الخميس 19 / جمادى الأولى / 1446 - 21 / نوفمبر 2024
(004-أ) من قوله تعالى (أفضى بعضكم إلى بعض..) الآية 21 - إلى قوله تعالى (حرمت عليكم أمهاتكم..) الآية 23
تاريخ النشر: ٢١ / ربيع الآخر / ١٤٣٨
التحميل: 912
مرات الإستماع: 1143

يقول الإمام ابن جزي عند قوله تعالى:

أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ [النساء:21] كنايةٌ عن الجماع.

فالإفضاء إلى الشيء بمعنى الانتهاء إليه، (أفضى إلى زوجته، امرأته)؛ يعني: انتهى إليها من غير حائل، وفُسر بالمخالطة والخلوة؛ يعني الوصول إلى الشيء بالمباشرة.

أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ؛ ولذلك هنا قال: "(كناية عن الجماع)" وهذا مروي عن جماعة من السلف كـابن عباس من الصحابة ، ومن التابعين كـمجاهد والسُدِّي[1].

وقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ، بحيث يكون قد عاشرها وجامعها، فكيف يأخذ المهر؟ هذا إذا كان الزوج لا رغبة له فيها، وأمَّا إذا كان الزوج راغبًا في امرأته، وهي التي لا رغبة لها فيه فله أن يأخذ منها كما سيأتي في النشوز.

مِيثَاقًا غَلِيظًا [النساء:21]، قيل: عقدة النكاح، وقيل قوله: فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ [البقرة:119]، وقيل: الأمر بحسن العشرة.

الميثاق الغليظ هنا يقول: "(عقدة النكاح)" وهذا مروي عن ابن عباس، ومجاهد، وسعيد بن جبير[2]، وجاء في حديث جابر في الخطبة المشهورة، التي خطبها النبي ﷺ في حجة الوداع، وفيه: واسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا، فإِنَّكَم أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانَةِ اللَّهِ وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ تَعَالَى[3]، فهذا عقدة النكاح.

يقول: وقيل "قوله: فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ" يعني: كما يكون، كما يقول أبو جعفر بن جرير -رحمه الله-: يعني ما وثَّقتم به لهنَّ على أنفسكم[4].

وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا، بما وثقتم أنتم لهنَّ على أنفسكم من العهد بذلك، هذا اختيار ابن جرير وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا، ولا يبعد -والله تعالى أعلم- أن يكون المراد بـ(الميثاق الغليظ) هو عقد النكاح وما يقتضيه من حسن العشرة، وكذلك أيضًا أن يكون ذلك بإمساكٍ بمعروف أو تسريحٍ بإحسان، فهذا من مقتضيات النكاح؛ لأن الشريعة أمرت بالإحسان، وأولى الناس بالإحسان أقرب الناس إليه، وزوجه هي العشير، وأعظم المعاشرة كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: هو ما يكون بين الزوجين فهو عشيرها، وهي كذلك أيضًا فهي أولى الناس في الإحسان بإحسانه ومعاشرتها بالمعروف.

وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ [النساء:22] كان بعض العرب يتزوّج امرأة أبيه بعده فنزلت الآية تحريمًا لذلك، فكل امرأةٍ تزوّجها رجلٌ حرمت على أولاده ما سفلوا، سواءٌ دخل بها أو لم يدخل، فالنكاح في الآية بمعنى "العقد".

وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ، جاء عن ابن عباس -ا- قال: "كان أهل الجاهلية يحرمون ما يحرم"، يعني: ما حرم الله في النساء فيما سمى الله -تبارك وتعالى- من المحرمات منهنَّ، يقول: "كان أهل الجاهلية يحرمون ما يحرم إلا امرأة الأب، والجمع بين الأختين، قال: فأنزل الله: وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ [النساء:22][5]" هذا لفظه.

 ابن جزي -رحمه الله- يذكر حاصل ذلك والمعنى، ولا يتقيد بالألفاظ غالبًا، يقول: "فالنكاح في الآية بمعنى "العقد"، يعني بمجرد عقد الأب على امرأة تحرم على أبنائه وإن نزلوا، إذا عقد عليها الجد تحرم على الذرية بمجرد العقد؛ لأن الله لم يقيد ذلك بالدخول.

وما نكح: يعني النساء، وإنما أطلق عليهنَّ ما.

وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ [النساء:22]، "يعني النساء"، هذا قول عامة أهل العلم الجمهور من السلف فمن بعدهم يقولون: المراد بقوله: وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ [النساء:22] أنه النساء، وجاء ما يوضحه، ويبينه بقوله: مِنَ النِّساءِ، يعني: لا تنكحوا النساء اللاتي نكحهنَّ آباؤكم، وهذا أيضًا اختاره الحافظ ابن كثير -رحمه الله-[6]، لكن ابن جرير فسره باعتبار أن (ما) مصدرية[7]، يعني كيف يكون المعنى؟

وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ، وإذا أولت بما بعدها بمصدر، يكون (ولا تنكحوا نكاح آباؤكم في الجاهلية) هذا معناه، لا تنكحوا نكاح آباؤكم في الجاهلية.

 لكن ما قد سلف فمضى، لاحظ هذا معنى آخر تمامًا، لا تنكحوا نكاح آباؤكم في الجاهلية، فيكون نهيًا عن نكاح الجاهلية، ولا يختص بما نكح الآباء.

وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ، يعني: نكاح أهل الجاهلية، وليس المقصود على هذا خصوص زوجة الأب، لكنَّها داخلةٌ فيه باعتبار أنه كان مما يقع عليه نكاح الجاهلية، فهذا معنى آخر تمامًا، ولكن ما قد سلف فمضى إلا ما قد سلف، حجته في ذلك مجيء (ما) هنا وَلا تَنْكِحُوا ما، أنها لغير من يوصف بالعلم أو غير العاقل كما يقال.

فلو أنه أراد النساء على قول ابن جرير، لقال: ولا تنكحوا من نكح آباؤكم إلا ما قد سلف، فاعتبر الآية ناهية عن متابعة الآباء لما كانوا عليه من أمر النكاح، طريقة أهل الجاهلية في نكاحهم، وهذا خلاف قول السواد الأعظم من أهل العلم سلفًا وخلفًا، وأمَّا ما يتعلق بـ(ما) أنه جاء التعبير بها هنا، فكما سبق في بعض المناسبات أن ما تستعمل في العاقل، ولا إشكال في ذلك فيكون المراد بذلك العموم إذا قُصد به العموم.

