الأحد 22 / جمادى الأولى / 1446 - 24 / نوفمبر 2024
(009-ب) من قوله تعالى (الله لا إله إلا هو ليجمعنكم..) الآية 86 – إلى قوله تعالى (توبة من الله وكان الله عليما حكيما) الآية 91
تاريخ النشر: ١٨ / جمادى الآخرة / ١٤٣٨
التحميل: 1030
مرات الإستماع: 1032

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين، أما بعد:

قال الحافظ ابن جُزي -رحمه الله تعالى-:

قوله -تعالى-: لَيَجْمَعَنَّكُمْ [النساء:87] جواب قسمٍ محذوف وتضمن معنى الحشر؛ ولذلك تعدى بإلى.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

"قوله: لَيَجْمَعَنَّكُمْ[النساء:87] يقول: جواب قسم محذوف" يعني: والله ليجمعنكم، "وتضمن معنى الحشر ولذلك تعدى بإلى لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ [النساء:87]" لَيَجْمَعَنَّكُمْ [النساء:87] يتعدى مثلًا بفي يقول: لَيَجْمَعَنَّكُمْ [النساء:87] في يوم القيامة فلماذا عُدي بإلى، لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ [النساء:87]؟ قال: لأنه مُضمنٌ معنى الحشر، يحشرهم إلى القيامة، فحشر يتعدى بإلى، وهذا كما سبق أنه أدق من قول الكوفيين بتضمين الحرف، معنى الحرف، الكوفيون يقولون: لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ [النساء:87] إِلَى [النساء:87] بمعنى في وانتهى، فهنا أبلغ حيث إنه بالتضمين، تضمين الفعل، معنى فعلٍ آخر يكون ذلك أوفى في المعنى، فدلَّ على معنى الجمع، ودلَّ على معنى الحشر.

قوله -تعالى-: وَمَنْ أَصْدَقُ [النساء:87] لفظه استفهام، ومعناه لا أحد أصدق من الله.

يعني هو استفهامٌ مُضمن معنى النفي.

قوله -تعالى-: فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ [النساء:88] مَا استفهامية بمعنى التوبيخ، والخطاب للمسلمين، ومعنى فِئَتَيْنِ أي طائفتين مختلفتين.

يعني فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ [النساء:88] في شأن المنافقين، بين مثلًا مُكفِّرٍ لهم وغير مُكفِّر.

أي طائفتين مختلفتين وهو منصوبٌ على الحال، والمراد بالمنافقين هنا ما قال ابن عباس: "إنها نزلت في قوم كانوا بمكة مع المشركين فزعموا أنهم آمنوا ولم يهاجروا، ثم سافر قوم منهم إلى الشام بتجاراتٍ، فاختلف المسلمون هل يقاتلونهم ليغنموا تجارتهم لأنهم لم يهاجروا؟ أو هل يتركونهم لأنهم مؤمنون؟"[1].

أخرجه ابن جرير وأبي حاتم عن ابن عباس -ا- ولا يصح؛ لكونه من طريق العوفيين فهو مسلسل بالضعفاء.

وقال زيد بن ثابت: "نزلت في المنافقين الذين رجعوا عن القتال يوم أحد، فاختلف الصحابة في أمرهم"[2].

قول زيد بن ثابت مُخرَّجٌ في الصحيحين، قال: "نزلت في المنافقين الذين رجعوا عن القتال يوم أحد، فاختلف الصحابة في أمرهم"، يعني الذين كانوا مع عبد الله بن أُبي، إلى الآن هذا السياق الذي ذكره ابن جُزي ليس بصريح بأنه سبب النزول، قال: نزلت فيهم، يعني أنهم مما يدخل في معناها، لكن الواقع أن نفس الرواية: فاختلف الصحابة في أمرهم فنزلت الآية: فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ [النساء:88] فهذا صريح بأنه سبب النزول، يعني إذا نظرت إلى لفظ الرواية غير ما نقله ابن جُزي هنا ففيها الشاهد، فنزلت الآية، فهو صريح في أن ذلك سبب النزول.

إذن الأول فيمن لم يهاجروا هذا لا يصح، الصحيح أنها نزلت بسبب الذين رجعوا يوم أُحد من المنافقين، لكن يرد عليه إشكال كما ذكرنا في سبب النزول قبل ذلك في المجلس الأول في عبد الرحمن بن عوف -ا-: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ [النساء:77]، ثم السياق في المنافقين، وهنا أيضًا السياق يُشكل على هذا، وسبب النزول مُخرَّج في الصحيحين؛ ولهذا قال: "ويرد هذا قوله: حَتَّى يُهَاجِرُوا [النساء:89]".

هؤلاء الذين رجعوا مع عبد الله بن أُبي رجعوا للمدينة، وهم في المدينة، وهم من أهل المدينة، فكيف قال: حَتَّى يُهَاجِرُوا [النساء:89]؟ كيف يكون هم سبب النزول؟ فالسياق يُشكل على هذا السبب، وهو ثابت، فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ [النساء:88]، فيمكن أن يُقال -والله أعلم-: بأن ذلك فيهم كما هو صريح في حديث زيد ، ولكن جاء سياق حديث عن عموم المنافقين فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ [النساء:89]، فإن المنافقين تُجرى عليهم أحكام المسلمين في الظاهر، فمن لم يهاجر منهم، يعني جاء الحديث عن عموم المنافقين، فلا يستحقون من النصرة، وما يجري عليهم من أحكام المسلمين إلا إذا هاجروا، والذين يهاجرون ليس من شرطه من مكة، الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ [التوبة:97]، فيهاجروا من البوادي، يهاجروا من القبائل، من جُهينة، ومن خطفان، ومن كثير؛ من كان من خطفان ونحوها لربما كان فيهم من النفاق بحيث أنهم إذا جاءوا للمسلمين أظهروا الإسلام، وإذا رجعوا إلى قومهم عادوا إلى ما كانوا عليه.

