الخميس 19 / جمادى الأولى / 1446 - 21 / نوفمبر 2024
(002-ب) قوله تعالى (يوصيكم الله في أولادكم للذكر..) الآية 11 – إلى نهاية الآية
تاريخ النشر: ٠٧ / ربيع الآخر / ١٤٣٨
التحميل: 960
مرات الإستماع: 1418

بسم الله الرحمن الرحيم

"يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ [النساء:11] هذه الآية نزلت بسبب بنات سعد بن الربيع، وقيل: بسبب جابر بن عبد الله، إذ عاده رسول الله ﷺ في مرضه، ورفعت ما كان في الجاهلية من ترك توريث النساء والأطفال، وقيل: نسخت الوصية للوالدين والأقربين، وإنما قال: يُوصِيكُمُ بلفظ الفعل الدائم، ولم يقل: أوصاكم، تنبيهًا على ما مضى، [وفي النسخة الخطية: تنبيهًا على نسخ ما مضى] والشروع في حكمٍ آخر، وإنما قال: يُوصِيكُمُ اللَّهُ بالاسم الظاهر، ولم يقل: يُوصِيكُمُ [وفي النسخة الخطية: نوصيكم] لأنه أراد تعظيم الوصية، فجاء بالاسم الذي هو أعظم الأسماء، وإنما قال: فِي أَوْلادِكُمْ ولم يقل: في أبنائكم؛ لأن الابن يقع على الابن من الرضاعة، وعلى ابن البنت، وعلى الابن المتبنى [وفي النسخة الخطية: على ابن التبني] وليسوا من الورثة".

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ [النساء:11] الوصية: هي التقدم إلى الغير بما يعمل به، ويكون مقترنًا بتأكيد، أو حث، أو وعظ، أو نحو ذلك، والوصية من الله -تبارك وتعالى- هي أمرٌ مؤكدٌ منه، يعني يعهد إليكم، ويأمركم أمرًا مؤكدًا.

يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ هذه الآية يقول: "نزلت بسبب بنات سعد بن الربيع، وقيل: بسبب جابر بن عبد الله، إذ عاده رسول الله ﷺ في مرضه، ورفعت ما كان في الجاهلية من ترك توريث النساء والأطفال".

بالنسبة للروايات هذه: بنات سعد بن الربيع، وحديث جابر أما حديث جابر فيقول: "عادني النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وأبو بكر في بني سلمة ماشيين، فوجدني النبي ﷺ لا أعقل، فدعا بماءٍ، فتوضأ منه، ثم رش عليَّ، فأفقت، فقلت: ما تأمرني أن أصنع في مالي يا رسول الله؟ فنزلت: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ [النساء:11][1]، فهذه الرواية في الصحيحين، وهي أيضًا صريحة بأنها سبب النزول.

وقصة امرأة سعد بن الربيع من حديث جابر أيضًا، لكن قال: "جاءت امرأة سعد بن الربيع إلى الرسول ﷺ بابنتيها من سعد، فقالت: يا رسول الله هاتان ابنتا سعد بن الربيع، قُتِلَ أبوهما معك في أحد شهيدًا، وإن عمهما أخذ مالهما، فلم يدع لهما مالًا، ولا يُنكحان إلا ولهما مال، فقال: يقضي الله في ذلك قال: فنزلت آية الميراث، فأرسل رسول الله ﷺ إلى عمهما، فقال: أعطي ابنتا سعد الثلثين، وأمهما الثمن، وما بقي فهو لك[2]، يعني بالتعصيب، يعني العم أخذ ذلك قبل نزول آية المواريث يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ [النساء:11].

فحديث جابر الأول أن ذلك نزل فيه، وحديثه الآخر أن ذلك في امرأة سعد بن الربيع، والحافظ ابن كثير يقول: "الظاهر أن حديث جابر الأول إنما نزل بسببه الآية الأخيرة من هذه السورة" وهي آية الكلالة يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ [النساء:176] "فإنه إنما كان له إذ ذاك أخوات، ولم يكن له بنات، وإنما يورثوا كلالة، ولكن ذكرنا الحديث ها هنا تبعًا للبخاري -رحمه الله- فإنه ذكره ها هنا، والحديث الثاني عن جابر أشبه بنزول هذه الآية، والله أعلم"[3]، يعني: أنها نزلت في سؤال امرأة سعد بن الربيع.

لكن هنا يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ [النساء:11] بالنسبة لجابر في حديثه الأول: وإنه قال لرسول الله ﷺ: ما تأمرني أن أصنع في مالي يا رسول الله؟ فنزلت: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ [النساء:11] باعتبار أنه لا مال له، فيكون ذلك موضع إشكال، يعني أن ذلك الجواب لم يكن موافقًا لسؤاله؛ لأنه ليس له أولاد، ويكون حديثه الآخر بأنها في امرأة سعد بن الربيع وبناته أن ذلك أظهر، وهل يقال: الآية نزلت مثلًا في هذا وهذا؟

هنا في حديث جابر الثاني امرأة سعد، فقال: يقضي الله في ذلك[4]، قال: فنزلت آية الميراث، يعني لو كانت نزلت الآية قبل ما قال رسول الله ﷺ: يقضي الله في ذلك[5]، وإنما كان سيقرأ عليه الآية، ويخبره بالحكم، فكون الآية نازلة في امرأة سعد بن الربيع وبناتها هذا ظاهر، ولا إشكال فيه.

