذا توجيهه، يعني: ليست هي مخلوقة، القرآن كلام الله ليس بمخلوق، فهو يقول: "ما خلق الله من سماءٍ ولا أرض أعظم من آية الكرسي" يعني: لا يوجد مخلوق أعظم من آية الكرسي؛ لأن آية الكرسي غير مخلوقة، فهي كلام الله.

لكن كونه يورد هذا من غير تعليق قد يُفهم أنها مخلوقة "ما خلق الله من سماءٍ ولا أرض أعظم من آية الكرسي" يعني كأنه قد يُفهم أنه ما خُلق أعظم من آية الكرسي، لا سماء ولا أرض، وهذا غير صحيح، ليس هو المراد، وإنما ما خَلَقَ الله خلقًا أعظم من آية الكرسي؛ لأنها غير مخلوقة، فهي كلام الله -تبارك وتعالى-.

وفي لفظ: "ما خَلَقَ الله من سماءٍ ولا أرضٍ ولا سهلٍ ولا جبل أعظم من آية الكرسي"[8]، لكن مهما كان، فإن هذا أيضًا لا يصح عن النبي ﷺ بل قال شيخ الإسلام: هو كذب[9]، فإيراده هنا غير صحيح، ما الحاجة لإيراد هذا من غير تعليق، وقد يَفهم منه القارئ أنها مخلوقة.

"قوله تعالى: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ [البقرة:255] الكرسي مخلوق عظيم بين يدي العرش، وهو أعظم من السماوات والأرض، وهو بالنسبة إلى العرش كأصغر شيء، وقيل: كرسيه علمه، وقيل: كرسيه ملكه".

صح عن ابن عباس -ا- أن الكرسي هو موضع القدمين، والعرش لا يقدر أحدٌ قدره[10]، وبه قال أبو موسى وجماعة من السلف، كالسُدي ومسلم البطين[11]، كل هؤلاء فسروا الكرسي بموضع القدمين، وما ورد عن ابن عباس -ا- بأنه العلم[12]، خلاف المشهور عنه أنه موضع القدمين، لكن تفسير ذلك بالعلم وإن كان من جهة اللغة يحتمل أو يصح، لكن المراد هنا بالكرسي ليس العلم، وإنما المخلوق الذي يكون بين يدي العرش، وليس العلم، والعلم يُقال له في كلام العرب: كرسي، وتكرُّس المعلومات وتتابعها، وما إلى ذلك، ولهذا يُعبر بالألقاب المترجمة في المراتب، ورُتب الأكاديمية في الجامعات، يُقال: أستاذ كرسي، يعني: يُسمى باللغة الأعجمية: البروفيسور، يُقال: أستاذ كرسي، وهو مأخوذ من هذا المعنى، من معنى العلم، يعني كأنه قد رسخ في العلم، فيُقال له: أستاذ كرسي بهذا الاعتبار، والله أعلم.

وهكذا القول بأن كرسيه الملك، لكن الكرسي: موضع القدمين، هذا الذي عليه الجمهور، والله أعلم.

"قوله تعالى: وَلا يَئُودُهُ [البقرة:255] أي: لا يشغله، ولا يشق عليه".

عندنا: "أي لا يثقله ولا يشق عليه" وذلك يُقال للثقل، آده يؤده، أي: يُثقله، كأن الشيء الذي يُثقل يحصل معه انثناء وميل بسبب الثقل، هذا في اللغة، فالله لَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا أي: لا يثقله، ولا يعجزه حفظ السماوات والأرض.

"قوله تعالى: لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ [البقرة:256] المعنى: أن دين الإسلام في غاية الوضوح، وظهور البراهين على صحته، بحيث لا يحتاج أن يُكره أحدٌ على الدخول فيه، بل يدخل فيه كل ذي عقلٍ سليمِ من تلقاء نفسه، دون إكراه، ويدل على ذلك قوله: قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ [البقرة:256] أي: قد تبين أن الإسلام رشد، وأن الكفر غي، فلا يفتقر بعد بيانه إلى إكراه، وقيل: معناه الموادعة، وألا يُكره أحد بالقتال على الدخول في الإسلام، ثم نسخت بالقتال، وهذا ضعيف؛ لأنها مدنية، وإنما آية المسالمة، وترك القتال بمكة (وفي بعض النسخ: آيات المسالمة)".

