الجمعة 20 / جمادى الأولى / 1446 - 22 / نوفمبر 2024
(013-أ) من قوله تعالى (ولله ما في السموات وما في الأرض..) الآية 130 – إلى قوله تعالى (ما يفعل الله بعذابكم..) الآية 146
تاريخ النشر: ٠١ / شعبان / ١٤٣٨
التحميل: 672
مرات الإستماع: 926

الحمد لله الذي هدانا للإسلام، وعلمنا الحكمة والقرآن، وصلى الله وسلم وبارك على عبده محمد وعلى آله وصحابته الطيبين الطاهرين، اللهم اغفر لنا ولوالدينا ولشيخنا والحاضرين والمستمعين، أما بعد:

فيقول الإمام ابن جُزي -رحمه الله- عند قوله -تعالى-: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا [النساء:131] الآية: إخبارٌ أنّ الله وصَّى الأوّلين والآخرين بأن يتقوه.

وَيَأْتِ بِآخَرِينَ [النساء:133]: أي بقومٍ غيركم، ورُوي أنّ النبي ﷺ لما نزلت ضرب بيده على كتف سلمان الفارسي، وقال: هم قوم هذا.

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله -تبارك وتعالى-: "وَيَأْتِ بِآخَرِينَ [النساء:133] إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ [النساء:133] أي: بقوم غيركم، ورُوي أنّ النبي ﷺ لما نزلت ضرب بيده على كتف سلمان وقال: هم قوم هذا"[1].

هذا أخرجه ابن جرير -رحمه الله-، لكنّه لا يصح، ابن جرير -رحمه الله- يقول في إسناده: "حُدِّثت عن عبد العزيز بن محمد"[2]، هكذا ولم يذكر من حدَّثه.

وكذلك أيضًا في إسناده راوٍ رُمي بالاختلاط، وقد ذهب ابن جرير -رحمه الله- إلى أن هذه الآية ردعٌ وزجر لبني أُبيرق ومن شاكلهم من المنافقين[3]، وقد مضى خبر بني أُبيرق و يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا [النساء:112] هناك، فابن جرير يرى أن هذا يتصل بذاك ولمن شاكلهم، إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ [النساء:133]، كما قال الله : وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ [محمد:38]، ولو حُملت الآية على العموم فهو خطابٌ عام لبيان كمال غنى الله -تبارك وتعالى- عن خلقه وكمال قدرته لكان ذلك أحسن، -والله أعلم-.

مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا [النساء:134] الآية: تقتضي الترغيب في طلب ثواب الآخرة؛ لأنه خير من ثواب الدنيا، وتقتضي أيضا أن يُطلب ثواب الدنيا والآخرة من الله وحده، فإنّ ذلك بيده لا بيد غيره، وعلى أحد هذين الوجهين، يرتبط الشرط بجوابه، فالتقدير على الأول، مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا [النساء:134] فلا يقتصر عليه خاصة، فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ [النساء:134]، وعلى الثاني مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا [النساء:134] فليطلبه من الله  فعنده ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ [النساء:134].

قوله: مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا [النساء:134] يقول: "تقتضي الترغيب في طلب ثواب الآخرة؛ لأنه خيرٌ من ثواب الدنيا، وتقتضي أيضا أن يطلب ثواب الدنيا والآخرة من الله وحده" هذه كما قال الله : مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا [الشورى:20]، وهكذا في قوله -تبارك وتعالى-: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ [الإسراء:18]، والمطلق من هذه الآيات محمولٌ على المقيد، وأعني بالمقيد ما جاء في آية الإسراء: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ [الإسراء:18]، فهذان قيدان:

القيد الأول: في العطاء مَا نَشَاءُ [الإسراء:18].

والقيد الثاني: في المُعطَين لِمَنْ نُرِيدُ [الإسراء:18]، فما كل من أراد الدنيا يُعطى، بينما في قوله -تبارك وتعالى-: مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا [الشورى:20] هذا مطلق ومحمولٌ على المقيد، مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ [النساء:134] جاء به على طريقة الإخبار، يعني فليكن طلب ذلك من الله -تبارك وتعالى-، وليكن التوجه إليه وحده دون من سواه؛ لأنه هو الذي يملك الدنيا والآخرة، وقد قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله- في بيان محمله ومعناه يعني مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا [النساء:134] يعني ليس له هم إلا الدنيا -نسأل الله العافية-، يعني ليس له طلب سوى هذه العاجلة، ويكون المعنى عند ابن كثير -رحمه الله-: "يا من ليس همه إلا الدنيا اعلم أن عِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ [النساء:134]، وإذا سألته من هذه وهذه أغناك وأعطاك وأقناك"[4]، أقناك يعني أقنعك بما أعطاك، أَغْنَى وَأَقْنَى [النجم:48] كما جاء عن ابن عباس -ا-[5].

وفسَّره ابن جرير -رحمه الله-: بأن المنافق يُثاب في الدنيا بالمغنم، ويأمن على نفسه، وثوابه في الآخرة بالنار، وحمله على من دخل في أمر بني أُبيرق ومن شابههم[6]، يرى أن هذه الآيات لازالت متصلة بهذا المعنى مع أن ظاهرها عام، ظاهر الآية عام.

يقول: "وعلى أحد هذين الوجهين، يرتبط الشرط بجوابه، فالتقدير على الأول" ما هو الأول؟ أنها "ترغيب في طلب ثواب الآخرة لأنه خيرٌ من ثواب الدنيا على الأول، مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا [النساء:134] فلا يقتصر عليه خاصة، فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ [النساء:134]" وعلى الثاني: يعني أن يطلب ثواب الدنيا والآخرة من الله وحده، مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا [النساء:134] "فليطلبه من الله فعنده ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ [النساء:134]".

كل هذا لا إشكال فيه، وعليه أن يتوجه إلى الله، وأن يطلب ذلك من الله وحده، وألا يقتصر على طلب الدنيا.

كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ [النساء:135] أي مجتهدين في إقامة العدل.

القوامون جمع قوَّام وهي صيغة مبالغة من قائم، وأصل هذه المادة كما مضى في الغريب تدل على مراعاة الشيء وحفظه، القيام على الشيء يدل على مراعاته وحفظه، وابن جرير -رحمه الله- يرى أيضًا أن هذه الآية تتصل بأولئك الذين سعوا في أمر بني أُبيرق، يرى أنها تتصل بهذا، والآية خطاب لأهل الإيمان عمومًا.

شُهَدَاءَ لِلَّهِ [النساء:135] معناه لوجه الله ولمرضاته.

يعني ليس رياءً ولا سمعةً ولا لطلب دنيا، فتكون الشهادة من أجل عرضٍ زائل، أو قصدٍ فاسد، أو محاباةٍ لأحد.

وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ [النساء:135] يتعلق بشهداء، وشهادة الإنسان على نفسه هي إقراره بالحق.

إقراره بالحق يعني ولو عاد ضررها عليكم، يكون أمر الإنسان لله لا يبالي، إذا كان أداء ذلك يعود عليه بالضرر فالحق حاكمٌ عليه وعلى غيره، فهو يدور مع الحق، وتكون شهادته على نفسه بمعنى الإقرار على النفس؛ لأنها كالشهادة في كونه موجبًا إلزام الحق، يُلزم بما أقر به، كما يُلزم بمقتضى الشهادة لو شُهد عليه.