ويمكن أن يكون الأول كما قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله-: إن حديث جابر نزل الأول، أي نزل فيه آية الكلالة[6]، لكن ذِكر هذه الآية هنا في حديث جابر يُوصِيكُمُ اللَّهُ [النساء:11] ما ذكر آية الكلالة، فالحكم بخطأ الراوي  وحديث جابر في الصحيحين، فهذا أيضًا لا يخلو من إشكال.

وقد تكون الآية نزلت في وقت متقارب، فيحتاج أن يُعرف، يعني هذه نزلت بعد غزوة أحد، في قصة امرأة سعد بن الربيع، لكن في حديث جابر الأول متى مرض وعاده النبي ﷺ فهذا يحتاج أن يعرف التاريخ فيه، فإذا كان الزمان متباعدًا، وقيل: نزلت الآية فيه أيضًا، فتكون نزلت مرتين، تذكيرًا بالحكم، لكن يكون نزلوها الأول بعد أحد، في قصة امرأة سعد الربيع؛ لأن ظاهر الرواية أنها لم تنزل، قال: يقضي الله في ذلك[7]، قال: فنزلت آية الميراث" فيكون حديث جابر بعد ذلك تذكيرًا بالحكم يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ [النساء:11] ولا سيما أن الله قال فيها: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ [النساء:11] إلى آخره، ففيها تفصيل، مع أن والد جابر بن عبد الله قُتِلَ في أحد، فإذا قلنا: إن هذه بعد قصة امرأة سعد بن الربيع، لكن ربما تكون أمه حية، لكن أيضًا فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ [النساء:11] إلى آخره، ففي هذه الآية جواب يتعلق بحال جابر .

فالقول بأن ذلك خطأ من قبل الراوي، أو نحو هذا، والحديث في الصحيحين لا يخلو من إشكال، يمكن أن يقال: إن كان الزمان متقاربًا فالآية نزلت بعد الحادثتين، والله أعلم، وإذا كان متباعدًا فإنها نزلت مرتين.

وبعض أهل العلم في مثل هذا يلجأون إلى الترجيح، بأحد المرجحات، مثلًا حديث جابر الأول في الصحيحين، وحديث جابر الثاني في امرأة سعد بن الربيع في السنن، عند أبي داود[8]، والترمذي[9]، وابن ماجه[10]، فيرجحون ما أخرجه الشيخان على غيره.

ومن المرجحات: أن يكون الراوي تتعلق به الواقعة أو الحادثة، أو كان حاضرًا لها، ففي الحديث الأول الذي في الصحيحين أنه مرض، فجاءه النبي ﷺ عائدًا، فيتحدث عما وقع له، فقد يُرجح بهذا، لكن يمكن أن يقال: كل ذلك سبب النزول، إما باعتبار أنها نزلت بعد الواقعتين، أو أنها نزلت مرتين، وهذا لعله أولى من القول بأن هذا خطأ من الراوي، وأن حديث جابر الأول في الكلالة، وليس في الوصية، والله أعلم.

يقول: "ورفعت ما كان في الجاهلية من ترك توريث النساء والأطفال" رفع ما كان عليه الحال قبل تقرير أحكام الشرع، لا يقال له نسخ، وإنما النسخ: رفع لحكم شرعي بخطاب متراخٍ عنه.

يقول: "وقيل: نسخت الوصية للوالدين والأقربين" الآية التي في البقرة: الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ [البقرة:180] وتكلمنا في ذلك الموضع هل الآية منسوخة أو لا؟ وقول من قال: إنها ليست بمنسوخة، وأنها في الوالدين والأقربين غير الوارثين، يعني من قام به مانع من موانع الإرث، على خلافٍ بينهم فيما نسخ آية البقرة إن كانت منسوخة، فبعضهم يقول: نُسخت بآيات المواريث هذه.

وبعضهم يقول: نُسخت بحديث: إن الله -تبارك وتعالى- قد أعطى كل ذي حقٍّ حقه، فلا وصية لوارث[11]، وكما عرفنا أن الأصل عدم النسخ، فالنسخ لا يثبت بالاحتمال.

يقول: "وإنما قال: يُوصِيكُمُ بلفظ الفعل الدائم"، الدائم يعني: الفعل المضارع، فهو يدل على الاستمرار يُوصِيكُمُ "ولم يقل: أوصاكم تنبيهًا على ما مضى، والشروع في حكمٍ آخر" يُوصِيكُمُ اللَّهُ باعتبار أنها ناسخة، إن قلنا: "ما مضى" يعني: ما كانوا عليه في الجاهلية، فهذا إطلاق النسخ عليه من باب التجوز، إذ ليس هو النسخ الشرعي المعروف: رفع الحكم الشرعي بخطابٍ شرعي متراخٍ عنه، وإنما الرفع عمومًا لما كانوا عليه على نسخ ما مضى، أو باعتبار أنها ناسخة للوصية للوالدين والأقربين.

"والشروع في حكمٍ آخر" يعني غير الأول، توزيع التركة على الأنصبة المقررة في هذه الآيات، وهذه الآية، والتي بعدها، والآية التي في خاتمة هذه السورة، ثلاث آيات، هي الأصل في علم الفرائض، هي آيات علم الفرائض، يعني علم الفرائض مستنبط منها، وهذه الآية يُوصِيكُمُ اللَّهُ أيضًا ناسخة لما كان في أول الإسلام من التوارث بالحلف، والهجرة، والمعاقدة، كما سيأتي في قوله: وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ [النساء:33] هل المراد النصيب من الميراث، أو من النصرة، ونحو ذلك؟

فهذه الآية ناسخة لما كان عليه الحال من التوارث بالمؤاخاة، والهجرة، فكان الإسلام يؤاخي بين المهاجرين والأنصار، ويتوارثون بذلك، حتى نزلت هذه الآية، فهذه ناسخة لذلك؛ لأن ذلك كان حكمًا شرعيًّا، يعني لم يكن رفعًا لما كان عليه الناس في جاهليتهم أنهم لا يورثون النساء والصبيان، وإنما كان الحكم الشرعي الثابت في السنة، أو ربما دل عليه قوله: وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ [النساء:33] التوارث بالحلف ونحو ذلك والمؤاخاة.