وعمومًا يعبر بـ(ما) عن العاقل في مواضع من كتاب الله وكذلك أيضًا في كلام العرب، فهي لا تختص بغير العاقل، ولكنَّ الغالب في الاستعمال أن (ما) يعبر بها عن غير العاقل، وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ.

لاحظ جواب ابن جزي -رحمه الله-: (وإنما أطلق عليهنَّ ما) وإن كنَّ ممن يعقل؛ لأن المراد الجنس يعني أراد العموم فعبر بـ(ما) هذا الجواب، جواب على احتجاج ابن جرير -رحمه الله- هذا في النكاح، لكن كما سبق أن النكاح يطلق بثلاثة إطلاقات:

  • - يطلق بمعنى "العقد" وقد فسر به عامة أهل العمل كما سبق هذه الآية، وشاهده قوله تعالى: إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ [الأحزاب:49]، فهذا نص صريح في إطلاق النكاح على مجرد العقد.
  • - ويطلق على مجرد "الوطء" وهذا كما ذكرنا في بعض المناسبات أنه معنًا مشهور في آية النور، وذلك في قوله -تبارك وتعالى-: الزَّانِي لا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً [النور:3] فـ لا يَنكِحُ فسر بمعنى: لا يقع ويزني إلا بمن يوافقه معتقدًا للتحريم، ولكنَّه يخالفه من جهة العمل والامتثال فهو زاني، فلا ينكح إلا زانية مقرة بالحكم، ولكنَّها تخالف من الناحية العملية، أو من لا يقر بالحكم أصلًا فهذا المشرك أو مشركة، على هذا القول، وهو اختيار الحافظ ابن كثير -رحمه الله-[8].
  • - والمعنى الآخر: أنه العقد لا يَنكِحُ [النور:3] أي: لا يتزوج، وهذا أقرب في آية النور والله تعالى أعلم، لكن على القول الآخر وهو مشهور يكون أطلق النكاح على الوطء.

وأطلق على أكمل معانيه، وهو مجموع العقد الصحيح والوطء، وذلك في قوله: حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ [البقرة:230] فلا بُدَّ من عقدٍ صحيح بالإضافة إلى الوطء حتى يذوق عسيلتها وتذوق عسيلته، فلا بُدَّ من هذين.

فهنا: وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ، النكاح المقصود به العقد، لكن هل يدخل فيه مجرد الوطء باعتبار أن النكاح قد يطلق على الوطء.

هذه الآية لا يظهر منها هذا، لكن مأخذ الخلاف فيمن زنا بامرأةٍ هل لابنه أو لأحفاده أن يتزوجوا بها، باعتبار وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ إذا حمل على الإطلاق، بحيث يكون داخلًا فيه من عقد عليها، أو وقع عليها من غير عقد؟ فالذي يظهر -والله تعالى أعلم- أنه (العقد) هنا بمعنى: التزوج وليس (الوطء) هذا بحسب المراد بقوله: وَلا تَنْكِحُوا، يعني هذا التركيب هذا الفعل مع (لا) الناهية  وَلا تَنْكِحُوا، يدل على العموم، فهل مقتضى هذا العموم يحمل على النكاح بمعنييه العقد، وكذلك أيضًا الوطء؟ هذا يحتمل، ولكن الذي يظهر -والله أعلم- أن المراد هنا وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ والعموم هنا في قوله: ما نَكَحَ آباؤُكُمْ، سواءً كان ذلك بعقدٍ، أو بمجرد العقد، أو يعني بالتزوج، أو بالوطء من غير عقد، الزنا يعني، أخذًا من العموم ما نَكَحَ، فالأقرب والله أعلم أن المقصود بـ(النكاح) هنا هو العقد.

لاحظوا المأخذ مأخذ المسألة في محمل النكاح، وجاء هنا بصيغة العموم وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ،  فـ(ما) هنا تفيد العموم، لكنَّ العموم الذي يظهر هنا أنه محمول على أي امرأة تزوجها أبوه سواء دخل بها، أو لم يدخل بها، هذا العموم هنا، والله أعلم.

وما نكح: يعني النساء، وإنما أطلق عليهنَّ ما وإن كنا ممن يعقل؛ لأنّ المراد الجنس، فإن زنى رجلٌ بامرأةٍ فاختلف هل يحرم تزوجها على أولاده أم لا؟ فحرمه أبو حنيفة[9]، وأجازه الشافعي[10]. وفي المذهب قولان[11]: واحتج من حرّمه بهذه.

الحافظ ابن كثير نقل الإجماع على تحريمهن على الابن بمجرد العقد[12]، وهذا الإجماع صحيح بمجرد العقد، لكن من زنا بها هل تدخل في هذا أو لا؟ فهذا غير مسألة الإجماع.

يقول: "حرمه أبو حنيفة وأجازه الشافعي"، الجمهور على قول الشافعي -رحمه الله-، يعني امرأة زنا بها أبوه هل له أن يتزوجها؟ الجمهور يرون أن الوطء المحرم لا تنتشر به الحرمة، هذا أصل عندهم، يعني في التزوج مثلًا يجوز له أن يتزوجها، كذلك في الرضاعة لو أن أباه وقع على امرأةٍ بالحرام، وأرضعت بنتًا، فهل لابنه أن يتزوج تلك البنت باعتبار أن اللبن من أبيه في الأصل؟ إذا قلنا: بأن الوطء المحرم لا تنتشر به الحرمة، فإن ذلك لا يؤثر في الرضاعة، وكذلك في النكاح والمصاهرة.

وفي المذهب قولان: واحتج من حرّمه بهذه الآية وحمل النكاح فيها على الوطء، وقال من أجازه: إنّ الآية لا تتناوله؛ وفي النسخة الخطية (لم تتناوله) إذ النكاح فيها بمعنى العقد.

عمومًا هو مأخذ المسألة في تفسير النكاح، لاشك أن العقد مراد هنا لا شك؛ ولهذا وقع الإجماع على أن من عقد عليها أبوه، فإنها تحرم عليه، لكن هل يحمل على ما هو أعم من هذا، بكل نكاحٍ وقع من أبيه، ولو كان وطأً بالزنا؟

إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ؛ أي: إلّا ما فعلتم في الجاهلية من ذلك، وانقطع بالإسلام فقد عُفي عنه فلا تؤاخذون به، ويدل على هذا قوله: إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا [النساء:23]، بعد قوله: إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ [النساء:22] في المرة الأخرى فالجمع بين الأختين قال ابن عباس: "كانت العرب تحرم كل ما حرمته الشريعة إلّا امرأة الأب، والجمع بين الأختين"[13]، وقيل: المعنى إلّا ما قد سلف فدعوه.

