السبت 21 / جمادى الأولى / 1446 - 23 / نوفمبر 2024
[20] تابع قوله تعالى "قلنا اهبطوا منها جميعا" الآية 38 إلى قوله تعالى "أتأمرون الناس بالبر" الآية 44.
تاريخ النشر: ٢٢ / شوّال / ١٤٢٥
التحميل: 5420
مرات الإستماع: 3327

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المفسر -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى: وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ ۝ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ [سورة البقرة:45-46].

يقول تعالى آمرًا عبيده فيما يؤمّلون من خير الدنيا والآخرة، بالاستعانة بالصبر والصلاة، كما قال مقاتل بن حَيَّان في تفسير هذه الآية: استعينوا على طلب الآخرة بالصبر على الفرائض، والصلاة، فأما الصبر فقيل: إنه الصيام، نص عليه مجاهد.

قال القرطبي وغيره: ولهذا يسمى رمضان شهر الصبر كما نطق به الحديث.

وقيل: المراد بالصبر الكف عن المعاصي؛ ولهذا قرنه بأداء العبادات وأعلاها: فعل الصلاة.

روى ابن أبي حاتم عن عمر بن الخطاب، - قال: الصبر صبران: صبر عند المصيبة حسن، وأحسن منه الصبر عن محارم الله.

قال: وروي عن الحسن البصري نحو قول عمر -.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فقوله تعالى: وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ هذا خطاب لبني إسرائيل كما هو ظاهر من هذه الآيات، كما أن السياق يدل على ذك.

ومعنى وَاسْتَعِينُواْ السين والتاء للطلب، أي اطلبوا العون بالصبر والصلاة.

والمعاني التي ذكرها في الصبر وكذلك ما لم يذكره كثير منها يدخل في معناه العام، فالصبر هو أصله بمعنى الحبس، تقول: صبرت نفسي على كذا، بمعنى حبستها على كذا.

فصبرت عارفة بذلك حرة ترسوا إذا نفس الجبان تطلع

والمعنى أنها ثبتت فحبسها عن الفرار في ساحة القتال.

فحبس النفس على طاعة الله بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، وحبس النفس عن التسخط والجزع، كل ذلك من الصبر، الصبر على الطاعة، والصبر عن المعصية، و الصبر على أقدار الله المؤلمة، فكل أمر شاق على النفوس مما يتصل بالتروك أو كان من جهة المأمورات فإنه بحاجة إلى صبر، فالله نهى عن أشياء ومنها التسخط والجزع عند المصائب، وعلى هذا فالإنسان مأمور بأن يصبر؛ لأن النفس تدعوه إلى ما جبلت عليه من الضعف والميل إلى رغباتها ومطلوباتها، فالمدافعة والحبس والمنع عن ذلك يحتاج إلى جهد، فهذا صبر، وكذلك فعل المأمورات يحتاج إلى مجاهدة، ويحتاج إلى عمل من العبد كي يحمل نفسه على هذه الطاعة وهذا المأمور، وإلا فإن النفس تدعوه إلى الإخلاد والراحة، ومن هنا كان بحاجة إلى الصبر.

ولذا يمكن أن يقال بصفة عامة: إن الصبر هو الثبات على طاعة الله  بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، فالصبر على الأقدار المؤلمة بهذا الاعتبار داخلاً في الأمرين، فالله أمر العبد عند المصيبة بأمور ونهاه عن أمور، فلهذا هو يحتاج إلى حبس للنفس.

ولا شك أن كل مطلوب ترتفع به النفس فهو بحاجة إلى صبر حتى في المطالب الدنيوية، فلا يمكن أن يرتفع الإنسان ويرتقي لا في علم ولا في عمل إلا بالصبر.

وليس هناك شيء لا يحتاج إلى الصبر إلا التوافه والدنايا والشهوات، بل حتى هذه الأمور ليس في كل أحوالها لا تحتاج إلى صبر فأحياناً لا يحصلها الإنسان إلا بشيء من الصبر، فلا يكاد ينفك عن الصبر أمر من الأمور.

فالله يقول: وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ ومن فسر الصبر بالصوم، باعتبار أن الصوم متعلق بالصبر، وأن رمضان هو شهر الصبر فليس بظاهر، وإنما الأقرب أن يفسر الصبر بمعناه الظاهر المتبادر المعروف من كلام العرب، فإذا أطلق الصبر فهو معروف، فلا يلجأ إلى معنىً آخر من غير دليل.

