الخميس 19 / جمادى الأولى / 1446 - 21 / نوفمبر 2024
(006-ب) قوله تعالى (يا أيها الذين ءامنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى..) الآية 43 – إلى نهاية الآية (إن الله كان غفوراً رحيما)
تاريخ النشر: ٢٧ / جمادى الأولى / ١٤٣٨
التحميل: 984
مرات الإستماع: 1154

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين، أما بعد:

فاللهم اغفر لنا ولشيخنا والحاضرين والمستمعين ولجميع المسلمين، قال ابن جُزي -رحمه الله تعالى-:

قوله تعالى: لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى [النساء:43]، سببها أن جماعةً من الصحابة شربوا الخمر قبل تحريمها، ثم قاموا إلى الصلاة وأمّهم أحدهم فخلط في القراءة، فمعناها النهي عن الصلاة في حال السكر، قال بعض الناس: هي منسوخةٌ بتحريم الخمر وذلك لا يلزم؛ لأنها ليس فيها ما يقتضي إباحة الخمر، وإنما هي نهيٌ عن الصلاة في حال السكر، وذلك الحكم ثابتٌ في حين إباحة الخمر وفي حين تحريمها، وقال بعضهم: معناها لا يكن منكم سكرٌ يمنع قرب الصلاة، إذ المرء مأمورٌ بالصلاة فكأنها تقتضي النهي عن السكر وعن سببه وهو الشرب، وهذا بعيدٌ من مقتضى اللفظ.

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله: لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى، فالنهي هنا عن قُرب الصلاة على السكر، ما قال: لا تُصلوا وأنتم سُكارى قال: لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ، ومن هنا اختلف أهل العلم في بيان محمله من المراد، فطائفة منهم ذهبوا إلى أن المقصود لا تتلبسوا بها، وهذا قول أبي حنيفة -رحمه الله-[1]، واختاره الحافظ ابن كثير[2]، لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ لا تتلبسوا بها، يعني لا تدخل في الصلاة بحال السُكر، لكن يُشكل عليه أن النهي هنا عن القربان، أي يقرب الصلاة، وإذا نهى عن مقاربة الشيء فهو نهيٌ عن ملابسته والدخول فيه وزيادة، ترى يقول -تبارك وتعالى-: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى [الإسراء:32]، فهو نهي عن كل سببٍ يوصل إليه، فإذا قال: لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ فما المراد؟ هل المراد لا تتلبسوا بها؟ أو أكثر من هذا أيضًا في المعنى كما قال بعض أهل العلم: يعني لا تقربوا محالّها، مواضع الصلاة، محال الصلاة المساجد، لا تقربها فضلًا عن أن تدخل الصلاة في حال السكر، وهذا الذي اختاره الإمام الشافعي -رحمه الله-[3]، أُخذ هذا من النهي عن المقاربة، لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ، ما قال: لا تُصلّوا وأنتم سُكارى، لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ.

إذن لا تقرب الصلاة ولا تقرب مواضع الصلاة أيضًا، فالسكران لا يدخل المسجد فضلًا عن أن يُصلي؛ لأن المساجد تُنزّه عن هذا وتُجلّ وتُعظّم.

وبعض أهل العلم ذهب إلى الجمع بين المعنيين، والواقع أنه لا مُنافاة عند مثل الشافعي -رحمه الله- حينما يقول: "لا تقرب محال الصلاة"، من باب أولى أنه لا يقرب الصلاة ويتلبّس بها، فهذا أبلغ في النهي، -والله تعالى أعلم-، مع أن بعضهم كما جاء عن ابن عباس -ا- من فسّر السُكر هنا بمعنى النُعاس[4]، لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى يعني في حال النُعاس، وجاء عن الضحّاك بأن السُكر المراد به النوم هنا[5].

وهذه المعاني التي يذكرونها تبدو غريبة والواقع أنهم لم يُفسّروا نفس السُكر بالنوم أو بالنعاس، هم يعرفون معنى السُكر لكن أرادوا أن يُنبهوا إلى معنى قد يغفل عنه البعض وهو في معنى السُكر، يعني من حيث أنه لا يعقل ما يقول في الصلاة وأنه قد يريد أن يدعو لنفسه فيدعو على نفسه كما جاء في الصحيح من حديث أنس : إذا نعس أحدكم وهو يصلي فلينصرف، فلينم حتى يعلم ما يقرأ[6].

وجاء في روايةٍ: فلعله يذهب يستغفر فيسب نفسه[7]، الإنسان إذا كان في حال مغالبة النوم والنُعاس لا يدري ما يقول، فقد يقرأ سورة الفاتحة وهو ساجد، وقد يدعو على نفسه، وقد يقرأ التشهّد وهو قائم أو ساجد أو راكع ونحو ذلك فيُخلّط في الصلاة كما يُخلط السكران.

فهؤلاء سواء ابن عباس -ا- أو الضحّاك قصدوا التنبيه على حالٍ تُشبه السُكر قد يُغفل عنها، وليس ذلك يقتضي أنهم فسّروا السُكر نفسه بالنُعاس أو النوم، هذا الذي يسمع مثل هذا يبدو أنه قولٌ بعيد وأنه غريب وأنه يُسارع بأن هذا القول في غاية النكارة، الواقع أنه ليس هكذا بالصورة التي فُهمت ولكنهم أرادوا أن يُنبهوا إلى معنى قد نغفل عنه، وإلا فالسُكر معروف، ذهاب العقل بما يُداخله من شرب المسكر أيًا كان.

قال: "سببها أن جماعةً من الصحابة شربوا الخمر قبل تحريمها، ثم قاموا إلى الصلاة وأمّهم أحدهم فخلط .." إلى آخره، هنا رواية في سبب النزول يعني عندنا حديث علي قال: "صنع لنا عبد الرحمن بن عوف طعامًا فدعانا وسقانا من الخمر، فأخذ الخمر منا، -يعني سكروا، هذا قبل تحريم الخمر-، وحضرت الصلاة فقدموني فقرأت: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ۝ لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ [الكافرون:1-2] ونحن نعبد ما تعبدون، -خلّط في القراءة-، فأنزل الله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى"[8]، هذا ثابت عند الترمذي وغيره، وعلى كل حال في روايةٍ عن علي أن رجلًا من الأنصار دعاه وعبد الرحمن بن عوف، فساقهما قبل أن تُحرّم الخمر، فأمهم علي في المغرب فقرأ: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ فخلّط فيها، فنزلت: لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ، هذا سبب النزول، لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى.

هنا يقول: "قال بعض الناس: هي منسوخةٌ بتحريم الخمر"، منسوخة، وهذا قول الأكثر نسبه النحاس في كتابه: (الناسخ والمنسوخ) وهو من أعظم الكتب المؤلفة في الناسخ والمنسوخ، كتابٌ مُسند وهو من أجلّها، نسب ذلك إلى أكثر أهل العلم[9]، وهو الذي اختاره الحافظ ابن كثير -رحمه الله-[10] أن هذه الآية منسوخة، منسوخة بقوله: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [المائدة:90]، يوضح هذا حديث عمر ، يقول: لما نزل تحريم الخمر قال عمر: اللهم بيّن لنا في الخمر بيانًا شافيًا، فنزلت الآية التي في البقرة: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ [البقرة:219]، هذه لم تُحرّم الخمر، وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا، قال: فدُعي عُمر فقُرِأت عليه، قال: اللهم بيّن لنا في الخمر بيانًا شافيًا، فنزلت الآية التي في النساء: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى [النساء:43][11]، فصارت الخمر مُحرّمة في بعض الأوقات، بعض الأحوال، وقت الصلاة، يعني معنى ذلك أنه يحتاج أن يشرب الخمر إذا أراد شربها في الليل بعد صلاة العشاء من أجل أن يفيق قبل صلاة الفجر، أو يشرب بعد صلاة الفجر ليُفيق قبل الظهر، لكن لا يستطيع أن يشرب بعد الظهر مثلًا أو بعد العصر أو بعد المغرب، فحجزتهم بعض الأوقات والأحوال، قال في هذا الحديث: "فكان مُنادي رسول الله ﷺ إذا أُقيمت الصلاة يُنادي يعني مع الأذان، ألا لا يقربنّ الصلاة سكران"[12]، وهذا على قول الشافعي لا يأتي إلى المسجد أصلًا وهو في حال السُكر، فدُعي عُمر فقُرأت عليه، فقال: اللهم بيّن لنا في الخمر بيانًا شافيًا فنزلت هذه الآية التي في المائدة: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ [المائدة:91]، قال عُمر : "انتيهنا"[13].

هذا التدرج في تحريم الخمر، واختلفوا في آية النحل: وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا [النحل:67]، هذه في مكة، هل المقصود بالسكر المُسكِر، وإذا كان كذلك كيف جاء في سياق الامتنان؟

هذا موضع الإشكال، وبعضهم يقول: لا، السكر هنا يُطلق على المُسكر وعلى العصير غير المُسكر، فالمقصود به غير المُسكر، ما يتّخذ من العصير من هذه الثمرات غير المُسكر، وهذا على هذا المعنى لا إشكال، وعلى المعنى الآخر أنه المُسكِر كيف امتن به؟

أجابوا بأجوبة: قالوا: كان ذلك في مكة وقبل تحريم الخمر، وكانت من أعظم ما يتفاخرون به في مجالسهم ولها وقعٌ في نفوسهم، فذكرها لهم بهذا السياق، تَتَّخِذُونَ هو يذكر لهم ذلك الذي يتعاطونه قبل أن يُحرّم ويعدّونه من أعظم المآثر عندهم، شُرب الخمر يسمونها القهوة في ذلك الحين ويتحدثون ويذكرون شعرًا في إدارتها ومن يُديرها، والكأس يصفونها وصفاء هذه الخمر إلى غير ذلك من الكلام الكثير في شعرًا ونثرًا في وصف العرب الأقدمين لهذه الخمر، ذلك قبل التحريم، فهل هذه الآية، آية النحل، هي من الآيات النازلة في الخمر؟ هذا على القولين، من قال: بأن السكر تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا المقصود به الخمر قال: هذه الآية الأولى، ذكرها هكذا وليس فيها ما يُشعر بالتحريم.

وبعض أهل العلم يقول: هذه الآية ليست مما نزل في الخمر، وإنما الذي نزل في الخمر: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ أن هذه أول آية، فذكر الإثم ثم أشار إلى أن الإثم أكبر من النفع كأنها مُقدمة وتوضيح لما يكون بعدها، ثم حجزهم عنها في بعض الأوقات، لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى هذه الآية التي في سورة النساء، ثم بعد ذلك جاء المنع بآية المائدة القاطع: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ يعني انتهوا، فهذا استفهام بمعنى الأمر، - والله أعلم-.