وبعضهم يقول: ولو كانت الشهادة وبالاً على أنفسكم وأقاربكم، فلا مجال لمحاباة القرابات ومراعاة النفس، فيميل بشهادته بحسب ما يترتب عليها، هذا غير صحيح، وهذا يدل على كمال التجرد في طلب الحق والقيام به في كل الأحوال سواء كان ذلك له أو عليه، ولا يخفى وجه ارتباط هذا مع قوله في أولها: شُهَدَاءَ لِلَّهِ [النساء:135]، فهذه الشهادة حينما تكون لله فمعنى ذلك أن صاحبها لا يبالي لو عاد ضرر هذه الشهادة عليه، هذه مراتب عالية يربي القرآن أهل الإيمان عليها، الإقرار اُعتُبر شهادة لقوله -تبارك وتعالى-: سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ [الزخرف:19]، سمَّاها شهادة، لمّا قالوا: بأن الملائكة بنات الله، قال: أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ [الزخرف:19]، وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ [الزخرف:19]، مع أنهم ما تفوهوا بلفظ أشهد ونحو ذلك، وليس هذا بالضرورة.

وشهادة الإنسان على نفسه هي إقراره بالحق، ثم ذكر الوالدين والأقربين، إذ هم مظنةٌ للتعصب والميل: فإقامة الشهادة على الأجنبيين من باب أولى وأحرى.

فلا حاجة لذكرهم غير الوالدين والأقربين؛ لأن ذلك متحقق إذا كان الإنسان يشهد على نفسه وعلى قرابته ولا يبالي، فغير هؤلاء معلوم أنه سيشهد بالحق ويقوم بالحق.

إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا [النساء:135] جواب إِنْ محذوفٌ على الأظهر، أي إن يكن المشهود عليه غنيًا، فلا تمتنع من الشهادة تعظيما [وفي النسخة الخطية: فلا يمتنع من الشهادة تعظيمًا له]، وإن كان فقيرا فلا تمتنع [وفي النسخة الخطية: فلا يمتنع] من الشهادة عليه إشفاقًا عليه، فإنّ الله أولى بالغني والفقير، أي بالنظر إليهما [وفي النسخة الخطية: أي بالنظر لهما].

إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا [النساء:135]، كما ذكر المؤلف -رحمه الله-: بأنه قد يحابي الغني فيشهد له، وقد يكون العكس، قد يقول: إن هذا الغني يتحمل ليس كالضعيف والفقير، فيميل بالشهادة، فيُظلم محاباةً للفقير، وقد يكون ميله إلى الغني على حساب الفقير، فيظلم الفقير ولا يؤدي هذه الشهادة؛ لأنه لا يبالي به، فسواء كان هذا أو هذا، يعني قد يحابي الفقير على حساب الغني، قد يحابي الغني على حساب الفقير فيُضيِّع حقه، وقد يكون محابيًا لهذا وهذا، المقصود أن يكون دائرًا مع الحق لكل حالاته، لا تقل: هذا ضعيف هذا مسكين، أو هذا إنسان طيب، وهذا من أهل الخير، وهذا من أهل الصلاح، فيميل بالشهادة محاباةً له، فالعدل هو الأساس الذي يجب إقراره، والقيام به، والعمل على كل ما يُوصل إليه سواء كان ذلك من أصحابه، أو من قراباته، أو من عشيرته، أو غير ذلك، أو من أعدائه.

فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا [النساء:135]، أَنْ مفعولٌ من أجله، ويحتمل أن يكون المعنى من العدل، فالتقدير: إرادة أَنْ تَعْدِلُوا [النساء:135] بين الناس، أو من العدل [وفي النسخة الخطية: أو من العدول]، فالتقدير: كراهة أَنْ تَعْدِلُوا [النساء:135] عن الحق.

فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى [النساء:135]، مضى في الغريب: أن الهوى هو ميل النفس إلى مطالبها، ميل النفس إلى رغباتها، إلى شهواتها، ولذلك لا يكاد يُذكر في القرآن إلا مذمومًا، لكن في غير القرآن قد يأتي بمعنًى غير الذم، جاء عن ابن عباس -ا- ما يدل على أنه لا يُذكر إلا مذمومًا، لكن في غير القرآن على كل حال كما جاء عن عائشة -ا- لمّا قالت: "ما أرى ربك إلا يسارع في هواك"[7]، ليس المقصود هنا الذم وميل النفس إلى شهواتها ورغباتها وما إلى ذلك بإطلاق هكذا، ولو كانت مخالفةً لأمر الله ، وإنما فيما تميل إليه النفس من الحق مما هو حق وليس بباطل في قول عائشة -ا-، على كل حال فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى [النساء:135] تَجاري مع النفس ورغباتها، أَنْ تَعْدِلُوا [النساء:135] يقول: "أَنْ مفعولٌ من أجله، ويحتمل أن يكون المعنى من العدل والقسط، فالتقدير: إرادة أَنْ تَعْدِلُوا [النساء:135] بين الناس".

إذا كان المعنى من العدل الذي هو القسط -كما هو ظاهر- فالتقدير: إرادة أَنْ تَعْدِلُوا [النساء:135] بين الناس، أو فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى [النساء:135] كراهة أَنْ تَعْدِلُوا [النساء:135] بين الناس، وهذا قول البصريين، واختاره الحافظ ابن القيم -رحمه الله-[8].

فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى [النساء:135] كراهة أَنْ تَعْدِلُوا [النساء:135]، وعلى الأول الذي ذكره ابن جُزي: فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى [النساء:135] لأجل أو إرادة أَنْ تَعْدِلُوا [النساء:135]، يكون مفعولاً من أجله، لأجل أَنْ تَعْدِلُوا [النساء:135]، إرادة أَنْ تَعْدِلُوا [النساء:135] بين الناس، لكن ما ذكره البصريون أوضح في المعنى -والله أعلم-، فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا [النساء:135]، كراهة أَنْ تَعْدِلُوا [النساء:135]؛ لأنه حينما يتبع الهوى لا يكون طالبًا للعدل، وإنما يكون راغبًا عنه -والله أعلم-.

يقول: "أو من العدول"، عدِّلوها عندكم مكتوب أو من العدل، هو الأول من العدل، الاحتمال الأول أن يكون المعنى من العدل، فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى [النساء:135] كراهة أَنْ تَعْدِلُوا [النساء:135] أن تقسطوا يعني، أو من العدول، هذا لا بد أن يُصحح، فالتقدير: كراهة أو مخافة أن تعدلوا عن الحق، يعني أن تميلوا عن الحق، يعني فلا يحملنَّكم هوى الأنفس المعارض للحق على ترك الحق، فإنكم إن اتبعتم أهوائكم عدلتم عن الصواب ووقعتم في الظلم، واضح؟ فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا [النساء:135]، كراهة أَنْ تَعْدِلُوا [النساء:135]، لا يحملنكم ذلك على ترك العدل، يعني كراهة أَنْ تَعْدِلُوا [النساء:135]، هذه الكراهة تكون من الله -تبارك وتعالى-.

وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا [النساء:135] قيل: إنّ الخطاب للحكَّام، وقيل للشهود، واللفظ عامٌ في الوجهين، والليّ: هو تحريف الكلام، أي تَلْوُوا [النساء:135] عن الحكَّام بالعدل أو عن الشهادة بالحق، أو تعرضوا عن صاحب الحق، أو عن المشهود له بالحق، فإنّ الله يجازيكم فإنه خبير بما تعملون.

