الجمعة 20 / جمادى الأولى / 1446 - 22 / نوفمبر 2024
(012-أ) من قوله تعالى (لا خير في كثير من نجواهم..) الآية 114 – إلى قوله تعالى (ولا يظلمون نقيرا..) الآية 123
تاريخ النشر: ٢٤ / رجب / ١٤٣٨
التحميل: 754
مرات الإستماع: 951

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، وصلّى الله وسلّم وبارك على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وصحابته الطيبين الطاهرين.

اللهم اغفر لنا ولوالدينا وشيخنا والحاضرين، والمستمعين.

أما بعد:

فيقول الإمام ابن جزي عند قوله تعالى:

"لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ [النساء:114]: إن كانت النجوى هنا بمعنى الكلام الخفي، فالاستثناء الذي بعدها منقطع، وقد يكون متصلاً على حذف مضاف، تقديره: إلّا نجوى من أمر، وإن كانت النجوى بمعنى الجماعة، فالاستثناء متصل".

فقوله: لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ [النساء:114] يقول: "إن كانت النجوى هنا بمعنى الكلام" أي: تناجيهم، هو الكلام الخفي "فالاستثناء الذي بعد هذا منقطع" أي قوله: إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ [النساء:114] فيكون المراد بالنجوى هنا المصدر بهذا الاعتبار،  لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ [النساء:114] (من) هذه تكون للأشخاص، وليست من جنس التناجي، فيكون الاستثناء منقطع، يعني مَنْ أَمَرَ هذه للأشخاص، من أمر هؤلاء الأشخاص الذي هذه صفتهم ليسوا من جنس المستثنى منه الذي هو التناجي، فيكون الاستثناء بهذا الاعتبار منقطعًا.

ويقول: "وقد يكون متصلاً على حذف مضاف تقدير: إلا نجوى من أمر" وعرفنا الفرق بين الاستثناء المتصل والمنقطع، وبهذا الاعتبار يمكن أن تكون (من) في موضع جر بدلاً من نجواهم، فنجواهم مجرور بـ(من)، والتقدير: إلا نجوى من أمر، ويمكن أن تكون في موضع نصب على أصل باب الاستثناء، ولا يظهر عليها الإعراب، فهي من الأسماء الموصولة، والأسماء الموصولة مبنية.

يقول: "وإن كانت النجوى بمعنى الجماعة" يعني القوم الذين يتناجون؛ لأن النجوى تكون بين اثنين فأكثر، فهم يقصدون به الانفراد، يقولون: أصلها من النجوة، وهي المكان البائن، وكأن هؤلاء من المتناجين يقصدون موضعًا يبينون فيه عن الناس، يعني ينفصلون وينفردون عن الناس، سواء أن كان ذلك حقيقةً، انفردوا بذواتهم، أو حكمًا يعني هم مع الناس، ولكنهم يتحدثون حديثًا يديرونه بينهم دون غيرهم، يعني ما قُصد به الانفراد فهو نجوى.

فيقول: "إن كانت النجوى بمعنى الجماعة" يعني هؤلاء الجماعة أو القوم الذين يتناجون، كما قال الله : وَإِذْ هُمْ نَجْوَى [الإسراء:47] أي: متناجون، وهو من إطلاق المصدر على الذي صدر منه، وهم الجماعة الذين حصل منهم التناجي، كما تقول: رجلٌ عدل، يعني عادل، فعدل مصدر، وعادل اسم فاعل، فأُطلق المصدر على من صدر عنه ذلك الفعل، أو الوصف.

يقول: "وإن كانت النجوى بمعنى الجماعة، فالاستثناء متصل" يعني المتناجين من الناس، وتكون نجوى بهذا الاعتبار خرجت مخرج كما يقولون: جرحى ومرضى، أي: مجروحون.

فإذا قلنا: بأن الاستثناء من قبيل المنقطع، فيكون النجوى بمعنى الكلام الذي يُتناجى به، ويكون إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ [النساء:114] ليس من جنس النجوى، لكن مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ [النساء:114] فهذا نجواه صالحة أو خيرة، أو نحو ذلك، وهذا ظاهر.

وعلى القول بأن الاستثناء متصل، يكون إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ [النساء:114] نجواه نجوى الجماعة من المتناجين، لكن هذا خلاف المتبادر، كأن الأول أقرب وأوضح؛ ولذلك قد يكون تصور المعنى الأول أسهل من تصور هذا المعنى الثاني، ويحتاج إلى تنبيه، فالأصل أن المعنى المتبادر مقدم على غيره، والله أعلم.

"وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ [النساء:115] أي: يعاديه، والشقاق: هو العداوة".

يعني يعاديه ويخالفه، يقولون: إن أصل ذلك أن يكون المشاق في شق وهذا في شق، كما يُقال في العداوة: أن يكون هذا في عُدوة وهذا في عُدوة، والعدوة التي هي طرف الوادي، أو شاطئ الوادي، أو شفير الوادي، أو ناحية الوادي، فهذا في ناحية، وهذا في ناحية، فهذا المشاق يكون مخالفًا، كأنه في شق والرسول -عليه الصلاة والسلام- في شقٍ آخر، فهذا يدل على المنابذة والمخالفة والعداوة، ونحو ذلك.