عندنا "وإنما آية المسالمة وترك القتال بمكة".

هنا في قوله: لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ [البقرة:256] قال: المعنى: أن دين الإسلام في غاية الوضوح وظهور البراهين على صحته، بحيث لا يحتاج أن يُكره أحدٌ على الدخول فيه، بل يدخل فيه كل ذي عقلٍ سليم من تلقاء نفسه، دون إكراه" وسبب نزول هذه الآية: ما جاء عن ابن عباس -ا- كانت المرأة من نساء الأنصار تكون مقلاةً، يعني: قليلة الولد، فتجعل على نفسها إن عاش لها ولد أن تهوده[13] -هذا في الجاهلية- فلما أُجليت النضير، وتعرفون أن قريظة قُتلوا، والنضير أجلوا، كان فيهم أبناء الأنصار، يعني الذين نذرت أمهاتهم أن يهودهم، صاروا يهودًا، فلما أُجلي النضير كانوا في جملتهم، فقالوا: لا ندع أبنائنا، فأنزل الله: لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ فيكون هذا سبب النزول، فأرادوا أن يحملوا أولادهم على ترك اليهودية، والدخول في الإسلام، ولا يذهبوا مع هؤلاء اليهود الذين تفرقوا بين خيبر وأذرعات في أطراف الشام وبُصرى، ونحو ذلك.

قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ الرشد: هو الحق خلاف الغي، والغي: خلاف الرشد، والانهماك في الباطل، والضلال، والجهل بأمر الله -تبارك وتعالى- من الاعتقاد الفاسد، ونحو ذلك.

يقول: "أي: قد تبين أن الإسلام رشد، وأن الكفر غي، فلا يفتقر بعد بيانه إلى إكراه" لا يحتاج إلى إكراه، وفي الحديث: عن أسلم: أن عمر قال لعجوزٍ نصرانية: أسلمي تسلمي، فأبت فقال: اللهم فاشهد، ثم تلا: لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ [البقرة:256][14].

وعن وسق، قال: كنت مملوكًا لعمر بن الخطاب وكنت نصرانيًا، فكان يقول لي: "يا وسق، أسلم، فإنك لو أسلمت لوليتك بعض أعمال المسلمين، فإنه لا يصلح أن يلي أمرهم من ليس على دينهم" فأبيت عليه، فقال لي: لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ [البقرة: 256] فلما مات عمر أعتقني[15].

فالإسلام حينما شرَّع لأتباعه الجهاد في سبيل الله لم يكن ذلك بمعنى إكراه الناس على الدخول في الإسلام، ولهذا ما كان المسلمون يلزمون أحدًا بالدخول في الدين، فدلائل الحق ظاهرة واضحة، إنما شُرِع الجهاد من أجل أن تكون كلمة الله هي العليا، وأن يكون الإسلام مهيمنًا على سائر الأديان، وتُزال جميع العقبات التي تحول دون وصوله إلى الناس، ثم بعد ذلك يبقى الناس غير مُلزمين بالدخول في الإسلام، فإذا دفعوا الجزية أمِنوا على أموالهم ودمائهم.