قوله: "وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا [النساء:135] قيل: إنّ الخطاب للحكام، وقيل: للشهود، واللفظ عامٌ في الوجهين، وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا [النساء:135]، يقول: والليّ: هو تحريف الكلام، أي تَلْوُوا [النساء:135] عن الحكم بالعدل".

هذا بالنسبة للحكام يعني القضاة، "أو عن الشهادة بالحق" هذا بالنسبة للشهود، فهو يشمل هذا أو هذا، "وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا [النساء:135] عن صاحب الحق، أو عن المشهود له بالحق، فإنّ الله يجازيكم" كل ذلك تلووا عن الحق، أو عن صاحبه، أو في الشهادة، أو عن الشهادة بالحق تعرضوا عنها، يعني كأن يقلب الشهادة، تَلْوُوا [النساء:135]، الشاهد حينما يلوي لسانه بالشهادة إلى غير الحق بالزيادة أو التحريف، يميل إلى أحد الطرفين، وأصل الليّ: فتل الحبل وإمالة الشيء، يعني من لويت فلانًا حقه ليًّا، يعني بمعنى دافعته وماطلته، والمعنى: وَإِنْ تَلْوُوا [النساء:135] ألسنتكم عن شهادة الحق وحكومة العدل، يعني إن تُحرفوا الشهادة وتغيروها، أَوْ تُعْرِضُوا [النساء:135] عنها بكتمانها وتركها فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا [النساء:135]، يعني ليكن قيامكم لله، ومن أجل إقامة الحق، فإن حصل منكم انحرافٌ عن ذلك في الشهادة أو في الحكم فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا [النساء:135]، وهذا تهديدٌ مُبطن، يعني لا يخفى عليه من ذلك شيء وسيجازيكم عليه، الخبير هو الذي يعلم بواطن وخفايا الأمور.

وقُرئ: (وَإِنْ تَلُوُوا) بضم اللام من الولاية.

هذه قراءة ابن عامر وحمزة، (تَلُوُوا) من الولاية، (تَلُوُوا) يعني تكونوا أصحاب ولاية، وهذا واضح أنه خطاب للحكَّام، ولو حُملت القراءة الأولى وَإِنْ تَلْوُوا [النساء:135] من الميل والليّ أن ذلك أقرب إلى الشهادة، وهذه (تَلُوُوا) ، يكون الأول خطاب للشهود في القراءة الأولى، والثاني خطاب للحكَّام، والقراءتان إذا كان لكل قراءة معنى هما بمنزلة الآيتين، وتكون إحداهما دلَّت على مخاطبة الشهود، وإن كان ذلك ليس بصريح في الاقتصار عليهم، فهي تحتمل الحكَّام أيضًا، لكن القراءة الثانية واضحة في مخاطبة الحكَّام (تَلُوُوا)؛ لأنّ تَلْوُوا [النساء:135] يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ [آل عمران:78] يدل على التحريف، التغيير بطريقةٍ قد لا يشعر بها أحد.

وقُرئ (وَإِنْ تَلُوُوا) بضم اللام من الولاية: أي إن وُلِّيتم إقامة الشهادة، أو أعرضتم عنها.

(وَإِنْ تَلُوُوا أَوْ تُعْرِضُوا) عن إقامة الشهادة، لكن ممكن أن يكون (تَلُوُوا) يعني تكونوا أصحاب ولاية أَوْ تُعْرِضُوا [النساء:135]، يعني وُلِّيتم الأمر، والإعراض عنها هو كتمان الشهادة وتركها، هذا هو الإعراض عنها.

آمِنُوا بِاللَّهِ [النساء:136] الآية خطابٌ للمسلمين: معناه الأمر بأن يكون إيمانهم على الكمال بكل ما ذُكر، أو يكون أمرًا بالدوام على الإيمان، وقيل: خطابٌ لأهل الكتاب الذين آمنوا بالأنبياء المتقدّمين: معناه الأمر بأن يؤمنوا مع ذلك بمحمدٍ ﷺ، وقيل: خطاب للمنافقين: معناه الأمر بأن يؤمنوا بألسنتهم وقلوبهم.

هنا قوله -تبارك وتعالى-: آمِنُوا بِاللَّهِ [النساء:136] الخطاب لأهل الإيمان، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ [النساء:136] فيقول: "خطابٌ للمسلمين"، وهذا هو اختيار الحافظ ابن كثير -رحمه الله-[9]، وهو الأقرب بناءً على ظاهر الآية.

يقول: "معناه الأمر بأن يكون إيمانهم على الكمال بكل ما ذُكر، أو يكون أمرًا بالدوام على الإيمان"، هذه الآية هكذا يقول بعض أهل العلم: المقصود به الدوام باعتبار أنهم آمنوا آمِنُوا [النساء:136]، ويمكن أن يُقال -والله تعالى أعلم-: بأن المعنى لا يقتصر على هذا، وذلك أن الإيمان يجب أن يكون بكل شرائع الإيمان، و الإيمان بضعٌ وسبعون شعبة: أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق[10]، وشرائع الإيمان كانت تنزل على النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، فأهل الإيمان مُطالبون بأن يؤمنوا بكل ما نزل من شرائعه، فحينما يقول لهم: آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ [النساء:136] ونحو ذلك، فيدخل فيه كل شرائع الإيمان، فهو إيمانٌ يتلوه إيمان يتلوه إيمان، كما قال الله عن الصلاة إلى بيت المقدس: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ [البقرة:143]، فسماها إيمانًا، فحينما يُفرض على الناس الصلاة فهذا إيمان، يجب عليهم أن يُقروا بذلك، ويصدقوا به، ويذعنوا له، وأن يمتثلوا، فهو إيمانٌ من جهة الاعتقاد، وإيمان من جهة العمل والامتثال، فإذا فُرضت الزكاة كذلك، فإذا فُرض الصوم كذلك، فإذا فرض الحج كذلك، فُرض الجهاد كذلك، وهكذا، كل آيةٍ تنزل فهم مُطالبون بالإيمان بها، وكل خبرٍ عن الله فهم مُطالبون بالإيمان به وتصديقه، ويدخل في ذلك الثبات والدوام على الإيمان، الذين حملوه على أن ذلك في أهل الكتاب -أن الخطاب لأهل الكتاب- كأنهم نظروا إلى أمرين:

الأمر الأول: أن أهل الإيمان آمنوا، فكيف يُخاطبون بالدخول فيه؟

والأمر الثاني: أن الله -تبارك وتعالى- قال: آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ قَبْلُ [النساء:136] فهذا إيمان، قالوا: كأن ذلك يُشعر بأن المُخاطب بذلك أهل الكتاب وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ قَبْلُ [النساء:136]، وليس بالضرورة، ومن قال: بأنها في المنافقين، كأنه أخذ من ذلك أولاً: من جهة الأمر بالإيمان: فهؤلاء آمنوا ظاهرًا ولم يؤمنوا باطنًا، الأمر الآخر: الآية التي بعدها: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا [النساء:137] مثل هذا لا يكون من أهل الإيمان، وإنما يحصل ذلك من المنافقين سواءً كانوا من منافقي أهل الكتاب أو من غيرهم، لكن لا حاجة لمثل هذا -والله أعلم- بحمل قوله -تعالى-: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [النساء:136] على أنها في أهل الكتاب، فهذا خلاف الظاهر المتبادر.