قوله -تعالى-: أَرْكَسَهُمْ [النساء:88] أي: أضلهم، وأهلكهم.

"أَرْكَسَهُمْ [النساء:88] أي: أضلهم وأهلكهم" قال: أَرْكَسَهُمْ [النساء:88] وردهم في كفرهم، فأصلُ الركس قلب الشيء على رأسه، أو هو ردُ أوله على آخره، وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ، قال أبو جعفر بن جرير -رحمه الله-: والله ردهم إلى أحكام أهل الشرك في إباحة دمائهم وسبي ذراريهم"[3]، وذهب إلى أنها نزلت في قومٍ ارتدوا من أهل مكة وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا [النساء:88]، لكن سبب النزول الصريح السابق وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا [النساء:88] من النفاق، ومن رجعوهم عن النبي ﷺ يوم أُحد أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ [النساء:88]، فيدخل فيه سائر الكسب الذي هو من مزاولات المنافقين -كسب السيئ- أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ [النساء:88]، وهذا يُقال أيضًا في: المنافقين في كل زمانٍ ومكان، فهؤلاء الذين يصدر عنهم كل شر وبلاء وسوء وفتنة ووقيعة في أهل الإيمان، ويتربصون بهم الدوائر، ويشنعون عليهم، ويطعنون في ثوابت الدين، ونحو ذلك، أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا [النساء:88]، وهذا هو شأنهم، وهذا هو المتوقع منهم، فلو صدر عنهم خلاف ذلك من الخير والبر والأمر بطاعة الله وطاعة رسوله لكان ذلك مستغربًا، فهذه أعمالهم المُنبئة عن خباياهم، وما انطوت نفوسهم عليه من النفاق والشر والفساد، فيُقال لأهل الإيمان الذين يضيقون ذرعًا بكتابات هؤلاء المنافقين وبكلامهم: أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ [النساء:88]، أضلهم الله وأركسهم بما كسبوا، وهم بذلك إنما يضرون أنفسهم، لا يضرون الله شيئا، -والله المستعان-.

قوله -تعالى-: وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ [النساء:89] الضمير للمنافقين أي تمنوا أن تكفروا.

يُروى عن عثمان أنه قال: "ودت المرأة الزانية أن تكون جميع النساء زواني"[4]، فهؤلاء من أهل النفاق، كذلك ذكر الله عن الكفار واليهود والنصارى، كل هؤلاء يودون أن تضل هذه الأمة وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ [البقرة:109]، فهذه أمنية لجميع الكفار على اختلاف طوائفهم ومن ذلك أهل النفاق، ولذلك إذا رأوا من أحدٍ شيئًا من الضعف أو التراجع تلقفوه، ومنَّوه، وأعطوه، وأبرزوه، وجعلوه يكتب في مواقعهم وبيوت الضرار التي يقومون عليها، ولربما لا يساوي شيئًا في ميدان الكتابة والأدب، لكنهم يجعلونه كاتبًا وأديبًا وخبيرًا.

قوله -تعالى-: فَخُذُوهُمْ [النساء:89] يريد به الأسر.

إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ [النساء:90] الآية استثناءٌ من قوله: فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ [النساء:89] ومعناها أن من وصل من الكفار غير المُعاهدين إلى الكفار المُعاهدين وهم الذين بينهم وبين المسلمين عهدٌ ومهادنة.

هؤلاء الكفار فَخُذُوهُمْ [النساء:89] هؤلاء أهل النفاق، هؤلاء الذين خُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ [النساء:89] إلى آخره هؤلاء الذين لم يهاجروا، أما الذين كانوا في المدينة مع النبي ﷺ فما كان يقتلهم ولا يأسرهم، وإنما يُجاهدون بالقرآن وبالحجة ويُغلظ عليهم، لكن لم يكن هديه ﷺ أن يعاملهم معاملة الكفار من القتل والأسر ونحو ذلك.

فحكمه كحكمهم في المسالمةِ وترك قتاله، وكان ذلك في أول الإسلامِ، ثم نُسخ بالقتال في أول سورة براءة، قال السُهيلي وغيره: الَّذِينَ يَصِلُونَ [النساء:90] هم.

في قوله -تبارك وتعالى-: إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ [النساء:90]، فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ [النساء:89] إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ [النساء:90]، يعني هذا أن من كان من الكفار من غير عهد -ليس له عهد-، فصار إلى قومٍ من الكفار لهم عهد فله حكمهم، إذا جاء إليهم ونزل بينهم فله حكمهم إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ [النساء:90]، فيُترك قتالهم، وهذا الذي اختاره ابن جرير[5]، وقال به من السلف السُدي، وابن زيد[6].

وجاء في الصحيح في قصة الحديبية: "فكان من أحب أن يدخل في صلح قريشٍ وعهدهم، ومن أحب أن يدخل في صلح محمدٍ وأصحابه وعهدهم"[7]، فمن انضم إلى هؤلاء ودخل في عهدهم فله حكمهم، ومن صار إليهم وحلَّ بدارهم فله حكمهم.

يقول: "وكان ذلك في أول الإسلام ثم نُسخ بالقتال في أول سورة براءة" يبقى الحكم الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ [النساء:90]، فالمواثيق تُوجد بعد نزول آية براءة، لكن الكلام في حد هذه المواثيق والعهود بترك القتال، المصالحة مع الكفار إلى أي حد، يعني بعضهم قال: إلى عشر سنين لا يزيد، بصرف النظر لو وُجد عهد مع جماعةٍ من الكفار، مع طائفةٍ منهم مع قوم، فجاء إليهم من غيرهم وصار بينهم فله حكمهم، ولا يُقال: إن هذا منسوخ، -والله أعلم-.