أثر ابن عباس هو الذي مضى ذكرته آنفًا، وفيه تتمة هنا لم يذكرها وهي في غاية الأهمية؛ لأنها تعبر عن سبب النزول قال: فأنزل الله: وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ [النساء:22] إلى قوله: وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ [النساء:23].

وهذا كما سبق مخرج، أخرجه عند ابن جرير، وابن المنذر[14]، وصحح إسناده الشيخ أحمد شاكر -رحمه الله-.

وقال الزمخشري: المعنى: إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ [النساء:22]، فانكحوه إن أمكنكم، وذلك غير ممكن، فالمعنى: المبالغة في التحريم[15].

إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ، إلا ما قد سلف مما كان في الجاهلية، لكنَّه لا يبقى معها، وإنما يفرق بينهما إذا دخل في الإسلام، فذلك النكاح الواقع في الجاهلية غير مؤاخذ به؛ لأن الإسلام يجُّب ما قبله إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ، هذا الذي يظهر -والله أعلم- من المعنى.

وما ذكره الزمخشري: "قال: المعنى إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ [النساء:22]، فانكحوا إن أمكنكم وذلك غير ممكن".

يعني: أنه علقه بممتنع؛ يعني لا تنكحوا ما نكح آباؤكم بحالٍ من الأحوال، إلا إن كان شيء في الماضي، إلا إن نكحتم فيما مضى، يعني هذا لا يتحدث عن نكاحٍ واقع في الماضي على قول الزمخشري، وإنما علَّقه بفعلٍ بالزمن الماضي.

 والفعل الطارئ لا يكون في الزمن الماضي يعني كأنه يقول: يمتنع عليكم ذلك بإطلاق، يعني: إلا إن أوقعتموه فيما مضى، وهذا يمكن، لكن هذا -والله أعلم- لا يظهر من السياق، ولا يعلق بمثل هذا، وإنما المقصود ما كان منهم في الجاهلية.

لكن حجة مثل صاحب الكشاف أنه نهيٌ عن النكاح في المستقبل وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ، فكيف ينهاهم في المستقبل عن شيء ثم يقول: إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ؟

ففهم منه أنه لا تفعلوا ذلك، إلا إن أوقعتموه في الزمن الماضي إن استطعتم هذا يعني، وهذا لا يمكن، لكن السياق يدل على أن المقصود إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ، أنه ما وقع في زمن الجاهلية والله أعلم، فالمعنى المبالغة في التحريم.

الحافظ ابن القيم -رحمه الله- يقول: لما نهى عنه أفاد أن وطئهنَّ بعد التحريم لا يكون نكاحًا أبدًا بل زنى إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ، فلا يترتب عليه ما كان قبل التحريم من أحكام النكاح: من ثبوت الفراش، ولحوق النسب إلى آخره؛ يعني التي تزوجها أبوه في الجاهلية وأنجب منها أولادٌ ما حال هؤلاء الأولاد؟ لما جاء الإسلام يعني: ثبوت النسب يلحق بأدنى سبب، فهؤلاء هل يقال إنهم أبناء زنا، حيث كان أهل الجاهلية لا يحرمون هذا النوع من النساء في النكاح؟ فهل يقال: هؤلاء أبناء زنا، أو يقال: هذا على ما كان، ويلحق بهم النسب والولد للفراش إلى آخره؟ لكن في المستقبل لا شك أن النهي يقتضي الفساد، وقاعدة النهي يقتضي الفساد.

وهذه الصورة هي أجلى الصور إن أردنا أن نضبط قاعدة (النهي يقتضي الفساد) نقول: هو النهي الذي جاء مقترنا بالعمل المعين لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى [النساء:43] كما سيأتي، فهذا يقتضي الفساد وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ [النساء:22]، فهذا يقتضي فساد النكاح، والنكاح الفاسد لا يترتب عليه آثار، لكن ما جاء النهي فيه بإطلاق غير مرتبطةٍ بالعمل المعين، مثل النهي عن الظلم، أو السرقة، أو الغصب أو نحو ذلك، فما حكم الصلاة في الأرض المغصوبة، والثوب المغصوب؟ هنا لم يقترن النهي عنه بهذا بعينه، فالأقرب في مثل هذه الحالة أن ذلك يصح مع الإثم، إثم السرقة، وإلا فأهل العلم يختلفون في تطبيقات ذلك، فيما كان من قبيل الوصف المنفك وغير المنفك، لكن عند التطبيق يختلفون في تنزيل ذلك على الوقائع، هل هذا وصف منفك أو غير منفك؟ بصرف النظر فالاستثناء هنا ما نوعه إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ؟

الاستثناء هنا منقطع بمعنى لكن وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ؛ يعني لكن ما قد سلف مضى، ولا تؤاخذون عليه، والله أعلم.

إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا [النساء:22] كان في هذه الآية تقتضي الدوام، كقوله: إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُورًا رَحِيمًا [النساء:23]، وشبه ذلك.

يعني: ليس هذا في الزمن الماضي، أنه كان فاحشةً، ثم بعد ذلك لا يكون كذلك؛ بل هو فاحشة على كل حال "إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً، و(الفاحشة)" عرفنا أنها الذنب العظيم، وكان يُقَال له في الجاهلية: (نكاح المقت)، تزوج بامرأة الأب، نكاح المقت، وكان يقال لهذا الناكح: الضيزن، الذي يتزوج يعني يزاحم أباه على امرأته، و(المقت) معروف أنه البغض الشديد، أشد البغض، وأصله الشناءة يدل على شناءةٍ وقبح.

إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا الحافظ ابن كثير -رحمه الله-، ذهب إلى أن هذا النوع من النكاح يؤدي إلى مقت الآباء[16]، يعني بعد ما يتزوج بامرأة أبيه، باعتبار أن الغالب أن الرجل إذا تزوج بامرأة بعد رجل، فإنه يبغض زوجها الأول بدافع الغيرة، أو لا يحب زوجها الأول، ينفر منه، هذا الغالب.

فإذا كان الناكح الأول هو أبوه، فهذا البغض، وهذه النفرة، لا تجوز بحالٍ من الأحوال، فعلى هذا يكون النهي عن التزوج بزوجة الأب، باعتبار أن ذلك يؤدي إلى بغض الآباء إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا، هذه علَّة ذكرت، وهذه علَّة مستنبطة وليست منصوصة، فيحتمل أن تكون هي السبب أو أحد الأسباب، فالله تعالى أعلم، وهو حكيمٌ في تشريعه، يشرع لعباده ما يتحقق به مصالحهم.