وكذلك لا حاجة لحملها على المنافقين؛ لأنها في المؤمنين، والمنافقون لا يُخاطبون بمثل هذا، أعني بقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [النساء:136] -والله أعلم-، لكن ابن جرير -رحمه الله- اختار أنها في أهل الكتاب الذين آمنوا بكتابهم[11]، فطالبهم بالإيمان بالكتاب الذي نزَّله على رسوله -صلى الله عليه وآله وسلم-، لكن المعنى الأول أظهر أنها في أهل الإيمان -والله أعلم-، والقاعدة: أن مثل هذا الخطاب حينما يتوجه لمطالبتهم بالإيمان فعندنا قاعدة عامة في مثل هذه الخطابات، بصرف النظر عن المطالبة بالإيمان، لكن هذا مثال من أمثلة القاعدة، خطاب الشارع يتوجه إلى المكلفين بأمرٍ وهم غير داخلين فيه، فهو مطالبةٌ للدخول فيه، مثل خطابات أهل الكتاب، مخاطبة أهل الكتاب بالإيمان بالنبي ﷺ، يا أهل الكتاب، وإن كانوا داخلين فيه فذلك يكون بمعنى تكميله وتتميمه، إذا كان داخلاً فيه فهذا مطالبةٌ له بتكميله وتصحيحه وتتميمه -والله أعلم-، فلا إشكال بهذا الاعتبار.

 إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا [النساء:137] الآية، قيل: هي في المنافقين لتردّدهم بين الإيمان والكفر، وقيل: في اليهود والنصارى؛ لأنهم آمنوا بأنبيائهم وكفروا بمحمد ﷺ، والأوّل أرجح؛ لأنّ الكلام هنا فيهم، والأظهر أنها فيمن آمن بمحمدٍ ﷺ ثم ارتدّ، ثم عاد إلى الإيمان، ثم ارتدّ وازداد كفرا.

يعني حتى مات، فبهذا الاعتبار لا يكون له توبة بعد موته كما قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله-[12]، فهؤلاء تمادوا في الكفر حتى الموت، وإلا فمعلوم أن التوبة بابها مفتوح ما لم تطلع الشمس من مغربها وما لم يغرغر الإنسان، فهؤلاء قال الله فيهم: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً [النساء:137]، معنى ذلك إذا ماتوا، تمادوا حتى الموت، وإلا فمن تاب تاب الله عليه، وما ذُكر من أن الآية في المنافقين يمكن أن يكون القرينة الدالة على ذلك هي قوله بعده: بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا [النساء:138]، فيكون ذلك في الوعيد للمنافقين.

وقد ذهب جماعة من السلف كقتادة، ذهب بعض السلف إلى أنها في اليهود والنصارى كما أشار ابن جُزي -رحمه الله-، فاليهود آمنوا بالتوراة ثم كفروا، ثم ذكر النصارى فهؤلاء ازدادوا كفرًا بمحمدٍ -صلى الله عليه وآله وسلم-، وحملها ابن جرير -رحمه الله- على أهل الكتاب الذين آمنوا بالتوراة ثم كذَّبوا بخلافهم إياها[13]، يعني كفروا، تلكؤ هؤلاء في الاستجابة والقبول والمخالفة والتبديل، فوقع منهم كفرٌ بكتابهم، وكذلك أيضًا وقع منهم كفرٌ آخر بالتكذيب بالإنجيل، ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا [النساء:137] بكفرهم بالنبي ﷺ وبالكتاب الذي أُنزل عليه، وبعضهم يقول: نزلت في اليهود آمنوا بموسى ثم كفروا بعزير، ثم آمنوا به وكفروا بعيسى ، ثم ازدادوا كفرًا بكفرهم بمحمدٍ ﷺ، وبعضهم يقول في وجه ذلك: أنهم آمنوا بموسى ثم كفروا بعبادتهم للعجل، ثم آمنوا بعده ثم كفروا بعيسى، ثم ازدادوا كفرًا بمحمدٍ -صلى الله عليه وآله وسلم-، على كل حال كأن السياق -والله أعلم- في المنافقين إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ [النساء:137]، فمن وقع له شيءٌ من ذلك ممن ينتسب إلى هذه الأمة فهو داخلٌ في ذلك قطعًا، وأهل الكتاب الذين وقع منهم هذه الأنواع من الكفر تشملهم هذه الآية -والله تعالى أعلم-، لكن الأقرب -والله أعلم- فيما يظهر باعتبار ما قبلها يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا [النساء:136]، ثم توعد من آمن ثم كفر ثم آمن ثم كفر، فالآية الأولى -كما ذكرت- بأنها مطالبة لهم بالثبات على الإيمان وتكميل شرائعه، ثم توعَّد من يكون على خلاف هذه الصفة، فكون ذلك فيمن ينتسب إلى هذه الأمة أولى -والله تعالى أعلم-.

والذين يكونون بهذه المثابة لا شك أنهم أهل نفاق، لكن لو وقع ذلك من غيرهم هذا الذي يؤمن ثم يكفر ثم يؤمن ثم يكفر هذا الذي يحصل منه هذا عادةً هو المنافق الذي يتلون، في الضحى على حال، وفي الظهر -نسأل الله العافية- على حال، وفي العصر على حال، وفي المغرب على حال، ويبيت على حالٍ، ويتقلب على أحوال، فهذا هو المنافق، لا مذهب ولا دين ولا مبدأ، والله أعلم.

لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ [النساء:137] ذلك فيمن علم الله أنه يموت على كفره، وقد يكون إضلالهم عقابًا لهم بسوء أفعالهم.

إذا حُملت على ما سبق لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ [النساء:137] أنهم ماتوا على ذلك، تمادوا حتى الموت كما قال ابن كثير[14]، فهذا هو الموافق لما جاء في النصوص من كون الله يقبل التوبة عن عباده.

وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ [النساء:140] الآية: إشارةٌ إلى قوله: وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ [الأنعام:68] وغيرها، وفي الآية دليلٌ على وجوب تجنب أهل المعاصي، والضمير في قوله: مَعَهُمْ [النساء:140] يعود على ما يدل عليه سياق الكلام من الكافرين والمنافقين.

وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ [النساء:140] يقول: وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ [النساء:140] هذا المُنزل ما هو؟ وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ [الأنعام:68] ونحو ذلك.

يقول: "وفي الآية دليلٌ على وجوب تجنب أهل المعاصي" هذا باعتبار أن إنكار المنكر يقتضي مفارقته، فالمراتب الثلاث: الإنكار باليد، هذا تغيير بأجلى صور التغيير وأبلغ ذلك، ثم يكون التغيير باللسان إن لم يستطع بيده، فإن لم يستطع فبقلبه، يعني بكراهة ذلك وإنكاره ورفضه -رفض هذا المنكر-، وهذا الرفض لهذا المنكر يقتضي مفارقته، إنكاره بالقلب يقتضي المفارقة والمباينة، فلا يصح أن يجلس في المكان الذي فيه المنكر والخوض بآيات الله وهو يزعم أنه منكرٌ له، فلا بد من المباعدة والمفارقة إلا إذا عجز عن ذلك حقيقةً أو حكمًا، فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ [النساء:140]، وقال: إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ [النساء:140]، وهذا ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-[15] في قوله -تعالى-: الزَّانِي لا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً [النور:3]، الآية فيها كلام كثير.