ويقول هنا: "قال بعض الناس: هي منسوخةٌ بتحريم الخمر، وذلك لا يلزم؛ لأنها ليس فيها ما يقتضي إباحة الخمر، وإنما هي نهيٌ عن الصلاة في حال السكر، وذلك الحكم ثابتٌ في حين إباحة الخمر وفي حين تحريمها"، هنا يقول لا يلزم إنها تكون منسوخة، يعني أن قوله: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ هل هو ناسخ لقوله: لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى؟ الذين قالوا إنه ناسخ له قالوا إن قوله: لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى مفهومه أنه يجوز لهم أن يتعاطوا السُكر في غير وقت الصلاة، فهذه إباحةٌ شرعية بهذا الاعتبار، ورفع الإباحة الشرعية يُعد نسخًا، فقالوا: آية المائدة ناسخة، والذين قالوا: لا، الآية التي في المائدة ليست بناسخة لهذه؛ لأن هذه تتعلق بجزئية معينة وهي التحريم مُقاربة الصلاة في حال السُكر فقط، ولم يتعرض للأحوال الأخرى، سكت عنها، فالآية التي في المائدة ليست ناسخة لهذه؛ لأن هذه معمولٌ بها حتى بعد نزول التحريم الصريح، فلو أن أحدًا عصى الله فسكِر لا يجوز له أن يقرب الصلاة في حال سُكره، لا يُصلي، ولو صلى فما حكم الصلاة؟ باطلة؛ لأن النهي يقتضي الفساد، فصلاته باطلة عليه الإعادة، لكن لا شك أن هذه الآية مما نزل متدرجًا في تحريم الخمر، إنما الخلاف في آية النحل: تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا هل هي من جملة الآيات المُتدرجة في الباب أو لا.

"وقال بعضهم: معناها لا يكن منكم سكرٌ يمنع قرب الصلاة" يعني أنه حينما نهاهم عن مقاربة الصلاة في حال السكر فذلك منعٌ لهم من السُكر الذي يحول بينهم وبين الصلاة، يقول: "إذ المرء مأمورٌ بالصلاة فكأنها تقتضي النهي عن السكر وعن سببه وهو الشرب"، لكن يقول: "وهذا بعيدٌ من مقتضى اللفظ" كذلك الحديث الذي ذكرناه عن عمر لما نزلت آية النساء، قال: "اللهم بيّن لنا في الخمر بيانًا شافيًا"، فكانوا يشربونها بعد العشاء ويشربونها بعد الفجر ليُفيق قبل الصلاة؛ لأنهم لم يفهموا التحريم من آية النساء هذه، ثم بعد ذلك نُسخ، والله أعلم.

والذين يقولون: إنها غير منسوخة باعتبار أنها تتعلق بهذه الجزئية، النهي عن مُقاربة الصلاة في حال السكر، يقولون هي معمولٌ بها لم تُنسخ؛ لأنه حتى لو كان بعد التحريم لا يجوز له أن يقرب الصلاة في حال السُكر، والقاعدة أن النسخ لا يثبت بالاحتمال، فهذا ليس محل اتفاق أن الآية منسوخة من جهة الحكم، فحتى بعد التحريم لا يجوز للإنسان أن يقرب الصلاة بحال السكر ومن فعل فصلاته باطلة.

قوله تعالى: حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ [النساء:43]، أي: حتى تعود إليكم عقولكم فتعلمون ما تقرؤون، ويظهر من هذا أن السكران لا يعلم ما يقول فأخذ بعض الناس من ذلك أنّ السكران لا يلزم طلاقه ولا إقراره.

لاحظ الآن الاستنباط من الآيات مثل هذه، مع أنها ما سيقت في تقرير هذا المعنى، يعني في الآية نهيٌ عن مقاربة الصلاة في حال السُكر، طيب أحكام السكران في غير الصلاة فإذا طلّق امرأته هل يقع الطلاق أو لا؟

هذا خلاف بين أهل العلم، والحافظ ابن القيم -رحمه الله- له رسالة في طلاق السكران، فإذا نظرنا إلى أنه لم تتحقق فيه الأهلية بزوال العقل، فالعقل مناط التكليف فطلاقه لا يقع، وكذلك عتاقه وبيعه وشراؤه وهبته، وإذا نظرنا إلى أن ذلك واقع باختياره ومعصيته أيضًا فبعض أهل العلم أجرى ذلك عليه وقال: يقع طلاقه ويقع مثل هذه الأمور والتصرفات يؤاخذ عليها ويُلزم بمقتضاها بهذا الاعتبار، فهذه الأمور مُترددة بين حالين، زوال العقل الذي هو مناط التكليف، هو شرط للتكليف العقل، وأن يكون ذلك باختياره.

يُشبه هذا من وجه -وليس من كل وجه- الآن مثل التخدير الذي يُعطى للمريض، التنويم، التخدير، مريض يُعاني من آلام أو غير ذلك فأُعطي هذا التخدير، هل يقضي الصلاة أو لا يقضي الصلاة، يعني هل له حُكم المُغمى عليه أو لا، الإغماء بغير اختياره لكن مثل هذا التخدير هو باختياره، هل يصح صومه أو لا يصح صومه، الصلاة هل يقضيها أو لا يقضيها، بصرف النظر عن المدة ثلاثة أيام كما جاء عن بعض السلف، يعني إذا استمر الإغماء فيُقاس عليه التخدير، أو يُقال هذا باختياره ورضاه، فهو يختلف، فهذا مترددٌ بين النوم الذي يؤمر فيه بالقيام للصلاة ونحو ذلك، متردد بين الإغماء الذي يكون قهرًا ومن غير اختيار ولا يد له فيه فهو معذور، فيبقى هذا التخدير، هل يُطالب بالقضاء أو لا يُطالب بالقضاء مثلًا، قضاء الصلاة والصوم لو كان خُدّر من قبل الفجر إلى بعد غروب الشمس أو خُدّر لمدة أيام هل يقضي الصوم أو لا، فهو متردد بين هذا وهذا، ولهذا اختلف فيه أهل العلم هل يُلحق بالنوم أو يُلحق بالإغماء، وهكذا هذا السكران هل يُلحق بمن يزول عقله يعني من الناس من يزول عقله في بعض الأوقات ويرجع من غير سُكر يذهب عقله، يُصاب في عقله -نسأل الله العافية-، فمثل هذا لا يقضي الصلاة في وقت زوال العقل، اليوم الذي ذهب عقله فيه لا يؤمر فيه بالصوم ولا يقضي هذا اليوم، يعني يُجنّ في بعض الأوقات، أو يخلّط مثل كِبر السن والخرف الذي يُصيب الإنسان فيذهب عقله في بعض الأيام ويرجع عقله في بعض الأيام، فالأيام التي يذهب عقله فيها لا تكليف عليه لا صيام ولا صلاة، واليوم الذي يرجع عقله فيه هو مأمورٌ بالصلاة والصيام، كثير من الناس يسألون عن مثل هذا كبار السن هل يلزمهم صلاة قضاء وكذلك الصيام، ونحو ذلك، -والله أعلم-.

قوله تعالى: وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ [النساء:43] عطف وَلا جُنُبًا على موضع وَأَنْتُم سُكَارَى، إذ هو في موضع الحال والجُنُب هنا غير الطاهر بإنزال أو إيلاج، وهو واقعٌ على جماعة بدليل استثناء الجمع منه.

هُنا وَلا جُنُبًا عطف على وَأَنْتُم سُكَارَى، يعني لا تقربوا الصلاة وأنتم سُكارى ولا جُنُبًا، مما يؤيد قول الشافعي -رحمه الله- أن قوله: لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى أنه لا يقرب مواضع الصلاة، كذلك الجُنُب هو منهيٌ عن أن يقرب المسجد إلا إذا كان عابر سبيل، على خلاف في عابر السبيل سيأتي.

فالجُنُب لا يبقى في المسجد، لا يمكث في المسجد، كذلك إذًا السكران لا يمكث في المسجد فضلًا عن الصلاة، يعني الجُنُب لا يُصلي ولو صلّى لم تصح صلاته، وكذلك أيضًا الجُنُب، "إذ هو في موضع الحال" يعني وأنتم في حالِ السُكر والجنابة، قال: "والجُنُب هنا غير الطاهر"، يقولون: سُميت الجنابة بذلك لكونها سببًا لتجنب الصلاة في حكم الشرع، وأصل هذه المادة الجُنُب يدل على الناحية والبعد، ويقولون: هو اسمٌ خرج مخرج الفعل فيستوي للواحد والاثنين والجمع والمؤنث، جُنُب، يُقال: هذه امرأةٌ جُنُب، وهؤلاء الرجال جُنُب، وهذان جُنُب، وهذا جُنُب، فيستوي فيه المفرد والجمع والمذكر والمؤنث.

يقول: "والجُنُب هنا غير الطاهر بإنزال أو إيلاج"، يعني أنه لو حصل منه إنزال بأي طريقٍ كان سواء كان باحتلام أو يقظة فإنه يكون جنبًا كما هو معلوم، أو بإيلاج يعني من غير إنزال، إذا حصل ذلك فإنه يكون في حكم الجُنُب ولو لم يُنزل، وكذلك المرأة.

قال: "وهو واقعٌ على جماعة بدليل استثناء الجمع منه"، يعني ولا جُنُبًا ولا مُجنبين في حال الجنابة، "بدليل استثناء الجمع منه"، ما هو الاستثناء؟ الاستثناء هنا: إِلَّا عابِرِي، فـ عابِرِي هنا جمع فكيف استثنى من مُفرد جُنُب؟ قال: الجُنُب هنا يصدق على الجمع كما يصدق على الواحد والمثنى، فالمقصود به هنا معنى الجمع، جُنُبًا.

قال: واختلف في عابري سبيل، فقيل: إنه المسافر، ومعنى الآية على هذا: نهي أن يقرب الصلاة وهو جنب إلّا في السفر فيصلي بالتيمم دون اغتسال، فمقتضى الآية إباحة التيمم للجنب في السفر، ويؤخذ إباحة التيمم للجنب في الحضر من الحديث.

يعني هنا تفسير الجنب وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ، المراد بعابر السبيل المسافر يُرخّص له أن يُصلي بحال التيمم، وهذا مروي عن جماعة كعلي وابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد أن ذلك يعني السفر[14].