قال السُهيلي وغيره: الَّذِينَ يَصِلُونَ [النساء:90].

السُهيلي له كتاب كما ذكرت في بعض المناسبات في المبهمات في القرآن، إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ [النساء:90]، فهنا هذا مُبهم، قال: "هم بنو مُدلج بن كنانة".

قال السُهيلي وغيره: الَّذِينَ يَصِلُونَ [النساء:90] هم بنو مُدلج بن كنانة، إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ [النساء:90] بنو خُزاعة، فدخل بنو مُدلجٍ في صلح خُزاعةَ مع رسول الله ﷺ.

خُزاعة كانوا دخلوا مع النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، فهذا -كما سبق- من أحب أن يدخل في صلح محمدٍ وأصحابه وعهدهم، فدخل معه خُزاعة، ودخل بنو مُدلج مع خُزاعة.

وقوله: إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ [النساء:90]، الميثاق هو العقد والعهد المؤكد، أو العهد المُحكم.

فمعنى الَّذِينَ يَصِلُونَ [النساء:90]: ينتهون إليهم ويدخلون فيما دخلوا فيه من المهادنة.

يَصِلُونَ [النساء:90] من الوصول، يصلون إليهم: يصيرون إليهم.

وقيل معنى يَصِلُونَ [النساء:90] أي ينتسبون.

هذا معنى آخر ينتسبون، لكن مجرد الانتساب وحده لا يكفي.

وهذا ضعيفٌ جدا بدليل قتال رسول الله ﷺ لقريشٍ وهم أقاربه وأقاربُ المؤمنين، فكيف لا يُقاتلُ أقارب الكفار المعاهدين؟!

يعني لو كانوا غير داخلين في عهدهم لكنّهم يرتبطون بهم في النسب، فهل هؤلاء يُقال أنهم لا يُقاتلون؛ لأن أولئك بينهم وبين النبي ﷺ عهد؟ ليس بينهم، لكن المقصود يصلون إليهم بمعنى أنهم يصيرون إليهم، وينزلون في دارهم، ونحو ذلك، فهذا هو المراد من الوصول وليس الانتساب.

قوله -تعالى-: أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ [النساء:90] عطفٌ على يَصِلُونَ [النساء:90]،  أو على صفة قَوْمٍ [النساء:90] وهي بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ [النساء:90]، والمعنى يختلف على ذلك، والأول أظهر.

يقول ابن كثير -رحمه الله- في قوله: أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ [النساء:90]: "هؤلاء قومٌ آخرون، يعني غير الأولين غير الَّذِينَ يَصِلُونَ [النساء:90]، وهم الذين يجيئون إلى المصاف -مصاف القتال- وهم حاصرةً صدورهم، يعني ضيقة صدورهم، مبغضين أن يقاتلوكم، ولا يهون عليهم أيضًا أن يقاتلوا قومهم معكم، بل هم لا لكم ولا عليكم"[8]، وهؤلاء يقول: كالجماعة الذين خرجوا يوم بدر من بني هاشم مع المشركين، فحضروا القتال وهم كارهون كالعباس ونحوه.

وقوله: "أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ [النساء:90] عطفٌ على يَصِلُونَ [النساء:90] إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ [النساء:90]، أو على صفة قَوْمٍ، أو إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ [النساء:90]، والمعنى يختلف على ذلك، والأول أظهر" يعني كيف يكون المعنى إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ [النساء:90]؟ إذا قلنا: بأنه يعود إلى يَصِلُونَ عطف على يَصِلُونَ، يعني يكون هكذا وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا ۝ إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ [النساء:89-90] فهذه طائفة الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ [النساء:90]، أو الذين إذا جاءوا حصرت صدورهم، فهم طائفتان، أو يكون يعود إلى صفة قَوْمٍ [النساء:90] وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا ۝ إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ [النساء:89-90] حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ [النساء:90] لكن هذا فيه بُعد إِلَى قَوْمٍ [النساء:90] حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ [النساء:90]، فالأول أظهر أنه يعود إلى يَصِلُونَ، إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ [النساء:90] حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ [النساء:90]، فكونه يعود إلى الَّذِينَ يَصِلُونَ [النساء:90] أقرب -والله تعالى أعلم-، فهم فئتان، طائفتان:

الفئة الأولى: يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ [النساء:90].

الفئة الثانية: هؤلاء الذين لا يرغبون بقتالكم، ولا يرغبون بقتال قومهم، وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ [النساء:90] هذا هو القيد والشرط في متاركتهم وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا [النساء:90].

وحَصِرَتْ صُدُورُهُمْ [النساء:90] في موضع الحال بدليل قراءة يعقوب: (حَصِرَةً)، ومعناه ضاقت عن القتال وكرهته، ونزلت الآية في قوم جاءوا إلى المسلمين وكرهوا أن يقاتلوا المسلمين، وكرهوا أيضًا أن يقاتلوا قومهم وهم أقاربهم الكفار، فأمر الله بالكف عنهم، ثم نُسخ أيضًا ذلك بالقتال.

هنا قوله: أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ [النساء:90]، الحصر هو التضييق، يعني تضييق صدورهم بقتالكم، حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ [النساء:90] في موضع الحال، يعني حال كون صدورهم حصرة، ضيقة، بدليل قراءة يعقوب (حَصِرَةً)، أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَةً صُدُورُهُمْ، يقول: "نزلت في قومٍ جاءوا إلى المسلمين وكرهوا أن يقاتلوا المسلمين، وكرهوا أيضًا أن يقاتلوا قومهم وهم أقاربهم الكفار" لكن هذه الرواية أنها نزلت في هؤلاء جاءوا إلى المسلمين وكرهوا أن يقاتلوا المسلمين هذا لا يصح من جهة الإسناد، -والله أعلم-.