وأما قوله: وَالصَّلاَةِ فإن الصلاة من أكبر العون على الثبات في الأمر، كما قال تعالى: اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ الآية [سورة العنكبوت:45].

وجه تعلق الصلاة بالصبر يمكن أن يقال فيه –والله تعالى أعلم- بأن الصلاة عبادة يقرأ فيها القرآن في أعظم الأحوال، وذلك حينما العبد ربه في صلاته، فقراءة القرآن في الصلاة أعظم من قراءة القرآن خارج الصلاة، والقرآن يأمره بالصبر، ويروض نفسه على الطاعة، أضف إلى ذلك أن الصلاة من أعظم ما يروض النفوس، إذ إن النفس فيها تطمئن، ويحصل لها ما يحصل من السكينة، والخضوع، والخشوع، والإخبات، والتواضع، وهذه الصلاة التي تؤثر هذا التأثير ليست أي صلاة، وإنما هي الصلاة التي تقام، وَأَقِمِ الصَّلَاةَ وليست الصلاة التي تؤدى، وإقامة الصلاة ذكرنا مرراً بأن المقصود به: أن يأتي بها مستوفية لأركانها وشروطها وواجباتها بخشوعها، وسننها وما إلى ذلك، وعلى قدر إقام الصلاة يكون قدر التأثير.

 إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ [سورة العنكبوت:45] ذكرنا مراراً أن الحكم المعلق على وصف يزيد بزيادته، وينقص بنقصانه، فالحكم هنا: إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ هذه النتيجة، والوصف هو قوله: وَأَقِمِ الصَّلَاةَ فنهيها عن الفحشاء والمنكر مرتب على هذا الوصف الذي هو إقامتها، والحكم المعلق على وصف يزيد بزيادته وينقص بنقصانه، فعلى قدر إقامة الإنسان للصلاة على قدر ما تؤثر فيه، فيتفاوت الناس بذلك تفاوتاً عظيماً، فهذه الصلاة التي يحصل بها هذا الخضوع وتذليل الجبهة والوجه وهي أشرف الأشياء، فتستوي مع القدمين في حال السجود، إلى غير ذلك مما يفعله ويقوله الإنسان حينما يمد عنقه وينحني في الركوع في حال يقول فيها: سبحان ربي العظيم، وهو في غاية الذل، فإذا صار في أسفل شيء يقول: سبحان ربي الأعلى، كل ذلك يؤثر في هذه النفس فتُخبت وتستكين، ومن ثم فإن ذلك أدعى وأعون للإنسان على أن يطمئن في أموره كلها عند المصائب، ويكون ذلك دافعاً له على زم النفس وخطمها وتثبيتها على طاعة الله وعن معصيته، فتنقاد له نفسه هينة سهلة، وهذا أمر مشاهد في المصلين إذ أنهم أقل من غيرهم من ناحية الانفلات والتمرد على الله ، ومحادته بالمعاصي والموبقات، وليست هذه تزكية مطلقة للمصلين وإنما المراد أنهم أقل حالاً في التفلت ممن لا يصلون، وقد يحصل منهم ما يحصل من غيرهم، لكن الذي لا يصلي تتوقع منه أي شيء، ولا تدري ما الذي يأتيك منه، لكن إذا قيل لك: فلان يصلي حتى الفجر في المسجد، هذا مؤشر أن هذا الإنسان يرجى منه خيراً كثيراً، ففيه خير كثير، تطمئن إليه ابتداءً، ثم بعد ذلك تحتاج أن تعرف بعض أحواله إن كان لك حاجة بهذا، لكن إذا قيل لك: لا يدخل المسجد، فإنك مباشرة تنقبض؛ لأن هذا لا تدري ما الذي يأتيك منه؛ لأن إنساناً لا يدخل المسجد إن زوجته فلا تدري كيف يصنع؛ إذ ربما كان القرب منه سبباً لكل كارثة، فنفسه غير مروضة، وإنما هي نفس منفلتة، لا ترعوي عن شيء إلا أن يكون الخوف من الناس أو نحو ذلك، فالمقصود أنه لا بد من الاستعانة بالصبر والصلاة على هذه الأمور جميعاً.