يقول: قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ [البقرة:256] "قد تبين أن الإسلام رشد، وأن الكفر غي، فلا يفتقر بعد بيانه إلى إكراه"، لا حاجة إلى الإكراه، "وقيل: معناها الموادعة، وأن لا يكره أحد بالقتال على الدخول في الإسلام، ثم نسخت بالقتال، وهذا ضعيف؛ لأنها مدنية وإنما آية المسالمة وترك القتال بمكة" حتى آيات القتال ليس فيها حمل أحد على الدخول في الإسلام، فبعضهم يقول منسوخة بقوله: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ [التوبة:73] وبقوله: قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ [التوبة:123]، وبقوله: سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ [الفتح:16] لكن هذا فيه ضعف، والنسخ لا يثبت بالاحتمال؛ ولهذا قال أبو جعفر بن جرير -رحمه الله-: بأنها مُحكمة[16]، وذكر أنها خاصة بأهل الكتاب إذا أدوا الجزية، هذا باعتبار أن الجزية لا تؤخذ من غير أهل الكتاب من العرب مثلًا، أو من المشركين، أو من طوائف المشركين، وأخذها النبي ﷺ من المجوس.

والحافظ ابن القيم -رحمه الله- تكلم على هذا المعنى، وأن الجزية تؤخذ من المشركين أيضًا، كما أخذها النبي ﷺ من المجوس[17]، وأن ذلك لا يختص بأهل الكتاب.

وبعضهم يقول: هي خاصة بسبب النزول، يعني: في أولئك من الأنصار الذين تهوّد أولادهم لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ لكن العبرة بعموم اللفظ والمعنى، لا بخصوص السبب.

وبعضهم يقول: هي خاصة في السبي من أهل الكتاب، يعني أنهم لا يُكرهون على الدخول في الإسلام.

لكن ابن القيم -رحمه الله- حملها على الجميع[18]، لا أحد يُكره على الدخول في الإسلام، لا من العرب من طوائف المشركين، ولا من غيرهم، وهذا هو الصحيح، وما نُقِل أن أحدًا يوضع السيف على رأسه ويقال له: أسلم وإلا قتلناك؛ ولهذا الذين يقولون: أن الإسلام انتشر بالسيف، هذا ليس بصحيح، الإسلام لم ينتشر بالسيف، لكن بالسيف فُتحت عامة البلاد، وصارت كلمة الله هي العليا؛ ولذلك بقي في تلك البلاد المفتوحة بقايا من المشركين، ممن كانوا على دينهم الأول، وما أُلزموا بالدخول في الإسلام، وهكذا فُتحت البلاد الشاسعة والواسعة؛ الشام، والعراق، وما وراء ذلك.

"قوله تعالى: بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى [البقرة:256] العروة في الأجرام هي: موضع الإمساك، وشدّ الأيدي، وهي هنا تشبيه واستعارة في الإيمان".

أجرام يعني: في الأشياء الحسية والمحسوسة هي موضع الإمساك، عروة الباب، وعروة الإناء، ونحو ذلك، موضع الإمساك، وشد الأيدي، فهي ما يتعلق به يعني: الممسك.

والوثقى: هي المحكمة، وهنا قال: فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى قال هنا: هي "تشبيه واستعارة في الإيمان" باعتبار أنه أقوى رباط، وأحكم أمر، وأوثق ما يُتمسك به لطلب العصمة والنجاة، فيبقى صاحبه على الحق ثابتًا مستقيمًا، دون أن يخشى انقطاعًا وانفكاكًا بإسلامه إلى الهلكة، هذا هو المعتصَم الذي تحصل به النجاة في الدنيا والآخرة، ويكون فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى أي: الحبل الوثيق، يعني: المحكم.

فالوثقى من الوثاقة، وهذا من باب التشبيه، والمراد: الإيمان، وما في معناه، وقد ذكر ابن جعفر بن جرير -رحمه الله- في هذا الموضع فقد تمسك بأوثق ما يُتمسك به[19]، يعني ما يتمسك به من طلب الخلاص لنفسه، وقال: فقد اعتصم من طاعة الله بما لا يخشى مع اعتصامه خذلانه إياه، وإسلامه عند حاجته إليه في أهوال الآخرة، كالمتمسك بالوثيق من عُرى الأشياء التي لا يخشى انكسار عُراها[20].