"ونزلت الآية بسبب ابن الأبيرق؛ لأنه ارتدّ، وسار إلى المشركين، ومات على الكفر".

مضى الكلام على هذه الرواية، ومن حسنها وضعفها، وهي لا تخلو من ضعف، لكن من أهل العلم من قواها.

يقول: "لأنه ارتد وسار إلى المشركين، ومات على الكفر" وهذا حسنه الشيخ ناصر الدين الألباني -رحمه الله-[1]، وأن بعضهم ضعفه ببعض رواته، وهو عُمر بن قتادة، وأنه مجهول، والقول بـأنها عامة فيه وفي غيره، هذا بناء على الأصل المشهور: إن العبرة بعموم اللفظ والمعنى، لا بخصوص السبب.

"وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ استدل الأصوليون بهذا على صحة إجماع المسلمين، وأنه لا يجوز مخالفته؛ لأن من خالف اتبع غير سبيل المؤمنين، وفي ذلك نظر".

وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ [النساء:115] فذكر سبيل المؤمنين بإطلاق، يعني في عقائدهم، وأعمالهم، بحيث يكون مخالفًا لهم، ومن سلك سبيلاً آخر غير سبيل المؤمنين لا شك أنه ضالٌ منحرف، ويذكر استدلال الأصوليين بهذا على صحة الإجماع، وأنه لا يجوز مخالفته، ومعروف أن الذي استدل بهذا أولاً هو الإمام الشافعي -رحمه الله- حينما سُئل عن دليلٍ يدل على صحة الإجماع، فقرأ القرآن كاملاً قراءةً تدبرية، ثم أعاد قراءته ثانية يطلب دليلاً، فوقف على هذا الدليل في قراءته الأخرى[2]، واهتدى إلى أن هذا يدل على صحة الإجماع، وأنه حُجة.

والحافظ ابن كثير -رحمه الله- يقول في هذه الآية وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ [النساء:115]: "هذا ملازم للصفة الأولى، ولكن قد تكون المخالفة لنص الشارع، وقد تكون لما أجمعت عليه الأمة المحمدية"[3]، ونلحظ إيراده لفظة (المحمدية) وبعض الناس ينكروها، ويقولون: إنها مُحدثة، نعم هي لا تُعرف في العصور الأولى، والقرون المفضلة، لكن قد استعملت قديمًا، مثل كلام الحافظ ابن كثير -رحمه الله- هنا، ولا يحضرني أحد قبل الحافظ ابن كثير أطلق "الأمة المحمدية" لكن يُستعمل هذا عند المعاصرين أكثر، فالشيخ محمد رشيد -رحمه الله- مثلاً له كتاب اسمه: (الوحي المحمدي) وكثيرًا ما يقول المعاصرون: "الأمة المحمدية" لكن هل يصح مثل هذا الإطلاق والتسمية والنسبة أو يقال: الأمة الإسلامية؟ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ [الحج:78].

يقول هنا ابن كثير: "وقد تكون لما أجمعت عليه الأمة المحمدية" يعني تكون مخالفة للإجماع "فيما عُلم اتفاقهم عليه تحقيقًا" يعني ليس الاختلاف الظني "فإنه قد ضُمنت لهم العصمة باجتماعهم من الخطأ، تشريفًا لهم، وتعظيمًا لنبيهم ﷺ، وقد وردت في ذلك أحاديث صحيحة كثيرة"[4]، يعني كقوله ﷺ: إن الله لا يجمع أمتي -أو قال: أمة محمد ﷺ- على ضلالة[5]، إلى أن قال ابن كثير: "ومن العلماء من ادعى تواتر معناها"[6]، أي: معنى هذه الأحاديث "والذي عول عليه الشافعي -رحمه الله- في الاحتجاج على كون الإجماع حُجة تحرم مخالفته هذه الآية الكريمة بعد التروي والفكر الطويل، وهو من أحسن الاستنباطات وأقواها، وإن كان بعضهم قد استشكل ذلك، واستبعد الدلالة منها على ذلك" نعم هي ليست قطعية الدلالة على هذا المعنى، والجانب الأخر هو: أن الإجماع الذي يُنقل هل هو إجماعٌ مُحقق، أو أنه إجماعٌ ظني؟ الإمام أحمد -رحمه الله- قال: من ادعى الإجماع فقد كذب[7]، لكن هذا لا يُقال في كل إجماع، لكن في كثير من الإجماعات التي تُنقل ليست قطعية، فحصل كثيرٌ من التساهل في نقل الإجماع، لكن إذا تحقق الإجماع وثبت، ووجد من خالفه بعد معرفته، فلا شك أن هذا منحرف، وأن فعله منكر، والأمة لا تجتمع على ضلالة.