يقول: "فأمر الله بالكف عنهم، ثم نُسخ ذلك بالقتال"، نُسخ ذلك أيضًا، كما قلت: إنه لا نسخ بالاحتمال، وأنه لا يُقال: أن آية السيف نسخت ذلك جميعًا، أو صدر سورة براءة فإن العهود تبقى، لكن صدر سورة براءة إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ۝ فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ [التوبة:1-2]، أربعة أشهر، فهناك أناس لهم عهود مؤقتة، فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ [التوبة:4] ويُتم لهم العهد، هناك عهود مطلقة، فهؤلاء أصحاب العهود المطلقة يُحد لهم أربعة أشهر، وكذلك من لا عهد له فيدخلون في قوله -والله أعلم-: فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ [التوبة:2]، فجعل لهم هذا الإمهال بأربعة أشهر، فصارت العهود: إما محددة فيُوفى إليهم، يُتم إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ [التوبة:4]، ومن لا عهد له فيُمهل أربعة أشهر، ومن له عهد مطلق مفتوح فإنه يُحد.

قوله -تعالى-: فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ [النساء:90] أي: إن سالموكم فلا تقاتلوهم والسلم هنا الانقياد.

قوله -تعالى-: سَتَجِدُونَ آخَرِينَ [النساء:91] الآية نزلت في قومٍ مخادعين وهم من أسدٍ وغطفان، كانوا إذا أتوا المدينة أسلموا وعاهدوا ليأمنوا من المسلمين، فإذا رجعوا إلى قومهم كفروا ونكثوا ليأمنوا قومهم، والْفِتْنَةِ [النساء:91] هنا الكفر على الأظهر، وقيل: الاختبار.

هنا قوله: "سَتَجِدُونَ آخَرِينَ [النساء:91] نزلت في قومٍ مخادعين من أسد وغطفان" هذا جاء في روايةٍ مرسلة عند ابن جرير وابن أبي حاتم[9]، فلا يصح أن ذلك هو سبب النزول، سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ [النساء:91]، فالمقصود أن هؤلاء الذين يتبدلون ويتحولون ليسوا كالطائفة قبلهم، فهؤلاء يؤخذون ويُقتلون إن لم يكفوا عن المسلمين.

يقول: "والْفِتْنَةِ [النساء:91] هنا الكفرُ على الأظهر، وقيل: الاختبار"، يقول ابن كثير: "هؤلاء في الصورة الظاهرة كمن تقدمهم"[10]، يعني أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ [النساء:90]، لكنّ نية هؤلاء غير نية أولئك، فإن هؤلاء قومٌ منافقون يُظهرون للنبي ﷺ ولأصحابه الإسلام ليأمنوا بذلك عندهم، ويصانعون الكفار في الباطن، فيعبدون معهم ما يعبدون ليأمنوا بذلك عندهم، وهم في الباطن مع أولئك، يعني هم في الباطن كفار، فحالهم غير حال أولئك الذين وصف الله أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ [النساء:90].

قوله -تعالى-: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً [النساء:92] نزلت بسبب قتل عياش بن أبي ربيعةَ للحارث بن زيد، وكان الحارث يُعذِّبه على الإسلام، ثم أسلم وهاجر، ولم يعلم عياش بإسلامه فقتله، وقيل: إنّ الاستثناء هنا منقطع.

نزلت بسبب قتل عياش بن أبي ربيعة وليس ابن ربيعة، عياش بن أبي ربيعة، صلحوها، "وكان الحارث يعذبه على الإسلام ثم أسلم وهاجر ولم يعلم عياش بإسلامه فقتله" لقيه بالمدينة فقتله، وقيل: لقيه في موضعٍ، على كل حال لم يعلم بإسلامه فقتله، لكن هذه الرواية لا تصح، فلا يثبت أن ذلك هو سبب النزول، لا يثبت، هذا جاء عند ابن جرير[11]، وابن أبي حاتم[12]، مراسيل عن مجاهد، والقاسم بن محمد، وسعيد بن جُبير، ومن حسَّن هذا باعتبار أنه يعضد بعضها بعضا، هذه المراسيل جاءت، لكن الواقع حتى هذه المراسيل فإن أكثرها لا يصح أيضًا من جهة الإسناد، يعني فيه من الرواة الضعفاء ما لا يصح معه بحال فضلًا عن كونه مرسلًا.

المقصود أن هذا لا يصح أنه سبب النزول -والله أعلم-.

وقيل: إن الاستثناء هنا منقطع، والمعنى: لا يحل لمؤمن أن يقتل مؤمنًا بوجه، لكنّ الخطأ قد يقع.

إِلَّا خَطَأً [النساء:92] فيكون الاستثناء بمعنى، لكن الخطأ قد يقع، وهذا الذي اختاره سيبويه والزَّجاج[13]، واختاره أيضًا أبو جعفر ابن جرير -رحمه الله-[14]، ويمكن أن يكون التقدير لكن إن قتله خطأً فجزاؤه ما يُذكر.

وبعضهم يقول: بأنه استثناء مُفرَّغ من أحوال عامة، أو علل عامة محذوفة، فالمشهور أنه استثناءٌ منقطع.

والصحيح أنه متصل، والمعنى لا ينبغي لمؤمن ولا يليق به أن يقتل مؤمنًا إلّا على وجه الخطأ من غير قصدٍ ولا تعمد إذ هو مغلوبٌ فيه، وانتصاب خطأ على أنه مفعولٌ من أجله أو حال أو صفةٌ لمصدر محذوف.