وقد ذكرت شيئًا من الخلاف في الكلام على المصباح المنير عند هذه الآية، ومثل قول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-، وقول الحافظ ابن القيم[16] هو من أمثل ما قيل في المعنى، الزَّانِي لا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً [النور:3]، المشرك لا يجوز أن يتزوج المؤمنة ولو كانت زانية، فإن الزنا لا يخرجها عن الملة، على خلافٍ بينهم في معنى النكاح، هل هو العقد أو مجرد الوطء؟ فالذين قالوا: إنه العقد، اختلفوا كثيرًا في بيان محمل ذلك -محمل الآية-، والذين قالوا: بأنه الوطء، قالوا: معنى ذلك أنه لا يوافقه على المواقعة والفاحشة إلا مستحلة للزنا تقول: هو حرية شخصية، فهذه مشركة تنكر الحكم أصلاً، لا تعترف بتحريم الزنا، أو تكون ممن يعتقد حرمة الزنا لكنّها لا تمتثل، يعني من الناحية العملية فهي زانية، فلا يوافقه إلا من كانت مشركة أو زانية.

فعلى هذا القول: أن المقصود بالنكاح الوطء والمواقعة، ابن القيم وابن تيمية -رحمه الله- يرون أن المعنى النكاح والعقد، الشاهد من هذا كلام شيخ الإسلام هو المهم، شيخ الإسلام حاصلُ قوله فيها: بأن الزوج هو العشير، وأن أعظم المعاشرة والعشرة ما يكون بين الزوجين، فإذا كانت تقبل بزوجٍ يواقع الفواحش ولا يتنزه منها فهي مُقرَّةٌ له على ذلك، موافقةٌ باعتبار أنها معاشرةٌ له، والله يقول: فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ [النساء:140]، وهذا أعظم ما يكون من العشرة ما يكون بين الزوجين، فتكون في حكمه بهذا الاعتبار[17]، هذا خلاصة قول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: أنها ليس لها أن تبقى مع من يواقع الفواحش وإلا فهي مثله.

وذكر أشياء أخرى أيضًا لا حاجة إليها هنا لكن هذا الشاهد، المقصود أن إنكار المنكر بالقلب يقتضي المفارقة.

يقول: "والضمير في قوله: مَعَهُمْ [النساء:140] يعود على ما يدل عليه سياق الكلام من الكافرين والمنافقين، وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ [النساء:140]"، الذي يكفر بآيات الله ويستهزأ سوى أهل النفاق وأهل الكفر هم الذين يفعلون ذلك، فلا يجوز للإنسان أن يقعد معهم، والآن عبر هذه الوسائل نقول: ليس للإنسان أن يستمع إلى هذا، ولا أن ينقله ويذيع ذلك في الناس، كثير من المقاطع لربما فيها استهزاء وسخرية من بعض المنافقين أو الكافرين، فيأتي الإنسان ويستمع، كل ما وصل إليه من هذه المقاطع استمع، وينشر ذلك في الناس، يُنشر لماذا؟ لماذا يُذاع عند الناس ويُرسل لكل من عنده في القائمة؟! هذا إشاعة للمنكر، ولو كان ذلك يتعلق بعِرضه لما نشره، ولتمنى أن يُطوى ولا يُروى وأن يُدفن، فلماذا حينما يكون الاستهزاء بآيات الله أو بأهل الإيمان؟!!

ولاحظ يُستهزأ ليس فقط بآيات الله ويُكفر بها، فإن أولئك من المنافقين في غزوة تبوك إنما قالوا: ما رأينا مثل قُرَّائنا هؤلاء، يعني أشد حرصًا على البطون وأجبن عند اللقاء، فماذا نزل؟ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ [التوبة:65]، ما قال: أبالقُرَّاء كنتم تستهزئون، القُرَّاء يعني طلبة العلم، أهل العلم يُقال لهم القُرَّاء، قال: أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ [التوبة:65]، فالاستهزاء بآيات الله ونحو ذلك، كل ما يرتبط بهذا من حملتها حملة الوحي، وكذلك أيضًا الاستهزاء بنفس الآيات، أو العلوم المستنبطة منها، يستهزأ بالأحكام الشرعية والفتاوى -فتاوى أهل العلم-، هذا كله من الاستهزاء بآيات الله، أو يستهزأ بالمظاهر الشرعية كالحجاب، ونحو ذلك من إطلاق اللحى والسمت الحسن، أو يستهزأ بالعفاف، أو الدعوة إليه، أو من العفيفات، أو يستهزأ من الدعاة إلى الله، يستهزأ بهم، فهذا كله داخلٌ فيه، أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا [النساء:140] كل ما يرتبط بهذه الآيات سواء كانت في الآيات نفسها، أو في من يستنبط منها، يحمل ذلك الحملة، أو كان ذلك بالأحكام المتفرعة والمستنبطة منها، كله داخلٌ فيه، والأصل أن كل ما يتعلق بالله وأحكامه وشرعه، وما يجب أن يُعظَّم من أنبيائه وملائكته وكتبه واليوم الآخر ونحو ذلك، أنه لا يجوز بحالٍ من الأحوال أن يُذكر على حالٍ لربما تقتضي الضحك، هذه يجب أن تُعظَّم، ولذلك كل الطرائف المتعلقة بالله ، أو بشرعه، وأنبيائه، ورسله، وكتبه، ونحو ذلك، شعائر الدين، لا يجوز أن تُذكر؛ لأنه يجب أن تُعظَّم، وذلك حينما تُذكر في مقامٍ يضحك الناس منه هذا يقتضي الاستخفاف والاستهانة بها، فيُجنَّب ذلك في الطرائف ونحو ذلك، وهذا للأسف يقع فيه كثيرٌ من الناس.

وتجد في بعض الكتب لبعض أهل العلم مثل أخبار الحمقى والمغفلين ونحو ذلك لابن الجوزي أشياء كثيرة تتعلق بهذا، إمام صلَّى ثم كذا، رجل حضره الموت ثم كذا، فأشياء تقتضي ضحكًا، وقد يذكر الإنسان أشياء واقعية حصلت فعلاً من هذا القبيل، خطيب حصل له كذا، أو رجل سمع الخطبة فقال كذا، أو سمع الإمام يقرأ فقال كذا، وقد تُنشر مقاطع، وقد يكون مسجلاً بالصوت، قد يكون حقيقةً، وقد يكون تمثيلاً، لكنه مضحك، فلا يصح أن يُذكر، بل يجب أن تُعظَّم، أنا سألت الشيخ محمد الصالح العثيمين -رحمه الله- سنة ألف وأربعمائة وستة تقريبًا أو سبعة، طرفة ذكرها ابن الجوزي في كتاب "أخبار الحمقى والمغفلين" ونشرها أحدهم في مجلة -مجلة صغيرة- باعتبار أن هذا عالم وقال مثل هذا، وهو أمر يدل على حماقة ذلك الذي صدر عنه، فقال الشيخ: هذا كفر، يجب عليه أن يتوب، ويجب عليه أن يعلن توبته كما نشر هذا الكلام، أن يعلن توبته كما نشر مثل هذا الكلام، والله المستعان.

الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ [النساء:141] صفةٌ للمنافقين: أي ينتظرون بكم دوائر الزمان.

لأن التربص هو الانتظار والتمكث، هو ينتظر ما الذي سيحصل؟ وما الذي سيقع؟ وما الذي سينزل بأهل الإيمان من الدوائر؟ ما الذي سيقع بهم من المكروه؟ فهو ينتظر استئصالهم ووقوع أنواع المكاره والمصائب بهم؛ لأن إيمانهم هذا يجر عليهم بزعمه الآفات ومعاداة الخلق، فهم منتظرون لكل سوءٍ بأهل الإيمان، يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ [النساء:141] وينتظرون، فإذا كان المكروه فرحوا أنهم نجوا وسلموا، وإن كان وقع المحبوب تمنوا لو أنهم كانوا معكم، فهو يرقب المشهد، وَمِنَ الأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ [التوبة:98].

أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ [النساء:141] أي نغلب على أمركم بالنصرة لكم والحمية.

الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [النساء:141]، فهم مع هؤلاء وهؤلاء، يعني مع من غلب، "أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ [النساء:141] يعني نغلب على أمركم بالنصرة لكم والحمية"، يعني كنا نمالئكم، أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ [النساء:141]، كما قال ابن كثير -رحمه الله-: "يعني ساعدناكم في الباطن، وما ألوناهم خبالاً وتخذيلاً حتى انتصرتم عليهم"[18]، نحن كنا نعمل في الخفاء من أجل التفريق والتخذيل والتثبيط، كما قال الله -تبارك وتعالى-: لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ [التوبة:47]، يقول السُدي: أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ [النساء:141] يعني نغلب عليكم[19]، ويمكن أن يُوجه: أي ألم نتمكن منكم ولكنا أبقينا عليكم، نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ [النساء:141] هذا باعتبار أن الاستحواذ يدل على التمكن من الشيء اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ [المجادلة:19]، وفُسِّر اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ [المجادلة:19] بمعنى غلب عليهم، فاللفظ يدل على الغلبة، غلبة من؟

على الأول: أنهم غلبوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ [النساء:141]، يعني أنهم يُثبِّطون أهل الإيمان ويخذِّلونهم من أجل نصرة هؤلاء.

وعلى الثاني: أنهم حينما يتمكنون من الكفار لا يباشرون هؤلاء بالقتل وإنما يبقون عليهم، يقولون: تمكنا منكم لكن أبقينا عليكم، وبعضهم يقول: أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ [النساء:141] حتى هابكم المسلمون وخذَّلناهم عنكم، يعني يعظمون شأن الكفار ويبرزون قوتهم ونحو ذلك، يخوفونهم من مواجهتهم، أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [النساء:141] يعني كأنهم يقولون: كنا ندفع عنكم، ونفعل كل ما من شأنه الإبقاء عليكم، والتخذيل عن قتالكم ومواجهتكم ونحو ذلك، قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلاً [الأحزاب:18]، يقولون: ما كنا نفعل ما من شأنه الإضرار بكم، بل عكس ذلك، كنا نبقي عليكم بما استطعنا من تخذيلٍ وتثبيطٍ وتعويق وإبطاء وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ [النساء:72].

 

وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً [النساء:141] قال علي بن أبي طالب وغيره: ذلك في الآخرة[20]، وقيل: السبيل هنا الحجة البالغة [وفي النسخة الخطية: الحجة الغالبة].

الحجة الغالبة، وفي النسخة البالغة، فالسبيل هنا الحجة البالغة، أو الحجة الغالبة، الغالبة أوضح، والبالغة تكون غالبة، لكن الغالبة أوضح من البالغة.

هنا ما ذكره عن علي ، ذكر عندكم في الحاشية نقلاً عن ابن كثير: "جاء رجلٌ إلى علي فقال: كيف هذه الآية: وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً [النساء:141]؟ فقال: ادن، ثم قال: فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً [النساء:141]"[21].

 وكذلك روى عن ابن عباس -ا- قال: "ذاك يوم القيامة"[22]، يعني قول علي أنها يوم القيامة، باعتبار أنه قال: فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً [النساء:141] يوم القيامة بماذا؟ بالحجة، وحمله على الحجة أيضًا ابن جرير -رحمه الله-[23]، باعتبار أنه لن يُدخل المنافقين الجنة، فيحتج الكفار على المؤمنين على مفاصلتهم وقتالهم في الدنيا، مع أن المنافقين على دينهم، كفار في الباطن، ومع ذلك دخلوا الجنة، يقولون: اشتركنا معهم في هذا الوصف وافترقنا في العاقبة والمآل، فكيف دخلوا الجنة وهم كفار؟ وهكذا لو دخل المسلمون معهم النار، فيقولون: كيف دخلتم النار وأنتم تدَّعون أنكم على إيمان صحيح وحق ونحو ذلك ويحتجون عليهم؟ وكأن المعنى -والله أعلم- أوسع من هذا، لَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً [النساء:141] لا في الدنيا ولا في الآخرة، لكن هنا ما نقله عن علي ابن عباس -ا- أن ذلك في الآخرة بمعنى الحُجة، هذا عزاه ابن عطية إلى جميع المفسرين[24]، والواقع أنه ليس قولاً لجميعهم؛ ولهذا عارضه ممن عارضه أبو بكر بن العربي -رحمه الله-[25]؛ لأنه يفوت المقصود والفائدة في الخبر، فهؤلاء يتربصون بكم، إن كان لكم فتحٌ من الله يعني يرقبون المشهد، لكن لن يجعل الله لهم سبيلاً على المؤمنين، لن يجعل الله للكافرين سبيلاً على المؤمنين، فيكون ذلك بالحجة الغالبة، هذا بلا شك الحجة الغالبة، ولكن يبقى الكلام في الغلبة في أرض المعركة، وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً [النساء:141]، سَبِيلاً [النساء:141] نكرة في سياق النفي فهي للعموم، وجاء النفي بأقوى صيغ النفي وهي لن، مع أن الكفار قد ينتصرون كما حصل في أحد، ولهذا قالوا: في الآخرة، بالحجة عليهم سواءً بما قاله ابن جرير: بدخول هؤلاء الجنة، أعني المنافقين، فيحتج الكفار، أو بدخول المؤمنين النار يعني عمومًا، ليس العصاة، لكن على القول: بأن ذلك في الدنيا ليس بالحجة فقط، بالانتصار أيضًا وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً [النساء:141]، مع أنهم قد ينتصرون، وانتصروا في بعض الوقائع، والحرب دول.

فبعضهم قال: محمله ما داموا متمسكين وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً [النساء:141]، فهذا حكمٌ معلقٌ على وصف، والحكم المعلق على وصف يزيد بزيادته وينقص بنقصانه، فإذا كان الإيمان تامًا هنا امتنع وجود السبيل لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ [النساء:141]، وإذا كان الإيمان ناقصًا فبحسب ذلك، يقول ابن العربي عن هذا المحمل: "يعني ما داموا متمسكين بالحق فلن يكون للكفار عليهم سبيل، يقول: هذا نفيسٌ جدًا"[26]، يعني هذا التوجيه، وهذا الذي اختاره الحافظ ابن القيم -رحمه الله- وحملها على عمومها[27]، وأن ذلك بحسب إيمانهم، وهذا هو الأقرب -والله أعلم-، إذا كانوا محققين للإيمان فلن يكون للكفار عليهم سبيل، الذي حصل في أحد هو المعصية، حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ [آل عمران:152] ثلاثة أشياء، ثم قال: مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ [آل عمران:152]، فوقع الإخلال وتخلف النصر.