ولهذا قالوا أيضًا ما هو أبلغ من هذا: إن الأمة إذا اختلفت على قولين مثلاً، لا يجوز لمن بعدهم أن يحدث قولاً ثالثًا يعود على أقوالهم بالإبطال، يعني لا يكون جمعًا بين هذه الأقوال مثلاً، فهذا لا يصح؛ لأنه ينسب الأمة إلى الجهل والغلط، بمعنى أنها لم تعرف ما جاء به الرسول -صلى الله عليه وآله وسلم-، وأطبقت على الخطأ على قوليها، أو على الأقوال التي اختلفوا عليها.

"نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا [النساء:115] أي: نتركه مع اختياره الفاسد".

كأنه يقول: نتخلى عنه، ونوله ما تولى، ونحسن في صدره هذا العمل والحال استدراجًا له فيُخذل، ومن تخلى الله عنه طرفة عين، فلا تسأل عن حاله وضلاله وضياعه، وهذا وعيد لمن شاق الرسول -صلى الله عليه وآله وسلم-، وفي ذلك تحذير من مخالفة هديه وسنته، فيكون ذلك سببًا لخذلان العبد، فيحرم التوفيق، والهداية.

"إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ [النساء:116] قد تقدّم الكلام على نظيرتها".

كما سبق بأن (أن) والفعل بعدها بتأويل مصدر، والتقدير: إن الله لا يغفر إشراكًا، ويكون ذلك نكرة في سياق النفي؛ وذلك للعموم، وأخذ منه بعض أهل العلم أن ذلك يشمل الشرك الأصغر والأكبر، وليس ذلك محل اتفاق في الشرك الأصغر، لكن مثل هذا العموم "لا يغفر إشراكًا به" قالوا: هذا عام، فيدخل فيه الشرك الأصغر والخفي، فالله لا يغفره، وليس معنى ذلك أن صاحبه يخلد في النار، لكن قصدوا أنه يُعاقب، حتى يُطهر من هذا الشرك، لكن ليس بالضرورة أيضًا أن يُعاقب، فإن أهل العلم ذكروا أنه قد يكون له حسنات عظيمة ينغمر فيها هذا الشرك الأصغر، أو الخفي، والوزن عند الله بتثقيل الموازين، فمن ثقلت موازينه ورجحت الحسنات نجا، وإذا رجحت السيئات هلك، والله المستعان، لكن هذا مأخذهم في الاستدلال، وليس محل اتفاق أنه يدخل فيه الشرك الأصغر والخفي؛ ولذلك يقولون: بأن جنس الشرك أعظم من جنس المعاصي والكبائر، مع أنه من جملة المعاصي والكبائر.

"إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا [النساء:117] الضمير في يَدْعُونَ للكفار، ومعنى يدعون: يعبدون".

يدعون بمعنى: يعبدون، كما قال الله : أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ [يس:60]، يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا [مريم:44]، وكما قال الله في سورة الأنعام: وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ [الأنعام:121]، فطاعتهم فيما يدعون إليه، ويأمرون به ذلك من قبيل الإشراك، فالاستجابة لهم في التحليل والتحريم، كتحليل الميتة، حيث يقولون: كل ما ذبحتم بأيديكم تزعمون أنه حلال طيب طاهر، وما ذبحه الله -تبارك وتعالى- بيده الشريفة بسكينٍ من ذهب تقولون: حرام، إذًا أنتم أحسن من الله! هكذا يجادلون، وهذا من وحي الشياطين، فالشياطين قد يلقون على ألسنة أوليائهم مثل هذه الشبهات، فيجادلون فيها، وهذا بنص القرآن وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ [الأنعام:121] فهذه الشبهات التي يُلقيها شياطين الإنس، ربما كان ذلك من وحي شياطين الجن، وقد يوحي بعض شياطين الإنس لبعضهم من أجل توليد الشُبه والاستعانة بها على المجادلة، ورد الحق، وإضلال الناس.

"واختُلف في الإناث هنا، فقيل: هي الأصنام؛ لأن العرب كانت تسمي الأصنام بأسماء مؤنثة: كاللات والعزى".

نعم كما قال الله : أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى ۝ وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى [النجم:19-20] فهذه مؤنثة، أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنثَى ۝ تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى [النجم:21-22] ولكن بعض أهل العلم قال: المراد من إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا [النساء:117] الأصنام، وليس ذلك لأنها أسماء مؤنثة، ولكن لأن مع كل صنم جنية، وهذا ثابت في بعض هذه الأوثان، والنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- حينما بعث خالدًا إلى العُزى، والعُزى يقولون: هي سمرات ثلاث، فقطعها ، ورجع إلى النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- فأخبره، فأخبره النبي ﷺ أنه ما فعل شيئًا، فرجع إليها، فوجد امرأةً سوداء ناشرةً شعرها، فعلاها بالسيف، فقال النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-: تلك العُزى[8] فهذه المرأة الشيطانة تتلبس بهذه الأوثان؛ ولذلك ذكروا في تاريخ العرب أن بعض هذه الأصنام، أو بعض هذه الأوثان يسمعون منهم صوتًا وجوابًا، ونحو ذلك، فيزيدهم ذلك فتنةً وضلالاً.