يقول: "يُوصِيكُمُ اللَّهُ بالاسم الظاهر، ولم يقل: يُوصِيكُمُ لأنه أراد تعظيم الوصية، فجاء بالاسم الذي هو أعظم الأسماء"، يعني: أن الإظهار في مقام الإضمار لاسم الجلالة، ولم يكتفِ بالضمير، فذلك باعتبار أنه أدعى إلى التعظيم، وتربية المهابة، وتفخيم أمر الوصية، قال: فِي أَوْلادِكُمْ ولم يقل: في أبنائكم إلى آخره، أَوْلادِكُمْ هذا جمع ولد، (أولادكم) مضاف إلى المعرفة، والكاف كاف الخطاب، وهذا يفيد العموم، يعني ظاهره في كل ولدٍ لك، لكن يخرج بالسنة الولد الكافر، فإنه لا يرث كما في حديث أبي هريرة في الصحيحين: لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم[12]، وكذلك القاتل أيضًا لا يرث.

"ولم يقل: في أبنائكم؛ لأن الابن يقع على الابن من الرضاعة، وعلى ابن البنت، وعلى الابن المتبنى، وليسوا من الورثة" ويمكن أن يقال غير هذا، فيمكن أن يقال: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ [النساء:11] "ولم يقل: في أبنائكم" لأن الأولاد يصدق على الذكور والإناث في المواريث، لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ [النساء:11] تكون للذكور والإناث وهذا جواب أوضح، ولا حاجة لما ذُكر، والله أعلم.

س: شيخنا -أحسن الله إليك- هنا: "ولم يقل: نوصيكم"، في النسخة الخطية، ولم يقل: نوصيكم".

ج: لا ما يحتاج "ولم يقل: نوصيكم" فقط؛ لأن هنا يكون ضمير مستتر، يوصيكم هو فيكون عود ذلك إلى الله معلوم؛ لأنه هو الذي يشرع.

س: لكن هو قال: "يوصيكم".

هذه قضية أخرى "وإنما قال: يوصيكم" لماذا أظهر اسم الجلالة؟ فهذا الكلام في إظهار اسم الجلالة، ولم يكتف بالضمير المستتر، لو قال: يوصيكم أو نوصيكم سواء، هو فعل مضارع، نوصيكم نحن، يوصيكم أي: هو، أي: الله، فلماذا لم يقل: نوصيكم أو يوصيكم؟ فأظهر الفاعل مع أن هذا مقام يمكن أن يغني فيه الضمير، والعرب تختصر الكلام بالضمائر، فهي وُضِعَت للاختصار، فالإظهار في مكان يصح فيه الإضمار يكون لنكتة، تكون بحسب السياق والمقام، فهنا لتفخيم أمر الوصية، وتربية المهابة، ونحو ذلك، هذا هو المقصود.

"لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ [النساء:11] هذا بيانٌ للوصية المذكورة، فإن قيل: هلا قال: للأنثيين مثل حظ الذكر، أو للأنثى مثل حظ الذكر.

فالجواب: أنه بدأ بالذكر لفضله؛ ولأن القصد ذكر حظه، ولو قال: للأنثيين مثل حظ الذكر لكان فيه تفضيلٌ للإناث".

لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ أي: مثل نصيب الأنثيين، فابتدأ بالذكر يقول: بأن ذلك مقصود باعتبار التفضيل، وأنه له حقٌّ ضعف حق الأنثى؛ وذلك باعتبار أنه يتولى النفقة على من تحت يده، وتحت ولايته، فهو ينفق عليهن وجوبًا، ويبذل المهور، وهو منتظرٌ للنقص دائمًا، وأما الأنثى فهي منتظرة للزيادة دائمًا، فلا تجب عليها النفقة غير الزكاة، وتأخذ هذا المال وتخزن، ويُدفع لها المهر، وينفق عليها وليها، فهو الذي يذهب ويتعرض للتكسب، وقد يربح وقد يخسر؛ من أجل أن ينفق على هؤلاء النساء، من البنات، أو الزوجات، أو نحو ذلك، وإذا تزوج أعطاها المهر، فهي منتظرةٌ للزيادة دائمًا، وليس من العدل أن يسوى بين منتظر الزيادة دائمًا، ومنتظر النقص دائمًا، فكان لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ، ولو سوي بينهما لكان ظلمًا للذكر، والشريعة جاءت بالعدل؛ ولذلك يقال: الإسلام ليس بدين المساواة، فالمساواة قد تكون ظلمًا، كما في هذا المثال، وإنما هو دين العدل، فالعدل هو الذي قامت به السموات والأرض، وهو الكمال، وليس المساواة مطلقًا هكذا، فالمساواة في أصل الإنسانية ونحو ذلك، أما في الحقوق والواجبات فلكلٍّ ما يليق به، ويتفق مع حاله وفطرته، ونحو هذا.