يقول: ولهذا حرمت أمهات المؤمنين، حرمنَّ على الأمة؛ باعتبار أن الزوج الجديد يمقت، يحصل منه مقتٌ للزوج السابق، وزوج أمهات المؤمنين هو النبي ﷺ ولا يجوز لأحدٍ أن يقع في قلبه نحوه ذلك، لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبَّ إليه من ولده، ووالده، والناس أجمعين[17]، لكن من أهل العلم من السلف فمن بعدهم من فسر ذلك: (بأنه مقتٌ من الله) أن الله يمقت على هذا العمل القبيح.

وهذا قال به عطاء وجماعة: إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا[18]، وكأن هذا -والله أعلم- هو الأقرب، يعني أن الله يمقت عليه.

وإذا قلنا: الآن نكاح المقت هو أشد البغض، هل من تزوج امرأةً بعد رجل، فإن ذلك يقتضي أن يبغضه أشد البغض، يكون عدوٌ له؟ لا؛ لكن قد يقع في نفسه نحوه مشاعر غير إيجابية كما يقال يعني، لكن لا تصل إلى حد المقت، والعداوة الشديدة، بمجرد أنه تزوج بعده؛ يعني هذا -والله أعلم- أن المقصود أن المقت من الله إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا.

وقال المبرد: هي زائدةٌ وذلك خطأ لوجود خبرها منصوبًا، وزاد هنا المقت على ما وصف به.

لفظة كَانَ هل هي زائدة؟ يعني يكون تقدير إنه فاحشةٌ ومقتٌ، الأصل عدم الزيادة، ثم أيضًا ما يدل على أنها غير زائدة أنها عملت إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً، كَانَ اسمها ضمير مستتر مرفوع، والخبر جاء منصوبًا فعملت، فدل على أنها غير زائدة، ولا يصح ادعاء الزيادة هكذا في القرآن، ولم يكن في الوحي حشو يقع.

وزاد هنا المقت على ما وصف به الزنا في قوله تعالى: إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلًا [الإسراء:32]: دلالةً على أن هذا أقبح من الزنا.

ليس مقتًا هنا الآية المراد بها إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً يعني: الزنا في آية الإسراء إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلًا، فزيادة المقت هنا في تزوج من زوجات الآباء أعظم من الزنا، إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً، وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: أن الفاحشة تتناول الفعل القبيح، فهي الذنب العظيم الذي عظم وفَحُش.

فالفاحش عند العرب هو الشيء الكثير أو العظيم، فيكون ذلك فيما وقع عليه نكاحٌ لكنَّه محرم، هذا ما كان بعد عقد، مثل التزوج بزوجات الآباء، فالفاحشة فيما ذكر شيخ الإسلام -رحمه الله-: تتناول العقود الفاحشة، كما تتناول المباشرة بالفاحشة، يعني: من غير عقد يعني الزنا، وكذلك مثل هذا العقد المحرم، فكل ذلك يقال له: فاحشة، فالنهي هنا على قول شيخ الإسلام -رحمه الله- في الآية: يتناول العقد والوطء وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً [النساء:22]، ومقصوده هنا بأنه يتناول العقد والوطء، يعني بمعنى أنه لا يجوز له، لا يحل بحالٍ من الأحوال للولد أن يتزوج امرأة أبيه، يعقد عليها، وكذلك أيضًا لا يحل له وطئها ولو من غير عقد، بمعنى الزنا حرام في أصله، لكن هذا يكون أشد وأعظم، فالزنا قال الله فيه في آية الإسراء: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا [الإسراء:32]، هنا إذا كان ذلك في امرأة الأب: إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا [النساء:22].

حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ [النساء:23] الآية. معناها تحريم نكاح من ذكر من النساء، والنساء المحرمات على التأبيد ثلاثة أصناف: بالنسب، وبالرضاع، وبالمصاهرة. فأما النسب فيحرم به سبعة أصناف، وهي المذكورة في هذه الآية.

جاء عن ابن عباس -ا-: (يحرم من النسب سبع، ومن الصهر سبع)، ثم قرأ هذه الآية: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ...[19]. وسيأتي بيان ما يحرم من المصاهرة، حيث ذكر المؤلف أقل من ذلك.

فأما النسب فيحرم به سبعة أصناف، وهي المذكورة في هذه الآية، وضابطها أنه يحرم على الرجل فصوله ما سفلت، وأصوله ما علت، وفصول أبويه ما سفلت وأول فصلٍ من كل أصلٍ متقدمٍ على أبويه.

"أول فصل" يعني: الجد، "وفصول أبويه سفلت وأول فصلٍ من كل أصلٍ متقدم على أبويه"، أول فصل، الآن بنت الجد ماذا تكون بالنسبة إليه؟ عمة، بنت الجد لأبيه، وبنت الجد لأمه تعتبر خالة.

لكن بنت بنت الجد هل تحل له أو تحرم عليه؟ تحل له، وبنت بنت الجد لأمه، تحل له بنت خالة أمه، فهذه قاعدة دائمًا أول فصل للأصول المتقدمة على أبويه.

أُمَّهاتُكُمْ[النساء:23]، يدخل فيه الوالدة، في النسخة الخطية (الوالدات)، والجدات من قبل الأم ومن الأب ما علون.

كل أمٍ له من قبل أبيه أو أمه فهي تحرم عليه، وإن علت.

وَبَناتُكُمْ [النساء:23]، يدخل فيه البنت وبنت الابن، وبنت البنت ما سفلنَّ.

وَأَخَواتُكُمْ [النساء:23]، يدخل فيه الأخت الشقيقة، والأخت للأب والأخت للأم.

وَعَمَّاتُكُمْ [النساء:23]، يدخل فيه أخت الوالد، وأخت الجد ما علا، سواءٌ كانت شقيقةً أو لأبٍ أو لأم، وَخالاتُكُمْ [النساء:23]، يدخل فيه أخت الأم وأخت الجدّ ما علت، سواءٌ كانت شقيقةً أو لأبٍ أو لأم، وَبَناتُ الْأَخِ [النساء:23]، يدخل فيه كل من تناسل من الأخ الشقيق أو لأبٍ أو لأم، وَبَناتُ الْأُخْتِ، يدخل فيه كل ما تناسل من الأخت الشقيقة أو لأبٍ أو لأم، وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ [النساء:23]، ذكر تعالى صنفين من الرضاعة وهم: الأم والأخت.

وقال رسول الله ﷺ: يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب[20]، فاقتضى ذلك تحريم الأصناف السبعة التي تحرم من النسب، وهي الأم، والبنت والأخت، والعمة والخالة، وبنت الأخ وبنت الأخت، وتفصيل ذلك يطول.