وفي الحضر هل يُصلي إذا لم يجد الماء أو تضرر باستعماله بسبب المرض، أو كان ما عنده ماء وهو في الحضر، محبوس بمكان ليس فيه ماء أو نحو ذلك، أو برد شديد يتضرر من الاغتسال؟

يجوز له التيمم بهذه الحال، يقول: "ويؤخذ إباحة التيمم للجنب في الحضر من الحديث"، وهو حديث عمران بن حصين أن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- رأى رجلًا مُعتزلًا لم يُصلِ مع القوم، فقال: يا فلان ما منعك أن تصلي مع القوم؟، فقال: يا رسول الله أصابتني جنابة ولا ماء، قال: عليك بالصعيد الطيب فإنه يكفيك[15]، فهذا مُطلق، وظاهره أن ذلك كان في الحضر، -والله أعلم-.

وكذلك حديث عبد الرحمن بن أبزى في قصة عُمر وعمّار لما حصل لهم جنابة في سفر وعمّار تمعّك تمعّك الدابة وأما عُمر فإنه لم يفعل ذلك وكان عُمر لم يبلغه التيمم، فالشاهد أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قال: إنما كان يكفيك أن تضرب بيديك الأرض ثم تنفخ، ثم تمسح بهما وجهك وكفيك[16]، فهذا هو المشروع في حال كون الإنسان لا يجد الماء أو يتضرر باستعماله.

وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ، هذا على القول بأن عابر السبيل هو المسافر ورخّص له بالتيمم في حال الجنابة.

سؤال: شيخنا حديث عمران بن حصين ألم يكن في سفر؟ هو في المتفق عليه قال: "كنا مع النبي ﷺ في سفر".

الجواب: إذا كان ذلك فليس فيه دليل على ما ذُكر، لكن بعض الفقهاء ذكر حديث عمران وحديث ابن أبزى بأن ذلك دليل على التيمم في الحضر، وكأنهم أخذوا ذلك من الإطلاق، إنما كان يكفيك...، ونحو ذلك أنه في حال عدم الماء يكفيه ما ذُكر، يعني ولو كان في حال الحضر، -والله أعلم-.

قال: وقيل: عابر السبيل المارّ في المسجد، والصلاة هنا يراد بها المسجد؛ لأنه موضع الصلاة، فمعنى الآية على هذا: النهي أن يقرب الجنب المسجد إلّا خاطرًا عليه، وعلى هذا أخذ الشافعي الآية؛ لأنه يجيز للجنب أن يمر في المسجد، ولا يجيز له أن يقعد فيه[17]، ومنع مالكٌ المرور والقعود[18]، وأجازهما داود[19].

فقوله هنا: "وقيل: عابر السبيل المارّ في المسجد"، جاء عن ابن عباس -ا-: "لا تدخلوا المسجد وأنتم جُنُب إلا عابري سبيل"[20]، وهذا بمعنى قول الشافعي -رحمه الله- وبمعنى هذا التفسير، إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ بمعنى لا تقربوا الصلاة مواضع الصلاة، لا يدخل الجُنُب المسجد إلا عابر السبيل، قال: تمر به مرًا ولا تجلس، يعني مُجتازًا، يعني كأنه مثلًا لو أراد حاجة من المسجد فدخل وأخذها وخرج دون أن يجلس أراد أن يُنبه أحدًا، يدعو أحدًا في المسجد، يُكلم أحدًا، لكنه لا يمكث فيه، وليس المقصود بالجلوس القعود بمعناه المتبادر، وإنما المكث يعني لو أنه ظل قائمًا فالحكم واحد أنه ليس له ذلك المكث، لكن عابر سبيل أو كأن يكون الطريق على المسجد فمر من هذه الناحية وخرج من تلك الناحية، مع أنه ليس له أن يتّخذ المسجد طريقًا، لكن قد تدعو الحاجة لهذا، يعني لا يكون ذلك عادةً لكن قد تدعو الحاجة، فيمر مجتازًا، وبنحو هذا المعنى الذي قاله ابن عباس قال ابن مسعود وأنس وأبو عُبيدة ، وقاله جماعة من التابعين كابن المسيب وأبي الضحى وعطاء ومجاهد ومسروق والنخعي وزيد بن أسلم، وبه قال أبو مالك وعمرو بن دينار والحكم بن عتيبة وعكرمة والحسن ويحيى بن سعيد الأنصاري والزُهري وقتادة[21]، وهو قول مالك والشافعي -رحمهما الله-[22]، يعني ليس له إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ يعني يمر بالمسجد مُجتازًا ولا يمكث فيه، وهذا هو الأقرب -والله أعلم- وقول عامة أهل العلم وليس المقصود في السفر، وإن كان ذلك مما تحتمله الآية.

وهنا يقول: "فمقتضى الآية إباحة التيمم.." إلى آخره، "وقيل: عابر السبيل المارّ في المسجد، والصلاة هنا يراد بها المسجد؛ لأنه موضع الصلاة فمعنى الآية على هذا: النهي أن يقرب الجنب المسجد إلّا خاطرًا عليه،" وهذا المعنى الذي ذكره هؤلاء من الصحابة فمن بعدهم، واختاره هؤلاء الأئمة هو اختيار أيضًا أبو جعفر ابن جرير كبير المفسرين[23]، واختاره الحافظ ابن كثير[24]، أن المقصود أن يمر مجتازًا في المسجد، إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ وليس في السفر، المسافر الذي يُباح له التيمم حال فقد الماء.

يقول: "ومنع مالكٌ المرور والقعود" مع أن بعضهم كما ذكرت نقل عن الإمام مالك -رحمه الله- أنه فسرها بهذا.

"وأجازهما داود"، يعني الظاهري، ولا وجه لهذا القول، إلا إذا فسّر عابر السبيل بأنه المسافر الذي لم يجد الماء، وإذا توضأ هل له أن يمكث في المسجد؟ الذي جاء عن بعض الصحابة أنه يُباح له النوم في المسجد أو المكث في المسجد إذا توضأ باعتبار أن الوضوء يُخفف الجنابة، فيتوضأ، لو أنه نام في المسجد فاحتلم فماذا يصنع؟ يخرج من المسجد حتى يغتسل أو يتوضأ ويرجع وينام فيه، فالوضوء يُخفف الجنابة.

قوله تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ [النساء:43] الآية سببها عدم اصطحاب الصحابة الماء في غزوة المريسيع فأُبيح لهم التيمم لعدم الماء.

هنا في نزول هذه الآية: وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ، يقول: "سببها عدم اصطحاب الصحابة الماء في غزوة المريسيع"، عندكم في الهامش ذكر تخريجه من الصحيحين من حديث عمران، وهذا غير صحيح، حديث عمران هو الذي ذكرته لكم قبل لكن حديث عائشة -ا-[25] المشهور في هذا لما ضاع عقدها فبقي النبي ﷺ وعبس الناس وبعث من يبحثون عن هذا العقد وليس معهم.

قال: ثم إن عدم الماء على ثلاثة أوجه:

أحدها: عدمه في السفر.

والثاني: عدمه في المرض، فيجوز التيمم في هذين الوجهين بإجماع؛ لأن الآية نصٌ في المرض والسفر إذا عدم الماء فيهما، لقوله: وَإِنْ كُنتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ ثم قال: فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً.

يعني المريض أيضًا حتى لو وجد الماء لكنه يتضرر باستعماله فهذا له حكم العادم، يعني هو عادمٌ حُكمًا، الأول الذي لم يجد الماء هو عادمٌ حقيقةً للماء، والآخر عادمٌ حُكمًا هو لا يستطيع أن يتوضأ، يتضرر بهذا، والشريعة ما جاءت بالضرر، وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج: 78]، فيجوز له أن يتوضأ في الحالين: ما وجد الماء أو وجده ولكن يتضرر باستعماله.

قال:

الوجه الثالث: عدم الماء في الحضر دون مرض، فاختلف الفقهاء فيه، فمذهب أبي حنيفة أنه لا يجوز فيه التيمم؛ لأن ظاهر الآية أن عدم الماء إنما يُعتبر مع المرض أو السفر[26]، ومذهب مالكٍ والشافعي: أنه يجوز فيه التيمم[27]، فإن قلنا: إن الآية لا تقتضيه، فيؤخذ جوازه من السنّة، وإن قلنا: إن الآية تقتضيه، فيؤخذ جوازه منها، وهذا هو الأرجح إن شاء الله، وذلك أنه ذكر في أول الآية المرض والسفر، ثم ذكر الإحداث دون مرضٍ ولا سفر، ثم قال بعد ذلك كله: فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فيرجع قوله: فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً إلى المرض وإلى السفر وإلى من أحدث في غير مرض ولا سفر، فيجوز التيمم على هذا لمن عدِم الماء في غير مرض ولا سفر، فيكون في الآية حجةٌ لمالكٍ والشافعي.

يعني على هذا كما في قوله: أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً، فهذا لم يُقيّده بالسفر، فدلّ على أنه يتيمم فأُخذ ذلك من الآية، ومن حمل ذلك جميعًا على حال السفر قال: يؤخذ ذلك من السنة، أنه إن لم يجد الماء في الحضر تيمم، وهذا لا شك فيه أنه يجوز للإنسان أن يتيمم في حال الحضر إذا كان لا يجد الماء أو كان يتضرر باستعماله إما من البرد الشديد أو كان ذلك بسبب المرض، وهذا من مقتضى سعة الشريعة ورفع الحرج والقواعد الشرعية دالّة على هذا، ورفع الضرر عن الناس، وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ.

قال: ويجوز التيمم أيضاً في مذهب مالكٍ للمريض إذا وجد الماء ولم يقدر على استعماله لضرر بدنه، فإن قلنا: إن الآية لا تقتضيه، فيؤخذ جوازه من السنة، وإن قلنا: إن الآية تقتضيه، فيؤخذ جوازه منهما على أن يتناول قوله: وَإِنْ كُنتُمْ مَرْضَى أن معناه مرضى لا تقدرون على مسّ الماء.

يعني لا يقتصر ذلك على عدم الماء مع المرض، مرضى مُطلقًا، يعني سواءً وُجد ماء لكن يتضرر باستعماله أو لم يوجد الماء، وهذا هو الأقرب، فيكون ذلك مأخوذًا من الآية.

وأما من السنة فيدل عليه حديث جابر: "خرجنا في سفرٍ فأصاب رجلًا منا حجر فشجّه في رأسه ثم احتلم، فقال لأصحابه: هل تجدون لي رخصة في التيمم؟ فقالوا: ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء، فاغتسل فمات، فلما قدمنا على النبي ﷺ أُخبر بذلك... الحديث[28]، وذكر المسح قال: إنما كان يكفيه أن يتيمم إلى آخره.

