الخميس 18 / رمضان / 1445 - 28 / مارس 2024
(003-ب) من قوله تعالى (قال رب اجعل لي آية..) الآية 41 – إلى قوله تعالى (فاعبدوه هذا صراط مستقيم..) الآية 50
تاريخ النشر: ٠٥ / محرّم / ١٤٣٨
التحميل: 1177
مرات الإستماع: 1363

"قول الله تعالى: اجْعَلْ لِي آيَةً [آل عمران:41] أي: علامةً على حمل المرأة".

اجْعَلْ لِي آيَةً الآية كما سبق هي العلامة، وكما قال ابن جرير -رحمه الله-: إن كان هذا النداء والصوت صوت الملائكة، وإشارة منك فاجعل لي آية؛ ليزول عني وسوسة الشيطان[1]، هذا الذي ذكره ابن جرير، يعني لماذا طلب الآية؟ علامة، ويمكن أن يُقال: بأنه طلب ذلك ليطمئن قلبه، يعني إذا حصل الحمل؛ لأنه إذا انعقد الحمل برحمها يريد آية يعرف أن الحمل وُجد، ليس عندهم في السابق مثل هذه الأشياء الموجودة الآن، إنما يُعرف الحمل بعد مدة بعلامات، لكن في أول ما ينعقد ما تعلم المرأة بذلك، أما الآن تحاليل الحمل تُخرج هذا، فأراد أن يعرف أن الحمل وجد من باب ليطمئن قلبه.

"آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ أي: علامتك ألا تقدر على كلام الناس، ثلاثة أيام، يمنع بمنع لسانه -وفي النسخة الخطية: يمنع لسانه عن ذلك- مع بقاء الكلام بذكر الله -وفي النسخة الخطية-: مع بقاء قدرته على التكلم بذكر الله".

آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ يعني ينحبس لسانه، وليس أنه يصمت باختياره، هذه ليست آية، وإنما الآية ألا يستطيع الكلام، لا يقدر على الكلام ثلاثة أيام، وهو سليم من غير علة، وليس به بأس يمنعه من الكلام، ولكنها آية من الله -تبارك وتعالى- وهذه آية على ظاهرها، كما قال الله -تبارك وتعالى- وبعض السلف -واختاره ابن جرير- قال: هي آيةٌ وعقوبة[2]، وهذا غريب، ولا يخلو من إشكال وبُعد، عقوبة على ماذا؟ وهذا مقام تفضل وتكريم، وقد ذكره الله، وقص خبره لبيان قدرته فانحباس الكلام، ليست عقوبة، وكونه طلب الآية هذا ليس بشك، وإنما كان ذلك من باب طلب ما يحصل به طمأنينة النفس، -والله أعلم-.

"يُمنع لسانه عن ذلك مع بقاء قدرته على التكلم بذكر الله؛ ولذلك قال: وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا".

ليس الذكر هنا المقصود به بالقلب، هو حُبس لسانه من النطق، إلا بذكر الله؛ لهذا يقال: بأن ذلك يدل على منزلة الذكر وأهميته، فهذا مقام إظهار آية يعرف بها الحمل، فهو ممنوعٌ من الكلام، لكن ذكر الله لا غنى للمؤمن عنه بحالٍ من الأحوال، فكيف يبقى ثلاثة أيام لا يذكر ربه؟! فاستُثني الذكر، وهذا يدل على أهمية الذكر ومنزلته، وأنه ينبغي أن يكون هجير الإنسان، ويكثر من الاشتغال به، فلو مُنع أحدٌ من الذكر لكان هذا أولى بالمنع، -والله أعلم- لكنه استُثني.

"وَاذْكُرْ رَبَّكَ قال: وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا إنما حُبس لسانه عن الكلام تلك المدة؛ ليخلص فيها لذكر الله شكرًا على استجابة دعاءه، ولا يشغل لسانه بغير الشكر والذكر".

وقد يُقال غير هذا، يعني حبس لسانه إظهارًا للآية، وليس من أجل التفرغ، وإنما آية كما طلب، وأمره ووجهه بهذه الحال أن يكثر من ذكر الله كما أمر الله أهل الإيمان يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا [الأحزاب:41] وهنا قال له: وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ [آل عمران:41]، فهنا لما ذكر العشي -أعني المفسر- بعضهم يقول: التسبيح يعني الصلاة، العشي من بعد الزوال، فتدخل فيه صلوات الْعَشِيِّ، وَالإِبْكَارِ صلاة الفجر، وباقي الصلوات تكون بالعشي، هذا بصرف النظر عن الصلوات المكتوبة عليهم كم كانت، لكن العشي من بعد الزوال، فيدخل فيه الظهر والعصر، وبعضهم يُدخل فيه ما وراء ذلك، لكن التسبيح في ظاهره المتبادر، وإن كان يقال للصلاة إلا أنه يكون بمعنى التنزيه لله هذا الأصل عند الإطلاق، وهذا يدل على تأكده في هذين الوقتين: العشي والإبكار، والقاعدة أن العرب قد تذكر طرفي الشيء، وتريد الشمول والعموم، يعني هذا معنًى آخر، أنه ذكر العشي والإبكار والمقصود: وما بينهما، وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ [البقرة:115]، طيب وما بينهما؟ فالعرب تذكر الطرفين، وتريد الشمول والعموم، يعني ليس يكون ذلك فقط في العشي والإبكار، وإنما في كل حين لا يزال لسانك رطبًا من ذكر الله[3]، لكنه يتأكد في هذين الوقتين وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ [الكهف:28] لكن على التوجيه الثاني أنهم لا يقتصرون فقط على الغداة والعشي، وإنما كل وقت، فذكر الطرفين ليشمل سائر الأوقات، يعني أهل طاعة وعبادة، وتقرب إلى الله في كل حين.

"إِلَّا رَمْزًا إشارةً باليد، أو بالرأس، أو غيرهما، فهو استثناءٌ منقطعٌ".

الاستثناء المنقطع عرفنا أنه يكون المستثنى ليس من جنس المستثنى منه، بمعنى لكن، أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا إذا قلنا: إن الاستثناء منقطع "لكن رمزاً" فيفيد هذا في المعنى: أن الرمز ليس من الكلام، فالمستثنى ليس من جنس المستثنى منه، والرمز المقصود به الإشارة، يشير إليهم، مثلًا أشرت هكذا يعني: اجلس، هكذا يعني: قم، ونحو ذلك، فهذا هو الرمز، والرمز يُقال للوحي، يعني بعضهم قال: إِلَّا رَمْزًا أي وحيًا، والوحي يكون بالإشارة، وغيرها، والكلام المباشر وغير ذلك، كما قال الشاعر:

أوحى إليها الطرف أني أحبها فأثرَّ ذاك الوحي في وجناتها[4]

أوحى لها الطرف: يعني أشار لها بعينه إشارة معينة، فهمت المراد أنه يحبها، فأثر ذلك في وجناتها الحمرة من الحياء، فالوحي هنا إشارة بعينه، وهكذا إِلَّا رَمْزًا أي وحيًا، وهكذا قول من قال: إشارة، أو إيماءً، ويكون بتحريك الشفتين باللفظ من غير إبانة صوت، وقد يكون إشارة بالحاجب، أو كما سبق بالعين.

المقصود أنه لا ينطق، ولكنه يشير إليهم بما يفهمون عنه مراده، فهذا إذا قلنا: بأن الاستثناء منقطع يكون الرمز إِلَّا رَمْزًا ليس من الكلام، وإذا قيل: بأن الاستثناء متصل يكون الرمز من الكلام، وهذا معروف في اللغة؛ ولهذا تجد قال بيده هكذا، فأضيف القول إلى اليد بمعنى الإشارة، فهذا صحيح في اللغة، فيُنسب القول إلى الإشارة، أو الفعل، أو نحو ذلك.