فالمدعو في الحقيقة هو هذه الجنية الملابسة لهذا الصنم، أو الوثن، وهي التي تجيبهم أحيانًا، يعني يسمعون جوابًا وصوتًا من هذه الأوثان، وبعضهم يقول: المراد بذلك أن لكل قبيلة وحيٍ من أحياء العرب، ونحو ذلك صنم، يسمونها: أنثى بني فلان.

وقال الضحاك: بأن المشركين قالوا: إن الملائكة بنات الله، واتخذوهن أربابًا، وصوروهن جواري، فحلوا وقلدوا -وضعوا القلائد على هذه المصورات-، وقالوا: هؤلاء يشبهون بنات الله الذي نعبده[9]، فيكون: إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا [النساء:117] باعتبار هذه الصور التي صوروها للملائكة مدعين أن الملائكة بنات الله.

فقال: إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا [النساء:117] لكن اختار أبو جعفر بن جرير -رحمه الله-: أن المقصود إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا [النساء:117] يعني أنها سُميت بأسماء الإناث كاللات والعزى ونحو ذلك[10]، ومن أراد الاطلاع على أحوال العرب، وما كانوا عليه في هذا الباب تفصيلاً، وهذه الأصنام، وما كان يحصل عندها، فلينظر في مثل كتاب: المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، فهذا كتابٌ جامع يقع في نحو أحد عشر مجلدًا، مع الفهارس، فيه كل ما يتصل بالعرب، من الكعبات، وأماكن الذبح، والأنصاب، والأزلام، وكل ما يتعلق بها، وتلبية العرب في الجاهلية، وكل قبيلة بماذا كانت تُلبي؟ وكذلك الأصنام التي عندهم، ومواضعها، والأوثان، إلى غير ذلك تجده في هذا الكتاب، وكذلك مثل كتاب: الأصنام لابن الكلبي، وهو كتاب متقدم، وهو حافل أيضًا بهذه الأمور، وإن لم يكن مثل الأول؛ لأنه مجلد واحد، وهناك كتاب آخر معاصر مفيد جدًا في هذا الموضوع اسمه: الشرك الجاهلي ومعبودات العرب قبل الإسلام، فهذا كل ما يتعلق بجاهليتهم، ومعبوداتهم، ومناسكهم، تجد كل ذلك مفصلاً في هذه الكتب.

وقديمًا ذكرتُ أشياء وتفاصيل من هذا في شرح كتاب: التوحيد، وذكرتُ تلبية العرب، وكعباتهم، وما كانت عليه كل قبيلة من المناسك، والشرك قبل الحج، أو بعده، وما إلى ذلك.

وبعض أهل العلم يقولون: بأن المعنى: إن يدعون إلا شيئًا مثل الإناث، باعتبار أنه لا دفعة ولا قوة، فهو لا ينفعهم ولا يدفع عن نفسه، فيكف يدفع عن غيره؟ فكيف يدعونه بهذا الاعتبار؟ يعني عاجز، فلا يدفع عن نفسه، فالأنثى معلومٌ أنها ضعيفة، كما يقول الشاعر لما رأى جاريةً يوجّه إليها الاتهام واللوم، ولا تُجيب عن نفسها، فقال:

بنفسي وأهلي من إذا عرضوا له ببعض الأذى لم يدر كيف يجيب؟
فلم يعتذر عذر البريء ولم يزل به سكتة حتى يُقال: مُريب[11]

فهو يتغزل بها لضعفها، فالضعف في المرأة كمال، وإلا لو كانت قوية مترجلة مثل الرجل في عقلها، وفي جسدها، وفي شخصيتها، ونحو ذلك لما أمكن الاستمتاع بها، والاستلطاف لها، والرجل ينجذب إليها لضعفها، فالله قد جعل لكل شيءٍ ما يصلح له ويناسبه.

لذلك الطفل يُستملح بضعفه، وصغر جسده، وتفكيره، ونحو ذلك، لو كان الطفل هذا يحمل عقل الكبير لاستوحش الكبار منه، وما استطاعوا ملاعبته أليس كذلك؟ فهذا الصغير لائق به أن يكون مثل هذه الحال في عقله، وفي جسده فيُستلطف، والمرأة اللائق بها أن تكون بصفات الإناث من الرقة، واللطف، والضعف الجبلي، فإذا ترجلت فإنها تكون عديمة اللون، والطعم، والرائحة، وهذا واضح.

لكن هذا القول وهو أن معنى: إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا [النساء:117] يعني شيء مثل الإناث لا يدفع عن نفسه، لا يخلو من بُعد، والله أعلم.

فلذلك إما أن يُقال: بأن هذا باعتبار أنها تُسمى بأسماء الإناث، أو باعتبار أن مع كل صنم جنية، فهم في الواقع يدعون هذه الجنية، أو باعتبار أن هؤلاء صوروا صور الملائكة، وقالوا: هي بنات الله، فحلوها، وزينوها، والله أعلم.

"وقيل: المراد الملائكة، لقول الكفار: إنهم إناث، وكانوا يعبدونهم، فذكر ذلك على وجه إقامة الحُجة عليهم بقولهم الفاسد، وقيل: المراد الأصنام؛ لأنها لا تعقل، فيُخبر عنها، كما يُخبر عن المؤنث".