"قيل: هلا قال: للأنثيين مثل حظ الذكر أو للأنثى مثل حظ الذكر، فالجواب: أنه بدأ بالذكر لفضله؛ ولأن القصد ذكر حظ الذكر" لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ"ولو قال: للأنثيين مثل حظ الذكر لكان المقصود هو بيان حق وحظ الأنثى من الميراث" وإنما المقصود ما يكون للذكر، فعرف حق الأنثى منه تبعًا، وهذا هو الإنصاف، في الجاهلية ما كانوا يورثون أصلًا النساء، وجاء الإسلام بتوريثهن، لكن بما لا يحصل به الظلم للذكر.

"فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً إنما أنث ضمير الجماعة في كُنَّ لأنه قصد الإناث، وأصله: أن يعود على الأولاد؛ لأنه يشمل الذكور والإناث، وقيل: يعود على المتروكات، وأجاز الزمخشري أن تكون (كان) تامةً، والضمير مبهم[13]، ونِسَاءً تفسير".

لا إشكال في الآية أصلًا، يقول: "إنما أنث ضمير الجماعة في كن" يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ يكون هذا لا يشمل الذكور أصلًا، فلا يرد هذا الإشكال والسؤال: لماذا أنثه؟ قال: لأنه قصد الإناث، فَإِنْ كُنَّ أي: الإناث، وأصله أن يعود على الأولاد في قوله: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ، فَإِنْ كُنَّ؛ لأنه لفظ الأولاد يشمل الذكور والإناث، فلماذا قال: كُنَّ؟ يمكن أن يقال: قال: كُنَّ، لأنه قال: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ يعني الإناث، فهذا سبب تأنيثه.

"وقيل: يعود على المتروكات" يعني يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ أي: المتروكات نساء، أي: ترك نساء، أو الوارثات نساء، من غير ذكر، والزمخشري قدره: البنات أو المولودات[14]، لكن ما قبله أحسن فَإِنْ كُنَّ يعني الوارثات، أو المتروكات.

وفي قوله: "وأجاز الزمخشري أن تكون (كان) تامةً، والضمير مبهم"[15]، يعني (كان) تامة بمعنى أنها لا تنصب المبتدأ، فيكون اسمًا لها، يعني لا تكون ناسخة، ناقصة، والخبر لا يرفع المبتدأ فيكون اسمًا لها، ولا ينصب الخبر على أنه خبرًا لها، هذا معنى كونها تامة، يعني إِنْ كُنَّ أي: وجدن، ونحو ذلك.

"فَوْقَ اثْنَتَيْنِ ظاهره أكثر من اثنتين؛ ولذلك أجمع على أن للثلاث فما فوقهن الثلثان، وأما البنتان فاختُلِفَ فيهما، فقال ابن عباس: لهما النصف كالبنت الواحدة، وقال: الجمهور الثلثان، وتأولوا فوق اثنتين، أن المراد: اثنتان فما فوقهما، وقال قومٌ: إن فوق زائدة، كقوله: فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ [الأنفال:12] وهذا ضعيف، وقال قومٌ: إنما وجب لهم الثلثان بالسنة لا بالقرآن، وقيل: بالقياس على الأختين".

"فَوْقَ اثْنَتَيْنِ ظاهره أكثر من اثنتين" وذكر الخلاف في الاثنتين، "فقال ابن عباس: لهما النصف كالبنت الواحدة، وقال الجمهور: الثلثان[16]، وتأولوا فوق اثنتين، أن المراد اثنتان فما فوقهما" وهذا هو الأقرب: أن الثنتين لهما الثلثان.

"وقال قومٌ: إن فَوْقَ زائدة، كقوله: فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ [الأنفال:12] وهذا ضعيف".

وبعضهم قال: فَوْقَ الأَعْنَاقِ [الأنفال:12] في آية الأنفال، العظم الذي تحت الأذن، إذا ضُرب هذا الموضع كان ذلك أسرع في إبانة الرأس، يعني: أعلى الرقبة، يعلمهم كيف يقتلون هؤلاء الكفار قتلًا ذريعًا، فتكون (فوق) زائدة، ويكون المعنى: اضربوا على الأعناق، على القول بأنها زائدة، وهكذا فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ يعني: كن اثنتين، والأصل عدم الزيادة، كما ذكرنا في عدد من المناسبات.

طبعًا والقول بأنها زيادة يعني أنها زائدة إعرابًا، ولا يعني حشو؛ لأنه لا يوجد في القرآن حشو، وإنما زائدة للتوكيد، ونحو ذلك من المعاني، وبعضهم يسمي ذلك صلة، والزركشي في كتابه "البحر المحيط في أصول الفقه" ذكر أنه لا زيادة في القرآن إلا نحو موضعين[17]، وذكر ذلك غيره.

يقول: "وهذا ضعيف" يعني: القول بالزيادة، ورده الحافظ ابن كثير في الموضعين[18]، في قوله: فَوْقَ اثْنَتَيْنِ، وفَوْقَ الأَعْنَاقِ باعتبار أنه ليس في القرآن شيء زائد، لا فائدة فيه، وذكر النحاس[19]، وابن عطية[20]: أن جميع الظروف وجميع الأسماء لا تُزاد لغير معنى، وفَوْقَ هذه ظرف فلا تزاد لغير معنى.

قال: لو كان على ما قالوا لقال: فلهما ثلث ما ترك، وإنما استفيد كون الثلثين للبنتين من حكم الأختين في الآية الأخيرة، فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ، فكذلك في الأختين فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ باعتبار أن البنتين أولى بالثلثين من الأختين، يعني كأنهم فهموا ذلك بطريق قياس الأولى، وقد لا يكون كذلك، وهكذا قوله: وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ فلو كان للبنتين النصف لنص عليه.