"بِالْعَشِيِّ من زوال الشمس إلى غروبها، وَالإِبْكَارِ من طلوع الفجر إلى الضحى".

الْعَشِيِّ من زوال الشمس إلى الغروب، هذا الذي اختاره ابن جرير[5]، وبعضهم وسَّعه -كما ذكرت- فقالوا: إلى الصبح، يعني يدخل فيه المغرب والعشاء.

وَالإِبْكَارِ من طلوع الفجر إلى الضحى، هذا قاله ابن جرير -رحمه الله-[6]، فـالإِبْكَارِ أول النهار، والغدوة فسرها بعضهم: بأنها من الفجر إلى طلوع الشمس، وبعضهم يفسر الْغَدَاةِ بمثل البكور، يعني أول النهار، يعني هذا الوقت الذي نجلس فيه الآن، فهذا من الإِبْكَارِ، هذا وقت البكور؛ ولذلك الأفضل في الذكر أن يكون بعد الفجر، وقبل طلوع الشمس، باعتبار أن الْغَدَاةِ تكون قبل طلوع الشمس، من الفجر إلى طلوع الشمس، والْعَشِيِّ يكون من الزوال، والمساء يكون من الزوال، فلو قال أذكار المساء بعد صلاة الظهر أجزأه؛ لأنه قالها في المساء، لكن الأفضل أن تكون في الآصال، والآصال: جمع أصيل، ويكون ذلك بعد العصر، وقد يُقال لما هو أخص من ذلك يعني بعد انكسار الشمس، يعني اصفرار ذهاب بياض الشمس وتوهجها -الذي نسميه بالعامية المسيَّان- عندما تصير الشمس صفراء ضعيفة، بعضهم يخص الأصيل بهذا، وبعضهم يقول بعد العصر.

وقفت فيها أصيلانًا أسائلها عيَّت جوابًا وما بالربع من أحد[7]

لكن لو قيلت أذكار الصباح بعد الفجر، وأذكار المساء بعد العصر، هذا هو الأحسن، ويمكن أن يقولها بعد الظهر، فيجزئه، ولو أخرها بعد المغرب فيكون ذلك في وقتها، لا قضاءً، فكل هذا مساء، وعلى العشي بتوسعته إلى الصبح، فيكون لو قالها أيضًا بعد المغرب أو بعد العشاء، لكن الأفضل أن يكون بعد العصر، لا سيما أنه يكون أحوج ما يكون إلى هذا.

أولًا: هذان طرفا النهار.

الأمر الثاني: أن النبي ﷺ أخبر عن انتشار الشياطين في وقت المغرب، إلى ذهاب فحمة العشاء، فهو بحاجة إلى تحصين، قد وُجد من تلبس به شيطان، فلما رُقي، وتكلم هذا الشيطان على لسانه ذكر أنه أخَّر الأذكار إلى العاشرة، يقول: إلى العاشرة لم يقل أذكار المساء، ومن عادته أنه يقول ذلك، فيقول: لما تأخر وجاءت العاشرة ولم يقل الأذكار تلبست به، عذر قبيح، لكن هؤلاء كما قال شيخ الإسلام: أهل ظلم وكذب.

"وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ اختُلف هل المراد جبريلُ، أو جمعٌ من الملائكة؟".

كما سبق، فالكلام فيه مثل الذي قبله.

"والعامل في إِذْ مضمر".

كما سبق، واذكر إذ قالت الملائكة، أو اذكروا إذ قالت الملائكة.

"اصْطَفَاكِ أولًا حين تقبلك من أمك".

لأنه ذكر الاصطفاء مرتين إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ، فالقاعدة أن التأسيس مقدمٌ على التوكيد، يعني بمعنى أن اصْطَفَاكِ الثانية ليست بمعنى الأولى، فيكون توكيدًا للاصطفاء، فالتأسيس يعني كون الثانية تأتي بمعنًى إضافي، ومعنًى جديد، أولى؛ لأن القرآن يُعبر به بالألفاظ القليلة، الدالة على المعاني الكثيرة، فكون اللفظ الثاني يضيف معنًى جديدًا هذا أولى، من القول بأنه مجرد توكيد؛ ولهذا قال: "اصْطَفَاكِ أولًا حين تقبلكِ من أمكِ"، ويمكن أن يُقال: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ يعني: بما حلاها به من الأخلاق، والأعمال الفاضلة، والتقوى، والتنشئة الصالحة، وما إلى ذلك، فهذا الاصطفاء الأول إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ من الأدناس والأرجاس والمدنسات جميعًا، والفواحش، وفيه رد على اليهود، وَاصْطَفَاكِ هنا الاصطفاء الثاني متعلق بما بعده وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ هذا بالتفضيل:

الأول: بالتهيئة والتحلية بالتقوى، والإيمان، والعمل الصالح، اصطفاها لأن تكون عابدةً، ومن أهل العبودية، والمراتب العالية، وما أشبه ذلك.

الثاني: اصطفاها على نساء العالمين، فهذان اصطفاءان بهذا الاعتبار، اصطفاها على نساء العالمين، إما عالم زمانها -كما قاله بعضهم- أو على الإطلاق هكذا، ولا ينفي ذلك وجود من اصطفاهن الله كآسية، وخديجة، وفاطمة، وما إلى ذلك، ممن اصطفى الله.

"وَطَهَّرَكِ من كل عيبٍ في خَلقٍ وخُلقٍ ودين".

هذا قال بنحوه مجاهد[8]؛ لأن قوله: وَطَهَّرَكِ لم يقيده، فلم يقل: طهرك من الفواحش، والأصل أن حذف المُتَعلق يفيد العموم النسبي، هذه قاعدة، يعني هنا حُذف الـمُـتَعلق، لم يقل: طهركِ من الفواحش، أو طهركِ من قول الزور، أو طهركِ من النظر إلى الحرام، لا، وإنما أطلق، فيدخل فيه الطهارة من كل عيبٍ ودنس، فيفيد العموم النسبي، ومعنى النسبي: أي ما يصلح في هذا المقام، يعني هل لقائلٍ أن يفهم أو لقائل أن يقول: طهرك بمعنى أنها لا تحتاج إلى الخلاء، فهذا غير وارد؛ لأن هذا مما كان في الجبلة، فليس هو المقصود؛ ولهذا نقول: العموم النسبي، فحذف المتعلق يفيد العموم النسبي، أو العموم المناسب في هذا المقام؛ ولذلك -كما ذكرت في بعض المناسبات- في قول النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-: من قرأ بالآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه[9]، هنا "كفتاه" حُذف الـمُتَعلق، كفتاه من ماذا؟ فقد يفهم بعضنا أن كفتاه مطلقًا، وقد يصل الأمر إلى أن يقول البعض: كفتاه من الذنوب والخطايا أصلًا، يعني أنها تُكفَّر، ولا تحتاج إلى توبة، ووُجد من فهم هذا الفهم، لكنه غير صحيح إطلاقًا، إذًا لماذا لا يقال: كفتاه حتى من الصلاة الفريضة؟ إذا أردنا أن نجري العموم على أوسع معانيه، ومحامله، وهذا الكلام غير صحيح في هذه المقامات، وإنما العموم النسبي: كفتاه من الشياطين، كفتاه من الشرور والآفات، وما يتخوفه، ويحتمل كفتاه من سائر الأذكار التي تُقال مثلًا في الليلة، أو عند النوم، ونحو هذا، أو كفتاه ما أهمه، أما أن يكون كفتاه مطلقًا هكذا، حتى من صلاة الفريضة! ومن التوبة؟! في هذا إغراء للناس على هذا الفهم بعمل المعاصي، ومن عدم التوبة، يكفي أن يقرأ الآيتين الأخيرتين، ولا أعلم أحدًا قال ذلك من أهل العلم والشُّراح أبدًا، وقاعدة العموم النسبي وحذف الـمُتعلق، هذا محملها، فيقال: يفيد العموم النسبي المناسب.

"وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ يحتمل أن يكون هذا الاصطفاء مخصوصًا بأن وهب لها عيسى من غير أبٍ، فيكون على نساء العالمين عامة، أو يكون الاصطفاء عامًا، فيُخص من نساء العالمين خديجة وفاطمة، أو يكون المعنى على نساء زمانها، وقد قيل: بتفضيلها على الإطلاق، وقيل: إنها كانت نبيئةً لتكليم الملائكة لها".

أما هذا الأخير فبعيد، ومعلوم قول عامة أهل العلم سلفًا وخلفًا: أنه لا يوجد نبية من النساء، فهي لم تكن نبية قطعًا، وهذا الاصطفاء الثاني بعضهم يقول: للتوكيد، ولكن كما ذكرت أن القاعدة: أن التأسيس مقدم على التوكيد، فما محمله؟ قال: "بأن وهب لها عيسى"، اصطفاها على نساء العالمين جاءها ولد من غير زوج، لكن لا يظهر أن هذا هو المراد، -والله أعلم-.

قال: "أو يكون الاصطفاء عامًا" يعني على سائر النساء، فمشاركة أفراد من النساء في ذلك لا ينافي الاصطفاء المذكور، يقول: "فيُخص من نساء العالمين خديجة، وفاطمة، أو يكون المعنى على نساء زمانها" وهذا الذي اختاره ابن جرير[10]، وعزاه الواحدي لأكثر المفسرين[11].

وقيل: "بتفضيلها على الإطلاق" يعني أفضل من خديجة وفاطمة وآسية، لكن الاصطفاء على نساء العالمين لا يمنع مشاركة أخريات في هذا، والقول بأنه يختص بعالم زمانها لا يبعد، وإن كان الظاهر: الإطلاق.

شيخنا القول الأخير يمكن أن يُرد عليه بقول الله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى [يوسف:109].

نعم، فالأدلة على أن النبوة في الرجال صريحة وواضحة.

والذين يقولون: إنها نبية لا يعجزون عن الجواب عن هذا، يقولون: الله يقول: وَمَا أَرْسَلْنَا فهي ليست رسولة، وإنما نبية، يوحى إليها.

يعني ليست برسول؟

نعم ليست برسول، يقولون: نبية يوحى إليها، لكن ما كلُ من أُوحي إليه يكون نبيًا، فالملائكة كلموا مريم، وليست نبية، وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ [القصص:7] وليست نبية، وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ [يوسف:15] في يوسف  وهو صغير، حيث ذهبوا به إلى البئر، فلم يكن نبيًا، بصرف النظر عن محامل هذا الوحي عند العلماء، والمراد به، يعني بعضهم يقول: بأن ذلك كان بالإلهام، لكن لا دليل على هذا، وبعضهم يُبعد تمامًا، ففي الوحي إلى أم موسى يقول،: الوحي الغريزي، يعني مثل وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ [النحل:68] وهذا في غاية البعد، فالغريزة والجبلة أن المرأة تحوط ولدها، وتعطف عليه، ولا تلقيه في اليم، وإنما هذا خلاف ما جُبلت عليه، لكن الوحي الغريزي هذا الذي يذكرونه مثل الوحي إلى النحل، وقوله: وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا [فصلت:12] فبعضهم يقول: هذا وحي تسخيري، ويمكن أن يكون المراد أهل السماوات، فلا يكون من قبيل التسخير، والله أعلم.

"اقْنُتِي القنوت هنا: بمعنى الطاعة والعبادة، وقيل: طول القيام في الصلاة، وهو قول الأكثرين".

اقْنُتِي قال: "القنوت هنا بمعنى الطاعة والعبادة" وذكرنا -في مناسبات سابقة- أنه: دوام الطاعة والعبادة، ولزوم ذلك مع الخضوع، وشيخ الإسلام -رحمه الله- له رسالة في هذا، -ذكرتها سابقًا- في قنوت الأشياء لله في جامع الرسائل[12]، وخرج من تتبع هذه اللفظة في القرآن إلى أن القنوت يرجع إلى معنى: دوام الطاعة.

فأصل "قنت" يدل على طاعةٍ في خيرٍ ودين، ثم سُمي كل استقامة في طريق الدين: قنوت، وابن كثير يقول في: اقْنُتِي: هو الطاعة والخشوع[13]، وهذا لا إشكال؛ لأن من معاني القنوت الخشوع والخضوع لله -تبارك وتعالى-.

وقيل: "طول القيام في الصلاة" وهو قول الأكثرين، والنبي ﷺ قال: أفضل الصلاة طول القنوت[14] يعني طول القيام، وهذا في هذا السياق، لكن لما يذكر القنوت بإطلاق، أو يُؤمر به، فالمقصود به دوام الطاعة، لكن الذين قالوا: بأنه طول القيام هنا، قالوا: في الآية قرينة أنه ذكر الركوع والسجود، فيكون ذكر القيام والإطالة فيه، وهو أفضل الصلاة، فهذه قرينة عند من قال: هو القيام في الصلاة، وليس دوام الطاعة والعبادة، فالقرينة في نفس الآية، وهو ذكر الركوع والسجود، فإذا عُرف هذا التعليل صار هذا القول في غاية الوجاهة، لكن لربما تسمع هذا القول في مقابل ما ذكره شيخ الإسلام: من دوام الطاعة، في أصل المادة، وتقول: طول القيام ليس بقريبٍ من هذا، لكن حينما تعرف هذه القرينة في الآية تعرف أن هذا الوجه له قوة، والله أعلم، لكن حينما نقول: دوام الطاعة، فإنه يتضمن طول القيام، لا سيما مع هذه القرينة اسْجُدِي وَارْكَعِي.

"وَاسْجُدِي وَارْكَعِي أُمرت بالصلاةِ فذُكر القنوتُ والسجود لكونها من هيئة الصلاة -في النسخة الخطية: لكونهما، وفي نسخةٍ أخرى: لأنهما من هيئة الصلاة وأركانها- ثم قيل لها: ارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ بمعنى ولتكن صلاتكِ مع المصلين، أي في الجماعة، فلا يقتضي الكلام على هذا تقديم السجود على الركوع؛ لأنه لم يُرد الركوع والسجود المنضمين -وفي النسخة الخطية: المنتظمين- في ركعةٍ واحدة، وقيل: أراد ذلك، وقدَّم السجود؛ لأن الواو لا تُرتب، ويحتمل أن تكون الصلاة في ملتهم بتقديم السجود على الركوع".

هنا قال: "ثم قيل لها: وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ بمعنى: ولتكن صلاتكِ مع المصلين، أي في الجماعة" ارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ يعني باعتبار أنها منذورة للمسجد، وإلا فإن المرأة ليست مطالبة بصلاة الجماعة، هكذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-[15]، وهذا المسجد مكان للعبادة، يغشاه الرجال، فلما كانت في هذا الموضع الذي يُصلى فيه، ويقصده الرجال، ويصلون فيه الجماعة، قيل لها: ارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ بهذا الاعتبار، بأنها في هذا الموضع الذي يُصلى فيه، لا أن المرأة مأمورة بصلاة الجماعة، هذا حاصل ما ذكره شيخ الإسلام، يعني حملها على هذا المعنى، وهو صلاة الجماعة، فليس ذلك لعموم النساء، فلا تفهم المرأة أنها مأمورة بصلاة الجماعة؛ لأن مريم قيل لها: وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ على سبيل الخصوص؛ لكونها في الموقع الذي يُصلى فيه الجماعة، هذا قول.