وقال مجاهد: هو الإيمان[21]، وقال السُدي: هو الإسلام[22]، ابن جرير يقول: هو مثلٌ للإيمان الذي اعتصم به المؤمن فشبهه في تعلقه به وتمسكه به بالمتمسك بعروة الشيء الذي له عروة يُتمسك بها[23].

وجاء عن عبد الله بن سلام أنه قال: "رأيت رؤيا على عهد النبي ﷺ فقصصتها عليه، ورأيت كأني في روضة -ذكر من سعتها وخضرتها- وسطها عمود من حديد، أسفله في الأرض وأعلاه في السماء، في أعلاه عروة، فقيل لي: ارق، قلت: لا أستطيع، فأتاني منصف، فرفع ثيابي من خلفي، فرقيت حتى كنت في أعلاها، فأخذت بالعروة، فقيل له: استمسك فاستيقظت، وإنها لفي يدي، فقصصتها على النبي ﷺ قال: تلك الروضة الإسلام، وذلك العمود عمود الإسلام، وتلك العروة عروة الوثقى، فأنت على الإسلام حتى تموت[24]، وهذا مُخَّرج في الصحيحين.

"قوله تعالى: لا انفِصَامَ لَهَا [البقرة:256] أي: لا انكسار لها ولا انفصام".

لا انفصام لها، الانفصام: الانكسار من غير بينونة، الفصل بخلاف القصم: فإنه يكون مع بينونة، فصمه وقصمه، فصمه يعني: لا انفِصَامَ لَهَا يعني: فصم الشيء كسره، وقصمه: كسر مع بينونة.

وجاء عن معاذ : لا انفِصَامَ لَهَا لا انقطاع لها دون دخول الجنة[25].

وعلى كل حال المقصود: هي عروةٌ ثابتة، وثيقة، لا انفِصَامَ لَهَا لا انكسار، فيكون ذلك ثباتًا وقوةً في المتمسك به، فإن ذلك لا يحصل معه انفصامٌ فيُسلمه ذلك إلى خوفٍ، أو شدةٍ، أو هلكة، فهذا الذي يُتمسك به، ويُتوثق منه، هذا طريق النجاة المحقق، وليست أشياء موهومة ومظنونة، ونحو ذلك لا انفِصَامَ لَهَا.

"قوله: يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ [البقرة:257] أي: من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، قوله: أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ [البقرة:257] جُمع الطاغوت هنا، وأفرد في غير هذا الموضع، فكأنه اسم جنسٍ لما عُبِدَ من دون الله، ولمن يضل الناس من الشياطين، وبني آدم".

أَوْلِيَاؤُهُمُ أصل هذا المادة (الولاية) يدل على القرب، سواء من حيث المكان، أو النسبة، أو الدين، أو الصداقة، أو النُصرة، أو الاعتقاد، وكل من ولي أمر آخر فهو وليه اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا [البقرة:257]، وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ [البقرة:257].

والطَّاغُوتُ فعلوت، من طغى يطغوا، إذا جاوز الحد، وبعضهم يقول: هو اسم الجنس، وبعضهم يقول: هو مصدر يوصف به الواحد والجمع.

يقول: "فكأنه اسم جنس لما عُبِدَ من دون الله، ولمن يضل الناس من الشياطين وبني آدم" فيدخل فيه الأصنام، وكل متعدٍّ طوره وحده، وقدره، وأصل الطغيان: تجاوز الحد؛ ولهذا فُسِّر بمعانٍ لا تتناقض، مثل: كائن، وقيل: ساحر، وقيل: كل من يُعبد من دون الله، فهو كل ذي طُغيان، وهذا الذي اختاره ابن جرير -رحمه الله-[26].

وهذه الآية: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يقول ابن جرير: بأنها نزلت فيمن كفر من النصارى[27]، ومن آمن من الكفار، اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ يعني: ظلمات الكفر والجهل إلى نور الإيمان والعلم.

وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ باعتبار أن النور هو نور الإيمان، فكانوا على الإيمان، فقال: من كفر من النصارى بهذا الاعتبار، ويمكن أن يُقال: يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ يعني: نور الفطرة وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين، فاجتالتهم عن دينهم[28]، كل مولودٍ يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه[29]، يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ بهذا الاعتبار، ومن ثمَّ فلا حاجة لتخصيصه بمن كفر من النصارى.

ولو أردنا أن نوجه قول ابن جرير -رحمه الله- السابق، بأن محمل وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ حملها على النصارى الذين كفروا، فباعتبار ما ذكرت من أنه يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ كانوا على الإيمان، فأخرجوهم إلى الكفر، هذا من النور إلى الظلمات، باعتبار أن الأول اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ كانوا في ظلمة، إذًا كانوا في كفر، فهذا في الكفار الذين أسلموا، ويقابله: إخراج هؤلاء من النور إلى الظلمات، أنهم كانوا على الإيمان فكفروا، يعني باعتبار أنها ليس المقصود الفطرة؛ لأنه قال في الأول: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ فكانوا في ظلمات، فلو كان المقصود الفطرة، فالفطرة سابقة لهذه الظلمات، فكان المقصود ما بعد الفطرة من الإيمان، يخرجهم الكفر والجهل إلى نور الإيمان والعلم، وهذا يُمكن أن يُوجه به قول ابن جرير، لكن المتبادر: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ من النور، والفطرة، والعلم، والهدى -إن كانوا على هدى- إلى الظلمات.

"قوله: الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ [البقرة:258] هو نمرود الملك، وكان يدّعي الربوبية، فقال لإبراهيم: من ربك؟".

يقولون: هو نمرود بن كنعان بن كوش بن سام بن نوح، يعني قريب عهد بنوح -عليه الصلاة والسلام- هذا قاله مجاهد[30]، يعني: بينه وبين نوح -عليه الصلاة والسلام- أربعة أو ثلاثة آباء، لكن بعضهم يقول غير ذلك، يعني: ليس هذا النسب بهذه الأسماء محل اتفاق، لكنه قريب العهد على كل حال.

"فقال لإبراهيم: من ربك؟ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ [البقرة:258] فقال نمرود: أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ [البقرة:258]، وأحضر رجلين، فقتل أحدهما وترك الآخر، فقال: قد أحييت هذا، وأمت هذا، فقال له إبراهيم: فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ [البقرة:258]: أي انقطع، وقامت عليه الحجة، فإن قيل: لِمَ انتقل إبراهيم عن دليله الأوّل".

الآن في هذا المعنى الذي ذكر في قوله: أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ [البقرة:258] أنه أحضر رجلين، وهذا يذكره عامة المفسرين، لكن ابن كثير -رحمه الله- يقول: بأنه ما أراد هذا، ما قصد أنه يأتي بواحد، وقد حُكم عليه مثلًا بالقتل فأنقذه، وآخر أخذه فقتله[31]، فقال: أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ فليس هذا هو المراد عند ابن كثير، علة ذلك أنه ليس بجواب لما قاله إبراهيم، وإنما أراد أن يدعي هذا المقام لنفسه، وأنه فعلًا هو الذي يحي ويميت، لا أنه يمكن أن يأخذ إنسانًا فيقتله، وآخر قد حُكم عليه بالموت أو القتل، ثم يعفو عنه، وينقذه من هذا، فيقول: ليس هذا الجواب لكلام إبراهيم؛ لأن كلام إبراهيم إن الله هو الذي يحي ويميت، يملك الحياة والموت، والإحياء والإماتة، فهو الذي يبعث الحياة فيمن شاء، وهو الذي يُميت الأحياء، فيقول: بأن هذا النمرود قصد أن ينسب ذلك إلى نفسه، وأن يضيف ذلك إلى نفسه، وأنه يملك الأحياء والإماتة، فإبراهيم -عليه الصلاة والسلام- رد عليه بردٍّ لا يستطيع أن ينسبه لنفسه، وهي هذه الشمس، يعني جاءه بدليلٍ آخر لا يستطيع أن يُكابر معه.