والخطاب وإن كان لبني إسرائيل إلا أن ذلك يشمل غيرهم بالضرورة؛ لأن هذه الأمور هي قضايا أخبر الله عنها أنها تؤثر هذا التأثير، وطالبهم بها، فنحن أيضاً مطالبون بذلك.

على أي شيء نستعين بالصبر والصلاة؟:

نستعين بالصبر والصلاة على تذليل المصاعب والمشاق في أمورنا الدنيوية والأخروية، ومن ذلك المشاق التي تواجهنا عند أداء العبادة، والمشاق التي تحصل بسبب فطم النفس عن الشهوات، والمشاق التي تحصل بترويض النفس عند المصيبة على حال يرضاها الله من الصبر أو الشكر أو الرضى –والرضى بين الشكر والصبر- فكل ذلك يُحتاج إليه.

ومن ذلك –خاصة وأن الخطاب موجه لبني إسرائيل- فطم النفس عن مطلوباتها من تحصيل الرئاسات والعلو في الأرض، والترفع على الخلق، وهذه من أعظم الشهوات، فقد يستطيع الإنسان أن يقوم الليل ويصوم النهار، ومع ذلك إذا نوزع الرئاسة كشر عن أنيابه واستمات، ولربما باع دينه من أجل هذه الرئاسات وقال على الله الكذب، والإفك والباطل والزور، وكل ذلك من أجل تحصيل رئاسة يطلبها، أو من أجل تثبيت رئاسته، وهذا الأمر أكثر من يحتاج إليه أهل العلم، فهم أكثر الناس حاجة إلى مثل هذا، ولذلك لا بد من أن تطهر النفس وتزكى من الحسد ومن التطلع إلى ما عند الآخرين.

إنك تجد الناس لربما يحصل لهم حث على العلم وعلى طلب العلم، ويفرح بطالب العلم إذا نشأ، فإذا برز وتميز لربما رماه بعضهم، ونصب نفسه عدواً له، وحاول أن يغمطه حقه، وتمنى زوال هذا الإنسان، مع أن هذا الإنسان قد لا يعرفه ولم يسيء إليه، ولم يجد منه أي تقصير في حقه، ولكن النفس تشتعل بالحسد والغيرة التي تدعو إلى فعل كل قبيح من غيبة وحسد ونحو ذلك من أمراض القلوب، وكلام أهل العلم كثير جداً في هذا الموضوع وفيه بيان كيف أن النفس تحتاج إلى مجاهدة كبيرة لفطمها عن هذه الأمراض الخبيثة، وبالتالي ينبغي للمرء أن فيستعين على ذلك بالصبر والصلاة.

والضمير في قوله: وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ [سورة البقرة:45] عائد إلى الصلاة، نص عليه مجاهد، واختاره ابن جرير.

ويحتمل أن يكون عائداً على ما يدل عليه الكلام وهو الوصية بذلك، كقوله تعالى في قصة قارون: وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ [سورة القصص:80]، وقال تعالى: وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ۝ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [سورة فصلت:34-35] أي: وما يلقى هذه الوصية إلا الذين صبروا، وَمَا يُلَقَّاهَا أي: يؤتاها ويلهمها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ.

قوله: وَمَا يُلَقَّاهَا: يعني هذه الخصلة أو الوصية، ومثل ذلك قوله: وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ [سورة القصص:80].

وقوله تعالى:وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ [سورة البقرة:45] القول بأن الضمير يرجع إلى الصلاة هذا باعتبار القاعدة المعروفة وهي أن الضمير يرجع إلى أقرب مذكور، فيكون المعنى: وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا أي الصلاة.

ومن قال: إن الضمير يرجع إلى ذلك جميعاً فهو فسره بمعنى وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ أي: الوصية المذكورة، فالهاء هنا للتأنيث فيرجع إلى معنى الوصية المذكورة بالأمر بالاستعانة بالصبر والصلاة.