قوله: وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فهذا مفهوم شرط، وقوله: فَوْقَ اثْنَتَيْنِ ولاحظ طرق الترجيح، مفهوم ظرف، وأيهما أقوى مفهوم شرط أو مفهوم ظرف؟ مفهوم الشرط، ونحن ذكرنا في بعض المناسبات أن المفاهيم تتفاوت في القوة، فمفهوم الشرط ومفهوم الصفة أقوى من مفهوم الظرف، فإذا كانت واحدةً فلها النصف، وما زاد: يكون فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فهذا مفهوم ظرف، يعني إذا كانت اثنتان فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ فهذه وجوه في الاستدلال على أن للأختين الثلثين، والله أعلم.

يقول: "وقال قومٌ: إنما وجب لهم الثلثان بالسنة" يعني من حديث جابر السابق لما حكم النبي ﷺ لبنات سعد بن الربيع بالثلثين[21]، فهذا دليلٌ من السنة على هذا، وبهذا يقال: لا شك أن للبنتين الثلثين، وإن كان ظاهر الآية: فَوْقَ اثْنَتَيْنِ قد يُشعر أن ذلك في مزاد، فيكون مفهوم المخالفة فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فما دون ذلك فليس كذلك، ليس لهما الثلثان، كم يكون لها؟ هل يكون لها النصف كالواحدة؟ يحتمل، لكن دلت السنة على أن لهما الثلثين، بالإضافة إلى ما فُهم من نصيب الأخوات، والبنات أولى بالثلثين، والله أعلم.

"وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً بالرفع فاعلٌ، و(كان) تامة، وبالنصب خبر (كان)".

يقول: "بالرفع فاعل، و(كان) تامة" تامة يعني غير ناسخة، فالرفع قراءة نافع، والنصب قراءة الجمهور إِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً على قراءة النصب تكون (كان) ناقصة، ناسخة، (وإن كانت وَاحِدَةٌ) وبالنصب خبر كان، يعني إن كانت البنت واحدة، أو الوارثة واحدة.

"وقوله تعالى: فَلَهَا النِّصْفُ نصٌّ على أن للبنت النصف إذا انفردت، ودليلٌ على أن للابن جميع المال إذا انفرد؛ لأن لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ.

إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ الولد يقع على الذكر والأنثى، والواحد، والاثنين، والجماعة سواءٌ كان للصلب، أو ولد ابن، وكلهم يرد الأبوين إلى السدس.

وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ لم يجعل الله للأم الثلث إلّا بشرطين:

أحدهما: عدم الولد.

والآخر: إحاطة الأبوين بالميراث؛ ولذلك دخلت الواو لعطف أحد الشرطين، [وفي النسخة الخطية: ولذلك دخلت الواو لتعطف أحد الشرطين على الآخر]، وسكت عن حظ الأب استغناءً بمفهومه [وفي النسخة الخطية: استغناءً بفهمه] لأنه لا يبقى بعد الثلث إلّا الثلثان، ولا وارث إلّا الأبوان، فاقتضى ذلك: أن الأب يأخذ بقية المال، وهو الثلثان".

يقول هنا: "الولد يقع على الذكر والأنثى" إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ "والواحد والاثنين والجماعة، سواءٌ كان للصلب أو ولد ابن" يعني أنه جنس "وكلهم يرد الأبوين إلى السدس" لكن فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ ففي هذه الحال للأم الثلث، إذا وُجد الولد سواءٌ كان ذكرًا أم أنثى، فلكل واحد من الأبوين السدس هذا فرضًا، وقد يرث الأب أكثر من ذلك تعصيبًا، لكن الأم قد ترث الثلث وهذا في حال عدم وجود الولد، وعدم وجود الجمع من الإخوة، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ [النساء:11] هذا الذي يقال له: حجب النقصان، فينقص نسيب الأم من الثلث إلى السدس.

قال: "لم يجعل الله للأم الثلث إلّا بشرطين:

أحدهما: عدم الولد.

والآخر: إحاطة الأبوين بالميراث، ولذلك دخلت الواو لعطف أحد الشرطين على الآخر، وسكت عن حظ الأب استغناءً بمفهومه؛ لأنه لا يبقى بعد الثلث إلّا الثلثان، ولا وارث إلّا الأبوان، فاقتضى ذلك: أن الأب يأخذ بقية المال، وهو الثلثان".

 يعني الأب مهما كان يأخذ أكثر من نصيب الأم، إلا إذا كان لربما على قول بعض العلم: في بعض الحالات قد تأخذ الأم أكثر من نصيب الأب، لكنه ليس موضع اتفاق، والأب له أحوال، كما أن للأم أحوال، وكذلك البنت لها أحوال، وهكذا، لكن في قوله: وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فللأبوين أحوال أربع في هذا الميراث، ذكرها الحافظ ابن كثير -رحمه الله-[22]:

الأول: أن يجتمعا مع الأولاد، فيكون لكل واحدٍ منهما السدس، فإذا ما كان للميت إلا بنت واحدة، ففي هذه الحال تعطى النصف، وللأبوين لكل واحدٍ منهما السدس، والأب يأخذ السدس الآخر بالتعصيب، فيكون قد جمع بين الفرض والتعصيب، ويكون نصيبه ضعف نصيب الأم، هذه الحالة الأولى.