قال -رحمه الله-: وحدّ المرض الذي يجوز فيه التيمم عند مالك هو أن يخاف الموت أو زيادة المرض أو تأخر البُرء[29]، وعند الشافعي: خوف الموت لا غير[30].

طبعًا هذا أشد، لكن قول مالك -رحمه الله- في هذه الأحوال الثلاث: خوف الموت أو زيادة المرض أو تأخر البُرء، وهذا الذي اختاره الحافظ ابن كثير -رحمه الله-[31] مع أنه شافعي المذهب، وقول الشافعي أشد وهو أنه في حالٍ واحدة وهي خوف الموت، لكن مُقتضى رفع الحرج في الشريعة أنه إذا خاف زيادة المرض أو تأخر البُرء فضلًا عن خوف الموت فإنه يجوز له أن يتيمم، ولو كان الخوف من وجود المرض، يعني هو ليس بمريض لكن برد شديد فيخشى أنه إذا اغتسل أن يمرض، كأن يكون الإنسان في مكان لا يوجد فيه ما يستدفئ به أو يُسخّن به الماء، كأن الإنسان في بريّة أو نحو هذا واحتلم فإنه يتيمم إذا كان يخاف على نفسه من البرد ولو كان عنده الماء، وهذا هو القول الأعدل والوسط بين قول من قال كالشافعي -رحمه الله- أنه إذا خاف الموت فقط، يعني حتى لو مرِض لا إشكال، الشريعة ما جاءت بهذا.

والطرف الآخر قول بعض الفقهاء من المالكية وغيرهم بأنه كل ما يصدق عليه مرض، وبذلك يتيمم لو أن طرف الأصبع جُرح، هذا موجود للأسف وفقهاء يفعلون هذا، بعض من ينتسب للعلم في بعض المذاهب يفعلون هذا، لو جُرح إصبعه أو أوجعه ضرسه تيمم، والماء بجواره، ويُقال له: كيف تتيمم والماء معك؟

يقول: الله قال: وَإِنْ كُنتُمْ مَرْضَى، وأنا أشتكي من وجع الضرس أو أشتكي من هذا الأصبع أو نحو هذا، هذا لا يجوز، فهناك من يتوسع جدًا في مثل ذلك إلى يومنا هذا بعض من ينتسب للعلم يتيمم لأدنى سبب ما يصدق عليه المرض، يقول: المرض هو اختلال مزاج البدن قل أو كثر، مثل مسألة الفطر في رمضان، هل يُفطر لأدنى مرض؟ لوجع الضرس، لو أُصيب بشيء بأصبعه أو نحو ذلك جرح هل يُفطر أو لا؟ أصابه زكام هل يفطر؟ فبعضهم يقول:كل ما يصدق عليه المرض يُفطر، وهذا غير صحيح، وإنما المرض المُعتبر الذي يحصل معه زيادة العلة، أو تأخر البُرء، أو يخشى على نفسه الهلاك، أو وجود المرض في مثل الاغتسال، يعني هو صحيح ما ليس به مرض حتى يزيد أو يتأخر البُرء لكنه يخشى أن يمرض، إذا اغتسل مرض من شدة البرد، ففي هذه الحال يجوز له التيمم.

قال: وحدّ السفر: الغيبةُ عن الحضر سواء، كان مما تقصر فيه الصلاة أم لا

"كان مما تقصر فيه الصلاة أم لا" هذا على قول بعض أهل العلم، يعني الذي يسمونه السفر القصير، يعني إذا فارق البنيان وخرج أنه يجوز له التيمم، لكن هذا القول فيه نظر، وإنما المقصود السفر المُعتبر الذي تُقصر فيه الصلاة، وذلك ما كان في عُرف الناس من قبيل السفر، فيجوز له بهذه الحال أن يتيمم إذا لم يجد الماء، وإذا قلنا بأن ذلك في عموم الأحوال إذا لم يجد الماء حتى في الحضر فكذلك في ما يُسمى بالسفر القصير الذي لا تُقصر فيه الصلاة كذلك فضلًا عن الحضر، أو كنتم على سفر، لكنه لا يتقيد بالسفر الذي تُقصر فيه الصلاة؛ لأنه يُتيمم في الحضر لكن السفر إذا أُطلق فالأصل أنه السفر المعروف الذي تُقصر فيه الصلاة، -والله تعالى أعلم-، إلا على قول من فرّق أن هناك سفر قصير لا تُقصر فيه الصلاة، مثل لو خرج إلى خارج البلد في البرية ونحو هذا، لكن مثل هذا القريب الذي يجد الماء إذا طلبه في الوقت فإنه يجب عليه طلب الماء سواءً كان في سفر بعيد أو كان في سفرٍ قريب، يعني عنده محطة قريبة منه، محطات في الطريق ويستطيع أنه يغتسل وفي الوقت فليس له أن يتيمم، لكن لو كان يخشى خروج الوقت فإنه يتيمم، أو كان لشدة البرد ولو كان الماء بحضرته كما سبق.

قال: قوله تعالى: أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ [النساء:43]، في أَوْ هنا تأويلان:

أحدهما: أن تكون للتفصيل والتنويع على بابها.

والآخر: أنها بمعنى الواو، فعلى القول بأنها على بابها يكون قوله: فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً راجعًا إلى المريض والمسافر، وإلى من جاء من الغائط وإلى من لامس سواءً كانا مريضين أو مسافرين أم لا حسبما ذكرنا قبل هذا، فيقتضي لك جواز التيمم للحاضر الصحيح إذا عدِم الماء، وهو مذهب مالك والشافعي[32]، فيكون في الآية حجةٌ لهما، وعلى القول بأنها بمعنى الواو يكون قوله: فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً راجعًا إلى المريض والمسافر، فيقتضي ذلك أنه لا يجوز التيمم إلا في المرض والسفر مع عدم الماء وأنه لا يجوز للحاضر الصحيح إذا عدم الماء، ولكن يؤخذ جواز التيمم له من موضعٍ آخر.

والراجح أن تكون أَوْ على بابها لوجهين:

أحدهما: أن جعلها بمعنى الواو إخراجٌ لها عن أصلها وذلك ضعيف.

والآخر: إن كانت على بابها كان فيها فائدة إباحة التيمم للحاضر الصحيح إذا عدم الماء على ما ظهر لنا فيها، وإذا كانت بمعنى الواو لم تفد هذه الفائدة، وحجة من جعلها بمعنى الواو أنه لو جعلها على بابها لاقتضى المعنى أن المرض والسفر حدثٌ يوجب الوضوء كالغائط لعطفه عليها، وهذا لا يلزم؛ لأن العطف بـ "أو" هنا للتنويع والتفصيل، ومعنى الآية كأنه قال: يجوز لكم التيمم إذا لم تجدوا ماءً إن كنتم مرضى أو على سفرٍ وأحدثتم في غير مرض ولا سفر

هنا قوله: أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ، وذكر الخلاف في أَوْ هنا، ثم قال: فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً، هنا ذكر الشوكاني في (فتح القدير) بأن هذا القيد في قوله: فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً إن كان راجعًا إلى جميع ما تقدم مما هو مذكور بعد الشرط وهو وَإِنْ كُنتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ، والمجيء من الغائط وملامسة النساء، يقول: "هذا فيه دليل على أن المرض والسفر بمجردهما لا يُسوغان التيمم، بل لابد مع وجود أحد السببين من عدم الماء، فلا يجوز للمريض أن يتيمم إلا إذا لم يجد ماءً، ولا يجوز للمسافر أن يتيمم إلا إذا لم يجد ماءً، ولكنه يُشكل على هذا أن الصحيح كالمريض، إذا لم يجد الماء يتيمم، وكذلك المقيم كالمسافر"، يعني لماذا خصص المريض والمسافر "فكذلك المقيم كالمسافر إذا لم يجد الماء تيمم، فلابد من فائدةٍ في التنصيص على المرض والسفر، فقيل: وجه التنصيص عليهما أن المرض مظنّة للعجز عن الوصول إلى الماء، وكذلك المُسافر عدم الماء في حقه غالب، وإن كان راجعًا إلى الصورتين الأخيرتين، أعني قوله: جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ كما قال بعض المفسرين كان فيه إشكال"، يعني إذا كان قوله: فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً في الحالتين الأخيرتين جاء من الغائط أو مسّ النساء.

يقول: "وهو أن من صدق عليه اسم المريض أو المسافر جاز له التيمم وإن كان واجدًا للماء قادرًا على استعماله، وقد قيل إنه رجع هذا القيد إلى الآخرين مع كونه معتبرًا في الأولين لندرة وقوعه فيهما، وأنت خبيرٌ بأن هذا الكلام ساقط وتوجيهٌ بارد، قال مالك ومن تابعه: ذكر الله المرض والسفر في شرط التيمم اعتبارًا بالأغلب فيمن لم يجد الماء بخلاف الحاضر فإن الغالب وجوده، فلذلك لم ينص الله عليه، هذا كلام الإمام مالك[33].

يقول هنا الشوكاني: "والظاهر أن المرض بمجرده مسوغٌ للتيمم وإن كان الماء موجودًا إذا كان يتضرر باستعماله في الحال أو في المآل، ولا تُعتبر خشية التلف"[34]، يعني لا يُقتصر عليها في الإباحة كما قال الشافعي -رحمه الله-، فالله يقول: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ [البقرة:185]، ويقول: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ، والنبي ﷺ يقول: الدين يُسر[35].

ويقول: يسّروا ولا تُعسّروا[36]، كذلك الحديث الذي مضى في الرجل الذي شُج ويقول: أُمرت.. إلى آخره، فإذا قلنا: إن قيد عدم وجود الماء راجعٌ إلى الجميع كان وجه التنصيص على المرض هو أنه يجوز له التيمم والماء حاضر موجود إذا كان استعماله يضره، فيكون اعتبار ذلك القيد في حقه إذا كان استعماله لا يضره، فإن مُجرد المرض مع عدم الضرر باستعمال الماء لا يكون مظنّة لعجزه عن الطلب؛ لأنه يلحقه بالمرض نوع ضعف، وأما وجه التنصيص على المسافر فلا شك أن الضرب في الأرض مظنّة لإعواز الماء في بعض البقاع دون بعض، هذا كلام الشوكاني -رحمه الله-.

هنا كلام ابن جُزي يقول: بأن أَوْ فيها تأويلان، يعني احتمالان في المعنى، الأول: "أن تكون للتفصيل والتنويع على بابها"، يعني أن ذلك في حالتين: وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ هذه حالة، أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ هذه حالة، أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ.