"فإن قيل: لم انتقل إبراهيم عن دليله الأوّل إلى هذا الدليل الثاني، والانتقال علامة الانقطاع؟"

الانقطاع: يعني في المناظرة.

"فالجواب: أنه لم ينقطع، ولكنه لما ذكر الدليل الأوّل: وهو الإحياء والإماتة كان له حقيقة، وهو فعل الله، ومجازًا وهو فعل غيره، فتعلق نمرود بالمجاز غلطًا منه، أو مغالطة، فحينئذٍ انتقل إبراهيم إلى الدليل الثاني؛ لأنه لا مجاز له، ولا يمكن الكافر عدول عنه أصلًا".

هذا بناءً على ما ذكره ابن جُزي، والذي يذكره عامة المفسرين، أن المقصود بالدعوة هذه: أنه يقتل إنسانًا ويعفو عن آخر، وعلى كلام ابن كثير الذي ذكرته آنفًا: فليس هو المراد، بل ادعى ذلك فعلًا لنفسه، يعني الإيحاء والإماتة، فلماذا انتقل إبراهيم إلى الدليل الآخر، ولم يرد عليه، حينما قال: أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ؟

فابن كثير يرى أن المقام الأول في الأحياء والإماتة كالمقدمة للمقام الثاني، ويُبيَّن بطلان ما ادعاه الملك في الأول والثاني، وهكذا قال الحافظ ابن القيم -رحمه الله-: بأنه إلزامٌ على طرد الدليل إن كان حقًّا[32]، يعني: إن كنت محقًا فيما تقول: إنك تحي وتميت، فهذه الشمس تأتي من المشرق، وتغرب من المغرب، فاعكس هذا النظام وغيّره، وقد رد ابن كثير -رحمه الله- قول أهل المنطق: بأنه انتقل من دليلٍ إلى دليلٍ أوضح منه[33]، يعني: الدليل الأول كما يقول ابن جُزي: يحتمل المجاز، وجاء بدليلٍ لا يحتمل، فابن كثير يرد هذا، وكذلك الحافظ ابن القيم[34]، يعني يرون أن الدليلين بينهما ارتباط، وأن الأول كالمقدمة للثاني، فيكون ذلك من جهة المطالبة بأن يأتي بالشمس من المغرب مثلًا، أن يكون ذلك إبطالًا للأول والثاني، تقول: بأنك تحي وتميت، فهات الشمس من المغرب إذا كنت صادقًا في دعواك، فذكر له هذين الدليلين، والله تعالى أعلم.

أسئلة:

س: يقول: بماذا كانت تُسمى دور العبادة سابقًا؟ هل كانت تسمى كنائس أم مساجد؟

ج: الله يقول: لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ [الحج:40] والصوامع: مكان للرهبان، يقولون: والبيع هي مكان اليهود، قال بعضهم: الصلوات مكان للنصارى، ثم ذكر المساجد، وهي أماكن العبادة للمسلمين.

س: يقول: قال تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ [البقرة:114] وقوله: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا [الأنعام:21] فأيهما أشد؟

ج: هذه تكلمنا عنها من قبل، أفعل التفضيل قد يُراد بها مطلق الاتصاف، وأنها لا تمنع أيضًا التساوي، فلا أحد أظلم، لا أحد يزيد على هؤلاء في الظلم، لكن لا تمنع التساوي، كلهم بلغ الغاية في الظلم، أفعال التفضيل لا تمنع التساوي ولكنها تمنع الزيادة.

وبعضهم يقول: كل واحدة من هذه الآيات مختصة ببابها، ففي المنع لا أحد أظلم ممن منع مساجد الله، وفي الافتراء: لا أحد أظلم من افترى على الله كذبًا، وفي الإعراض: لا أحد أظلم ممن ذُكِّرَ بآيات ربه، ثم أعرض عنها.