وهناك قول آخر ولعله أحسن من هذا -والله أعلم- وهو أن يُقال: وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ أي في جملتهم، يعني تكون في جملة المصلين المتحلين بهذا الوصف؛ وعلى هذا المعنى فإن قوله -تبارك وتعالى-: وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ [البقرة:43] يستدل بها العلماء عادةً على وجوب صلاة الجماعة بالنسبة للرجال، وأدلة وجوب صلاة الجماعة معروفة صريحة، منها: أنه ﷺ هَمَّ أن يُحَّرق على أقوامٍ بيوتهم لتخلفهم[16]، ونحو ذلك، فصلاة الجماعة واجبة على الرجال في المساجد، ولكن هل قوله -تبارك وتعالى-: وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ دليل صريح على وجوب صلاة الجماعة عليهم؟ الجواب: لا، بدليل أن الله قال لمريم: وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ وهي ليست مأمورة بالجماعة، وإنما المقصود الدخول في جملة المصلين على هذا المعنى الثاني، وعلى قول شيخ الإسلام ومن وافقه: يكون المقصود صلاة الجماعة، ليس للنساء، ولكن لخصوص هذه المرأة، فيكون ذلك على اطراد بمعنًى واحد.

وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ فكل هذا في صلاة الجماعة، فلا يختلف.

يقول: "أي في الجماعة، فلا يقتضي الكلام في هذا تقديم السجود على الركوع؛ لأنه لم يُرد الركوع والسجود المنضمين، أو المنتظمين في ركعةٍ واحدة" يعني يقصد أن السجود والركوع عمومًا، وإلا فالركوع يكون قبل السجود -كما هو معلوم-.

وذكر احتمالًا آخر: وهو باعتبار أنه إذا كان في ركعةٍ واحدة أن الواو لا تقتضي الترتيب، وهذا صحيح، "ويحتمل أن تكون الصلاة في ملتهم بتقديم السجود على الركوع" فيكون قد جاء به مرتبًا" وهذا لا دليل عليه، وقد يحتمل، وبعض العلماء يقول: قدَّم السجود باعتبار أنه الأشرف والأكمل، لا أنه يكون قبل الركوع من ناحية الوقوع، أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد[17].

وبعضهم يقول: إن السجود أبلغ في القنوت، فقدَّمه؛ فإذا قلنا: إن القنوت يأتي معناه الخضوع، فأي الخضوعين أبلغ؟ حينما يكون الإنسان راكعًا، أو حينما يكون ساجدًا ويضع جبهته على الأرض؟ لا شك أنه الثاني.

وبعضهم يقول: لما ذكر القنوت ناسب أن يذكر أجلى أحوال هذا القنوت الذي هو الخضوع عند من فسره بالخضوع، ولا شك إن الخضوع داخل فيه في معناه، وهو السجود، فقدَّمه بهذا الاعتبار.

وبعضهم يقول: لما قدَّم الإخلاص في العبادة في قوله: اقْنُتِي لِرَبِّكِ أي: لله رب العالمين، وهو روح العبادة، أتبعه بالسجود الذي هو أشرفها؛ أو لأن المقام هنا مقام شكر على ما أولاها وأعطاها واصطفاها وطهرها، والسجود أدخل فيه، وأعلق بالشكر، وغير ذلك مما قد يُقال.

والحافظ ابن القيم -رحمه الله- يقول: إنه من باب ذكر الأعم، ثم الأخص[18]، فالقنوت أعم، والسجود أخص منه، حيث يكون في الصلاة وللشكر، والركوع أخص من السجود، باعتبار أنه لا يوجد ركوع شكر، إنما الركوع يكون في الصلاة، أما السجود فيكون للشكر، وفي الصلاة، وللتلاوة، فتدرج من الأعم، ثم ما يليه، ثم الأخص، وعكس هذا في قوله -تبارك وتعالى-: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمُ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الحج:77]، فقد يُقال: هنا لم يذكر القنوت، فذكر هذه مرتبةً، كما هي في الصلاة، والله أعلم.

"ذَلِكَ إشارةٌ إلى ما تقدم من القصص، وهو خطابٌ للنبي ﷺ".

ذَلِكَ مِنْ أنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ يعني ما تقدم من ذكر خبر امرأة عمران، وما نذرت، وكذلك زكريا، وما دعا، وما وقع لمريم وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ فذلك كله وحي من الله .

"وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ احتجاجٌ على نبوءته ﷺ لكونه أخبر بهذه الأخبار، وهو لم يحضر معهم".

وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ يعني هو الاحتمال من أين؟ إما: أن يكون قرأ في كتبهم ومعلومٌ أنه لا يقرأ، طيب ما الذي بقي؟ أنه حضر وشاهد، وهذه قضية مُتَفق على أنها لم تقع، لم يدعيها النبي ﷺ وهم يعلمون أن ذلك لم يتحقق إطلاقًا، لكنه نفاه مع أنه غير واقع أصلًا، ولم يقل بذلك أحد، لكنه نفاه.

وبعضهم يقول: على سبيل التهكم بهم، يقول: وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ يعرفون أنه ما كان لديهم، فبقي أنه وحي من الله، إذا كنت لم تقرأ هذا في كتب، وما كنت حاضرًا، بقي أن ذلك وحي.

ويحتمل أن يكون ذلك من باب إظهار المنة على النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- والإشارة إلى المعجزة أيضًا، حيث يخبرهم عن تفاصيل تتعلق بأنبيائهم، وهم يجاورونه في المدينة، وفيهم علماء وأحبار، وكتبهم بين أيديهم، ويتحدث عن أدق التفاصيل لهذا القصص والأخبار، فيما قيل، وما أُجيب، وكيف حصل هذا، وكيف وقع في قضايا كثُر فيها ضلالهم وانحرافهم وكذبهم، وفي خبر مريم، واليهود، والنصارى، وفي تأليهها، ورميها بالعظائم، وزكريا ويحيى، وهكذا أخبار كبير أنبياء بني إسرائيل موسى في سياقات طويلة في القرآن، واليهود يجاورونه، فيأتي بهذه التفاصيل الدقيقة، ولا يستطيع أحدٌ منهم أن ينهض بمعارضةٍ، أو تكذيب.

وكما سيأتي أيضًا في قوله: كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ [آل عمران:93] حيث جاء النبي ﷺ عصبة من هؤلاء، فسألوه عن أشياء، فقالوا: لا يعلمها إلا نبي، ومن ذلك: ما الذي حرمه إسرائيل على نفسه؟ فأجابهم: بأنه حرَّم على نفسه لُحْمَانُ الإبل، وألبانها، وكان أحب الطعام والشراب إليه وذلك لما أصابه داء شديد، وجاء مُفَسرًا في الرواية الأخرى من حديث ابن عباس -ا- أنه عرق النَّسا[19]، وهو ألم شديد، وعرق من المفصل، والورك، ينزل إلى الفخذ، ولربما يصل إلى الكعب، وبعضهم يقول: قيل له: عرق النَّسا؛ لأنه يُنسي ما عداه من شدة الألم، فهذه أخبرهم بها النبي ﷺ وهم يسألون على سبيل التحدي، ما الذي حرَّمه إسرائيل جدهم يعقوب الذين يُنسبون إليه يا بني إسرائيل؟ فيخبرهم ما الذي حرَّمه، فيقولون: صدقت، صدقت.

"يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أي: أزلامهم، وهي قداحهم، وقيل: الأقلامُ التي كانوا يكتبون بها التوراة، اقترعوا بها على كفالة مريم، حرصًا عليها، وتنافسًا في كفالتها، وتدل الآيةُ على جواز القُرعة، وقد ثبتت أيضًا من السنة".

"يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أي: أزلامهم، وهي قداحهم" القداح التي تُستخرج للقُرعة، والقُرعة -كما هو معلوم- تكون في الحقوق المتساوية، كل واحد يريد أن يكفل مريم، فأجروا قُرعةً فيما بينهم، وظاهر القرآن أن المقصود بالأقلام: هي الأقلام التي يكتبون بها التوراة، ونحو ذلك، فكانوا يقترعون بها، وقد نقل الحافظ ابن القيم -رحمه الله- اتفاق العلماء على أن المراد بالأقلام هي "الأقلام التي كانوا يكتبون بها التوراة"[20]، وهذا هو الظاهر المتبادر، لكنه قد يُستعمل بمعنًى أوسع على ما يُقترع به؛ ولهذا ذكر هنا بعضهم القداح، والأزلام، لكن حمله على ظاهره أولى، لا سيما مع نقل الاتفاق على هذا المعنى، فالأقلام التي كانوا يكتبون بها التوراة، كانوا يقترعون بها، قُرعة كل واحد يلقي قلمه فمن خرج له ذلك السهم كانت في سهمه، فكانت لزكريا.

"وتدل الآية على جواز القُرعة" وهذا لا إشكال فيه، والسنة تدل عليه، وذكر عندكم في الهامش حديث عائشة -ا-: "كان رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- إذا أراد أن يخرج سفرًا أقرع بين أزواجه"[21]، فيعمل قُرعة بينهن، وعلى كل حال القُرعة ثابتة لا إشكال في السنة، وهذا دليلٌ عليها من القرآن، وأيضًا فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ [الصافات:141] في يونس لما ركب السفينة، وخرج مغاضبًا، فوقع السهم عليه، فأُلقي في البحر، فالتقمه الحوت.

"أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ مبتدأٌ وخبرٌ في موضع نصبٍ بفعلٍ تقديره: "ينظرون أيهم".

وابن جرير -رحمه الله- يقول: ينظر أيهم يكفل؛ ليتبينوا ذلك ويعلموه[22]، يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ يعني: لينظروا أيهم يكفلُ مريم، وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ والاختصام الظاهر أنه كان قبل الاقتراع، يعني وقع التنافس والتشاح بينهم فيها، فكان الملجأ إلى القرعة لإنهاء هذا الخصام، لكنه أُخر في الذكر، كما في قوله -تبارك وتعالى- في سورة البقرة: وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا [البقرة:72] هذا وقع قبل الأمر في قوله: فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا [البقرة:73] وذكرنا لكم هناك قول بعض أهل العلم، كالشيخ عبد الرحمن السعدي -رحمه الله- يقول: لو أنه ذكر في البداية قال: وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ ۝ فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا [البقرة:72-73] وذكر قوله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً [البقرة:67]... إلخ، قال: لكان سياقًا واحدًا، لكن لما ذكر الأول، فهي آية في إحياء الله الموتى، ثم قال: وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا [البقرة:72] صار كأنها قضية ثانية في الاحتجاج على بني إسرائيل، ونحو ذلك، فصار أبلغ في المعنى، مع أنه كان في الوقوع قبل، حصل التدارئ، فأُمروا بذبح البقرة، وهنا وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ الاختصام وقع قبل القُرعة، فاقترعوا بناءً على ذلك؛ لماذا حصل هذا التأخير لذكر الخصام؟ بعضهم يقول: لمناسبة الفواصل وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ يعني رؤوس الآي، أو لأن الله ذكر النتيجة قبل المقدمة، يعني المقدمة هي الخصام، والنتيجة القُرعة، فكانت لزكريا، فذكر النتيجة قبل المقدمة، وقبل السبب؛ لأنها المقصودة، وهو أنها صارت في سهم زكريا، وصار كافلًا لها، وإنما الاختصام الذي وقع، وإلقاء الأقلام كله من أجل الكفالة، فكانت لزكريا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا فإلقاء الأقلام كان من أجل الكفالة فذكر هذا، ثم ذكر الخصومة، والواقع: أنها أُلقيت الأقلام بسبب الخصومة، والله أعلم.

"يَخْتَصِمُونَ يختلفون فيمن يكفلها منهم.

إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ إذ بدلٌ من إِذْ قَالَتِ، أو من إِذْ يَخْتَصِمُونَ، والعاملُ فيه مضمر".

بدلًا من الأول إِذْ قَالَتِ" قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ [آل عمران:42] قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ [آل عمران:45] "أو من إِذْ يَخْتَصِمُونَ" وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ ۝ إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ، ويحتمل إنه مضمر كما سبق، وهذه قاعدة عامة: أنه مسبوق بمُقدر تقديره: اذكر إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ"، وهذا له دلالة أخرى إضافية، وهو أن هذا الأمر في غاية الأهمية، والنبي ﷺ وأمته مأمورون بذكره واستحضاره، وهذا الذكر يحتمل أن يكون باللسان والبلاغ، "واذكر" يعني لأمتك، فيحتمل أن يكون باستحضاره بالقلب؛ لأهميته، وما في مضامينه من دلائل على قدرة الله وعظمته.

"[في النسخة الخطية –يا شيخنا: أو العامل فيه مضمر]".

"أو العامل فيه مضمر" صحيح، يعني هذا قول آخر، واحتمال آخر.

"اسْمُهُ أعاد الضمير المذكر على الكلمة؛ لأن المسمى بها ذكر".

يعني لم يقل: اسمها عِيسَى، وإنما قال: اسْمُهُ فأعاده على المعنى، ولم يعده على اللفظ، لو أعاده على اللفظ لقال: اسمها، وأحيانًا يُعاد إلى اللفظ، وأحيانًا يُعاد إلى المعنى -كما هو معلوم- إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ ولم يقل: "قال الملائكةُ"، فهنا راعى اللفظ.

"الْمَسِيحُ قيل: هو مشتقٌ من ساح في الأرض، فوزنه مَفْعِل، وقال الأكثرون: "من مسح" لأنه مُسح بالبركة، فوزنه فعيل، إنما قال: عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ [-وفي النسخة الخطية: وإنما قيل: عيسَى ابْنُ مَرْيَمَ-] والخطابُ لمريم لينسبه إليها، إعلامًا بأنه يُولد من غير والد".

هنا يقول: "قيل: هو مشتقٌ من ساح في الأرض، فوزنه مَفْعِل"، يعني ساح مسيح مَفْعل، "وقال الأكثرون: مسيح من "مسح؛ لأنه مُسح بالبركة".

يقول هنا: "فوزنه فعيل" يعني مفعول ممسوح، باعتبار أنه مسح الأرض، يعني لكثرة سياحته، فهو مسيح بمعنى ماسح، بمعنى فاعل.

والحافظ ابن كثير وغيره قالوا: قيل له: المسيح؛ لأنه إذا مسح أحدًا من ذوي العاهات فإنه يبرأ -بإذن الله- وبعضهم يقول غير هذا، فتعليل: لماذا قيل له: المسيح، أوصله بعضهم إلى خمسين قولًا.

وبعضهم يقول: لأنه كان يمسح بالدهن الذي كانت الأنبياء تمسح به، لكن هذا لا دليل عليه، وبعضهم يقول: لأنه كان ممسوح الأخمصين، والقدم في وسطها -كما هو معلوم- شيء من التجويف، فيقولون: هو لم يكن كذلك، كانت قدمه ممسوحة، يعني مستوية، وليس فيها هذا التجويف في الوسط، وهو الأخمصين.

وبعضهم يقول: لأن الجمال مسحه، فهو ممسوح على هذا أيضًا، وبعضهم يقول: لأنه مُسح بالتطهر من الذنوب، وبعضهم يقول: مسيح بمعنى الصديق، وهذا لا يخلو من بُعد.

وهذا غير المسيح الدجَّال بطبيعة الحال، فالمسيح الدجَّال قيل: لأنه يمسح الأرض، وقيل: لأنه مسيح يعني ممسوح العين، كأن هذا أقرب، والله أعلم.