الحالة الثانية: أن ينفرد الأبوان بالميراث، فيفرض للأم في الحالة هذه الثلث، ويأخذ الأب الباقي بالتعصيب المحض، فيكون له ضعفان، ثلثان.

فلو كان معهما زوج أو زوجة، يأخذ الزوج النصف، والزوجة إذا كان الميت رجل أخذت الربع؛ لأنه لا يوجد أولاد، وإذا كان الميت امرأة أخذ الزوج النصف، والأم تأخذ بعد ما يأخذ الزوج أو الزوجة ثلث الباقي، كان الميت زوجًا أو زوجة، إذا ورثه صاحبه، فالأم إذا لم يوجد إخوة، لها الثلث، وهل تأخذ الثلث من رأس المال أو ثلث الباقي؟ ثلث الباقي، لأن الباقي كأنه جميع الميراث بالنسبة إلى الأبوين، وقد جعل الله لها نصف مال الأب، فتأخذ ثلث الباقي، ويأخذ الأب الثلثين، خلافًا لابن عباس -ا- أنه يرى أنها تأخذ الثلث من رأس المال، من الأصل، خلافًا للجمهور[23]، وبهذه الحالة على قول ابن عباس تكون أخذت أكثر من نصيب الأب.

حتى ما ذكرنا في قوله: وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ، فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فالجمهور يقولون: بأن البنتين لهما الثلثان، وابن عباس -ا- يقول: ما تأخذ الثلثين إلا إذا كن ثلاث فأكثر فَوْقَ اثْنَتَيْنِ ويقال: إنه رجع عن هذا القول.

وهنا في هذه المسألة أيضًا -فيما يكون للأم إن لم يوجد إخوة ولا أولاد- أنها تأخذ ثلث كامل المال، والجمهور على أنها تأخذ ثلث الباقي.

وتبقى الحالة الثالثة: وهي اجتماع الأبوين مع الإخوة، سواءً كانوا من الأبوين، أو من الأب، أو من الأم، كما يدل عليه إطلاق الإخوة فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ [النساء:11] فأطلق فالأصل: أن يُحمل ذلك على إطلاقه، في هذه الحال هؤلاء الإخوة لا يرثون مع الأب شيئًا؛ لأنه يحجبهم حجب حرمان، ولكنهم مع ذلك يحجبون الأم -كما سبق- حجب نقصان، فيردونها من الثلث إلى السدس، لكن إن لم يكن وارث سواها وسوى الأب، أخذ الأب الباقي، وسواء كان هؤلاء الإخوة جمع أو كان أخوين، باعتبار أن الأخوين كما ذكرنا في بعض المناسبات في إطلاق الجمع كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ [النساء:11] فذلك يصدق على اثنين فأكثر الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ [البقرة:197] على القول بأنه شوال، وذو القعدة، وعشر من ذي الحجة، باعتبار جبر الكسر، وذكرنا لذلك شواهد، وقول صاحب المراقي:

أقل معنى الجمع في المشتهرِ اثنان عند الإمام الحميري[24]

وهو الإمام مالك -رحمه الله- فهذا أقل الجمع، ويوجد له شواهد متعددة في الكتاب، والسنة، وكلام العرب، وهذا على قول الجمهور، بل حكى بعضهم عليه الإجماع، إلا ما نُقل عن ابن عباس -ا- كما قال قتادة: كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ [النساء:11] أضروا بالأم ولا يرثون[25].

لكن الأخ الواحد لا يحصل به حجب النقصان؛ لأنه قال: فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ [النساء:11] ولماذا حجبوها إلى السدس وهم لا يرثون؟ والشارع حكيم، بعض العلماء قالوا: لما حجبوها ويوجد إخوة فالذي سيتولى نفقة هؤلاء الإخوة هو الأب، وليس الأم، فيحتاج إلى نصيبٍ أكبر من الميراث، فهم لا يرثون، فأنقصوا ميراثها، فالواحد أمره سهل، لكن إن كانوا اثنين فأكثر، فهؤلاء يحتاجون إلى تكاليف في النفقات، فصار نصيب الأب أكثر، فردت الأم من الثلث إلى السدس؛ ليتوفر نصيب الأب، وهكذا حِكَم الشريعة من تتبعها وجدها حِكَم عجيبة، ولعله -إن شاء الله- تتيسر مجالس مستقلة، مثل هذه الأوقات التي يشكك ويطعن فيها في أحكام الشرع وفي أصوله، أن يكون هناك حديث مثل هذا في قضايا واضحة متكلفة، تخفى على أكثر الناس في حكم الشريعة في تقرير الأحكام، مثلما قلنا في ميراث البنت على النصف، والحكمة؛ لأنها منتظرة النقص وهو منتظر الزيادة، فكيف يُسوى بينهما؟ وهذا بالإضافة إلى مسائل أخرى.

وهنا في الباب مسألة الجد مع الإخوة بصرف النظر عن هذا -وهذا يكفي- والدخول في التفاصيل في هذا الموضوع يطول، ومن الخطأ أن يحول درس التفسير إلى درس فرائض، كان بعض من يُدرس التفسير إذا وصل عند هذه الآيات، تحول الدرس إلى آخر الدراسي في الفرائض، مع أن الطلاب يدرسون ربما أربعة مقررات في الفرائض، ويدرسونه في الفقه أيضًا، ويحول التفسير إلى فرائض، هذا غير صحيح، وبينما يُوَضح المراد بالآيات بالقدر الذي يليق بالتفسير.

"فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ أجمع العلماء على أن ثلاثةً من الأخوة يردّون الأم إلى السدس، واختلفوا في الاثنين، فمذهب الجمهور أنهما يردّانها إلى السدس، ومذهب ابن عباس أنهما لا يردّانها إليه، بل هما كالأخ الواحد، وحجته: أن لفظ الإخوة لا يقع على الاثنين؛ لأنه جمعٌ لا تثنية، وأقل الجمع ثلاثة، وقال غيره: إن لفظ الجمع قد يقع على الاثنين؛ لقوله: وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ [الأنبياء:78]".

وهما اثنان، داود وسليمان -عليها السلام-.

"تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ [ص:21]".

باعتبار أن الذين تسوروا هم الخصمان، وهم اثنان.

"وَأَطْرَافَ النَّهَارِ [طه:130]".

باعتبار أن له طرفين، الغدو والآصال، فهذه كلها أدلة على أن الاثنين بمعنى الجمع.

"واحتجوا بقوله ﷺ: الاثنان فما فوقهما جماعة[26]، وقال مالكٌ: ومضت السنة".

هذا الحديث لا يصح عن النبي ﷺ.

"وقال مالكٌ: مضت السنة أن الإخوة اثنان فصاعدًا، ومذهبه: أن أقل الجمع اثنان".

وقد ذكرنا قبل قليل قول صاحب مراقي السعود، وهو شنقيطي مالكي، وهو نظمٌ في الأصل لجمع الجوامع، مع بعض الزيادات عليه.

أقل معنى الجمع في المشتهرِ اثنان عند الإمام الحميري[27]

يعني مالك بن أنس -رحمه الله-.

"وقال مالكٌ: مضت السنة أن الإخوة اثنان فصاعدًا، ومذهبه: أن أقل الجمع اثنان، فعلى هذا: يحجب الأخوان فصاعدًا الأم من الثلث إلى السدس، سواءٌ كانا شقيقين، أو لأبٍ، أو لأمٍ، أو مختلفين".

باعتبار الإطلاق في الآية فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ [النساء:11] والأصل: بقاء المطلق على إطلاقه إلا لدليل.

"وسواءٌ كانا ذكرين أو أنثيين، أو ذكرًا وأنثى، فإن كان معهما أبٌ ورث بقية المال، ولم يكن للإخوة شيء عند الجمهور، فهم يحجبون الأم، ولا يرثون، وقال قومٌ: يأخذون السدس الذي حجبوه عن الأم، وإن لم يكن أبٌ ورّثوا".

أنهم يأخذون السدس مع وجود الأب هذا غير صحيح؛ لأنه يحجبهم، وإنما اختلفوا في الجد مع الإخوة، وهكذا قوله: "وإن لم يكن أب ورثوا" فليس على إطلاقه بل فيه خلاف، فبعضهم ينزله منزلة الأب مطلقًا، فيحجبهم.

"مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ قوله: مِنْ بَعْدِ يتعلق بالاستقرار المضمر في قوله: فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ أي: استقر لهنّ الثلثان من بعد وصية، ويمتنع أن يتعلق بـتَرَكَ وفاعل (يوصي) الميت، وإنما قدمت الوصية على الدين، والدّين مقدمٌ عليها في الشريعة، اهتمامًا بها، وتأكيدًا للأمر بها؛ لئلا يتهاون بها، وأخر الدين؛ لأن صاحبه يتقاضاه، فلا يحتاج إلى تأكيدٍ في الأمر بإخراجه".

ونقل بعض أهل العلم كالحافظ ابن كثير -رحمه الله- الإجماع على أن الدين مقدم على الوصية[28]، فلا يكون إنفاذ الوصية مع وجود الدين، فلا بد من قضاء الدين، لكن لماذا قدم الوصية في الآية؟ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ قيل: باعتبار أن الدين له طالبٌ يُطَالب به، بخلاف الوصية، فلا أحد يطالب بها، فمن أوصى أن يُتَصَدق بثلث ماله في وجوه البر، من الذي يطالب؟ لكن الدين يقول: حقي ومالي، فقدم الوصية تأكيدًا وتعظيمًا لشأنها ألا يُتَهاون بها فقد تمضي سنوات، ويفنى الجيل الأول بكامله والوصية لم تُنفذ، وهذا يحصل، وأحيانًا تكون الوصية مبالغ طائلة، مئات الملايين، ويموت الرجل، ويموت أولاده، والوصية على حالها، وأحيانًا لا تُكْتَشف إلا في خصومة، فتحصل خصومة بعد مدة طويلة من موت الميت، فلما يُنْظَر في وصيته يطالب هؤلاء الذين يختصمون بالنظر في وصيته والوثائق، ونحو ذلك، فيوجد في الوصية ثلث المال، ولم يفعلوا به شيئًا، وأحيانًا مليارات يُكتشف هكذا من غير ترتيب ولا قصد، في خصومة بعد مدة طويلة من موته، وهذا التوجيه حسن، ذكره ابن جزي، وذكره غيره أيضًا.

"وتخرج الوصية من الثلث، والدّين من رأس المال بعد الكفن، وإنما ذكر الوصية والدين نكرتين: ليدل على أنهما قد يكونان، وقد لا يكونان، فدل ذلك على سقوط وجوب الوصية".