وبعضهم يقول: لا سبيل لهم عليهم شرعًا، لكن قد يحصل الغلبة قدرًا، وذلك إثمٌ وفجور من هؤلاء الكفار، لكن ما ذُكر قبله أحسن، اختيار الحافظ ابن القيم -رحمه الله-.

سؤال:

شيخنا بعضهم يستدل بتوالي النعم مع إقامته على المعصية على صحة الطريقة، وأنه يعني على منهج صحيح وطريقة صحيحة.

توالي النعم على الإنسان وهو على انحراف، هذا معلوم من دلائل الكتاب والسنة أنه من قبيل الاستدراج، أنه يكون استدراجًا، إذا والى النعم عليه وهو على حالٍ غير مرضية فذلك استدراج، وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا [آل عمران:178]، وعلى كل حال هذه الآية وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً [النساء:141] يمكن أن تُحمل على معنى: وهو أنه لن يجعلهم يتمكنون التمكن التام من المؤمنين في الدنيا واستئصالهم بالكلية، كما لن يجعل لهم حجة على المؤمنين في الآخرة، لكن ما ذكرته من أن قول الحافظ ابن القيم -رحمه الله- أحسن هو ما أشرت إليه من أن سَبِيلاً [النساء:141] نكرة في سياق النفي، فينفي أي سبيل قلَّ أو كثر، وليس استئصال بالكامل أن تُحمل عليه، فيكون بحسب الإيمان والحجة أيضًا، لن يجعل اللهم لهم حجة على المؤمنين لا في الدنيا ولا في الآخرة، لن يجعل الله لهم سبيلاً عليهم، ولذلك ما يُثار من الشبهات على أهل الإيمان فإن ذلك باطل، ويُدحض بالحجة الصحيحة، لن يكون لهم حجة صحيحة إطلاقًا أهل الباطل على أهل الإيمان من المنافقين والكافرين.

يُخَادِعُونَ اللَّهَ [النساء:142] ذكر في البقرة.

أهل النفاق يُخَادِعُونَ اللَّهَ [النساء:142] يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر.

وَهُوَ خَادِعُهُمْ [النساء:142] تسميةٌ للعقوبة باسم الذنب، لأنّ وبال خداعهم راجعٌ عليهم.

هذا التأويل لهذه الصفة هذا غير صحيح، قوله: وَهُوَ خَادِعُهُمْ [النساء:142] "تسميةٌ للعقوبة باسم الذنب، يُخَادِعُونَ اللَّهَ [النساء:142] " الذنب هو المخادعة، فيقول: سُميت عقوبتهم مخادعة، يعني كأنه يقول هذا من باب المشاكلة، كأنه من باب المشاكلة، تسميةٌ للعقوبة باسم الذنب، الذنب هو المخادعة، والعقوبة هي: وَهُوَ خَادِعُهُمْ [النساء:142] فسماها باسمه من باب الموافقة في التسمية الذي يُقال له: المشاكلة، وهذا كلام غير صحيح، يعني أن ذلك من قبيل المجاز، على خلاف المشاكلة هل هي مجاز أو لا؟ لكن هذا الكلام غير صحيح وهو تأويل لهذه الصفة، وأهل السنة -كما هو معلوم- يثبتون ذلك على ظاهره، لكنهم لا يصفون الله به وصفًا بإطلاق هكذا، فلا يقولون: الله مُخادع ونحو هذا، وإنما يكون ذلك كمالاً فيمن يستحق، يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ [النساء:142]، هؤلاء من المُخادعين الماكرين المتلونين الذين يظنون أنهم يحسنون صنعًا في ذلك، والله -تبارك وتعالى- خادعهم، فيجعل وبال ذلك عائدًا عليهم، ولا أوضح من هذا ما جاء في قوله -تبارك وتعالى-: فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ ۝ يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ [الحديد:13-14]، فهذا في الآخرة حينما يكونون مع أهل الإيمان، ثم بعد ذلك يصيرون إلى هذه الحال، يُضرب بينهم بسورٍ له باب، ويكونون في ظلمة، فينادون أهل الإيمان انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا [الحديد:13]، فهذا من مخادعة الله لهم.

فهذا الوصف يكون كمالاً إذا كان بمن يستحق، هذا جاء في القرآن في مقابل نظيره من فعل المنافقين، أما الكيد فقد ذكر بعض أهل العلم بأن ذلك يكون أيضًا في مقابلة كيدهم، ولكن هذا ليس بلازم، إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا ۝ وَأَكِيدُ كَيْدًا [الطارق:15-16] فقابله به، لكن قال: وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ [الأعراف:183]، فلم يذكر كيدهم في مقابل كيده، فليس بالضرورة، فالكيد يكون كمالاً إذا كان بمن يستحق ذلك وليس بإطلاق، وكذلك المكر، فقد ذكر بعض أهل العلم أنه يكون بمقابل مكرهم، وهذا ليس بلازم أيضًا، وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ [الأنفال:30] هذا في مقابل مكرهم، وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا [النمل:50]، لكن أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ [الأعراف:99] فهذا لم يذكر مكرهم في مقابله فليس بلازم، لكن في المخادعة ذكره في مقابل نظير ذلك من عملهم.

مُذَبْذَبِينَ [النساء:143] أي مضطربين متردّدين، لا إلى المسلمين ولا إلى الكفار.

المذبذب هو الذي لا يثبت على حال، متردد قلق، مترددين، كما ذكر النبي ﷺ في الحديث الذي أخرجه مسلم من حديث ابن عمر -ا-: مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين الغنمين، تعير إلى هذه مرة وإلى هذه مرة[28]، فهو متردد بين هؤلاء وهؤلاء، لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ [النساء:143].

سُلْطَانًا مُبِينًا [النساء:144] أي: حجةً ظاهرة.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا [النساء:144] يعني حجة ظاهرة، وقد جاء عن جماعة من السلف: كابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، وسعيد بن جُبير، ومحمد بن كعب القُرظي، والضحَّاك، والسُدي، أن كل سبيل في القرآن فهو حجة[29]، لكن قد لا يكون هذا على إطلاقه، كما في قوله في الآية التي سبقت: وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً [النساء:141] إلا عند من حملها على الحجة، لكن إذا قلنا: لا سبيل لهم عليهم أيضًا بقهرهم وغلبتهم بميدان المعركة فلا يكون هنا بمعنى الحجة.

وقوله -تبارك وتعالى- في القتيل: وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ [الإسراء:33]، ما المراد بالسلطان؟ قيل: الحجة، وابن كثير -رحمه الله- فسره بمعنى أدق من هذا: تسلط عليه شرعًا وقدرًا[30]، فشرعًا هذا بتسليط الشرع عليه بأن يُقاد منه، وقدرًا بأن يتمكن، فهذا الحجة بعضه على هذا المعنى، يعني من ذلك الحجة سلطانا.

إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ [النساء:145] أي: في الطبقة السفلى من جهنم، وهي سبع طبقات، وفي ذلك دليل على أنهم شرٌ من الكفار.