كيف يُخبر عنها كما يُخبر عن المؤنث؟ فصيغ العقلاء يُقال مثلاً: يقولون، يفعلون، يسجدون، يدعون، يأكلون، يشربون، وأما غير العقلاء، فيقال: تشرب، تأكل، تقول، -هي لا تقول لكن لو فُرض- ونحو ذلك؛ لهذا يتحدثون عن مثل قوله: أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا [الأعراف: 195] فلم يقل: تبطش، لكن قال: يبطشون، وهي غير عاقل، فالعلماء أوردوا سؤالاً هنا: لماذا عبّر عنها بصيغة العقلاء (يبطشون)؟ فقالوا: هذا في اعتقادهم، فهم يعتقدون ليس فقط أنها عقلاء، بل أنها آلهة، فجاء الخطاب مُراعًا فيه حال المخاطبين، وفي قوله -تبارك وتعالى- حاكيًا قول يوسف : وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ [يوسف:4] فلم يقل: رأيتها لي ساجدة، وإنما عبّر بالعقلاء، أجابوا عنه: لأنه أضاف إليها فعلاً من أفعال العقلاء وهو السجود، فعاملها معاملة العقلاء بهذا الاعتبار.

وهنا يقول: "لأنها لا تعقل" فيُخبر عنها كما يُخبر عن المؤنث، فيُقال: هذه الأصنام مثلاً قائمة، ودعواها باطلة، وعباداتها باطلة، ونحو ذلك، ولا يُقال: هؤلاء الأصنام المعبودون من دون الله، وإنما يُقال: المعبودة من دون الله، ونحو ذلك من التعبير عنها: معبودة، باطلة، جامدة، هامدة، ساكنة، لكن في العقلاء تقول: ساكنون، صامتون.

"إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا [النساء:117] يعني: إبليس، وإنما قال: إنهم يعبدونه؛ لأنهم يطيعونه في الكفر والضلال، والمريد: هو الشديد العتوّ والإضلال".

يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا [النساء:117] كما قال الله : بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ [سبأ:41] وكما سبق أيضًا هذا يكون باعتبار أن كل صنم من هذه الأصنام معه جنية، ويكون أيضًا بإضلال الشياطين لهم، فهم بهذه الاستجابة بعبادة الأصنام عابدون لمن وراءها، ومن يزينها في نفوسهم، وهو الشيطان؛ لأنهم أطاعوه، فطاعته هذه عبادةٌ لهم.

قال: "إنهم يعبدونه؛ لأنهم يطيعونه في الكفر والضلال" فهو الذي أغواهم وأغراهم بعبادتها، يقول: "المريد هو الشديد العتو والإضلال" يعني هو الذي كان بعيدًا عن الخير، وظهر شره، كما يُقال: شجرةٌ مردى إذا سقط ورقها، فظهرت عيدانها، فالمارد والمريد يقولون: كل عاتٍ من شياطين الجن والإنس، فهو مريد، يعني هي مرتبة عليا من مراتب الشياطين، وفي حديث ليلة القدر في تصفيد الشياطين، جاءت تقيد ذلك بالمردة، صفدت الشياطين، ومردة الجن[12]، وهم العتاة الكبار، فهذا ليست صفة كاشفة، ليس كل شيطان فهو مارد، وإنما المردة أعلى رتبةً فيهم، وأكثر شرًا وإضلالاً وعتوًا من التمرد، فهو مريد ومارد لعتوه على الله -تبارك وتعالى-، والله أعلم.

"لَعَنَهُ اللَّهُ [النساء:118] صفةٌ للشيطان".

إذا قيل: إنه صفة للشيطان، فلا يكون ذلك دعاءً، فيحتمل أن يكون قوله: لَعَنَهُ اللَّهُ [النساء:118] دعاء في الطرد والإبعاد من رحمة الله -تبارك وتعالى-، ويحتمل أنه وصف، فلعنة الله قد تحققت فيه، فيكون بهذا الاعتبار من قبيل الوصف، كما قال الله : وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ [ص:78] فهي لعنةٌ متحققةٌ واقعة، فهنا يُخبر عن ذلك، يقول: لَعَنَهُ اللَّهُ [النساء:118] فيكون من قبيل الخبر وليس من قبيل الإنشاء، الذي هو الدعاء، هذا معنى قوله: بأنه وصف للشيطان.

"وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا [النساء:118] الضمير في قَالَ للشيطان: أي: فرضته لنفسي، من قولك: فُرض للجند وغيرهم، والمراد بهم أهل الضلال".

لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا [النساء:118] يعني معلومًا مقدرًا، وهم أهل الكفر، أجعلهم أولياء لي، فيكونون من حزبي، ومن أصحاب السعير.

"وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ [النساء:119] أي: أعدهم الأماني الكاذبة".