س: يقول: ماذا يفعل من يجد في قلبه احتقار الناس؟

ج: هذا كبر، يحتاج أن يتواضع لله بالنظر كثيرًا في القرآن والتدبر، وكذلك أيضًا في معاني الأسماء الحسنى، فيعرف عظمة الله، ويعرف ضعفه، ثم يتأمل هو أيضًا في عجزه وضعفه ومسكنته، ومظاهر هذا الضعف لا تخفى، ثم أيضًا يتذكر ما جاء في الكبر لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر[35]، وأنه بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم[36].

س: هل إذا وُجِدَ عندي مبلغ أمانة لشيء خيري هل يجوز تشغيل المبلغ إذا لم يحتج له، مع ضمان الخسارة، والمقصد: زيادة المبلغ، وبقية الأجر؟

ج: إن كان زكاة فلا، يجب إيصالها للمستحقين، وإن كانت غير زكاة، فيمكن أن يُثمر ذلك بالطرق المأمونة، التي ليس فيها مجازفة.

س: هل جميع كلام الله أعظم من خلقه؟

ج: كلام الله صفة من صفاته، وصفاته غير مخلوقة، فلا يُقارن الخالق بالمخلوق، فالخالق وصفاته أعظم من جمع خلقه، هذا لا يحتاج إلى سؤال.

س: ما منع الخُلَّة؟

ج: ذكرت هذا.

س: ما نصيحتك للرجل الذي يدخل بيته بعد عمله والجوال لا يفارق يده ليل نهار، ولا يهتم بالسؤال عن أهله وعن أحوالهم؟

ج: هذا لا يليق للأسف، وهو أمر يقع ويتكرر، ويشتغل الناس عن الولدين، وعن الأولاد، وعن ذكر الله، والاشتغال بما ينفع من العلم، وقراءة القرآن، بهذه الوسائل والوسائط والأجهزة، فالصغير والكبير كلٌّ قد يشغله النظر فيها عما هو أولى وأهم، فيجلس الإنسان الجلوس الطويلة ربما عند أبويه وهو في شغلٍ شاغل عنهما، فهذا لا يليق، يُعطي لهذه الأشياء وقتًا محددًا نصف ساعة باليوم، أو نحو هذا، ويكفي، ولا حاجة إلى الاشتراك بها مجموعات الكثيرة، ومتابعة الحسابات الكثيرة، وإنما يكفي أن يوجد مجموع العائلة يتواصل معهم، ولا يكون هذه الوسائط والوسائل سببًا للتقاطع، وإنما تكون سببًا للتواصي، والتواصل، والتقارب.

س: ما الحكم فيمن يُجاهر بحرية الاعتقاد بدعوى آية لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ؟

ج: يعني ماذا يجاهر بحرية الاعتقاد؟ يعني هو يقول: الناس أحرار في اعتقادهم؟ هذا كلام مجمل، فالمسلم إذا ترك الإيمان، وارتد عن الإسلام، فليس بحر، وإنما المرتد يُقتل من بدلَّ دينه فاقتلوه[37]، فلا حرية هنا، وإن كان المقصود بأنه لا يُكره الكافر على الدخول في الإسلام، فهذا صحيح، لكن هؤلاء يُلقون عبارات مجملة من غير ضابط، كفعل الجاهلين، أو أصحاب الهوى، فيخلط الحق بالباطل، وهذا غير صحيح.

س:...

ج: آيات المسالمة التي فيها الأمر بالمصانعة للكفار، والعفو، والصفح، والإعراض عنهم، في كثير من سور القرآن يقولون بأن آية السيف، الآية الخامسة من سورة براءة: فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التوبة:5] يقولون: بأنها نسخت مائة وأربعة عشر آية، وبعضهم يقول: مائة وأربع عشرين آية، يقولون: كل الآيات التي فيها صفح، وعفو، وإعراض، وصبر على آذاهم، ونحو ذلك أنها منسوخة، والصحيح: أنها ليست منسوخة، وأن ذلك يكون على أحوال؛ إذا كانت الأمة في حالة من الضعف فالصبر، والصفح، والإعراض، وإذا كانت الأمة قوية فهنا الانتصار والجهاد في سبيل الله، لكن ليس ذلك بمعنى إكراه الناس على الدخول في الإسلام.