إذا قلنا: بأنه مفعول من أجله، يعني ما ينبغي له أن يقتله لعلةٍ من العلل إلا للخطأ وحده، إِلَّا خَطَأً [النساء:92] إلا للخطأ وحده، وإذا قلنا: بأنه حال يكون التقدير ما ينبغي أن يصدر منه قتلٌ له إلا مخطئًا في قتله، يعني حال كونه مخطئًا في قتله، يعني ما ينبغي له أن يقتله في حالٍ من الأحوال إلا في حال الخطأ، وعلى الوجه الثالث: أو صفة مصدرٍ محذوف، يعني إلا قتلًا خطأ، هذا المصدر المحذوف، إلا قتلًا خطأ.

قوله -تعالى-: وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ [النساء:92] هذا بيان ما يجب على القاتل خطأ، فأوجب الله عليه التحرير والدية، فأما التحرير ففي مال القاتل، وأما الدية ففي مال عاقلته، وجاء ذلك عن النبي ﷺ، وبيانٌ للآية، -[وفي النسخ الخطية: وهو بيانٌ للآية]-، إذ لفظها يحتمل ذلك أو غيره، وأجمع الفقهاء عليه.

في قوله هنا: "فأما التحرير ففي مال القاتل"، يعني الرقبة في مال القاتل، "وأما الدية ففي مال عاقلته" العاقلة: القرابة من جهة أبيه، عصباته، وجاء ذلك عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- ويقول: "وبيانٌ للآية إذ لفظه يحتاج ذلك أو غيره" جاء عن النبي ﷺ ما يدل على أن دية القتل الخطأ على عاقلته، كما في حديث أبي هريرة: في المرأتين من هذيل لما اقتتلتا فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها، فاختصموا إلى النبي ﷺ فقضى رسول الله ﷺ أن دية جنينها غُرة عبدٌ أو وليدة، وقضى بدية المرأة على عاقلتها[15].

هذا واضح بخلاف القتل العمد، فالمشهور أنه الدية تكون على القاتل في ماله وليس على عاقلته، هذا في الخطأ يكون على عاقلته.

 وأجمع الفقهاء عليه، واشترط مالكٌ في الرقبة التي تُعتق أن تكون مؤمنة، ليس  فيها عقدٌ من عقود الحرية، سالمةٌ من العيوب فأما إيمانها فنُص هنا، ولذلك أجمع العلماء عليه هنا، واختلفوا في رقبة الظهار وكفارة اليمين.

باعتبار حمل المطلق على المقيد، وذكرت لكم أن المطلق والمقيد لهما أربعة أحوال في مجلسٍ سابق، فهل ما جاء من قبيل المطلق في كفارة الظهار واليمين يُقيد بالإيمان، فيُقال: يُشترط أن تكون الرقبة مؤمنة ولا تُجزئ الكافرة، أو يُقال بأن القيد جاء هنا في كفارة القتل، وهناك يبقى على إطلاقه؟ خلاف بين أهل العلم، والصورة نفسها هنا في مسألة اتحاد السبب أو الحكم والعكس هي من قبيل المُختلف فيه، يعني المتفق عليه ذكرنا أنه ما اتحد فيه السبب والحكم، أو اختلف الحكم والسبب، فهذا الأول يُحمل، والثاني لا يُحمل، ويبقى الوسط: ما اتحد الحكم واختلف السبب أو العكس، في خلاف، فالحكم هنا متحد وهو الكفارة، تحرير رقبة مؤمنة، ومطلق أيضًا في الموضعين الآخرين، والسبب مختلف، قتل، يمين، ظهار، فهذا فيه خلاف، هل يحمل المطلق على المقيد.

وأما سلامتها من عقود الحرية.

عقود الحرية مثل المُبعَّض، يعني عُتق بعضه، وكذلك أيضًا مثل المُكاتب، فيؤول أمره إلى الحرية، وهكذا، ما أشبه هؤلاء، مُدبَّر بحيث أنه إذا مات سيده يصير إلى الحرية، فهنا قال: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ [النساء:92].

قال: فيظهر من قوله -تعالى-: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ [النساء:92]؛ لأن ظاهره أنه ابتداء عتقٍ عند التكفير بها.

وليس قد ابتُدئ ذلك بعقدٍ أو تدبيرٍ أو إعتاقٍ بعضٍ أو نحو ذلك.

وأما سلامتها من العيب، فزعموا أن إطلاق الرقبة يقتضيه، وفي ذلك نظر.

يقتضيه، يعني رقبة بمعنى رقبة كاملة باعتبار أن المطلق يُحمل على أتم معانيه، يعني من كان فيه إعاقة أنه لا يُجزئ؛ وذلك لنقصه، على تفاصيل في الإعاقة عندهم ما يدخل فيها وما لا يدخل، والمقصود أن يكون قادرًا على العمل، ينفع نفسه، لا يكون عالةً على المجتمع؛ لأن مقصود الشارع بالعتق هو أن يكون هذا الإنسان في حالٍ أكمل، ولا يكون مقيدًا بقيد الرق، أما إذا كان العتق يؤدي به إلى أن يكون كلًا على المجتمع فمثل هذا قد يكون بقاءه في الرق أفضل، ولذلك قال الله في المكاتبة في سورة النور: فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا [النور:33]، يعني قدرة على الكسب مع الوفاء للمُكاتِب وهو السيد، إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا [النور:33] قدرةً على الكسب، لكن إذا كان سيبقى عند أبواب المساجد يمد يده للناس، لا يستطيع التصرف، ولا الاكتساب، ولا العمل، فمثل هذا يبقى عند سيده يؤويه وينفق عليه خيرٌ له من هذه الحال التي يضيع فيها، "فزعموا أن إطلاق الرقبة يقتضيه" وجاء في قراءة أُبي: لا يجزئ فيها صبي، باعتبار أن الصبي لا يستطيع الكسب والعمل فيضيع.