والقول الآخر: أنها بمعنى الواو، فعلى القول بأنها بمعنى الواو يعني يكون كنتم مرضى وعلى سفر، يعني أنه يُباح للمريض في حال السفر، وهذا بعيد، -والله تعالى أعلم-، وفيه إشكال، يعني يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا، فالقول بأنها بمعنى الواو لا يخلو من إشكال.

يقول: "فعلى القول بأنها على بابها" يعني للتنويع والتفصيل، "يكون قوله: فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً راجعًا إلى المريض والمسافر، وإلى من جاء من الغائط" المقصود بمن جاء من الغائط كما سيأتي أنه من الحدث يعني، "وإلى من لامس سواءً كانا مريضين أو مسافرين أم لا حسبما ذكرنا قبل هذا، فيقتضي لك جواز التيمم للحاضر الصحيح إذا عدِم الماء، وهو مذهب مالك" وهذا هو الأقرب، كذلك المريض، كل هؤلاء في الحضر والسفر، لكن يقول: "هذا مذهب مالك والشافعي، فيكون في الآية حجةٌ لهما، وعلى القول بأنها بمعنى الواو يكون قوله: فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً راجعًا إلى المريض والمسافر، فيقتضي ذلك أنه لا يجوز التيمم إلا في المرض والسفر مع عدم الماء، وأنه لا يجوز للحاضر الصحيح إذا عدم الماء، ولكن يؤخذ جواز التيمم له من موضعٍ آخر" يعني من السنة، "والراجح أن تكون أَوْ على بابها" وذكر الوجهين، الأول: "أن جعلها بمعنى الواو إخراجٌ لها عن أصلها وذلك ضعيف" يعني الأصل أنها تبقى على المعنى المُتبادر لها، "والآخر: إن كانت على بابها كان فيها فائدة إباحة التيمم للحاضر الصحيح إذا عدم الماء على ما ظهر لنا فيها، وإذا كانت بمعنى الواو لم تفد هذه الفائدة، وحجة من جعلها بمعنى الواو أنه لو جعلها على بابها لاقتضى المعنى أن المرض والسفر حدثٌ يوجب الوضوء كالغائط لعطفه عليها، وهذا لا يلزم؛ لأن العطف بـ أو هنا للتنويع والتفصيل، ومعنى الآية كأنه قال: يجوز لكم التيمم إذا لم تجدوا ماءً إن كنتم مرضى أو على سفرٍ وأحدثتم في غير مرض ولا سفر" وهذا هو الأقرب، أن أَوْ للتنويع والتفصيل، أنه في هذه الحالات إذا لم تجدوا ماءً فيجوز لكم التيمم سواءً كنتم بالحضر أو في السفر.

قال: الْغائِطِ أصله المكان المنخفض، وهو هنا كناية عن الحدث الخارج من المخرجين، وهو العذرة، والريح، والبول؛ لأن من ذهب إلى الغائط تكون منه هذه الأحداث الثلاث، وقيل: إنما هو كناية عن العذرة، وأما البول والريح، فيؤخذ وجوب الوضوء لهما من السنة، وكذلك الودي والمذي.

هنا الغائط يقول: "أصله المكان المنخفض" يعني باعتبار أن من أراد قضاء الحاجة فصده، فالعرب تُكنّي عن الأشياء المكروهة التي تثقل على السمع من باب الأدب يُكنّون عنها، فالجماع مثلًا ملامسة النساء وقضاء الحاجة ونحو ذلك بمثل هذه العبارات، قضاء الحاجة، إتيان الغائط وهو المكان المنخفض من الأرض؛ لأن الذي يريد قضاء الحاجة يذهب إليه يقصده ليستتر عن الناس، أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ يعني من مكان منخفض موضع قضاء الحاجة، وذلك يقتضي معنى الحدث، وقد يُخصّ بنوعٍ منه كما ذكر المؤلف، وعلى هذا الاعتبار يكون الأنواع الأخرى من الحدث الأصغر مأخوذة من السنة، وذلك كقوله ﷺ: لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ[37]، فيشمل جميع أنواع الحدث الأصغر، والأمر في هذا يسير، فالقرآن والسنة دلّا على هذا المعنى، وهنا يقول: "وكذلك الودي والمذي"، يعني أن ذلك يوجب الوضوء، فإن لم يجد الماء تيمم إذا خرج منه الودي، والودي عصارة صفراء، سائل أصفر يخرج مع البول أحيانًا، وقد يخرج إذا كان الإنسان عصر نفسه فيخرج منه مثل هذه العصارة الصفراء، هذه لا علاقة لها بالشهوة، فخروج مثل هذا إذا وجده خرج يعني حتى من غير بولٍ، لو أنه ضغط نفسه أو عصر نفسه أو نحو ذلك فخرج منه فإن ذلك يوجب غسله، وكذلك أيضًا الوضوء ولا يوجب الغُسل، وكذلك المذي، والمذي له تعلّق بالشهوة لكنه يختلف عن الودي، المذي لا يشعر بخروجه، يتسلل من غير شعور ويكون رقيقًا كلون الماء لكنه لزج، فهذا يخرج مع تحرك الشهوة سواءً كان ذلك بالتفكير أو كان بالمداعبة أو نحو هذا لكن لا يلتذ بخروجه، بخلاف خروج المني، فإنه يخرج دفقًا ويشعر بخروجه ويحصل بعد خروج المني الفتور.

وأما المذي فإنه لا يحصل بعده فتور ولا يتلذذ بخروجه، فهذا يوجب الوضوء، والنبي ﷺ أمر فيه بنضح الفرج، وقال: يغسل ذكره وأنثييه[38]، فكذلك ما أصاب ثوبه، فهذه نجاسة المذي نجاسة مخففة على الأقرب والله تعالى أعلم، والمني طاهر لكنه يوجب الغُسل، والمذي يوجب الوضوء والنضح، والبول يُغسل، هذا الفرق بين هذه المذكورات، -والله أعلم-.

قوله تعالى: أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ [النساء:43] اختُلف في المراد بالملامسة هنا على ثلاثة أقوال:

أحدها: أنها الجماع وما دونه من التقبيل واللمس باليد وغيرها، وهو قول مالك[39]، فعلى هذا ينتقض الوضوء باللمس الذي هو دون الجماع على تفصيلٍ في المذهب، ويجب معه التيمم إذا عُدم الماء، ويكون الجنب من أهل التيمم.

والقول الثاني: أنها ما دون الجماع، فعلى هذا ينتقض الوضوء باللمس، ولا يجوز التيمم للجنب، وقد قال بذلك عمر بن الخطاب [40]، ويؤخذ جوازه عند من أجازه من الحديث.

والثالث: أنها الجماع فعلى هذا يجوز التيمم للجنب، ولا يكون ما دون الجماع ناقضا للوضوء وهو مذهب أبي حنيفة[41].

هنا في قوله: أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ في قراءة حمزة والكسائي: أَوْ لمَسْتُمُ النِّساءَ، والظاهر والله أعلم أن القراءتين بمعنى واحد هنا، أن اللمس والملامسة كل ذلك بمعنى، وذكر الأقوال الثلاثة هنا أنه الجماع وما دونه من التقبيل واللمس باليد وغير ذلك، فالجماع يوجب الغسل فإن لم يجد يتيمم، وما دونه من اللمس والتقبيل يوجد الوضوء، فإن لم يجد يتيمم، أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ، فتكون تشمل هذا وهذا.

القول الآخر أنها ما دون الجماع، فعلى هذا تكون الآية عنده غير دالّة على تيمم الجُنُب وإنما من الحدث الأصغر فقط الذي هو اللمس والتقبيل ونحو ذلك والجُنُب لا يتيمم، يقول: "وقد قال بذلك عمر"، عُمر لم يذكر الملامسة بمعنى اللمس، لكنه قد يُفهم من موقفه أنه فهم ذلك من الآية، وهذا في الحديث الذي ذكرته، حديث عبد الرحمن بن أبزى في قصة عُمر وعمّار -ا-، فعمر لم يتيمم لما أصابته الجنابة وأنكر على عمّار بن ياسر التيمم، لكن غاية ما هنالك أن يُقال ما بلغه، وحفظ ذلك عمّار لما سأله النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- فنسى، أو نسي عُمر وحفظ عمّار -رضي الله عن الجميع-، يقول: "ويؤخذ جوازه عند من أجازه من الحديث".

الثالث: أنها الجماع، أن اللمس المقصود به الجماع وهذا هو الأقرب، وما عدا الجماع يعني ما دون الجماع من اللمس والتقبيل لا يكون ناقضًا للوضوء، يقول: "وهذا مذهب أبي حنيفة"، وهذا الذي اختاره ابن جرير[42]، والحافظ ابن كثير[43]، لامَسْتُمُ النِّساءَ يعني الجماع، وهذا قال به جماعة من الصحابة فمن بعدهم كعلي وابن عباس وأُبي بن كعب وجماعة من التابعين كمجاهد وطاووس والحسن وعُبيد بن عُمير وسعيد بن جبير والشعبي وقتادة ومقاتل[44]، هذا قول الأكثر أن المقصود أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ يعني الجماع، وهكذا في القراءة الأخرى لَمَسْتُم، ومما يدل على هذا قوله -تبارك وتعالى-: وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ [البقرة:237]، يعني أن تُجامعوهن، وكذلك أيضًا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ [الأحزاب:49]، مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ يعني الجماع والوطء، فهذا هو الأقرب والله تعالى أعلم، ولذلك فإن لمس المرأة ولو كان بشهوة لا ينقض الوضوء، وكذلك التقبيل، وكان النبي ﷺ ربما قبّل بعض نسائه وخرج إلى الصلاة ولم يتوضأ[45]، والتقبيل -تقبيل الزوجة- لا شك أنه لا يكون إلا بشهوة، لكن لو أنه خرج منه شيء كالمذي ففي هذه الحال يجب عليه الوضوء بلا شك، ولو أنزل وجب عليه الغُسل، وشيخ الإسلام -رحمه الله- ذكر هذا المعنى[46]، وذكر أيضًا لو أنه اللمس من غير شهوة لا يتوضأ منه، اللمس بشهوة مظنّة لتحريك النفس وخروج شيء، فلو أنه توضأ فالوضوء يُضعف ذلك ويُزيل أثره، لكنه لا يجب، يعني قد يُقال في هذه الحال يُستحب إذا مس، على قول شيخ الإسلام أنه يُستحب له ذلك؛ لأن الوضوء له أثر في كسر الشهوة وإضعافها، لكن لو أنه خرج منه شيء مذي فإنه يجب عليه الوضوء، فإن لم يجد تيمم.