يعدهم الأماني الكاذبة، فيمنيهم بالتوبة، حتى يوافون من غير توبة، ويمنيهم بمغفرة الله ، فإذا قدموا القيامة بدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون، ويمنيهم بالجنة، وأن لهم عند الله الحسنى، فهذا كله من تمنياته الأماني الكاذبة، كقول اليهود: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً [البقرة:80] يعني بقدر الأيام التي عبدوا بها العجل، وهكذا في دعواهم أنهم أبناء الله وأحباؤه وأولياؤه وأصفياؤه من خلقه، فهذا كله من الأماني الكاذبة، ومن ذلك: وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى [البقرة:111].

"فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ [النساء:119] أي: يقطعونها، والإشارة بذلك إلى البحيرة، وشبهها".

هذا المعنى عزاه الواحدي إلى جميع المفسرين[13]، وكذلك الحافظ ابن القيم -رحمه الله- وهو أن قوله: فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ [النساء:119] المراد: البحيرة وشبهها[14]، ففي هذه البهائم كان للعرب فيها دعاوى ومعتقدات، ومن ذلك أنهم كانوا يشقون أو يقطعون أذانها إعلامًا وإيذانًا بحالٍ ووصفٍ لها، كل ذلك من عمل الشيطان، فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ [النساء:119] أي: يشقونها، فالبتك: القطع، ويُستعمل هذا البتك في قطع الأعضاء والشعر، وهنا قيده بآذان الأنعام، يقول: "أي: يقطعونها" يقطعون آذان الأنعام، فكانت لهم معتقدات في هذه البهائم والحيوانات باعتبارات معينة، فعندهم الحامي، يقولون: حمى ظهره، وهو الفحل إذا ضرب الضراب المعدود عندهم بقدرٍ معين، تركوه، ولا يتعرض له أحد، ولا يُنحر، وهكذا السائبة تسيب لأصنامهم وأوثانهم، ولا يتعرض لها أحد، ولا تُحلب، ولا تُنحر، ولا تُركب، وهكذا الوصيلة على اختلافٍ في وصف ذلك وتحديده في كلام أهل العلم، وكل ذلك من عمل الشيطان، ومما زينه لهم، فيكون قوله هنا: فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ [النساء:119] على هذا التفسير، المقصود به تبتيك وتقطيع خاص، فمن قطع في أذن البهيمة من باب التمييز لها عن غيرها لئلا تضيع لا يدخل في هذا، وإنما يكون ذلك منهيًا عنه إذا قصد به: البحيرة، لكن إن قصد به العلامة فقط لدوابهم لئلا تختلط بغيرها أو تضيع فلا يدخل فيه قوله: فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ [النساء:119].

لكن قوله -تبارك وتعالى-: وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ [النساء:119] أعم؛ لذلك ذكروا في الثاني قطع الآذان، وذكروا فيه أشياء من تغيير خلق الله، كالخصاء، ونتف اللحية، وحلقها كذلك، وهكذا في ألوان التغيير، كعمليات التجميل التي لا تكون لغرض طبي وسبب شرعي معتبر، فهذه لا تجوز، وهي من تغيير خلق الله .

"فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ [النساء:119] التغيير هو الخصاء، وشبهه، وقد رخص جماعةٌ من العلماء في خصاء البهائم، إذا كان فيه منفعة، ومنعه بعضهم لظاهر الآية".

يقولون: بأن الخصاء أوفر للحم، وسبب للسمن، وأطيب للحم، فرخصوا فيه بهذا الاعتبار، وبعضهم يقول: بأن المقصود هنا بتغيير خلق الله، أي: يبدلون حكمه ودينه، لكن هذا خلاف الظاهر المتبادر، تغيير خلق الله -تبارك وتعالى- بتغيير الهيئة والصورة التي خلق الله خلقه عليها.

"وقيل: التغيير هو الوشم، وشبهه، ويدل على هذا الحديث الذي لُعن فيه الواشمات، والمستوشمات، والمتنمصات، والمتفلجات للحُسن، المغيرات خلق الله[15]".

وهذا داخلٌ فيه الوشم، الفلج، والنمص، مع تغيير خلق الله، كالشفاه والآناف، وما يسمى بشد الوجه أو الصدر، أو نحو هذا مما يقصد به مجرد التجميل، كتصغير الصدر، أو تكبيره، وهكذا سائر مواضع الجسد، فهذا كله داخلٌ فيه، وهو من تغيير خلق الله، وبعض أهل العلم أدخل فيه أيضًا تغيير الخلقة الباطنة، بمعنى تغيير الفطرة من التوحيد إلى  الشرك، ونحو ذلك.

وأبو جعفر بن جرير -رحمه الله- فسر ذلك بتغيير دين الله[16]، فيكون فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ [النساء:119] أي دينه، وأدخل في معناه كل ما نهى الله عنه من الوشم وغيره؛ لأنه تغييرٌ لحكم الله ، فهو شيءٌ محرم.

ومما فسره بأن المراد به: دين الله جمع من السلف: كابن عباس، وإبراهيم النخعي، ومجاهد، والحسن، والضحاك، وقتادة، وسعيد بن المسيب، وسعيد بن جبير[17].