قال: ولم يُبيَّن في الآية مقدار الدية، وهي عند مالك مائةٌ من الإبل على أهل الإبل، وألف دينارٍ شرعيةٍ على أهل الذهب، واثنا عشر ألف درهمٍ شرعية على أهل الورِق.

المقصود بالدنانير الشرعية والدراهم الشرعية: الدنانير والدراهم تُضرب وتكون على مقدارٍ ووزنٍ مُحدد معلوم، الدينار الشرعي، وله زنة معلومة كما لا يخفى.

ورُوي ذلك عن عمر بن الخطاب.

رُوي هذا؛ جاء هذا عن عمر بن الخطاب، ذكر عندكم في الحاشية: حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: كانت قيمة الدية على عهد رسول الله ﷺ ثمانمائة دينار أو ثمانية آلاف درهم، ودية أهل الكتاب يومئذ النصف من دية المسلمين، وكان ذلك كذلك حتى استُخلف عمر، فقام خطيبًا فقال: إن الإبل قد غلت، فرضها عمر على أهل الذهب ألف دينار، وعلى أهل الورق اثني عشر ألف، وعلى أهل البقر مائتي بقرة، وعلى أهل الشاة ألفي شاة، وعلى أهل الحُلل -يعني الثياب- مائتي حُلة، وترك دية أهل الذمة لم يرفعها فيما رفع من الدية"[16]، أخرجه أبو داوود، وحسَّن الألباني إسناده.

قوله: مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ [النساء:92] أي مدفوعةٌ إليهم، والأهل هنا الورثة، واختُلف في مدة تسليمها، فقيل: هي حالةٌ عليهم.

يعني يدفعونها نقدًا مباشرةً، يدفعونها مباشرةً ليست مجزأة مقسطة.

وقيل: يؤدونها في ثلاث سنين، وقيل: في أربع، ولفظ التسليم مطلق، وهو أظهر في الحلول لولا ما جاء من السنة في ذلك.

أظهر في الحلول يعني أنها حالَّة ليست مؤجلة أو مجزأة، يقول: "لولا ما جاء من السنة في ذلك" هنا نقل عندكم في الحاشية، قال الترمذي: "وقد أجمع أهل العلم على أن الدية تؤخذ من ثلاث سنين في كل سنةٍ ثُلث الدية"[17]، يعني الإجماع له مستند، لكن قد يكون خفي علينا، يعني نحن لم نقف على الحديث في أنها مؤجلة ثلاث سنين، لكن لمّا انعقد الإجماعُ عليه، الإجماع لا بد له من مستند في الأصل، فيكون ذلك قد خفي علينا فدلَّ عليه الإجماع.

ونقل القرطبي[18] -رحمه الله- عن ابن العربي -رحمه الله- ما ملخصه: إن الدية على العاقلة في ثلاثة أعوام على ما قضاه عمر وعليّ، وكان من النبي ﷺ دفعةً لأغراض: منها أنه كان يعطيها صلحًا وتسديدًا، ومنها أنه كان يُعجِّلها تأليفًا، فلما وُجد الإسلام يعني استقر، قررتها الصحابة على هذا النظام.

وقال ابن قدامة في المُغني: "ولا خلاف بينهم في أنها مؤجلة في ثلاث سنين، فإن عمر وعليًّا جعلا دية الخطأ على العاقلة في ثلاث سنين، ولا نعرف لهما في الصحابة مخالفًا"[19]، يعني أولًا نقل الإجماع هذا قول صحابي ليس له مخالف، الذي هو من أقوال الخلفاء الراشدين، عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين[20]، نحن عرفنا أيضًا أن قول الصحابي إذا لم يُعلم له مخالف لاسيما ما يُنقل عن مثل عمر يكون قد اشتُهر، فهذا يكون حُجة -كما سبق- أنه حجةٌ بيانية وليس بحجةٍ رسالية، يقول ابن قدامة: "ولأنه مالٌ يجب على سبيل المواساة فلم يجب حالًّا كالزكاة، وكل ديةٍ تحملها العاقلة تجب مؤجلة"[21]، هذا كلام ابن قدامة.

 قوله: إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا [النساء:92] الضمير يعود على أولياء المقتول أي إذا أسقطوا الدية سقطت، وإذا أسقطها المقتول سقطت أيضا عند مالكٍ والجمهور.

يعني أسقطها المقتول، كيف يسقطها المقتول؟ إنه قبل موته وهو في حال الرمق أو النزع أو كانت به نوع حياة، فأسقط الدية ثم مات؛ لأنه معلوم أنه ما تؤخذ الدية ولا يُقتص، الدية واضح، لكن حتى القصاص لا يُقتص حتى يُنظر في الجراح هذه إلى ما تؤول، وقد تؤول إلى العطب، يموت، وقد يحصل بسبب ذلك فساد عضو، فإذا استعجل وأخذ الدية كما هو الظاهر في أول الأمر، ثم سرت هذه الإصابة أو الجراح ونحو هذا حتى أتت على نفسه فليس له أن يطالب بعد ذلك، كذلك لو أنها سرت على العضو فصار تالفًا وشُل فليس له أنه يطالب بعد ذلك؛ لأن الأصل أنه ينتظر حتى يُنظر فيما تؤول إليه هذه الإصابة أو الجراح، فهذا المقتول يمكن أن يكون قبل موته قد تنازل عن الدية.

وإذا أسقطها المقتول سقطت أيضا عند مالكٍ والجمهور، خلافًا لأهل الظاهر.

خلافًا لأهل الظاهر باعتبار أنه قال: إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا [النساء:92] ما قال: إلا أن يصدق.

 وحجتهم عود الضمير على الأولياء، وقال الجمهور: إنما هذا إذا لم يسقطها المقتول.