وهذه الأقوال في تعليل تسميته بالمسيح الله أعلم بحالها، ولكن القول بأنه قيل له: المسيح بأنه إذا مسح العاهة برئ، كأنه أقرب وأوجه، والله أعلم.

"وَجِيهًا نصبٌ على الحال، ووجاهته في الدنيا: النبوءةُ، والتقديمُ على الناس [-وفي النسخة الخطية: والتقدم على الناس-] وفي الآخرة: الشفاعةُ، وعلو الدرجةِ في الجنة".

أصل الوجاهة: القوة والمنعة، هذا أصل الوجاهة ففي الدنيا: بالنبوة، وما أعطاه الله، وأولاه، وفضَّله، فأعطاه الآيات والمعجزات، يمسح على العاهة فيبرأ، ويحي الموتى بإذن الله، ونحو ذلك، وفي الآخرة قال: "الشفاعةُ وعلو الدرجةِ في الجنة".

"فِي الْمَهْدِ في موضع الحال".

وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ يعني حال كونه في المهد، والمهد معروف: وهو مضجع الصبي في الرضاع، يعني في مرحلة الرضاع، وأصله: التوطئة للشيء وتسهيله، ففراش الصبي هو المهاد، خلاف ما يطلقه العامة، يطلقون المهاد على ما يُلف به الصبي من الثياب، ونحوها، ويُضم بعضه إلى بعض، فهذا ليس هو المقصود بالمهاد، وإنما المهاد هو فراشه، يُمهد له، وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا [المدثر:14] والله جعل الأرض أيضًا مهاداً، وكذلك لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ [الأعراف:41] وهو الفراش.

"وَكَهْلًا عطفٌ عليه، والمعنى: أنه يكلم الناس صغيرًا آيةً تدل على براءة أمه مما قذفها به اليهود، وتدل على نبوءته، ويكلمهم أيضا كبيرًا: ففيه إعلامٌ بعيشه إلى أن يبلغ سن الكهولة، وأوله ثلاثٌ وثلاثون سنة، وقيل: أربعون".

يعني هذا جواب على سؤال قد يرد: وهو لماذا قال: وَكَهْلًا والكهل يتكلم، سواء كان عيسى أو غير عيسى، كل الناس على هذا، فلماذا ذكره؟ قال: في ضمنه بشارة أنه يعيش، يعني لن يموت صغيراً، وإنما أيضًا سيشب ويكبر ويعيش، يكلمهم في المهد على سبيل المعجزة والآية، وتبرئة لأمه، ويكلمهم حال الكهولة، ويمكن أن يُضاف إلى ما ذُكر -من أنها مجرد بشارة- يكلمهم تكليم المرسلين بعد أن يوحى إليه، فكلمهم في المهد: على سبيل المعجزة وتبرئةً لأمه، وفي الكهولة: نبي ورسول يتكلم بالوحي.

وَكَهْلًا يقول: "الكهولة يبلغ سن الكهولة، وأوله ثلاث وثلاثون سنة، وقيل: أربعون"، هو الكهل في كلام العرب: هو الذي انتهى شبابه -هكذا يقولون- ومن خالطه الشيب، وقيل: بين بين، يعني بين سن الشباب والشيخوخة وسط، والعلماء يتكلمون في مراحل عمر الإنسان، لكنهم غير متفقين على شيءٍ محدد، يعني حتى في معنى كلمة "كهل" هم لا يتفقون عليها، من متى تبدأ الكهولة؟ فعيسى حينما رُفع يقولون: كان قد بلغ الثالثة والثلاثين، والله أعلم، لكن هذا هو المشهور، فعلى هذا تكون الكهولة في تلك المرحلة، ومرحلة الشباب متى تنتهي؟ إذا قيل: إنها إلى ما قبل الثلاثين، ومن الثلاثين تبدأ الكهولة، ثم يكون بعدها الضعف والشيخوخة، وهكذا.

"وَيُعَلِّمُهُ عطفٌ على يُبَشِّرُكِ أو وَيُكَلِّمُ [-وفي النسخة الخطية: أو على وَيُكَلِّمُ].

يقول: "يُعَلِّمُهُ عطفٌ على يُبَشِّرُكِ أو وَيُكَلِّمُ" يعني أن الله يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ۝ وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ أو وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ يكون عطف على يُبَشِّرُكِ أو وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَيُعَلِّمُهُ، وكأن الثاني أقرب، والله أعلم، لكن ما قال بأنه يُبَشِّرُكِ باعتبار أنه أول المذكورات إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ، فالأولى هي البشارة، فما بعدها معطوفٌ عليها بهذا الاعتبار.

"الْكِتَابَ هنا جنس، وقيل: الخطُ باليد، والحكمة هنا: العلوم الدينية، أو الإصابةُ في القول والفعل".

يُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ الكتاب جنس: يعني جنس الكتاب، يعني الكتاب المنزل على الأنبياء والرسل -عليهم الصلاة والسلام- باعتبار أنه ذكر بعد ذلك التوراة، يعلمه التوراة والإنجيل أيضًا، إذًا ما هذا الكتاب؟ هل هذا تكرار؟ قلنا: بأن الأصل عدم التكرار، وأن التأسيس مُقدم على التوكيد، فالكتاب هنا غير التوراة والإنجيل، الكتاب هنا جنس يشمل التوراة والإنجيل، وغير التوراة والإنجيل.

ويحتمل أن يكون بمعنى الكتابة يُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ، لهذا قال هنا: "وقيل: الخط باليد"، لماذا قيل هنا: بأنه الخط باليد؟ لأنه قال بعدها: وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ فهذا هو الكتاب، الذي الوحي المنزَّل؛ فلأجل ألا يكون تكرارًا، فيكون وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ يعني الكتابة، والكتاب الوحي المنزل التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ، كما في قوله تعالى: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [الجمعة:2] بعضهم قال هنا في آية الجمعة هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ هذا القرآن، وَيُزَكِّيهِمْ: التربية، وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ بعضهم قال: الكتابة، لماذا الكتابة؟ قالوا:

أولًا: من أجل ألا يكون هناك تكرار مع يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ.

الأمر الثاني: قالوا: بأن القرينة هنا ذكر الأميين، فهنا على سبيل الامتنان، والأمي هو الذي لا يكتب، فكان انتشار الكتابة بعد بعث النبي ﷺ كما هو معلوم، وأسارى بدر الذين كان من كان منهم يعرف الكتابة، فإنه يعلم عشرة من صبيان المسلمين، فبعضهم قال: المقصود هنا بآية الجمعة: الكتابة؛ لهذين السببين، وهذا احتمال على كل حال، ويحتمل غير ذلك، وقد يكون أحسن منه هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا هذا التلاوة عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ، وَيُزَكِّيهِمْ هذه التربية، وَيُعَلِّمُهُمُ هذا الفقه في الدين، فلا تكرار، وهو أحسن من قول من قال: بأنه الكتابة، والله أعلم.

فهنا وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ يعني جنس الكتاب، وليس المقصود الكتابة، مع إنه يحتمل، وَالْحِكْمَةَ يقول هنا: "الحكمة يعني الإصابة في القولِ والفعل" هذا معنًى للحكمة، وتُقال الحكمة أيضًا: للفقه في الدين، وقد تُقال في بعض المواضع في غير ذلك، لكن إذا ذُكرت مع الكتاب، أو مع التوراة والإنجيل الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ فقد تكون الحكمة هي السنة، وقد تكون بمعنى الفقه في الدين، يعني بحسب السياق.

"وَرَسُولًا حالٌ معطوفٌ على وَيُعَلِّمُهُ إذ التقدير: ومعلمًا الكتاب، أو يُضمر له فعلٌ تقديره".

يعني حال كونه رسولًا.

"أو يُضمر له فعلٌ تقديره: أُرسل رسولًا، أو جاء رسولاً".