وفي الرضاع مسائل لم نذكرها؛ لأنها ليس لها تعلقٌ بألفاظ الآية. وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ المحرمات بالمصاهرة أربع: وهنَّ زوجة الأب.

طبعًا تعبير بلفظة زوج عن المرأة، والأفصح وهو الوارد في القرآن، واستعمال لفظ الزوجة هذا صحيح في اللغة، لكنَّها لغةٌ قليلة كما قال الفرزدق وهو في زمن الاحتجاج:

إن الذي  يسعى  ليفسد زوجتي  عليَّ كساعٍ   إلى  أُسد  الشرى  يستبيلها

زوجتي هذا على اللغة القليلة، ولكن الأفصح والأشهر، وهو الذي جاء في القرآن (زوج) فهنا عندك زوج الأب؟

زوجة الأب، وإن علا؛ يعني زوجة الجد تحرم عليه، وزوجة الابن وإن نزلت زوجة الابن وهكذا، وأم الزوجة وإن علت، الأم يعني أم الزوجة، جدة الزوجة تحرم عليه وهكذا، وبنت الزوجة وإن نزلت أيضًا، بنتها وحفيدتها.

يقول: "وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ المحرمات بالمصاهرة أربع"، هنا ذكر أربعة ومضى كلام ابن عباس -ا-: بأنه يحرم سبع"، فذكر هنا هذه الأربعة فقط.

 ذكر بعض أهل العمل أنه يحرم من الرضاع والمصاهرة، الأمهات من الرضاع، والأخوات كذلك، لاحظ الآن المحرمات بالمصاهرة، هنا ذكر زوجة الأب، وزوجة الابن، وأم الزوجة، وبنت الزوجة، كذلك أيضا يحرم عليه من الرضاعة المصاهرة الأمهات من الرضاع، والأخوات من الرضاع، أمهات النساء ، أم الزوجة، والربائب بنت الزوجة وإن نزلت كما سبق، وحلائل الأبناء زوجة الابن، والجمع بين الأختين، ومنكوحة الأب وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ [النساء:22] هذه سبع، والثامنة دلت عليه السُنَّة وهي الجمع بين المرأة وعمتها، والجمع بين المرأة وخالتها هذه ثمان.

وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ المحرمات بالمصاهرة أربع: وهنَّ زوجة الأب، وزوجة الابن، وأم الزوجة، وبنت الزوجة، فأما الثلاث الأول فتحرم بالعقد دخل بها أم لم يدخل بها، وأما بنت الزوجة فلا تحرم إلّا بعد الدخول بأمها.

"الثلاث الأول فتحرم بالعقد دخل بها أم لم يدخل بها"؛ لأن الله أطلق ذلك لم يقيده بالدخول، وإنما قيد الدخول بما يتصل بالربائب وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ [النساء:23]، والباقي لم يقيده؛ ولهذا نقل على ذلك جمعٌ من أهل العلم الإجماع، الحافظ ابن كثير -رحمه الله- نقل الإجماع على هذا أنه إنما ذلك يتقيد بأم الربيبة[21]، يتقيد فيما يتعلق بنكاح الربيبة، إذا كان قد دخل بأمها وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي [النساء:23]، وما عداه فإن ذلك يكون بمجرد العقد؛ لأن الله لم يقيده؛ بل نقل ابن المنذر الإجماع أيضًا على حصول التحريم بالعقد الفاسد.

يعني: لو أن الأب عقد على امرأةٍ عقدًا فاسدًا، العقد الفاسد مثل لو أنه تزوجها من غير ولي هذا عقد فاسد، فابن المنذر نقل الإجماع على حصول التحريم لمثل هذا، لكن الخلاف وقع في الزنا، من غير عقد ولا شبهة عقد؛ لأن شبهة العقد يحصل بها ثبوت النسب، إلحاق الولد، ونحو ذلك فصار شبهة العقد غير الزنا، ومن ثم فإذا عقد عليها عقدًا فاسدًا تحرم على ابنه وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ [النساء:22]، كذلك في قوله: وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ [النساء:23].

فأما الثلاث الأول فتحرم بالعقد دخل بها أم لم يدخل بها، وأما بنت الزوجة فلا تحرم إلّا بعد الدخول بأمها، فإن وطئها حرمت عليه بنتها بالإجماع، وإن تلذذ بها بما دون الوطء فحرّمها مالكٌ[22] والجمهور، وإن عقد عليها ولم يدخل بها لم تحرم بنتها إجماعًا، وتحرم هذه الأربعة بالرضاع كما تحرم بالنسب.

"كما تحرم بالنسب"، الثلاث تحرم بالعقد، حصل الدخول أم لم يحصل، لكن بنت الزوجة وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي [النساء:23]، ما معنى الدخول هنا؟

إذا فُسِّر بالجماع، فإنها لا تحرم بدون الجماع؛ يعني ما دون الجماع أن المباشرة، والتقبيل ونحو ذلك فلا تحرم عليه، "إن تلذذ بها دون الوطء فحرمها مالكٌ والجمهور" بأي اعتبار؟ دَخَلْتُمْ بِهِنَّ [النساء:23] كأنهم نزلوا المظنَّة منزلة المئنَّة؛ يعني: مثل هذا الاستمتاع أو نحو ذلك نُزل منزلة الوطء والنكاح، هنا في الربيبة وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ [النساء:23].

 وإن عقد عليها ولم يدخل بها لم تحرم بنتها إجماعًا، لكن هذا القيد وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ [النساء:23]، هل هو شرط أو لا؟ يعني: أن تكون كذلك، هذا سيأتي، لكن لو تلذذ بها، لو أن الأب تزوج امرأةً واستمتع بها بما دون الجماع، فهل تحرم على ولده؟ هذا لا يحتاج إلى تفكير، كيف؟ هي تحرم بمجرد العقد، كما سبق الثلاث اللَّاتي أطلقهن الله: أطلق التحريم، تحرم بمجرد العقد فكيف لو استمتع بها، لكن الكلام في الربيبة إذا كان قد استمتع بأمها، هل تحرم عليه الربيبة إذا استمتع بأمها بما دون الجماع؟ هل تحرم أو لا تحرم؟ لأنها لا تحرم بمجرد العقد بالإجماع، فإذا حصل استمتاع دون الجماع هل تحرم أو لا؟ هذا الذي فيه الخلاف.

يقول: "وتحرم هذه الأربعة بالرضاع كما تحرم بالنسب"، هذا على قول الجمهور، ومنهم الأئمة الأربعة، وذكرنا أن شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- فيما نقله عنه الحافظ ابن رجب -رحمه الله-: أنهنَّ لا يحرمن بسبب الرضاعة[23].