قوله -تعالى-: فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ [النساء:92] معنى الآية: أن المقتول خطأً إن كان مؤمنًا وقومه كفارا أعداءً وهم المحاربون، فإنما في قتله التحرير خاصةً دون الدية فلا تُدفع لهم لئلا يتقووا بها على المسلمين، ورأى ابن عباس -ا- أن ذلك إنما هو فيمن آمن وبقي في دار الحرب لم يهاجر، وخالفه غيره، ورأى مالكٌ أن الدية في هذا لبيت المال، فالآية عنده منسوخة.

فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ [النساء:92] فهذا ظاهر في أن المقصود كفارة فقط دون الدية؛ لئلا يتقووا على المسلمين، ابن عباس قيده فيمن آمن وبقي في دار الحرب ولم يهاجر، وخالفه غيره، رأي مالك أن الدية في هذا لبيت المال، فالآية عندهم منسوخة، وهذه -دعوى النسخ- أيضًا لا تثبت بمجرد الاحتمال.

فظاهر الآية أنه إن كان من قوم أعداء محاربين فليس لهم الدية، أهله من هؤلاء الأعداء، من هؤلاء الكفار، فلا تُدفع إليهم الدية، مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ [النساء:92]، فيُكتفى بالكفارة، هذا ظاهر الآية، والله أعلم.

قوله -تعالى-: وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ [النساء:92] الآية: معناها أن المقتول خطأً إن كان قومه كفارًا مُعَاهدين ففي قتله تحرير رقبة، والدية إلى أهله لأجل معاهدتهم، والمقتول على هذا مؤمن، ولذلك قال مالك: لا كفارة في قتل الذمي، وقيل: إنّ المقتول في هذه الآية كافرٌ، فعلى هذا تجب الكفارة في قتل الذميّ، وقيل: هي عامةٌ في المؤمن والكافر، ولفظ الآية مطلق إلّا إن قيده قوله: وَهُوَ مُؤْمِنٌ [النساء:92] في الآية التي قبلها، وقرأ الحسن هنا: وهو مؤمن.

وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ [النساء:92] في النوع الأول نص على أنه مؤمن، لكنّ قومه من الكفار، وهنا قال: وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ [النساء:92] فظاهره أنه مؤمن، والفرق أن قومه ليسوا كالأولين من المحاربين، بل بينهم وبين المسلمين ميثاق، بينهم عهد.

يقول: "ففي قتله تحرير رقبة والديةُ إلى أهله لأجل معاهدتهم" وفي قراءة الحسن كما سمعتم وهو مؤمن، والقراءة الأحادية إذا صح سندها فهي تفسر القراءة المتواترة على الراجح، تفسرها وَهُوَ مُؤْمِنٌ [النساء:92]، يقول: "ولذلك قال مالك: لا كفارة في قتل الذمي، وقيل: إن المقتول في هذه الآية كافر" يعني من أهل الذمة، وهذا الذي اختاره ابن جرير -رحمه الله-، وعليه فالكفارة تكون في قتل الذمي، "وقيل: هي عامةٌ في المؤمن والكافر، ولفظ الآية مطلق إلا إن قيده قوله: وَهُوَ مُؤْمِنٌ [النساء:92] في الآية التي قبلها، وَإِنْ كَانَ [النساء:92]" يعني المقتول مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ [النساء:92] هل هو كالأول وَهُوَ مُؤْمِنٌ [النساء:92]؟ مع هذه القراءة أيضًا قراءة الحسن، وهذا كأنه الأقرب -والله أعلم- أنه مؤمن من قوم بينهم، يعني يكون الفرق في القوم في أهله، هل هم من المُعاهدين أو من المحاربين؟ أهله من غير المسلمين، فصار ذلك على ثلاثة أحوال: أن يكون قومه من المؤمنين فيُعطون الدية وفيه الكفارة وَهُوَ مُؤْمِنٌ [النساء:92]، وأن يكونوا من المعاهدين وَهُوَ مُؤْمِنٌ [النساء:92] ففيه الدية والكفارة، أو يكون من المؤمنين ويكون قومه من المحاربين ففيه الكفارة دون الدية، والله أعلم.

قوله -تعالى-: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ [النساء:92] أي: من لم يجد العتق ولم يقدر عليه فصيام الشهرين المتتابعين عوضٌ منه.

تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ [النساء:92] منصوبٌ على المصدرية، ومعناه رحمةً منه وتخفيفا.

يعني الكفارة لحق الله، والدية لحق المخلوق، وكما سبق بأن القتل الخطأ تكون على العاقلة، ولذلك هؤلاء الذين يقفون في المساجد ويطلبون الصدقات ونحو ذلك بسبب ديات يزعمون أنهم تحملوها ونحو هذا، يُقال لهم: الأصل أن الدية ليست عليكم، وإنما هي على العاقلة، تُفرض عليهم، يُلزمون بها، وتُجزَّأ عليهم بثلاث سنين، فلا معنى لوقوفه أمام الناس، أما المبالغات في الديات بحيث تصل إلى عشرات الملايين ونحو ذلك ويزاودون فيها أو نحو هذا ثم يطلب من الناس، أن يبذلها من ماله، العاقلة يبذلونها من مالهم أو ولي القاتل أو نحو هذا، هذا إليهم، لكن كونهم يعلنون هذا للناس، ويطلبون منهم، ويُذاع ذلك ويُنشر، ثم بعد ذلك يتهافت الناس في تجميع هذه الأموال، فهذا لا أرى له وجهًا لهذه المبالغات في الديات، فهذا جاني وقاتل، ويؤدي هذا الفعل إلى التساهل في الدماء والاجتراء عليها، كما قال أحدهم يهدد آخر بالقتل: ديتك قطيع، يعني هذا يدفع، وهذا يدفع، وهذا يدفع، وهذا يدفع، ترى ديتك قطيع يعني أسهل شيء عندي قتلك، مثل هؤلاء الذين يستهترون في دماء الناس وأرواحهم، ثم بعد ذلك يُجمع لهم هذه الملايين بهذه الطريقة، هذا لا وجه له فيما أظن، ولا أرى الانسياق في مثل هذا، وإنما تُبذل الأموال فيما هو أنفع للأمة وأجدى، لاسيما ونحن نشاهد هذه الأحوال والمسغبة التي تعيشها -للأسف- شعوب كاملة، ثم يُخالف في دية جانٍ لربما يؤدي ذلك إلى جراءته وجراءة غيره، أنه إذا قتل يُبالغ لهم حتى يحصل لهم طمعٌ بالمال، فيبذل إليهم ما طلبوه ولا يُقتل.