فهي ليست منسوخة، والنسخ لا يثبت بالاحتمال، فهو يرد يقول: بأن هذه مدنية، وأن الآيات التي فيها الإعراض والصبر والصفح، وعدم الإكراه ونحو ذلك، هذه في مكة، وهذه الآية مدنية، فكيف يُقال: أنها من جملة هذه الآيات التي نُسخت؟ هو يريد أن يقول هذا، لكن على كل حال: النسخ لا يثبت بالاحتمال.

 

  1. أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضل سورة الكهف، وآية الكرسي برقم: (810).
  2. أخرجه البخاري في كتاب فضائل القرآن، باب فضل سورة البقرة برقم: (5010).
  3. أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب في قوله : إن الله لا ينام، وفي قوله: حجابه النور لو كشفه لأحرق سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه برقم: (179).
  4. تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (4/532).
  5. زيارة القبور والاستنجاد بالمقبور (ص:19).
  6. أخرجه أبو داود في باب تفريع أبواب الوتر، باب ما جاء في آية الكرسي برقم: (1460) وصححه الألباني.
  7. أخرجه سنن الترمذي ت شاكر في أبواب فضائل القرآن باب ما جاء في سورة آل عمران برقم: (2884).
  8. مختصر قيام الليل وقيام رمضان وكتاب الوتر (ص:168).
  9. الفتاوى الكبرى لابن تيمية (6/493).
  10. المعجم الكبير للطبراني (12/39-12404) والتوحيد لابن خزيمة (1/248).
  11. تفسير ابن كثير ت سلامة (1/680).
  12. تفسير مقاتل بن سليمان (5/106).
  13. أخرجه أبو داود في كتاب الجهاد، باب في الأسير يكره على الإسلام برقم: (2682) وصححه الألباني، وانظر: أسباب النزول ت الحميدان (ص:83).
  14. أخرجه الدارقطني في سننه برقم: (63) والبيهقي في السنن الكبرى برقم: (130).
  15. التفسير من سنن سعيد بن منصور (3/962-431) ومصنف ابن أبي شيبة (3/108-12550).
  16. تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (4/553).
  17. أحكام أهل الذمة (1/3).
  18. أحكام أهل الذمة (1/3).
  19. تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (4/559).
  20. تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (4/561).
  21. تفسير مجاهد (ص:243) وتفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (4/560).
  22. تفسير ابن أبي حاتم - محققا (2/496).
  23. تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (4/559).
  24. أخرجه البخاري في كتاب مناقب الأنصار، باب مناقب عبد الله بن سلام برقم: (3813) ومسلم في فضائل الصحابة، باب من فضائل عبد الله بن سلام برقم: (2484).
  25. تفسير ابن أبي حاتم - محققا (2/497).
  26. تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (4/558).
  27. تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (4/565).
  28. أخرجه مسلم في كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب الصفات التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنة وأهل النار برقم: (2865).
  29. أخرجه البخاري في كتاب الجنائز، باب ما قيل في أولاد المشركين برقم: (1385) ومسلم في القدر، باب معنى كل مولود يولد على الفطرة، برقم: (2658) واللفظ للبخاري.
  30. تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (5/430).
  31. تفسير ابن كثير ت سلامة (1/686).
  32. مفتاح دار السعادة (2/205).
  33. تفسير ابن كثير ت سلامة (1/686).
  34. مفتاح دار السعادة (2/205).
  35. أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب تحريم الكبر وبيانه برقم: (91).
  36. أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم ظلم المسلم، وخذله، واحتقاره ودمه، وعرضه، وماله برقم: (2564).
  37. أخرجه البخاري في فضل الجهاد والسير، باب: لا يعذب بعذاب الله برقم: (3017).

مواد ذات صلة