هذا صحيح، ولذلك جاء التحذير منهم كثيرًا، والآيات التي في أول سورة البقرة في الكافرين: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ۝ خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ۝ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا [البقرة:6-8]، في الكفار ذكر آيتين، وفي المنافقين نحو سبع آيات، وأنزل فيهم سورة باسمهم هذا فضلاً عما جاء متفرقًا في السور كبراءة فكثيرٌ من آياتها فيهم، القوارع، وكذلك في سورٍ كسورة الأحزاب والبقرة ونحو ذلك: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ [النساء:145] في الطبقة السفلى، قيل: سميت بذلك درك، دركات؛ لأنها متداركة إلى أسفل، كما أن الدرج متراقية إلى أعلى، قال: دركات النار ودرجات الجنة.

إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا [النساء:146] استثناءٌ من المنافقين، والتوبة هنا الإيمان الصادق في الظاهر والباطن.

فمن تاب تاب الله عليه، بعض المنافقين تاب وحسن إسلامه بعد ذلك، كما قال الله : إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً [التوبة:66].

مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ [النساء:147] المعنى: أيُ حاجةٍ ومنفعةٍ لله بعذابكم؟ وهو الغنيّ عنكم، وقدّم الشكر على الإيمان؛ لأن العبد ينظر إلى النعم فيشكر عليها، ثم يؤمن بالمُنعم فكأن الشكر سببٌ للإيمان: متقدّمٌ عليه، ويحتمل أن يكون الشكر يتضمن الإيمان، ثم ذكر الإيمان بعده توكيدًا واهتمامًا به، والشاكر اسم الله ذُكر في اللغات.

"مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ [النساء:147] أيُ: حاجةٍ ومنفعةٍ لله بعذابكم؟ وهو الغنيّ عنكم" إذا حصل منكم الشكر والإيمان، إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ [النساء:147]، يقول:"وقدّم الشكر على الإيمان؛ لأن العبد ينظر إلى النعم فيشكر عليها، ثم يؤمن بالمُنعم فكأن الشكر سببٌ للإيمان: متقدّمٌ عليه"، هذا الواقع أنه كلام الزمخشري[31].

يقول: "لأن العبد ينظر إلى النعم فيشكر عليها، ثم يؤمن بالمُنعم فكأن الشكر سببٌ للإيمان: متقدّمٌ عليه"، هذا الكلام يعني إذا قاله أحد ممن لا يُتهم في الاعتقاد فقد يكون له وجه، لكن حينما يصدر من مثل الزمخشري، أو من أحد من المتكلمين، فهنا يُتوقف فيه ويُرتاب، هل يقصد بقوله: "لأن العبد ينظر إلى النعم فيشكر عليها، ثم يؤمن بالمُنعمط يعني يُخشى أن يكون المراد هو وجوب النظر أولاً قبل الإيمان، تعرفون أن هؤلاء من المتكلمين يقولون: أول واجب على المُكلَّف بعضهم يقول: النظر، وبعضهم يقول: القصد إلى النظر؛ لأن النظر لا يحصل إلا بقصد، وهذا باطل فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ [محمد:19]، أُمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله[32]، فأول واجب على المكلف هو التوحيد، هو قول: لا إله إلا الله، والدخول في الإيمان، وليس النظر، ولا القصد إلى النظر، فهذه العبارة كأنها توهم هذا المعنى، وقد يكون هذا هو مراده -والله أعلم-، وهو نقلها عن الزمخشري، والمؤلف يوافق أهل الكلام في مواضع كما هو معلوم.

يقول: "ويحتمل أن يكون الشكر يتضمن الإيمان، إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ [النساء:147]، ثم ذكر الإيمان بعده توكيدًا واهتمامًا، شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ [النساء:147]" والواو لا تقتضي الترتيب، يقول: "والشاكر اسم الله ذُكر في اللغات" الشاكر عرفنا أن في الأسماء الحسنى أيضًا كلام فيها، الشاكر والشكر أصل هذه المادة الشكر، ظهور أثر النعمة على المُنعم بالقلب واللسان والجوارح.

أفادتكم النعماء مني ثلاثة يدي ولساني والضمير المُحجَّبا

يعني القلب يستحضر النعمة، واللسان يتحدث بها، والجوارح تعمل بمقتضى ذلك، ولذلك يقولون: شكرت الدابة يعني ظهر عليها أثر العلف من السِمن، ويُقال: شكِير وهو العسلوج الذي يخرج، فرع صغير أخضر يخرج من الشجرة إذا قُطعت، إذا قُطع ساقها هذا الفرع الصغير الذي يتفرع عنها يُقال له: عسلوج يُقال له: شكير، لماذا؟ لأنه ظهر ظهور هذا الفرع الجديد بعد أن لم يكن، فيُقال له: شكير، ظهور أثر النعمة على المُنعم عليه.

  1. تفسير الطبري (7/582).
  2. تفسير الطبري (7/582).
  3. انظر: تفسير الطبري (7/578).
  4. تفسير ابن كثير (2/432).
  5. تفسير ابن كثير (7/467).
  6. انظر: تفسير الطبري (7/583).
  7. أخرجه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب قوله: {تُرْجِئُ مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكَ}، برقم (4788)، وبرقم (5113)، في كتاب النكاح، باب هل للمرأة أن تهب نفسها لأحد، ومسلم، كتاب الرضاع، باب جواز هبتها نوبتها لضرتها، برقم (1464).
  8. الرسالة التبوكية (زاد المهاجر إلى ربه) (ص:31).
  9. تفسير ابن كثير (2/434).
  10. أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب شعب الإيمان، برقم (35).
  11. تفسير الطبري (5/633).
  12. تفسير ابن كثير (2/434).
  13. تفسير الطبري (7/599).
  14. انظر: تفسير ابن كثير (2/434).
  15. انظر: مجموع الفتاوى (15/318-322).
  16. إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان (1/65).
  17. انظر: الفتاوى الكبرى لابن تيمية (3/151)، ومجموع الفتاوى (15/318-322)، وإغاثة اللهفان (1/65-66).
  18. تفسير ابن كثير (2/436).
  19. تفسير ابن كثير (2/436).
  20. تفسير القرطبي (5/419)، وتفسير ابن عطية (المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز) (2/126).
  21. تفسير ابن كثير (2/436).
  22. تفسير ابن كثير (2/436).
  23. تفسير الطبري (7/606).
  24. تفسير ابن عطية (المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز) (2/126).
  25. أحكام القرآن لابن العربي (1/640).
  26. أحكام القرآن لابن العربي (1/641)، وانظر: تفسير القرطبي (5/420).
  27. إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان (1/101).
  28. أخرجه مسلم، في أوائل كتاب صفات المنافقين وأحكامهم، برقم (2784).
  29. تفسير ابن كثير (2/441).
  30. انظر: تفسير ابن كثير (2/437).
  31. انظر: تفسير الزمخشري (الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل) (1/582).
  32. أخرجه البخاري في عدة مواضع منها، كتاب الصلاة، باب فضل استقبال القبلة، برقم (392)، وبرقم (1399)، في كتاب الزكاة، باب وجوب الزكاة، ومسلم، كتاب الإيمان، باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله محمد رسول الله، برقم (20).

مواد ذات صلة