إذن مس المرأة من غير شهوة لا ينقض قطعًا، مسها بشهوة إن لم يخرج شيء لا يجب عليه الوضوء، مسها بشهوة أو تقبيلها لا يجب عليه الوضوء، فإن خرج منه شيء وجب عليه، ولذلك أولى مثلًا في الاحتراز في الطواف ونحو ذلك البعض لربما يشق عليه جدًا في وقت الزحام فيذهب ليتوضأ كل مرة؛ لأنه لمس هذه المرأة من غير قصد ونحو ذلك فيلحقه من المشقة ما الله به عليم، وقد يتعذر عليه الطواف في أوقات المواسم والزحام الشديد وكل هذه الأيام أصبحت كالمواسم، فهذا فيه نظر والشريعة ما جاءت بهذا، -والله أعلم-.

قوله تعالى: فَلَمْ تَجِدُوا ماءً [النساء:43] هذا يفيد وجوب طلب الماء وهو مذهب مالك خلافًا لأبي حنيفة، فإن وجده بثمن فاختُلف هل يجوز له التيمم أم لا، وإن وُهب له فاختُلف هل يلزم قبوله أم لا.

"فَلَمْ تَجِدُوا ماءً هذا يفيد وجوب طلب الماء" يعني إذا لم يكن الماء بين يديه لكن يستطيع أن يذهب ويُحصّل الماء، فهذا لا شك أنه يجب عليه.

يقول: "فإن وجده بثمن فاختُلف هل يجوز له التيمم أم لا"، بثمن، هو إذا كان قادرًا على ذلك فيجب عليه، لكن الكلام فيما لو وجده بأكثر من سعر المثل، أكثر من قيمته، فهذا هل يجب عليه أو لا، يعني قيمة مُبالغ فيها، في مكانٍ الماء فيه قليل فيستغلون الناس فيبيعونه بقيمةٍ أعلى، هل يجب عليه أو لا قولان لأهل العلم، بعضهم يقول لا يلزمه إذا كان يُباع بأغلى من سعر المثل، قال: "وإن وُهب له فاختُلف هل يلزم قبوله أم لا"، باعتبار المنّة، الشريعة جاءت بما يكون فيه العزة وكذا، طب لو أحد قاله اتفضل هذا الماء توضأ فيه مني هبة من غير ثمن، هل يجب عليه أن يقبل أو لا يجب عليه، قولان: بعضهم قال لا يجب عليه أن يقبل، معلوم أن الهبة لا تصير في مُلكه إلا إذا قبلها، بخلاف الميراث فإنه انتقال جبري للمال والتركة للورثة ما تتوقف على قبول، لكن الهبة والهدية والعطية هذه تتوقف على قبوله هو، قد لا يقبل، يقول هذا لئلا يكون لأحد يد عليه وفضل، فلو وهبه أحد الماء من غير عِوض، من غير مقابل، هل يجب عليه القبول ونقول أنت واجد للماء؟

بعض أهل العلم يقول لا يلزم للمنّة، والأقرب أنه يُفصّل في ذلك، إن كان فيه عليه منة لم يلزمه القبول، وإن لم يكن فيه منّة فلا إشكال أن يقبله، وهذا معروف أن من الناس من إذا أعطى كان له مِنّة على المُعطى، فقد تكون الحال مقتضيةً لذلك، ومن الناس من لا يكون بهذه المثابة، فإن لم يكن عليه فيه منة وجب عليه قبوله والوضوء أو الغسل.

قوله تعالى: فَتَيَمَّمُوا [النساء:43] التيمم في اللغة: القصد.

القصد، تقول: تيممك الله بحفظه، تيممك الله بفضله، يعني قصدك الله بهذا.

وفي الفقه: الطهارةُ بالتراب.

يعني يقصد شرعًا، معنى التيمم شرعًا، يقول: "وفي الفقه: الطهارةُ بالتراب".

وهو منقولٌ من المعنى اللغوي.

يعني هناك يوجد ارتباط بين المعنى الشرعي والمعنى اللغوي، المعنى الشرعي هو الطهارة بالتراب، المعنى اللغوي معنى القصد، قصد كذا، قصدك الله بفضله، والعلاقة بينهما أن هذا الذي يتيمم يقصد التراب فيضرب، يقصد الصعيد الطيب فيضرب بكفّيه يمسح وجهه وظاهر الكفّين، يضرب بيديه على الصعيد ويمسح وجهه ويمسح أظاهر الكفين، هذا المُراد، -والله تعالى أعلم-.

سبب النزول جاء في حديث عائشة -ا- في قصة خروجها مع النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- في بعض أسفاره، تقول: "حتى إذا كنا بالبيداء أو بذات الجيش، -موضع خارج المدينة-، تقول: انقطع عقدٌ لي فأقام رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- على التماسه، وأقام الناس معه وليسوا على ماء، فأتى الناس إلى أبي بكر الصديق فقالوا: ألا ترى ما صنعت عائشة؟ أقامت برسول الله ﷺ والناس وليسوا على ماء وليس معهم ماء، فجاء أبو بكر رسول الله ﷺ واضعًا رأسه على فخذي قد نام، فقال: حبستي رسول الله ﷺ والناس وليسوا على ماء وليس معهم ماء، فقالت عائشة: فعاتبني أبو بكر، وقال ما شاء الله أن يقول، وجعل يطعنني بيده في خاصرتي، فلا يمنعني من التحرك إلا مكان رسول الله ﷺ على فخذي، فقام رسول الله ﷺ حين أصبح على غير ماء فأنزل الله آية التيمم، فتيمموا، فقال أُسيد بن حضير : "ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر"[47]، يعني هناك من يتكلم أو يشمت أو يستغل هذا الموقف في النكاية والوقيعة، وهذا يقول: ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر، الحديث، فنزلت آية التيمم وهم في سفر، هنا قال: فَتَيَمَّمُوا.

قوله: صَعِيداً طَيِّباً [النساء:43] الصعيد عند مالك هو وجه الأرض، كان تراًبا أو رملًا أو حجارة فأجاز التيمم بذلك كله[48]، وهو عند الشافعي التراب لا غير[49]، والطيب هنا الطاهر.

واختُلف في التيمم بالمعادن كالذهب، وبالملح، وبالتراب المنقول كالمجعول في طبق، وبالآجُر، وبالجص المطبوخ، وبالجدار، وبالنبات الذي على وجه الأرض، وذلك كله على الاختلاف في معنى الصعيد.

هذا الاختلاف ترتب عليه الحكم، يقول: "الصعيد عند مالك هو وجه الأرض، كان تراًبا أو رملًا أو حجارة فأجاز التيمم بذلك كله"، الخليل بن أحمد الإمام اللغوي المعروف وكذلك ابن الأعرابي والزجّاج ذهبوا إلى أنه وجه الأرض مطلقًا سواءً كان عليه تراب أو لا[50]، بل قال الزجاج: "لا أعلم فيه خلافًا بين أهل اللغة"[51]، وهذا مُقتضى يُسر الشريعة، الأرض التي يسير عليها الناس في أسفارهم وانتقالهم ليست في كل الأحوال أن تكون من التراب، فهم يأتون على أراضٍ صخرية وجبلية وعلى حِرار ونحو ذلك، فكيف يصنعون؟ فالقول بأنه وجه الأرض مطلقًا هذا هو الأقرب ومقتضى التيسير، وجُعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا[52]، جاء تقييده في بعض الروايات بالتُربة، لكن هذا هو الأقرب، -والله تعالى أعلم-.

يقول: "وهو عند الشافعي التراب لا غير، صَعِيداً طَيِّباً" تراب لا غير، واستدلوا بقوله تعالى: فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا [الكهف:40]، قالوا: يعني ترابًا أملس، والأقرب أن المعنى فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا ليس المقصود التراب الأملس، وإنما يعني تتحول إلى حالٍ لا تثبت فيها الأقدام، فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا، فهي دحض، واستدلوا أيضًا بحديث حُذيفة عند مسلم: وجُعلت تربتها لنا طهورًا[53]، فقيّد التربة.

ويحتمل أن يكون ذكر التُربة هنا أنه مفهوم اللقب، ومفهوم اللقب لا يُحتج به، يعني أن غير التربة يصح التيمم به سواءً كان ذلك منقولًا أو غير منقول، منقول مثل الذي يُعطى للمريض بصحن أو هذه العلبة التي الآن يضرب عليها المريض فيها نوع من القماش أو الشاش أو الإسفنج أو شيء من هذا وفيها شيء من الغُبار فيضرب عليه، لكن الخلاف فيما لم يكن له غُبار، والكلام في هذا كثير.

فالفقهاء متفقون على جواز التيمم ومشروعيته بالصعيد الطاهر، فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا يعني الطاهر، لكن ما المقصود بهذا الصعيد؟ هل هو وجه الأرض مطلقًا أو خصوص التراب؟ هذا الذي أشار إليه المؤلف، والمنقول في مذهب المالكية وقول أبي حنيفة ومحمد بن الحسن الشيباني هو أن المراد بالصعيد هو وجه الأرض[54]، فكل ما كان من جنس الأرض يجوز التيمم به، وأن ذلك مأخوذ من الصعود، فلا يختص بالتراب، كل ما صعد على الأرض من أجزائها فيجوز التيمم به ولو كان من قبيل الصخور، إن ضرب على جبل ونحو ذلك فيجوز له.

وكذلك في قوله: جُعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا فهذا يتناول جميع أجزاء الأرض، وكذلك أيضًا هذا مقتضى التخفيف والتيسير والتوسيع على المُكلفين، لكن هل يجوز له أن يتيمم بمثل الجص والخزف والطوب ونحو هذا؟

بعضهم يُفرق بين ما حُرق بالنار وما لم يُحرق بالنار، بعضهم يقول: إذا طُبخ بالنار، أُحرق، فإنه لا يجوز أن يتيمم به، كذلك هل يجوز له أن يتيمم بالمعادن، فرّقوا، قالوا إذا كانت في مواضعها يعني لم تُعالج فإنه يجوز التيمم بها؛ لأنها من أجزاء الأرض، لكن إذا عولجت فليس له أن يتيمم بها، مثل الحديد والذهب والفضة والرصاص والقصدير ونحو ذلك، كذلك هل يجوز التيمم بالخشب والنباتات ونحو ذلك إذا وجد غيرهما أو لم يجد؟

بعضهم يقول هذه ليست من أجزاء الأرض التي هي منها فليس له أن يتيمم فيها، لكن هذا ليس محل اتفاق أيضًا، كذلك التيمم بالجليد، إذا كان في موضع الأرض كلها ثلج ماذا يفعل؟ وما عنده ماء، هل يتيمم بالجليد أو لا؟ بل قالوا: هل يتيمم بوجه البحر لو كان في البحر ولا يستطيع استعمال الماء من البرد أو المرض، هل له أن يتيمم وهو يضرب على وجه البحر أو لا؟ لكن هذا مُقيّد فيما إذا كان البحر مُتجمدًا، لكن لو كان البحر غير مُتجمد فهذا لا يصح بحال من الأحوال؛ لأنه لا يُقال: إنه من قبيل الصعيد.