وعلى كل حال لا إشكال بأن يقال: إنه يرجع إلى الأمرين من حيث ما جرى استعماله في القرآن وفي لغة العرب إذا كان مراداً بذلك مجموع الأمرين -الصبر والصلاة- وهذا له أمثلة كثيرة، فتارة يرجع الضمير إلى أحد المذكورين باعتبار أن الآخر يدخل فيه، وتارة باعتبار أنه الأهم، أي يرجع إلى الأهم والمقصود الأعظم، ومن أمثلة ذلك:

لما أمر الله بطاعته وطاعة رسوله، ثم أعاد الضمير إلى الله، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ [سورة الأنفال:20]، والأصل أن يقال: ولا تولوا عنهما، فهذا باعتبار أن طاعة الرسول ﷺ داخلة في طاعة الله، فهذا مثال على الأول،أي: أن يكون الثاني داخلاً في الأول.

وتارة لأنه الأهم مثل قول الله في توليهم عن النبي ﷺ وهو يخطب يوم الجمعة: وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا [سورة الجمعة:11]، فهو ذكر قضيتين، تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا ثم قال: انفَضُّوا إِلَيْهَا فهذا كما سبق يمكن أن يقال بأنه رجع إلى التجارة؛ لأنها هي المقصودة، وليس اللهو هو المفصود، وإنما اللهو -وهو الطبل على هذا التفسير- كان يضرب به بين يدي القافلة إيذاناًَ بقدومها، وهذا قبل أن تحرم المعازف، وعموماً فالقافلة أصلاً لدحية الكلبي قبل إسلامه، فأعاد الضمير إلى أحد المذكورين، قبل؛ لأنه هو المقصود، هو الأهم.

ومنه قول حسان :

إن شرخ الشباب والشعر الأسود ما لم يعاصَ كان جنوناً

لأصل أن يقول: ما لم يعاصيا، فأرجع الضمير إلى أحدهما فقال: ما لم يعاصَ كان جنوناً، وهذا كثير جداً.

وعلى كل تقدير، فقوله تعالى: وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ أي: مشقة ثقيلة إلا على الخاشعين.

قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس -ا: يعني المصدّقين بما أنزل الله.

قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس -ا: يعني المصدّقين بما أنزل الله: معاني الخشوع ترجع إلى معنى التطامن، إذا قلت: أرض خاشعة فإنه يصدق عليها هذا المعنى، وهكذا في كل استعمالاته يرجع إلى معنى التطامن.

وكلام أهل العلم فيه كثير جداً، لكنه معنىً يلتئم من الذل والانكسار والمحبة مع التعظيم، تجتمع هذه المعاني فيه، ولهذا يفسره بعضهم بأنه لين القلب ورقته وخضوعه وانكساره، وكثير من الألفاظ قد لا يمكن تفسيرها بلفظ واحد، تقول: كذا هو كذا، إلا إذا أردت ما يقرب من معناه أو تفسير اللفظ بنوع من أنواعه أو بجزء معناه، فتقول: الخشوع هو التطامن أو التواضع، لكن هذا التفسير لا يكفي، فهو ليس مجرد التطامن، وإنما يكون مع الخضوع والذل والانكسار والمحبة والتعظيم، فإذا اجتمعت هذه في القلب مع لينه ورقته قيل له: الخشوع، ويظهر أثر ذلك على الجوارح؛ لأن أصل الخشوع في القلب، فما يقال عن الخشوع الذي يكون في الجوارح إنما هو أثر من آثاره، والله أعلم.

لذلك لما وصف الله الأرض بقوله: بأنها ترى الأرض بقوله: خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ [سورة فصلت:39] ففيها معنى التطامن، فإذا جاءها المطر انتفخت وارتفعت بالنبات، والله أعلم.

وقوله تعالى: الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ [سورة البقرة:46] هذا من تمام الكلام الذي قبله، أي: وإن الصلاة أو الوَصَاة لثقيلة إلا على الخاشعين الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم، أي: يعلمون أنهم محشورون إليه يوم القيامة، معروضون عليه.

وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، أي: أمورهم راجعة إلى مشيئته، يحكم فيها ما يشاء بعدله، فلهذا لما أيقنوا بالمعاد والجزاء سَهُل عليهم فعلُ الطاعات وترك المنكرات.

فأما قوله: الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ قال ابن جرير -رحمه الله: العرب قد تسمي اليقين ظناً، والشك ظناً نظير تسميتهم الظلمة سُدْفة، والضياء سُدفة، والمغيث صارخاً، والمستغيث صارخاً، وما أشبه ذلك من الأسماء التي يسمى بها الشيء وضدّه، ومنه قول الله تعالى: وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُم مُّوَاقِعُوهَا [سورة الكهف:53].