المقتول إذا تنازل كأن يقول مثلًا: إن مت فأنا متنازل عن ديتي، واضح؟ إن مت فأنا متنازل عن ديتي، وقد يكون الإصابة التي فيه هي إصابة قاتلة، واضح أن هذا الإنسان لا يعيش، فهو في حكم الميت فيقول بأنه متنازل عن الدية، فهل هي حق للورثة لتسكين نفوسهم أو حق له كعوض؟ واضح؟ العلماء تكلموا على المقتول بكونه قد فاتته نفسه، ويذهب ولم يستوف حقه، وهؤلاء الورثة لهم حق باعتبار أن فيه دية فأخذوه أو تنازلوا عنه، فيبقى حق المقتول في إزهاق نفسه، ولذلك يقولون: بأن من صام مثلًا أو أعتق رقبة ودفع الدية للورثة أو تنازلوا عنها، هل تبرأ ذمته؟

الكفارة بينه وبين الله مع التوبة، لكن حق المقتول أين هو؟ فلو أن المقتول عفا عنه قبل أن يموت وأسقط حقه، فالظاهر أنه يسقط، يبقى حق الله إذا تاب وأخرج الكفارة، بالنسبة للقتل العمد الدية تكون على القاتل نفسه، وهل فيه كفارة صيام شهريين متتابعين؟ بعض العلماء يقول: ليس فيه الكفارة وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا [النساء:93] ما ذكر الكفارة قال: فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ [النساء:93] إلى آخره، الكفارة لا تعمل شيئًا مثل اليمين الغموس، لا كفارة فيها، كفارة اليمين -اليمين الكاذبة- وإنما فيها التوبة العظيمة وكثرة الحسنات، فكذلك القتل العمد.

وبعض أهل العلم يقول: فيه الكفارة أيضًا مع التوبة العظيمة، فهذا يحتمل أن تكون حقًا له إذا أسقطه سقط، من باب أولى أنه أحق بذلك؛ لأنها إنما استُحقت بسببه فهو أحقُ بإسقاطها، ويحتمل أن يكون بناءً على ظاهر الآية كما قال الظاهرية: بأن ذلك أعاده إلى الورثة، إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا [النساء:92] ما قال: إلا أن يتصدق، فيحتمل، والله أعلم.

  1. أخرجه الحافظ ابن جرير الطبري في تفسيره (7/283)، وابن أبي حاتم في تفسيره (3/1023)، برقم (5741).
  2. أخرجه البخاري، كتاب فضائل المدينة، باب المدينة تنفي الخبث، برقم (1884)، وبرقم (4589)، في كتاب تفسير القرآن، باب {فَمَا لَكُمْ فِي المُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا} [النساء: 88]، ومسلم، في أوائل كتاب صفات المنافقين وأحكامهم، برقم (2776).
  3. تفسير الطبري (7/280).
  4. لم أقف عليه مسنداً، وإنما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في مجموع الفتاوى (28/151)، والاستقامة (2/257).
  5. انظر: تفسير ابن كثير (2/372).
  6. تفسير ابن كثير (2/372).
  7. أخرجه البخاري، كتاب الشروط، باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب وكتابة الشروط، برقم (2731).
  8. تفسير ابن كثير (2/372).
  9. انظر: تفسير الطبري (7/302), وتفسير ابن أبي حاتم (3/1029)، برقم (5768).
  10. تفسير ابن كثير (2/373).
  11. تفسير الطبري (7/307).
  12. تفسير ابن أبي حاتم (3/1031).
  13. معاني القرآن وإعرابه للزجاج (2/90).
  14. تفسير الطبري (5/687)، واختاره ابن كثير في تفسيره (2/373).
  15. أخرجه البخاري، كتاب الديات، باب جنين المرأة، وأن العقل على الوالد وعصبة الوالد، لا على الولد، برقم (6910)، ومسلم، كتاب القسامة والمحاربين والقصاص والديات، باب دية الجنين، ووجوب الدية في قتل الخطأ، وشبه العمد على عاقلة الجاني، برقم (1681).
  16. أخرجه أبو داود، كتاب الديات، باب الدية كم هي؟، برقم (4542)، وحسنه الألباني في تحقيق مشكاة المصابيح، برقم (3498)، وفي إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل (7/305)، برقم (2247).
  17. انظر: سنن الترمذي ت شاكر (4/11)، بعد حديث (1386).
  18. تفسير القرطبي (5/320).
  19. المغني لابن قدامة (8/378).
  20. أخرجه الترمذي، أبواب العلم عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء في الأخذ بالسنة واجتناب البدع، برقم (2676)، وابن ماجه، أبواب السنة، باب اتباع سنة الخلفاء الراشدين المهديين، برقم (42 و 43)، وأحمد في المسند، برقم (17142)، وقال محققوه: "حديث صحيح بطرقه وشواهده، وهذا إسناد حسن"، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة، برقم (937).
  21. المغني لابن قدامة (8/378).

مواد ذات صلة