وكذلك أيضًا هل يكون ذلك فيما ليس له غُبار أو يُشترط أن يكون له غبار؟ يعني غبار يعلق بيده مثلًا، أو لو كان ثقيلًا وهو ليس فيه غُبار، لو نزل المطر على هذه الحجارة أو الصخور ونحو ذلك ليس فيها غُبار، فهل يتيمم فيها أو لا، وبعضهم يشترط هذا أن يعلق بيده شيء، وبعضهم يتوسّع في هذا جدًا، والخلاف بين أهل العلم في ذلك يُراجع في مظانّه، ولكن الأحوط أن يُقال -والله أعلم-: بأنه يتيمم بكل ما على وجه الأرض مما هو منها كالصخور والتراب والرمل والطين ونحو ذلك لكن إذا كان يعلق باليد منه شيء، والله أعلم، هذا أحوط وأبرأ للذمة والعلم عند الله .

قوله تعالى: فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ [النساء:43]، لا يكون التيمم إلّا في هذين العضوين، ويقدَّم الوجه على اليدين لظاهر الآية، وذلك على الندب عند مالك، ويستوعب الوجه بالمسح، وأما اليدان فاختُلف هل يمسحهما إلى الكوعين، أو إلى المرفقين؟ ولفظ الآية محتمل؛ لأنه لم يُحد، وقد احتجّ من قال: إلى المرفقين بأن هذا مطلقٌ فيحمل على المقيّد، وهو تحديدها في الوضوء بالمرفقين.

فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ يدل على أن التيمم بهذين العضوين وليس في أعضاء الوضوء عامةً، يقول: "ويقدَّم الوجه على اليدين لظاهر الآية" وكذلك لما ثبت في السنة عن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-، يقول: "وذلك على الندب عند مالك"، لكن الظاهر -والله تعالى أعلم- أن ذلك مُراعى كالوضوء يجب فيه الترتيب.

قال: "ويستوعب الوجه بالمسح" وهذا نُقل عليه الاتفاق، يعني ليس كالمسح على الخفين، المسح على الخفين يمسح هكذا على ظاهر الخف، لكن في المسح الذي يكون في التيمم أنه يستوعب الوجه وظاهر الكفين، يعني لا يكفي أن يقول بأصابعه هكذا كتحلة القسم في التيمم كما يفعل بعض الناس، يعني إذا أراد أن يتيمم ضرب بيديه ثم قال بوجهه هكذا، بأطراف الأصابع، وهذا غير صحيح ولا يُجزئ، بل يجب أن يستوعب الوجه من منابت الشعر إلى الذقن، فهذا هو الوجه، وحدّه معروف أيضًا من الجهتين عرضًا، وكذلك ظاهر الكف فيُراعي فيه الترتيب، بل أيضًا حتى النفخ، يعني النبي ﷺ نفخ فيهما، فذهب بعض أهل العلم إلى أن ذلك واجب حتى النفخ عند بعض أهل العلم على قول بعض الفقهاء.

يقول: "وأما اليدان فاختُلف هل يمسحهما إلى الكوعين، أو إلى المرفقين؟ ولفظ الآية محتمل؛ لأنه لم يُحدد"، هذا بأي اعتبار الآن المسح على اليدين، هل يمسح كالوضوء إلى المرفقين أو لا، لفظ اليد موضع الاختلاف، لماذا اختلفوا؟

اختلفوا باعتبار أن لفظ اليد يصدق على اليد من أطراف الأصابع، يعني الكف، إلى المنكب، هذا كله يُقال له: يد، ففي الوضوء قال الله : إِلَى الْمَرَافِقِ [المائدة:6]، فاختلفوا هل يدخل المرفق في الوضوء أو لا، بأي اعتبار؟ فهذه مسألة معروفة عند الأصوليين وهو المغيب غاية، هل الغاية داخلة أو لا؟

والأقرب أنه على التفصيل، فإن كانت لولا الغاية لدخلت فإن الغاية تكون داخلةً، وإن كانت لا تدخل فلا تكون داخلةً، يعني على سبيل المثال هنا في الوضوء: إِلَى الْمَرَافِقِ لو قال: اغسلوا أيديكم فالأصل إلى المنكب، فلما جاءت الغاية فالعضد من اليد، فلما جاء التحديد إلى المرفق كان المرفق داخلًا في الوضوء، وأدار الماء على مرفقيه[55].

فهذا يجب غسل المرفقين في الوضوء، هذا بالنسبة للغاية، أوضح لكم بمثالٍ أوضح، لو قُلنا مثلًا لك هذه المساحة من الأرض إلى المسجد، هل المسجد يكون داخل في الهِبة أو البيع أو نحو ذلك أو غير داخل؟

لا؛ لأنه ليس منها، لكن لو قلت لك هذه المزرعة إلى النخلة الفلانية، النخلة داخلة ولا غير داخلة هنا؟ تكون داخلة؛ لأن لولا الغاية لدخل لآخر المزرعة، لو قلت لك: المزرعة إلى حد المزرعة، لكن لو حددت إلى شجرة معينة أو نخلة معينة فتكون هذه النخلة داخلة فيها، لك هذه المزرعة إلى البئر، فالبئر داخل فيها؛ لأن لولا هذه الغاية لصار إلى آخر المزرعة، فهذه الغاية، يعني يفرّق كيف نُفصل في الغاية نقول: ما لم يكن ما يدخل فيه لولا الغاية فإن الغاية المذكور في الغاية المحدود في الغاية داخلًا فيه، وإلا فيكون غير داخل، تقول: أبيعك هذه الأرض إلى بيت فلان، إلى أرض فلان، فهل أرض فلان داخلة؟

الجواب: لا، فهنا حينما قال في الوضوء: إِلَى الْمَرَافِقِ دل على أن المرافق داخلة؛ لأن اليد تشمل إلى المنكب.

في التيمم أطلق، فلم يذكر المرافق وإنما أيديكم، فهل يُقال: إنها تُمسح اليد إلى المنكب، أو يُقال: يقتصر على الكف أو يُقال إلى المرفق؟ الآن آية التيمم مُطلقة اليد فيها، وآية الوضوء مُقيدة، فحمل المطلق على المُقيد له أربع أحوال:

الحالة الأولى: يُحمل بالاتفاق فيما إذا اتحد الحكم والسبب فإنه يُحمل المُطلق على المُقيد.

الحالة الثانية: لا يُحمل بالاتفاق فيما إذا اختلف الحُكم والسبب.

بقي حالتان فيهما خلاف، إذا اتحد الحكم واختلف السبب، أو اختلف الحكم واتحد السبب، هذا فيه خلاف، شرحها يطول لكن تُراجع في كُتب الأصول ما المقصود بالحكم والسبب إلى آخره، لكن نحن نتحدث الآن عن آية التيمم.

الآن التيمم والوضوء من جهة السبب، ما هو السبب؟ الطهارة، إذن السبب واحد، والحكم واحد ولا مختلف؟ مختلف، هذا طهارة بالماء وضوء وهذا بالتراب، فاختلف الحكم واتحد السبب، فهذه الحالة هذه الصورة فيها خلاف بين الأصوليين وبناء عليه اختلف الفقهاء، فمن قال: إنه في هذه الحالة إذا اتحد السبب واختلف الحكم يُحمل المطلق على المُقيد قالوا: يجب التيمم إلى المرفقين، فآية الوضوء مقيدة وآية التيمم مُطلقة فيها اليد فتُحمل على ما جاء في الوضوء، فيمسح إلى المرفقين، هذا من الناحية الأصولية، ومن قال: بأنه في هذه الحال لا يُحمل المطلق على المقيد قال لا، وهذا هو الأقرب والسُنة تدل على ذلك، فالنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قال لعمّار: إنما يكفيك...، وضرب النبي ﷺ بيده الأرض ثم نفخ فيها ومسح بوجهه وكفّيه"، يكفي هذا.

إذن لا يجب إلى المرفق، فالقول بأنه إلى المرفق ضعيف، لكن ما محمله؟ ما وجهه؟ هو أصل المسألة وهي حمل المطلق على المقيد في هذه الحالة رقم ثلاثة.

لكن في مسألة الكفّارة حينما أطلق الله في الكفّارة وقيّد، ففي القتل والظهار جاء تقييدها بماذا؟ بعتق رقبة مؤمنة، بالإيمان، وفي كفارة اليمين جاءت مُطلقة، فهل يُقال: في كفارة اليمين يجب أن تكون الرقبة مؤمنة أو لا؟ الآن السبب في كفارة القتل ما هو؟ القتل، وفي اليمين؟ اليمين، والحكم واحد وهو عتق رقبة فهذه عكس المسألة الأولى في التيمم، هنا الحكم واحد والسبب مختلف، فهل يُحمل المطلق على المقيد أو لا؟

هذا فيه خلاف، فماذا يُقال في هذه الحال؟ هل نقول: بأن الكفارة في اليمين يجب أن تكون مُقيّدة بالإيمان؛ لأنها جاءت في القتل كذلك والظهار أو لا؟

فيه خلاف في هذا، ولكن الأقرب أن تُلحق بالظهار؛ لأن اليمين تُشبه الظهار، فيُقال: يُحمل المطلق على المقيد بهذا الاعتبار، لكن لو بقينا مع كفارة القتل فإن ذلك لا يقتضيه.

لكن لو أردنا نمثل لاتحاد الحكم والسبب بمثال افتراضي، هو صحيح لكن لا أريد أن تقفوا عنده، الآن في الصيام ثلاثة أيام في كفارة اليمين لمن لم يجد الرقبة ولا الإطعام يصوم ثلاثة أيام، أطلقها ما قال: متتابعات، وفي صوم الكفارة، كفارة الظهار وكفارة القتل شهرين متتابعين، فهل نقول هنا اختلف الحُكم واتحد السبب، هذه مثل المسألة التي قبلها، لكن دعونا في القراءتين في قوله: فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ [المائدة:89]، هذه القراءة المتواترة في كفارة اليمين، في قراءةٍ أخرى غير متواترة قراءة ابن مسعود : (ثلاثة أيام متتابعات)، والقراءة الأحادية تفسر القراءة المُتواترة على خلاف هل تُعتبر أو لا.