يعني أن هذا من أنواع المشترك؛ لأن المشترك تارة تدخل فيه معان متناقضة، وتارة معان متضادة، وتارة متباينة، فهذه الأنواع الثلاثة كلها تخل في المشترك.

هنا الَّذِينَ يَظُنُّونَ يدخل فيه اليقين، ويدخل فيه أيضاً الظن المعروف وهو الرجحان، أي: رجحان أحد الطرفين؛ لأن القسمة رباعية، فأعلى ذلك اليقين، وهو الذي لا يكون معه شك أو تردد، ثم يلي ذلك الرجحان –الطرف الراجح- وذلك أن يظن ظناً غالباً، يغلب على ظنه، فيقال له: ظن، ويليه الشك، وهو أن يستوي الطرفان بحيث لا يترجح عنده شيء، ثم يأتي بعد ذلك الوهم، فهذه هي القسمة الرباعية.

والوهم هو الطرف المرجوح، فلو قلت لك: ما حكم الصلاة على الحرير؟

إذا كان عندك يقين في الحكم فهذا يقين، إذا كان عندك ظن راجح تقول: أظنه محرم، وإذا نظرت إلى الطرف المرجوح، بمعنى أن عندك نسبة عشرة بالمائة أنه يجوز فإن الالتفات إلى هذا إنما هو التفات إلى الوهم، وإذا كانت القضية مستوية عندك فهذا هو الشك.

وظن ووهم وشك محتمل لراجح أو ضده أو ما اعتدل

هذه التقسيمات عند أهل المنطق، وهي موجودة في كتب الأصول، والبيت الذي ذكرته من مراقي السعود.

وفي اللغة يطلق الظن على العلم، كما قال الشاعر:

فقلت ظنوا بألفي مدجج سراتهم في الفارسي المسرج

قوله: ظنوا بألفي مدجج يعني: أيقنوا، فهو يهددهم بالجيش،ف يقول لهم: أيقنوا بأني سأوصل لكم ألفي مدجج بالسلاح، فالظن يأتي في اللغة بمعنى اليقين، وهذا جاء في القرآن في أول سورة البقرة: الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ [سورة البقرة:46]، وكذلك في قوله في الآية الأخرى: الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو اللّهِ [سورة البقرة.:249] فهذا لا شك أن المقصود به اليقين؛ لأن الظن في مثل هذه الأمور لا يغني شيئاً.

كما أن الظن يطلق في لغة العرب على الطرف الراجح، وهو أكثر استعمال كثير من أهل العلم والفقهاء وغير ذلك، وغالب الاستعمال في كلام الناس أن الظن هو الطرف الراجح، وقد جاء استعماله في الطرف المرجوح أو الشك أو الوهم، وذلك في مثل قوله تعالى على سبيل الذم: إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ [سورة الأنعام:116]، فليس المقصود به هنا الطرف الراجح ولا اليقين وإنما المقصود التخرص والتقول بلا علم ولا بصيرة ولا هدى، فمثل هذا يقال له أيضاً: ظن، فإذا رأيت الظن في القرآن في سياق الذم فليس المقصود به اليقين، ولا الطرف الراجح، وإنما المقصود به التخرص، واتباع الأوهام وما أشبه ذلك.

فهنا الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم أي: يوقنون أنهم ملاقوا ربهم.

وكذلك قوله تعالى: وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُم مُّوَاقِعُوهَا [سورة الكهف:53]، أي أيقنوا أنهم داخلون فيها، فهذه قضية لا تحتمل معنىً آخر.

قلت: وفي الصحيح: أن الله تعالى يقول للعبد يوم القيامة: ألم أزوجك؟ ألم أكرمك؟ ألم أسخر لك الخيل والإبل وأذرك ترأس وتربع؟ فيقول: بلى، فيقول الله تعالى: أظننت أنك ملاقيَّ؟ فيقول: لا. فيقول الله: اليوم أنساك كما نسيتني[1].

قوله: (أظننت): يعني أعلمت أنك ملاقيَّ، والله تعالى أعلم. 

وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.

  1. أخرجه مسلم في كتاب: الفتن وأشراط الساعة (2968) (ج 4 / ص 2279). 

مواد ذات صلة