ويمكن أن يحتج لهذا بحديث: ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه[18]، وهذا تغيير لفطرته، والله -تبارك وتعالى- يقول: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ [الروم:30] ولهذا فسره بعض أهل العلم بهذا وهذا، يعني بتغيير الخلقة الباطنة، وهي الفطرة بالشرك، ونحوه، وكذلك أيضًا تغيير الظاهر بهذه المزاولات والأعمال من وشمٍ، ونمصٍ، وقطعٍ للآناف، ونحو ذلك، فيشمل هذا وهذا، فكل ذلك من التغيير.

وحمله ابن جرير -رحمه الله- على هذا حيث قال: هو تغيير دين الله[19]، فهذه التي تكون نامصة، أو واشمة، أو نحو ذلك، هي غيرت وانتهكت حدوده، وفعلت ما يحرُم عليها.

"مَحِيصًا [النساء:121] أي: معدلاً ومهربًا".

مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا [النساء:121] أي: لا يجدون عنها معدلاً ومهربًا، فهم واقعون فيها لا محالة.

"وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا [النساء:122] مصدران: الأوّل: مؤكدٌ للوعد الذي يقتضيه قوله: سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ [النساء:122] والثاني: مؤكدٌ لوعد الله".

يقول: وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا [النساء:122] مصدران: الأوّل: مؤكدٌ للوعد الذي يقتضيه قوله: سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ [النساء:122] يعني المصدر الأول هو: وعد وعدًا، فوعد مصدر، سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا [النساء:122] فالوعد هو وعده بإدخالهم الجنة، فيقول: "الأول مصدر مؤكد للوعد قبله" (وعْد) هذا المصدر الأول، وحقًا هذا هو المصدر الثاني، مؤكد لقوله: وَعْدَ اللَّهِ.

"لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ [النساء:123] الآية، اسم (ليس) مُضمر، تقديره: الأمر وشبهه، والخطاب للمسلمين، وقيل: للمشركين، أي لا يكون ما تتمنون، ولا ما يتمنى أهل الكتاب، بل يحكم الله بين عباده، ويجازيهم بأعمالهم".

يقول: "لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ [النساء:123] اسم (ليس) مُضمر تقديره: الأمر وشبهه" يعني ليس الأمر بأمانيكم، والجار والمجرور (بأمانيكم) في محل نصب خبر (ليس)، واسم (ليس) مقدر، ليس الأمر بأمانيكم، أو ليس ذلك بأمانيكم، يعود على الجزاء المفهوم من قوله: مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ [النساء:123] يعني ليس الجزاء تابعًا لأماني الناس ومشتهاهم، بل هو أمرٌ مقدر من الله -تبارك وتعالى- تقديرًا بحسب الأعمال، لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ [النساء:123].

وذكر الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله- من أماني العرب، قولهم: وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ [سبأ:35]، وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ [الأنعام:29] هذا من أمانيهم[20].

وكذلك تمنى بأنه إذا سار إلا الله على فرض البعث لَأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَدًا [مريم:77]، وقول من قال قبلهم كصاحب الجنة وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنقَلَبًا [الكهف:36] ومن أماني أهل الكتاب ما سبق من قولهم: نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [المائدة:18] لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى [البقرة:111] لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً [البقرة:80] كل هذه أماني باطلة.

يقول: "والخطاب للمسلمين، وقيل: للمشركين" والقول: بأنه للمشركين هذا اختيار ابن جرير -رحمه الله-[21]، باعتبار أنه لم يجر قبله ذكر أماني للمسلمين، فالسورة مدنية كما هو معلوم، ولكن بهذا السياق لم يجر ذكر أماني المسلمين، وإنما أماني الشيطان، قال: لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا ۝ وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ  [النساء:118-119] فهنا يتمنون أماني على الله ، فرد عليهم بقوله: لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ [النساء:123]، مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ [النساء:123] أي: لا يكون ما تتمنون، ولا ما يتمنى أهل الكتاب.

"مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ [النساء:123] وعيدٌ حتمٌ في الكفار، ومقيدٌ بمشيئة الله في المسلمين".

على قول ابن جرير -رحمه الله-: مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ [النساء:123] هذا في الرد على المشركين[22]، لكن اللفظ لا شك أنه عام، يقول: "وعيدٌ حتمٌ في الكفار" يعني يجازون على شركهم في النار "ومقيدٌ بمشيئة الله في المسلمين" فهذا مقيد بالمشيئة لأن الله قال بحق المسلمين: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:116].

وجاء في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة أنه لما نزلت: مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ [النساء:123] بلغت من المسلمين مبلغًا شديدًا، فقال النبي ﷺ: قاربوا وسددوا، ففي كل ما يُصاب به المسلم كفارة، حتى النكبة يُنكبها، أو الشوكة يُشاكها[23] وهذا يدل على أنهم فهموا العموم من ذلك، كما هو ظاهر الآية، لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ [النساء:123] وهذا مُشعر بأن قوله: لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ [النساء:123] أنها أماني المسلمين، بأن ما عند الله لا ينال بالأماني، ثم ذكر الميزان العدل، والحكم الفصل مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ [النساء:123] فكأنهم فهموا من هذا أن ذلك متوجه إليهم؛ ولذلك بلغت منهم مبلغًا شديدًا، لكنه ليس بقطعي؛ لأنه قد يكون قوله: لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ [النساء:123] لأهل الكتاب وقوله: مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ [النساء:123] خطاب جاء بالعموم بعد ذلك، والله أعلم.

"وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ [النساء:124] دخلت (من) للتبعيض رفقًا بالعباد؛ لأن الصالحات على الكمال لا يطيقها البشر".

باعتبار أن (من) تبعيضية، وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ [النساء:124] أي: من الأعمال الصالحات، فلا يُقال: بأن (من) هنا للجنس.

"وَهُوَ مُؤْمِنٌ [النساء:124] تقييدٌ باشتراط الإيمان، فإنه لا يُقبل عملٌ إلّا به".

ولذلك يُقال: بأن شروط قبول العمل ثلاثة، وهي المذكورة في هذه الآية، وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ [النساء:124] فالعمل لا يكون صالحًا إلا إذا كان خالصًا صوابًا، إخلاص واتباع للشرع، الشرط الثالث: الإيمان، وَهُوَ مُؤْمِنٌ [النساء:124] فلو جاء بعملٍ يريد به وجه الله، وقد تابع فيه النبي ﷺ أو الوجه المشروع، ولكنه مشرك شركًا أكبر، فإن عمله لا يُقبل، فلا بد من شرط الإيمان الصحيح لقبول الأعمال، كما قال في أول سورة الكهف: وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ [الكهف:2] وفي آخرها: فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا [الكهف:110] فذكر الإيمان في أولها، وهنا قال: وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [الكهف:110] فهذه الشروط الثلاثة مذكورة في هذه المواضع.

"نَقِيرًا [النساء:124] هو النقرة التي في ظهر نواة التمرة، والمعنى: تمثيل بأقل الأشياء".

الله -تبارك وتعالى- يقول: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه ۝ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزلزلة:7-8] فهذا تمثيل بأصغر الأشياء، وهنا قال: وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا[النساء:124] فالنقرة هي ثقب في ظهر النواة صغير كأنه ثقب إبرة، وهذا شيءٌ يسير، فهم لا يظلمون مثل هذا، وكذلك أيضًا لا يظلمون فتيلاً، والفتيل هو مثل الخيط في شق النواة، وهناك شيء ثالث وهو: القطمير، وهو غشاء خفيف يكون على النواة.

  1. صحيح سنن الترمذي (7/36-3036).
  2. أحكام القرآن للشافعي - جمع البيهقي (1/40).
  3. تفسير ابن كثير ت سلامة (2/412).
  4. تفسير ابن كثير ت سلامة (2/412).
  5. أخرجه الترمذي ت شاكر في أبواب الفتن، باب ما جاء في لزوم الجماعة (4/466-2167) الألباني: "صحيح دون ومن شذ".
  6. تفسير ابن كثير ت سلامة (2/412).
  7. المحلى (10/422).
  8. مسند أبي يعلى الموصلي (2/196-902) وقال حسين سليم أسد: "إسناده صحيح".
  9. تفسير ابن أبي حاتم، الأصيل - مخرجا (4/1067-5974).
  10. تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (9/211).
  11. البيتان لابن الدمينة في غريب الحديث لابن قتيبة (1/332) والرواية فيه: (صعقة) بدل (سكتة). وهما له في عيون الأخبار (3/118) والرواية فيه: (ضعفة) بدل (سكتة). وهما له في العقد الفريد (7/86) والرواية فيه: (بهتة) بدل (سكتة).
  12. أخرجه الترمذي ت شاكر في أبواب الصوم، باب ما جاء في فضل شهر رمضان (3/57-682) وابن ماجه في كتاب الصيام باب ما جاء في فضل شهر رمضان (1/526-1642) وصححه الألباني. 
  13. التفسير الوسيط للواحدي (2/118).
  14. تحفة المودود (ص:126).
  15. أخرجه البخاري في كتاب اللباس، باب المتفلجات للحسن (7/164-5931) ومسلم في كتاب اللباس والزينة، باب تحريم فعل الواصلة والمستوصلة والواشمة والمستوشمة والنامصة والمتنمصة والمتفلجات والمغيرات خلق الله (3/1678-2125).
  16. تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (9/222).
  17. تفسير ابن كثير ت سلامة (2/415) وزاد المسير في علم التفسير (1/474).
  18. أخرجه البخاري في كتاب الجنائز، باب إذا أسلم الصبي فمات، هل يصلى عليه، وهل يعرض على الصبي الإسلام (2/94-1358) ومسلم في القدر، باب معنى كل مولود يولد على الفطرة برقم: (2658).
  19. تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (9/222).
  20. أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (1/312).
  21. تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (9/235).
  22. تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (9/235).
  23. أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب، باب ثواب المؤمن فيما يصيبه من مرض، أو حزن، أو نحو ذلك حتى الشوكة يشاكها (4/1993-2574).

مواد ذات صلة