فبعض أهل العلم يقول: تُنزل منزلة الحديث النبوي فيُعمل بها إذا صح إسنادها، القراءة غير المتواترة، فصيام ثلاثة أيام متتابعات فالسبب فيهما واحد، ما هو؟

كفارة اليمين، والحكم الصيام، اتحد الحكم والسبب، فهل نقول: بأنه يجب في التتابع في الصيام كفارة اليمين؟

من يقول: يُعمل بالقراءة الأحادية إذا صح سندها فهذا مقتضاه من جهة الصناعة الأصولية، ومن جهة أيضًا أنها تُنزل منزلة الحديث، ولذلك فالأقرب -والله أعلم- أنه في صوم كفارة اليمين يجب التتابع بهذين الاعتبارين، وليس محل اتفاق، وليس مقصودنا هنا تقرير هذا الحكم، وإنما التوضيح.

لكن في اختلاف السبب والحكم، فالسرقة فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا [المائدة:38]، من وين تُقطع اليد، هل تُقطع من المنكب ولا من المرفق؟ طبعًا هذا فيه خلاف بين أهل العلم، أم تُقطع من مفصل الكف؟ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا، في الوضوء فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ [المائدة:6]، فهنا جاء مُقيّد بالمرفق، السبب في الوضوء الطهارة، والسبب في القطع السرقة، اختلف السبب، والحكم في الوضوء غسل اليد، وفي السرقة القطع، اختلف الحكم والسبب، فهنا مقتضى الصناعة الأصولية بالاتفاق ألا يُحمل المطلق على المقيد، فلا نقول: القطع يكون من المرفق في السرقة، والسنة دلت على أنه من مفصل الكف.

نسأل الله أن يرزقنا وإياكم علمًا نافعا وعملا صالحا ونية.

  1. انظر: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (5/118)، وشرح مختصر الطحاوي للجصاص (1/666).
  2. تفسير ابن كثير (2/308).
  3. الحاوي الكبير (10/236)، والبيان في مذهب الإمام الشافعي (12/48)، والمجموع شرح المهذب (19/230).
  4. الدر المنثور في التفسير بالمأثور (2/546).
  5. انظر: تفسير الطبري (7/48)، وتفسير ابن كثير (2/310)، وتفسير ابن أبي حاتم (3/959)، والدر المنثور في التفسير بالمأثور (2/546).
  6. أخرجه البخاري، كتاب الوضوء، باب الوضوء من النوم، ومن لم ير من النعسة والنعستين، أو الخفقة وضوءا، برقم (213).
  7. أخرجه البخاري، كتاب الوضوء، باب الوضوء من النوم، ومن لم ير من النعسة والنعستين، أو الخفقة وضوءا، برقم (212)، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب أمر من نعس في صلاته، أو استعجم عليه القرآن، أو الذكر بأن يرقد، أو يقعد حتى يذهب عنه ذلك، برقم (786).
  8. أخرجه الترمذي، أبواب تفسير القرآن عن رسول الله ﷺ، باب ومن سورة النساء، برقم (3026)، وقال: "هذا حديث حسن صحيح غريب".
  9. الناسخ والمنسوخ للنحاس (ص:336).
  10. تفسير ابن كثير (2/310).
  11. أخرجه أبو داود، كتاب الأشربة، باب في تحريم الخمر، برقم (3670)، والترمذي، أبواب تفسير القرآن عن رسول الله ﷺ، باب ومن سورة المائدة، برقم (3049)، والنسائي، كتاب الأشربة، باب تحريم الخمر قال الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ ...} [المائدة:90]، برقم (5540)، والحاكم في المستدرك، برقم (3101)، وقال: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه".
  12. أخرجه أبو داود، كتاب الأشربة، باب في تحريم الخمر، برقم (3670)، وأحمد في المسند، برقم (378)، وقال محققوه: "إسناده صحيح".
  13. أخرجه أبو داود، كتاب الأشربة، باب في تحريم الخمر، برقم (3670)، والترمذي، أبواب تفسير القرآن عن رسول الله ﷺ، باب ومن سورة المائدة، برقم (3049)، وأحمد في المسند، برقم (378)، وقال محققوه: "إسناده صحيح".
  14. تفسير ابن كثير (2/312).
  15. أخرجه ابن الجارود في المنتقى لابن الجارود (ص:40)، برقم (122).
  16. أخرجه مسلم، كتاب الحيض، باب التيمم، برقم (368).
  17. الأم للشافعي (1/71).
  18. المدونة (1/137).
  19. المحلى بالآثار (1/402).
  20. تفسير ابن كثير (2/311)، والدر المنثور في التفسير بالمأثور (2/547).
  21. انظر: تفسير ابن كثير (2/311).
  22. انظر: المدونة (1/137)، والأم للشافعي (1/71)، والحاوي الكبير (2/265).
  23. تفسير الطبري (7/58).
  24. تفسير ابن كثير (2/311).
  25. أخرجه البخاري، كتاب الشهادات، باب تعديل النساء بعضهن بعضا، برقم (2661)، وبرقم (4750)، في كتاب تفسير القرآن، باب {لَوْلاَ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ المُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا} [النور:12] إِلَى قَوْلِهِ: {الكَاذِبُونَ} [النحل:105]، ومسلم، كتاب التوبة، باب في حديث الإفك وقبول توبة القاذف، برقم (2770).
  26. انظر: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (1/48)، والعناية شرح الهداية (2/351).
  27. انظر: البيان والتحصيل (1/70)، والمقدمات الممهدات (1/118)، ومواهب الجليل في شرح مختصر خليل (1/326)، والفواكه الدواني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني (1/153)، والأم للشافعي (1/58)، والحاوي الكبير (1/269).
  28. أخرجه أبو داود، كتاب الطهارة، باب في المجروح يتيمم، برقم (336)، وحسنه الألباني في صحيح أبي داود، برقم (364).
  29. مواهب الجليل في شرح مختصر خليل (1/333)، وحاشية العدوي على كفاية الطالب الرباني (1/223).
  30. انظر: البيان في مذهب الإمام الشافعي (1/307).
  31. انظر: تفسير ابن كثير (2/313).
  32. انظر: التلقين في الفقه المالكي (1/29)، والكافي في فقه أهل المدينة (1/180)، والكافي في فقه أهل المدينة (1/183)، والبيان والتحصيل (1/182)، والحاوي الكبير (1/249-254)، والمهذب في فقه الإمام الشافعي للشيرازي (1/70)، والبيان في مذهب الإمام الشافعي (1/17).
  33. انظر: مواهب الجليل في شرح مختصر خليل (1/343)، والدر الثمين والمورد المعين (ص:224)، والتوضيح في شرح مختصر ابن الحاجب (1/185).
  34. فتح القدير للشوكاني (1/544).
  35. أخرجه البخاري، كتاب الإيمان، باب الدين يسر، برقم (39).
  36. أخرجه البخاري، كتاب العلم، باب ما كان النبي ﷺ يتخولهم بالموعظة والعلم كي لا ينفروا، برقم (69)، وبرقم (6125)، كتاب الأدب، باب قول النبي ﷺ: ((يسروا ولا تعسروا))، ومسلم، كتاب الجهاد والسير، باب في الأمر بالتيسير، وترك التنفير، برقم (1734).
  37. أخرجه البخاري، كتاب الحيل، باب في الصلاة، برقم (6954).
  38. أخرجه أبو داود، كتاب الطهارة، باب في المذي، برقم (208)، وأحمد في المسند، برقم (1009)، وقال محققوه: "حديث صحيح، رجاله ثقات رجال الشيخين"، وصححه الألباني في صحيح أبي داود، برقم (203).
  39. البيان والتحصيل (1/156)، والمقدمات الممهدات (1/79)، وشرح التلقين (1/270).
  40. انظر: المغني لابن قدامة (1/189)، وروي عن ابن مسعود كما في سنن الترمذي ت شاكر (1/216)، بعد حديث رقم (124).
  41. البحر الرائق شرح كنز الدقائق ومنحة الخالق وتكملة الطوري (1/154)، والدر المختار وحاشية ابن عابدين (رد المحتار) (1/238).
  42. تفسير الطبري (7/93)، وتفسير ابن كثير (2/316).
  43. تفسير ابن كثير (2/316).
  44. تفسير ابن كثير (2/314).
  45. أخرجه أبو داود، كتاب الطهارة، باب الوضوء من القبلة، برقم (179)، والترمذي، أبواب الطهارة عن رسول الله ﷺ، باب ترك الوضوء من القبلة، برقم (86)، وابن ماجه، أبواب الطهارة وسننها، باب الوضوء من القبلة، برقم (502)، وأحمد في المسند، برقم (24329)، وقال محققوه: "حديث صحيح"، وبرقم (25766)، وقال محققوه: "إسناده صحيح على شرط مسلم"، وصححه الألباني في صحيح أبي داود، برقم (171)، وبرقم (172).
  46. انظر: الفتاوى الكبرى لابن تيمية (1/439-440)، ومجموع الفتاوى (21/233).
  47. أخرجه البخاري، في أوائل كتاب التيمم، برقم (334)، ومسلم، كتاب الحيض، باب التيمم، برقم (367).
  48. انظر: الكافي في فقه أهل المدينة (1/183)، ومواهب الجليل في شرح مختصر خليل (1/350)، وبداية المجتهد ونهاية المقتصد (1/77).
  49. كفاية الأخيار في حل غاية الاختصار (ص:57)، وتحفة المحتاج في شرح المنهاج وحواشي الشرواني والعبادي (1/352)، وكفاية النبيه في شرح التنبيه (2/20).
  50. انظر: العين (1/290)، وتهذيب اللغة (2/8)، ولسان العرب (3/254).
  51. معاني القرآن وإعرابه للزجاج (2/56).
  52. أخرجه البخاري، في أوائل كتاب التيمم، برقم (335)، وبرقم (438)، في كتاب الصلاة، باب قول النبي ﷺ: ((جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا))، ومسلم بلفظ: ((وجعلت لي الأرض طيبة طهورا ومسجدا))، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، برقم (521).
  53. أخرجه مسلم، في أوائل كتاب المساجد ومواضع الصلاة، برقم (522).
  54. انظر: البيان والتحصيل (1/158)، والفواكه الدواني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني (1/156)، وحاشية العدوي على كفاية الطالب الرباني (1/228)، وبدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (1/53)، والبناية شرح الهداية (1/534)، وتبيين الحقائق شرح كنز الدقائق وحاشية الشلبي (1/39).
  55. أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/37)، برقم (182)، والدارقطني في سننه، برقم (272)، وفيه ابن عقيل ليس بقوي قاله الدارقطني، وذكره الألباني في السلسلة الصحيحة، برقم (2067).

مواد ذات صلة