تُخرج الوصية من الثلث، واختلفوا فيما زاد عن الثلث هل ينفذ؟ وهل يجوز؟ وهل يصح إذا رضي بذلك الورثة أو لا؟

والدين يُخرج من رأس المال بعد الكفن، يعني أول ما يكون تجهيز الميت؛ لئلا يبقى معطلًا، ولو كان عليه دين، ثم الدين، ثم بعد ذلك الوصية بهذا الترتيب "وإنما ذكر الوصية والدين نكرتين: ليدل على أنهما قد يكونان، وقد لا يكونان" مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ إن وُجِدَت، أو دين إن حصل، فدل ذلك على سقوط وجوب الوصية؛ يعني لا يجب على الإنسان أن يوصي في ماله.

"أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا قيل: بالإنفاق إذا احتيج إليه، وقيل: بالشفاعة في الآخرة، ويحتمل أن يريد نفعًا بالميراث من ماله، وهو أليق بسياق الكلام".

آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا [النساء:11] يعني فرض للآباء من الميراث، وفرض للأولاد، والإنسان لا يدري من هو أقرب نفعًا إليه، فقد يأتيه النفع من أبيه، سواء كان هذا النفع دنيويًّا من مال، أو نحو ذلك، أو أخرويًّا، أو هما معًا، ينفعه في دنياه، وفي آخرته، فيأتيه النفع من أبيه، أو من أمه، أو منهما معًا، ما لا يأتيه من ولده، وقد يكون هذا النفع من الولد نفع دنيوي، وقد يكون برًّا، أو مالًا، أو نحو ذلك، وقد يكون أيضًا أخرويٍّا بالشفاعة والدعاء، أو ولدٍ صالحٍ يدعو له[29]، فلو تُرِك ذلك إلى عقولكم، وأفهامكم، وأذواقكم، ونحو ذلك لحصل بسبب ذلك خلل وفساد؛ بسبب نقص العقول، فهذا قوله -تبارك وتعالى-: آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا [النساء:11] فقد يكون النفع في الآباء، أو الأبناء، والله أعلم.

أسئلة:

س: ألا يكون المقصود في حديث جابر أبوه لا سيما أن عبد الله بن حرام كذلك سعد بن الربيع ماتا في أحد، فتكون نزلت بعد أحد؟

ج: لا، هو النبي ﷺ ذهب يعود جابر، هذا هو المعروف.

س: أو يكون المراد بـ(يوصيكم) أمرٌ عام لجابر وغيره، حيث لا يوجد له أولاد؟

ج: هو نزلت فيه لما سأل النبي ﷺ.

س: ذكرتم أحوال الأبوين أربع حالات، يعني لو جردت هكذا...؟

ج: يعني لو جردت هكذا لا تكون سبب نزول...

  1. أخرجه البخاري في كتاب تفسير القرآن، باب قوله: {يوصيكم الله في أولادكم} [النساء:11] برقم: (4577) ومسلم في كتاب الفرائض، باب ميراث الكلالة برقم: (1616).
  2. أخرجه الترمذي ت شاكر في أبواب الفرائض، باب ما جاء في ميراث البنات برقم: (2092) وحسنه الألباني.
  3. تفسير ابن كثير ت سلامة (2/225).
  4. سبق تخريجه.
  5. سبق تخريجه.
  6. تفسير ابن كثير ت سلامة (2/225).
  7. سبق تخريجه.
  8. أخرجه أبو داود في كتاب الفرائض، باب ما جاء في ميراث الصلب برقم: (2891) وقال الألباني: "حسن، لكن ذكر ثابت بن قيس فيه خطأ، والمحفوظ أنه سعد بن الربيع".
  9. سبق تخريجه.
  10. أخرجه ابن ماجه في كتاب الفرائض، باب فرائض الصلب برقم: (2720) وحسنه الألباني.
  11. أخرجه الترمذي ت شاكر في أبواب الوصايا، باب ما جاء لا وصية لوارث برقم: (2120) وأبو داود في كتاب الوصايا، باب ما جاء في الوصية للوارث برقم: (2870) وابن ماجه في كتاب الوصايا، باب لا وصية لوارث برقم: (2713) وصححه الألباني.
  12. أخرجه البخاري في كتاب الفرائض، باب لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم برقم: (6764) ومسلم في أول كتاب الفرائض برقم: (1614).
  13. تفسير الزمخشري = الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل (1/481).
  14. تفسير الزمخشري = الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل (1/480).
  15. تفسير الزمخشري = الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل (1/481).
  16. تفسير ابن عطية = المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (2/15).
  17. البحر المحيط في أصول الفقه (2/200).
  18. تفسير ابن كثير ت سلامة (2/226).
  19. معاني القرآن للنحاس (4/395).
  20. تفسير ابن عطية = المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (3/225).
  21. أخرجه البخاري في كتاب تفسير القرآن، باب قوله: {يوصيكم الله في أولادكم} [النساء:11] برقم: (4577) ومسلم في كتاب الفرائض، باب ميراث الكلالة برقم: (1616).
  22. تفسير ابن كثير ت سلامة (2/227).
  23. تفسير البيضاوي = أنوار التنزيل وأسرار التأويل (2/63).
  24. نشر البنود على مراقي السعود (1/234).
  25. تفسير ابن أبي حاتم - محققا (3/883-4905).
  26. أخرجه ابن ماجه في كتاب إقامة الصلاة، والسنة فيها باب الاثنان جماعة برقم: (972) وضعفه الألباني.
  27. نشر البنود على مراقي السعود (1/234).
  28. تفسير ابن كثير ت سلامة (2/228).
  29. أخرجه مسلم في كتاب الوصية، باب ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته برقم: (1631).

مواد ذات صلة