والحافظ ابن القيم نقل عنه التوقف[24]، هذا على قول الجمهور أنهنَّ أيضًا من الرضاع؛ يعني زوجة الابن من الرضاع، زوجة الأب من الرضاع هل تحرم أو لا تحرم؟

الجمهور يحتجون بقول النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-: يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب، فأطلقه هكذا يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب.

مثل شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- يحتج بأنه قال: يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب، ولم يقل: من المصاهرة، يحرم من الرضاع، ولم يذكر المصاهرة، المصاهرة يختلف حكمها، فيجوز له أن يتزوج امرأة ابنه من الرضاعة دخل بها أو لم يدخل بها، ويجوز له أن يتزوج امرأة أبيه من الرضاع، وأن يتزوج ابنة زوجته من الرضاع؛ لأنها ليست وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ [النساء:23].

وقالوا أيضًا: بأن الله قال: وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ [النساء:23]، فالذي يكون من الرضاعة يكون خارجًا عن هذا، ومن المعاصرين من يفتي بهذا، كفضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين -رحمه الله-: "إنه لا يحرم من الرضاع شيء من هذه الأربعة"، لكن فيما يتصل بالنكاح، واستحلال الفروج الاحتياط في مثل هذا؛ لأن القاعدة: (إن الأصل في الفروج المنع)، الأئمة الأربعة على أن ذلك لا يحل، الجمهور لا يبتعد عنه؛ حتى يقع في محظور يتورع منه؛ يعني مثل الورع في مثل هذا وهو ورعٌ مشروع لمن لم يتبين له التحريم.

وكذلك يضاف إليه الجمع بين الأختين، والمرأة وعمتها، وخالتها، إذا كان الجمع بين الأختين من الرضاع؛ لأنه على قول شيخ الإسلام: يجوز، والجمع بين المرأة وعمتها من الرضاع، والمرأة وخالتها من الرضاعة، كل هذا جائز؛ لأنه قال: يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب ولم يقل: (المصاهرة)، ما قال: يحرم من المصاهرة ما يحرم من النسب. 

وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ [النساء:23]، الربيبة هي بنت امرأة الرجل من غيره، سميت بذلك؛ لأنه يربيها فلفظها فعيلة بمعنى مفعولة.

يعني: هي من التربية ربيبة، وذلك أن الغالب أن البنت تكون مع أمها، فتكون عنده يتولى تربيتها. يقال لها ربيبة

اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ [النساء: 23] على غالب الأمر.

يعني هذه اللفظة اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ، أصلها المنع والإحاطة على الشيء، فِي حُجُورِكُمْ، تحجير على الشيء ونحو ذلك أصل المادة؛ يعني أنها وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ؛ يعني في كنفكم، وتحت نظركم، وتربيتكم، ورعايتكم ونحو ذلك في ضمانكم.

"اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ [النساء:23] على غالب الأمر"، يعني باعتبار أنه خرج مخرج الغالب، إن الغالب إنها تكون مع أمها عنده، فقال: اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ، بمعنى أنها لو لم تكن عنده، لو كانت مع أبيها، أو عند جدها أو نحو ذلك، فهل تحرم عليه باعتبار أن هذا القيد هنا معتبر؟ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ، مفهوم المخالفة أنها إن لم تكن كذلك فتحل له، هذا مفهوم المخالفة.

 ومفهوم المخالفة معروف أنه حُجة عند الجمهور، خلافًا لأبي حنيفة، فيقال هنا: الجمهور يقولون: إن ذلك غير معتبر هنا في هذا الموضع، باعتبار أن مفهوم المخالفة لا يعتبر في نحو سبعة مواضع أو ثمانية، كما يقول الأصوليون، ومنه قول صاحب المراقي: "دع إذا الساكت عنه خاف، أو جهل النطق، أو الحكم انجلب للسؤل، أو جري على الذي غلب".

يعني هنا جرى على الغالب وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ، فهذه إن لم تكن في كنفه فهل تحرم عليه أو لا؟

مفهوم المخالفة هنا لا يعتبر، فتحرم عليه مطلقًا سواءٌ كانت عنده أم لم تكن عنده، ومثل ما أيضًا في قوله -تبارك وتعالى-: وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا [النور:33]، هنا نزل وفاقًا لواقع معين، أو وفاق الواقع، هذا أحد المواضع التي لا يعتبر فيها مفهوم المخالفة.  

اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ [النساء:23] على غالب الأمر إذ الأكثر أن تكون الربيبة في حجر زوج أمّها، وهي محرّمةٌ سواءٌ كانت في حجره أم لا، هذا عند الجمهور من العلماء إلّا ما روي عن علي بن أبي طالبٍ أنه أجاز نكاحها إن لم تكن في حجره[25].

هذا ثابت عن علي .

وعندكم في الحاشية يقول عن مالك بن أوس قال: (كانت عندي امرأةٍ فتوفيت، وقد ولدت لي فوجدت عليها فلقيني علي بن أبي طالب فقال: مالك، فقلت: توفيت المرأة. فقال علي: لها ابنة؟ قلت: نعم وهي بالطائف، قال: كانت في حجرك؟ قلت: لا هي بالطائف. قال: فأنكحها، قلت: فأين قول الله : وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ [النساء:23]، قال: إنها لم تكن في حجرك إنما ذلك إذا كانت في حجرك) ، هذا ثابت عن علي .

 يقول الحافظ ابن كثير بعدما نقل هذه الرواية: "وهذا إسنادٌ قويٌ ثابتٌ إلى علي بن أبي طالب على شرط مسلم، وهو قولٌ غريبٌ جدًا، وإلى هذا ذهب داود بن علي الظاهري وأصحابه، وحكاه أبو القاسم الرافعي عن مالك -رحمه الله-، واختاره ابن حزم يقول: وحكى لي شيخنا الحافظ أبو عبد الله الذهبي، أنه عرض هذا على الشيخ الإمام تقي الدين ابن تيمية -رحمه الله-، فاستشكله وتوقف في ذلك، والله أعلم[26].

 يعني هؤلاء لما جاء عن علي ومن تابعه كداود الظاهري، وابن حزم أنهم هنا اعتبروا هذا القيد، فأعملوا مفهوم المخالفة؛ يعني: إن لم تكن في حجره فلا بأس أن يتزوجها، وهذا يحتمل لكن ما سبق من أن مفهوم المخالفة، إذا كان النص جرى على الغالب فهو غير معتبر، وهذا قول عامة أهل العلم.

اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ [النساء:23]، اشترط الدخول في تحريم بنت الزوجة خاصةً، ولم يشترط في تحريم غيرها، وعلى ذلك جمهور العلماء: إلّا ما روي عن علي بن أبي طالب أنه اشترط الدخول في تحريم الجميع[27]، وقد انعقد الإجماع بعده على خلاف ذلك.

قوله: اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ، هنا كما سبق، ما المقصود بالدخول؟ فسره بعض أهل العلم باللمس، واللمس بشهوة، والنظر يعني قال: قيده بعضهم بالنظر إلى فرجها اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ، وفسره ابن عباس -ا- وجماعة بالنكاح[28]، يعني: إن لم يحصل وطء فلا تحرم نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ، وهذا الذي اختاره الحافظ ابن كثير -رحمه الله-[29].

وجاء عن عطاء بمعنى نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ، هو أن تهدى إليه فيكشف، ويفتش، ويجلس بين رجليها، فقال له ابن جريج الذي يروي عنه ذلك: أرأيت أن فعل ذلك في بيت أهلها؟ قال: هو سواء وحسبه، وقد حرم ذلك عليه ابنتها[30].

وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ، فاعتبر أن مجرد الاستمتاع بهذه المرأة، بما دون الوطء أنه يحرم البنت، وما ذكره ابن عباس - ا-، واختاره ابن كثير بأن المقصود النكاح يعني: الوطء، باعتبار أن الدخول يعبر به عن الوطء، يقال: دخل فلان بامرأته يعني: بنى بها، حصل الوطء هذا الدخول.

 قال: لأنَّ النبي ﷺ تزوج عائشة -ا- وهي بنت ست، ودخل بها وهي بنت تسع، فلا يفهم من هذا دخل بها، إلا أنه بنى بها ونكحها، وهي بنت تسع، فحمل ألفاظ القرآن على المعنى المتبادر الغالب هو الأولى والأرجح، لا بمجرد ما يحتمله اللفظ، وهذا كثيرٌ ما يذكره أبو جعفر بن جرير -رحمه الله-: مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ، فيكون مقتضاها أن الربيبة تحرم إذا كان الأب قد تزوج أمها وجامعها.

وقوله هنا: "وعلى ذلك جمهور العلماء"، يعني أنه أُشترط الدخول في تحريم بنت الزوجة خاصة دخول، ولم يشترط في تحريم غيرها، يعني: بمجرد العقد تحرم على هذا الجمهور.

 قال: "إلا ما  روي عن علي أنه اشترط الدخول في تحريم الجميع وقد انعقد الإجماع بعده على خلاف ذلك"، لكن هذا الذي قال: أنه روي عن علي ذكر عندكم في الهامش أنه أخرجه ابن جرير، قال: بإسنادٍ ضعيف، هو عن خلاس بن عمرو عن علي ، في رجلٌ تزوج امرأةً فطلقها قبل أن يدخل بها، أي يتزوج أمها؟ قال: هي بمنزلة الربيبة[31]، يعني: أن ذلك إن لم تكن دخلتم بهنَّ فلا جناح عليكم، بمنزلة الربيبة.

يعني الثلاث إلا لم يحصل أنها لا تحرم بمجرد العقد؛ بل لا بُدَّ من الدخول، هذا مروي عن علي أنه اشترط ذلك، وقال القرطبي: وقالت طائفةٌ من السلف: الأم والربيبة سواء لا تحرم منها واحدة إلا بالدخول بالأخرى، قالوا ومعنى قول: وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ، أي: اللاتي دخلتم بهنَّ، وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ، وزعموا أن شرط الدخول راجعٌ إلى الأمهات والربائب جميعًا، رواه خلاس عن علي بن أبي طالب.

 وروي عن ابن عباسٍ، وجابر، وزيد بن ثابت وهو قول ابن الزبير، ومجاهد، قال مجاهد: الدخول مرادٌ في النازلتين، وقول الجمهور مخالفٌ لهذا، وعليه الحكم والفتيا، فقد شدد أهل العراق فيه حتى قالوا: لو وطئها بزنا، أو قبلها، أو لمسها بشهوة حرمت عليه ابنتها، وعند الشافعي إنما تحرم بالنكاح الصحيح، هذا بأي اعتبار؟ باعتبار أن الوطء الفاسد لا ينتشر به حرمة.

ويقول: والحرام لا يحرم الحلال على ما يأتي، هذا بمعنى أن لا تنتشر فيه حرمة، يعني الزنا، وحديث خلاس عن علي لا تقوم به حجة، ولا تصح روايته عند أهل العلم بالحديث، والصحيح عنه مثل قوم الجماعة[32].

يعني أن عليًا لم يخالف في ذلك، وينظر في ثبوته عن ابن عباس، وجابر، وزيد بن ثابت، وابن الزبير.

وإلا فيكون الإجماع منعقدًا على التحريم من غير قيد الدخول، وما يروى عن مجاهد لو صح يكون بعد انعقاد إجماع الصحابة ، والله أعلم.

وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ، الحلائل جمع حليلة وهي الزوجة.

نعم، الحلائل بأي اعتبار أنها حليلة؟ الزوجة يقال لها: حليلة، والزوج يقال له: حليل، إمَّا لأنهم ينزلان معًا، حلَّ معها وحلّت معه في موضعٍ ومكان واحد، أو حيث حل تنتقل معه، تكون معه، فيكون معها، أو باعتبار الحِل كل واحد يحل للآخر، أو باعتبار أن كل واحدٍ يحل إزاره لصاحبه، أو لأنها تحل معه في فراشٍ واحد، حلت بمعنى توجد وتكون معه في فراشٍ واحد، هذا الذي قاله أبو جعفر ابن جرير -رحمه الله- الحليلة أنها تكون معه في فراش، حلت معه في فراشٍ واحد[33].

هذا كله يحتمل، فهي معه حيث حل، وكذلك أيضًا كل واحدٍ حلال للآخر، وهي تكون معه حيث حل، ومن ذلك أنها تكون معه في فراشٍ واحد.

الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ تخصيصٌ؛ ليخرج عنه زوجة الابن يتبناه الرجل، وهو أجنبيٍ عنه كتزويج رسول الله ﷺ زينب بنت جحش، امرأة زيد بن حارثة الكلبي الذي كان يقال له: زيد بن محمد.

هنا الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ، على قول الجمهور في أنه لا يجوز له أن يتزوج امرأة ابنه من الرضاع، قلنا: الذين أجازوا ذلك مثل شيخ الإسلام، يحتجون بمثل قوله: وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ، فهذا ليس من صلبه، فالجمهور يقولون: هنا جاء التقييد بهذا من أجل أن يخرج زوجة المتبنى، الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ، هذا جواب الجمهور.

الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ هو لا شك أنه يخرج المتبنى، لكن هل هذا سيق من أجل الإخراج المتبنى؟ طيب والابن من الرضاع ليس من الصلب، فحجة من قال كشيخ الإسلام بأنه يحل له هي قوية، لكن كما سبق يحتاط في مثل هذا.

يقول: "تخصيصٌ؛ ليخرج عنه زوجة الابن يتبناه الرجل، وهو أجنبيٍ عنه"، هذا الذي قاله الحافظ ابن كثير - رحمه الله- وهو قول الجمهور، أنهم عللوا بهذا، ولكن  لو قال مثل شيخ الإسلام ابن تيمية، بأنه قال: الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ ليخرج الابن من غير الصلب ،كالابن من الرضاع، والمتبنى.

والصلب هو الظهر، يعني: من ظهوركم، صلب من الصلابة والشدة، فالظهر ظهر الإنسان ربما يكون أقوى ما فيه، والعرب تقول ذلك: لكل شيءٍ فيه فقار، في الإنسان وهو امتداد الظهر من أعلاه إلى أسفله كله يقال له: صلب، وقد يطلق على بعضه فيقال: لموضعٍ منه كأسفل الظهر مثلًا، من باب إطلاق الكل على البعض، ويكون ذلك من قبيل التخصيص بالعرف الغالب، إن وجد عرف في ذلك.

يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ [الطارق:7]، هل المقصود بالصلب هنا كل الظهر أو جزء منه؟ بعض الظهر.

وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ يقتضي تحريم الجمع بين الأختين، سواء ٌكانتا شقيقتين أو لأبٍ أو لأم، وذلك في الزوجتين.

هذا بالإجماع.

وأمَّا الجمع بين الأختين المملوكتين في الوطء، فمنعه مالكٌ والشافعي وأبو حنيفة.

يعني الإجماع واقع على أنه لا يجوز الجمع بين الأختين في النكاح، في الزواج، لكن هل يجمع بينهما بملك اليمين، يكون عنده جاريتان أخوات، هل يجوز أو لا؟ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ.

يقول: "وأمَّا الجمع بين الأختين المملوكتين في الوطء، فمنعه مالكٌ والشافعي وأبو حنيفة وغيرهم، ورأوا أنه داخلٌ في عموم لفظ الأختين".

قال: وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ الأختين، فيدخل فيه الأختان بإطلاق، يعني من سواءٌ كان بالنكاح، أو كان بملك اليمين، ويدخل فيه أيضًا على قول الجمهور، الأختان من النسب، والأختان على قول الجمهور من الرضاع وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ.

وأجازه الظاهرية[34]؛ لأنهم قصروا الآية على الجمع بعقد النكاح، وأمَّا الجمع بين الأختين في الملك دون وطءٍ فجائز باتفاق.

هذا خلاف لا يختص بالظاهرية الجمع بين الأختين، هذا واقع بين السلف، وهذا الموضع في كتاب الله يحتمل وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ، فظاهره العموم سواءٌ كان في ملك اليمين أو غيره، لكن هنا في سياق المحرمات من النكاح، وليس بملك اليمين، لكن هذا الإطلاق قد يدخل فيه الجمع بين الأختين بملك اليمين، وكما قال بعض السلف: حرمتهما آية وأباحتهما آية.

إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ المعنى: إلّا ما فعلتم من ذلك في الجاهلية وانقطع بالإسلام، فقد عُفى عنكم فلا تؤاخذون به، وهذا أرجح الأقوال حسبما تقدم في الموضع الأول.

يعني: إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ تجمعوا بين الأختين، كما يقول الحافظ بن كثير -رحمه الله-: دلَّ على أن ذلك لا مثنوية فيما يستقبل، ولا استثناء فيما سلف[35]، ذلك يحرم بإطلاق، ما مضى انتهى ولا يحل لأحدٍ أن يفعل ذلك بعد نزول التحريم، والله أعلم.

  1. تفسير ابن كثير (2/244).
  2. تفسير ابن كثير (2/245)
  3. أخرجه مسلم، كتاب الحج، باب حجة النبي ﷺ، رقم: (1218).
  4. تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (8/127).
  5. تفسير الطبري (8/132)، رقم: (8938).
  6. تفسير ابن كثير (2/245).
  7. تفسير الطبري (8/138).
  8. تفسير ابن كثير (6/9).
  9. الحجة على أهل المدينة (3/388)، الدر المختار وحاشية ابن عابدين  (3/365).
  10. المهذب في فقه الإمام الشافعي للشيرازي (2/440).
  11. الاستذكار (5/463-464).
  12. تفسير ابن كثير (2/247).
  13. تفسير الطبري = جامع البيان (8/193)، رقم: (9075).
  14. تفسير ابن المنذر (2/618).
  15. تفسير الزمخشري (1/493).
  16. تفسير ابن كثير (2/246).
  17. أخرجه البخاري، كتاب الإيمان، باب: حب الرسول ﷺ من الإيمان، رقم: (15)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب وجوب محبة رسول الله ﷺ أكثر من الأهل والولد، رقم: (44). 
  18. تفسير ابن كثير (2/246).
  19. أخرجه البخاري، كتاب النكاح، باب ما يحل من النساء وما يحرم، رقم: (5105).
  20. أخرجه البخاري، كتاب الشهادات، باب الشهادة على الأنساب، والرضاع المستفيض، والموت القديم، رقم: (2645)، ومسلم، كتاب الرضاع، باب تحريم الرضاعة من ماء الفحل، رقم: (1445).
  21. تفسير ابن كثير (2/251).
  22. بداية المجتهد ونهاية المقتصد (3/58).
  23. الفتاوى الكبرى لابن تيمية (5/458).
  24. انظر: زاد المعاد في هدي خير العباد (5/496).
  25. مصنف عبد الرزاق الصنعاني (6/278)، رقم: (10834). 
  26. تفسير ابن كثير (2/252).
  27. تفسير الطبري (8/144)، رقم: (8951).
  28. تفسير الطبري (8/148).
  29. تفسير ابن كثير (2/249).
  30. تفسير ابن كثير (2/252).
  31. تفسير الطبري (8/144)، رقم: (8951).
  32. تفسير القرطبي (5/106).
  33. تفسير الطبري (8/149).
  34. فتح القدير للشوكاني (1/514).
  35. تفسير ابن كثير (2/253).

مواد ذات صلة