"أو جاء رسولًا"، وذكر ابن جرير وابن كثير -رحمهم الله-: ويجعله رسولاً[23]، يكون العامل فيه مُقدر: ويجعله رسولاً، أو ويكلمهم رسولًا، أو أرسلت رسولًا إلى بني إسرائيل، وبعضهم يقول: معطوف على وَجِيهًا فيكون حالًا، لكن ما ذكره ابن جرير وابن كثير أحسن من هذه التقديرات المذكورة، والله أعلم.

"إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أي: أُرسل إليهم عيسى –، مبينًا لحكم التوراة.

أَنِّ تقديره بأنَّي، أَنِّي أَخْلُقُ بفتح الهمزة بدلٌ...".

"تقديره بأنَّي"، أي: أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ، هذه في قراءةٍ إنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ بكسر إِنِّي وهذا على إضمار القول، أي فقلت: إِنِّي؛ لأن الكسر يكون بعد القول، أو على الاستئناف إنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ بدون تقدير، أو على التفسير، فسَّر بهذه الجملة قوله: جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ كأنَّ قائلًا قال: ما الآية؟ فقال: إنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ، فكسر إنِّي هذه قراءة نافع، وقراءة الجمهور بالفتح أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ[24]، على أنها بدل من قوله: جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ والمعنى: بأَنَّي أخلق لكم، وبعضهم يقول: هو خبر مبتدأ مضمر تقديره: هي أنَّي أخلق، والله أعلم.

"أَخْلُقُ -وفي النسخة الخطية: أَنِّي أَخْلُقُ بفتح الهمزة- بدلٌ من أَنِّي الأولى -وفي النسخة الخطية: الأول- أو من آيةٍ وبكسرها ابتداء كلام.

"فَأَنفُخُ فِيهِ ذكر هنا الضمير؛ لأنه يعود على الطير -وفي النسخة الخطية: على الطين-".

نشير إلى: أنه في نسخة أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ، يصح أن يكون أنفخ في هذا الطين، أو في الطير، وكأن الطير أولى؛ لأنه هو المذكور آخرًا؛ لأنه يعود على الطير.

"لأنه يعود على الطير، أو على الكاف من كَهَيْئَةِ، وأنَّثَ في المائدة؛ لأنه يعودُ على الهيئة".

الكاف من كَهَيْئَةِ اللفظة "هيئة" مؤنثة "فَأَنفُخُ فِيهِ ذكر هنا الضمير؛ لأنه يعود على الطير، أو على الكاف من كَهَيْئَةِ"، والكاف للتشبيه، "وأنَّث في المائدة فَتَنفُخُ فِيهَا [المائدة:110]؛ لأنه يعود على الهيئة.

"فَيَكُونُ طَائرًا قيل: إنه لم يخلق غير الخفاش، وقُرئ طَيْرًا بياءٍ ساكنة على الجمع وبالألف -وفي النسخة الخطية: وبألفٍ وهمزة- على الإفراد".

قراءة الجمهور طَيْرًا يعني طيرًا كثيراً، بياءٍ ساكنة على الجمع فَيَكُونُ طَيْرًا، والقراءة الأخرى هذه: فَيَكُونُ طَائرًا[25]، فهذه هي التي ذكرها المؤلف -رحمه الله- وكما ذكرنا سابقًا في أول الكتاب بأنه على قراءة نافع.

وهناك قراءة: كَهَيْئَةِ الطَّائرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَائرًا، يعني طائراً في الموضعين، يعني أنه كان يخلق واحدًا ثم واحدًا، مفرد، وهذه قرأ بها أبو جعفر[26].

وقراءة نافع: كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَائرًا، يعني الأولى، كقراءة الجمهور: كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَائرًا، يعني يقدر كهيئة الطير، فتكون الهيئة طائرًا، أي كل هيئةٍ تُقدِّرها تكون واحدًا من الطير، وعلى قراءة الجمهور: يُقدر كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ طيور، فَيَكُونُ طَيْرًا يعني طيورًا.

في قوله هنا: "أنه لم يخلق غير الخفاش" باعتبار هذا جاء عن ابن جريج -رحمه الله: أن عيسى سأل الناس- فقال لهم: أي الطير أشدُ خلقاً؟ فقالوا: الخفاش، إنما هو لحم، ففعل[27]، لكن كما ترون هو عن ابن جُريج، وهذا من أخبار بني إسرائيل فيما يظهر، يعني لماذا قال القائل: إنه الخفاش؟ لهذا السبب -لو صحَّ- أنه سألهم أي الطير أشد في الآية؟ وفي صعوبة الخلق؟ فقالوا: الخفاش؛ لأنه لحم، ومع ذلك يتحرك ويطير، كأنه لحمة تطير، فخلق هذا؛ ليكون أدل على الآية، باعتبار أن الآية فيه أظهر، لكن ليس على هذا دليل، والله أعلم.

"ذكر بِإِذْنِ اللَّهِ -في النسخة الخطية وكرر بِإِذْنِ اللَّهِ- رفعًا لمن توهم في عيسى الربوبية".

بِإِذْنِ اللَّهِ هذه في المحترزات "رفعًا لوهم من توهم في عيسى الربوبية" احتاج إلى ذكر هذا، وقلنا: المحترزات تكون في كل موضع بحسبه.

"وَأُبْرِئُ روي أنه كان يجتمع إليه جماعةٌ من العميان والبرصاء -وفي النسخة الخطية: والبرصى- فيدعو لهم، فيبرئون.

وَأُحْيِ الْمَوْتَى روي أنه كان يضربُ بعصاه الميت أو القبر، فيقومُ الميت، ويكلمه، وروي أنه أحيا سام بن نوح".

هذا الله أعلم به.

"وَأُنَبِّئُكُمْ كان يقول: يا فلان أكلتَ كذا، وادخرت في بيتك كذا.

"وَمُصَدِّقًا عطفٌ على رَسُولًا، أو على موضع بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ؛ لأنه في موضع الحال، وهو أحسن؛ لأنه كان من جملةِ كلام عيسى، فالتقديرُ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ، وجئتكم مصدقا".

أو حال كونه مصدقاً.

"وَلِأُحِلَّ لَكُمْ عطفٌ على بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ، وكان قد حُرِّم عليهم الشحم، ولحم الإبل، وأشياء من الحيتان والطير، فأحل لهم عيسى بعض ذلك.

إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ ردٌ على من نسب الربوبية لعيسى، وانتهى كلامُ عيسى إلى قوله: صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ، وابتدائه من قوله: أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ، وكل ذلك يحتمل أن يكون مما ذكرت الملائكة لمريم، حكايةً عن عيسى أنه سيقوله، ويحتمل أن يكون خطابُ مريم قد انقطع، ثم استُأنف الكلام من قوله: وَرَسُولًا على تقديرِ: جاء عيسى رسولًا بـ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ، ثم استمر كلامه إلى آخره".

هذا يحتمل، وهذا الذي سبق: بأن ذلك يكون من قبيل الموصول لفظًا، المفصول معنى، فلما بُشرت مريم بالكلمة، وهو المسيح وذكر الله -تبارك وتعالى- ما أعطاه وأولاه إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ [آل عمران:45] هذا كله من كلام الملائكة، وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ [آل عمران:46] انتهى كلام الملائكة، قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ فعُبر هنا بالولد، وفي زكريا غلام؛ فهنا لأن الولادة آية من غيرِ أب، فعُبر بالولد، قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ۝ وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ ۝ وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ [آل عمران:47-49] هنا انتهى الكلام، وما بعده كلام عيسى أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ وهذا الكلام الذي كان يتحدث عنه قبل قليل ابن جُزي أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ [آل عمران:49] فهذا كلام عيسى إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ [آل عمران:51] فهنا يقول: "وانتهى كلام عيسى إلى قوله: صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ، وابتدائه من قوله: أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ، "وكل ذلك يحتمل أن يكون مما ذكرت الملائكة لمريم حكايةً عن عيسى"، يعني كلام الملائكة لا زال، يقولون: إن عيسى سيقول ذلك، يخاطبهم به، وهذا في حال كهولته وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا، "ويحتمل أن يكون خطاب مريم قد انقطع -يعني خطاب الملائكة لها- ثم استُأنف الكلام من قوله: وَرَسُولًا على تقديرِ: جاء عيسى رسولًا بـأَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ، ثم استمر كلامه إلى آخره" نتوقف عند هذا.

أسئلة:

س: شيخنا هنا تخريج حديث.

ج: تفضل، هذا تخريج حديث طلبناه من الشيخ محمد، وجابه -جزاه الله خيرا- الحديث السابق في الاستغفار.

حديث: "كيف نستغفر؟"

هذا صفحة كم؟

الاستغفار الدرس الماضي صفحة: في الطبعة اللي عندي: (343) بوسط الصفحة، تحت الآيات: "قيل لرسول الله ﷺ: كيف نستغفر؟ قال: قولوا: اللهم اغفر لنا، وارحمنا، وتب علينا، إنك أنت التواب الرحيم[28].

حديث "كيف نستغفر؟" قال: قولوا: اللهم اغفر لنا وارحمنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم[29].

أخرجه النسائي في الكبرى برقم: (10404) والبغويُ في معجم الصحابة، وغيرهما، وهذا لفظ النسائي من طريق أحمد بن عثمان بن حكيم، ومعاوية بن صالح، عن خالد بن مخلد، عن سعيد بن زياد المكتب، عن سُليمان بن يسار، عن مسلم بن السائب بن خباب، هكذا مرسلاً، وخالفهما عن خالد بن مخلد: إبراهيم بن عبد الرحمن بن مهدي، فرواه موصولًا عن مسلم عن خباب بن الأرت، وهو خطأ، فإن كلمة "ابن" تحرفت عند النُساخ فصار "عن"، وإنما هو مسلم بن السائب بن خباب، وقد جاءت مُصححةً في إحدى نسخ النسائي الكبرى، وقال الحافظ في "النكت الظراف" (ج3/119): قد قال البغوي في الصحابة، مسلم بن السائب بن خباب، قيل: إنه روى عن أبيه السائب عن النبي ﷺ قلت -أي الحافظ: فعلى هذا- فالخطأُ في رواية النسائي، الأول: إنما هو ممن قال: ابن الأرت، لا ممن قال عن خباب، لاحتمال أن يكون أراد ابن خباب -وهو السائب- فيكون من أرسله قال: عن مسلم بن السائب بن خباب، ومن وصله، قال: عن مسلم بن السائب عن أبيه، وخبابُ في الحالين هو صاحبُ "المقصورة"، لا ابن الأرت، انتهى كلامه.

وقال أبو حاتم الرازي: رُوي عن النبي ﷺ مرسلاً، وهو من التابعين، وأدخله بعضهم في الصحابة ظنًا منهم أن له صحبةً، وليس كذلك، وقال أبو أحمد العسكري: حديثه مرسل، وذكره ابن حبان في "ثقات التابعين" وقال: يروي المراسيل، وكذا ذكره البخاري، وغير واحدٍ في التابعين، انتهى كلامه من الإصابة (ج3/1958).

س: هذا يسأل سؤال ما له علاقة بالموضوع، كفالة اليتامى عن بعد من خلال الجمعيات الخيرية، يقول: هل هذا متحقق أو أنه يبقى جزئيًا؟

ج: لو قيل: بأن هذه الكفالة يتحقق بها ما جاء في النصوص: كافل اليتيم له أو لغيره أنا وهو كهاتين في الجنة[30]؛ وذلك أن هذه الكفالة يتحقق بها الكفاية، وقد يكون الأصلح لحال اليتيم أن يبقى في كنف أسرته، لكن لا عائل له، فجاء من يعوله، بل قد يكون أبلغ من هذا أنه في الغالب يحصل الانتفاع لنفس الأسرة بهذه الكفالة، ويبقى بينهم يتعهدونه ويربونه، ونحو ذلك، فلا يُشترط أن يكون في كفالة اليتيم أن يكون في كنفه هو، وفي حجره، وعنده -كما قال بعض العلماء- وإنما مقصود الكفالة شرعًا إذا كان يتحقق ببذل هذا المال له وكفايته، ويعيش في كنف أسرته، فهذه هي الكفالة، لكن لو فُرض أن أحدًا قال: أنا أكفيه المال، ثم يضيع في الشارع، ليس له أحد، فهنا لا تتحقق الكفالة، وإنما تكون كفالة جزئية بالمال، لكن إذا وجد أهل يرعونه، لكن ليس له كافل بالمال يكفيه، فجاء من يتكفل به، فيكون كافلًا لليتيم، والله أعلم، بهذا التفصيل، يعني إذا كان هذا اليتيم إلى مأوى ليس عنده مأوى، فمن الكفالة أن يؤوِيه عنده، أو يضع له مكانًا صالحًا، كأن يضعه عند أسرة مثلًا، ونحو ذلك، ويعطيهم أجرة على رعايته، لكن إذا كان عند أمه وإخوته، ونحو ذلك، وهذا يكفيه بالمال، فهذه كفالة، ومقصود الشارع متحقق فيها، والله أعلم.

  1. تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (5/384).
  2. تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (5/386).
  3. أخرجه الترمذي ت شاكر في أبواب الدعوات، باب ما جاء في فضل الذكر برقم: (3375) وصححه الألباني.
  4. البيت في بيان المعاني (1/54) غير منسوب لقائل.
  5. تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (20/348).
  6. تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (20/348).
  7. البيت للنابغة الذبياني. انظر: ديوانه (47) وإيضاح شواهد الإيضاح (1/252) وخزانة الأدب ولب لباب لسان العرب للبغدادي (4/125).
  8. تفسير ابن أبي حاتم - محققا (2/647).
  9. أخرجه البخاري في كتاب فضائل القرآن، باب فضل سورة البقرة برقم: (5009) ومسلم في صلاة المسافرين وقصرها، باب فضل الفاتحة وخواتيم سورة البقرة برقم: (807).
  10. تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (5/393).
  11. التفسير الوسيط للواحدي (1/436).
  12. جامع الرسائل لابن تيمية - رشاد سالم (1/5).
  13. تفسير ابن كثير ت سلامة (2/41).
  14. أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب أفضل الصلاة طول القنوت برقم: (756).
  15. المستدرك على مجموع الفتاوى (3/84).
  16. أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب وجوب صلاة الجماعة برقم: (644) ومسلم في المساجد ومواضع الصلاة، باب فضل صلاة الجماعة برقم: (651).
  17. أخرجه مسلم في كتاب الصلاة، باب ما يقال في الركوع والسجود برقم: (482).
  18. التفسير القيم = تفسير القرآن الكريم لابن القيم (ص:216).
  19. تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (5/580).
  20. التفسير القيم = تفسير القرآن الكريم لابن القيم (ص:217).
  21. أخرجه البخاري في كتاب الشهادات، باب تعديل النساء بعضهن بعضاً برقم: (2661).
  22. تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (5/405).
  23. تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (5/418) وتفسير ابن كثير ت سلامة (2/44).
  24. الإعراب المحيط من تفسير البحر المحيط (3/61).
  25. معاني القراءات للأزهري (1/257) وحجة القراءات (ص:164).
  26. إعراب القرآن للنحاس (1/160) والنشر في القراءات العشر (2/240).
  27. تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (5/420).
  28. سبق تخريجه.
  29. سبق تخريجه.
  30. أخرجه مسلم في كتاب الزهد والرقائق، باب الإحسان إلى الأرملة والمسكين واليتيم برقم: (2983).

مواد ذات صلة