الجمعة 19 / رمضان / 1445 - 29 / مارس 2024
(009) من قوله تعالى (وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث..) الآية 137 – إلى قوله تعالى (..فمن أظلم ممن أفترى على الله كذبا..) الآية 145
تاريخ النشر: ١٦ / جمادى الأولى / ١٤٣٩
التحميل: 664
مرات الإستماع: 589

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على رسول العالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللحاضرين والمستمعين، أما بعد:

فيقول الإمام ابن جزي الكلبي -رحمه الله تعالى-:

وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا [الأنعام:136] الضمير في جعلوا لكفار العرب. قال السهيلي: هم حيّ من خولان، يقال لهم: الأديم كانوا يجعلون من زروعهم وثمارهم ومن أنعامهم نصيبا لله ونصيبا لأصنامهم.

ومعنى ذرأ: خلق وأنشأ، ففي ذلك ردّ عليهم؛ لأن الله الذي خلقها وذرأها: هو مالكها لا رب غيره.

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله -تبارك وتعالى-: وَجَعَلُوا لِلَّهِ هذا في المشركين، وما ذكره السهيلي من أن هذا "حي من خولان، يقال لهم: الأديم" يلقبون بهذا، هذا باعتبار أن السهيلي يعنى بالمبهمات في القرآن، وله كتاب معروف في هذا، وقد مضى الكلام على هذه الكتب في المبهمات في الكلام على كتب التفسير وما يتصل بها[1]، مثل هذه لا فائدة من ذكرها والاشتغال بها، وقد لا يختص ذلك بهم، أعني هذا الحي.

وقوله -تبارك وتعالى-: وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا يعني الزروع والبساتين والأنعام المعروفة الإبل والبقر والغنم.

بِزَعْمِهِمْ أي: بدعواهم وقولهم من غير دليل ولا شرع، وأكثر ما يقال الزعم: في الكذب.

هذا مضى في مناسبات شتى أن ذلك يقال في الكذب من الكلام، أو فيما يوهن منه، وقد تأتي زعم بمعنى قال من غير قصد؛ لتوهين أو تكذيب لكنه قليل.

 وقرئ بفتح الزاي وضمها وهما لغتان

هذه قراءة الجمهور، وقراءة الكسائي بالضم ضم الزاي، وهما لغتان لا يتأثر المعنى بهما.

فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ الآية كانوا إذا هبت الريح فحملت شيئا من الذي لله إلى الذي للأصنام أقروه، وإن حملت شيئا من الذي للأصنام إلى الذي لله ردّوه، وإذا أصابتهم سنة أكلوا نصيب الله وتحاموا نصيب شركائهم.

المقصود بالشركاء هنا الأوثان التي يعبدونها من دون الله -تبارك وتعالى-، مثل: الحام، والسائبة، والوصيلة، وما أشبه ذلك مما يجعلونه لأوثانهم.

وقوله هنا: "وإذا أصابتهم سنة أكلوا نصيب الله" يعني إذا أصابهم قحط ومجاعة أكلوا نصيب الله، "وتحاموا" يعني تحاشوا "نصيب الأوثان" يعني لا يقربونهم وهم بزعمهم أن الله غني.

وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ [الأنعام:137] كانوا يقتلون أولادهم بالوأد ويذبحونهم تقربًا إلى الأصنام، وشركاؤهم هنا هم: الشياطين، أو القائمون على الأصنام.

وكذلك كما يقول الحافظ ابن كثير -رحمه الله-: "وكما زينت الشياطين لهؤلاء أن يجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا كذلك زينوا لهم قتل أولادهم خشية الفقر خشية الإملاق ووأد البنات وخشية العار"[2].

والمقصود بالأولاد كما هو معلوم في كلام العرب الذكور والإناث، وقد يقال: بأن المراد به هنا أحد النوعين وهم البنات فكانوا يقتلونهن خشية أن تفتقر، خشية الفقر، ثم بعد ذلك تضطر إلى بيع عرضها فيلحقها ويلحقهم العار، فالأولاد يكونوا بذلك من العام المراد به الخصوص.

ويحتمل أنهم أيضا ربما قتلوا الذكور خشية الفقر، لكن المشهور أنهم كانوا يأدون البنات، وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ [التكوير:8].

وقوله -تبارك وتعالى- هنا: خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ [الإسراء:31] خوف الفقر، وفي الأنعام: مِنْ إِمْلَاقٍ [الأنعام:151] أي: من فقر واقع فهذا لا ينافي ما عرف من أنهم يفعلون ذلك أعني قتل البنات خشية العار هم يقتلونها خشية أن تفتقر ثم تضطر إلى بيع عرضها، فقال الله : نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ [الإسراء:31].

وهنا يقول: "وشركاؤهم هم الشياطين" على قوله جماعة من السلف كمجاهد والسدي[3]أن الشياطين هي التي زينت لهم ذلك، ومن عبد غير الله فهو عابد للشيطان.

يقول: "أو القائمون على الأصنام" كعمرو بن لحي الخزاعي الذي كان أول من سيب السائبة[4]، وحمى الحامي، وأول من جاء بالأصنام إلى جزيرة العرب من الشام، وأول من غير دين إبراهيم فشرعوا لهم ذلك، يعني يكون المعنى: وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم، شركاؤهم فاعل، فعلى هذا المعنى يكون هذا التزيين باعتبار أنهم شرعوا لهم هذا وتسببوا فيه، وحثوا عليه، فأطاعوهم في التحليل والتحريم فصاروا بهذا الاعتبار شركاء من دون الله كما قال الله -تبارك وتعالى-: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ [التوبة:31] يعني أهل الكتاب، اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا [التوبة:31] فكان ذلك الاتباع والطاعة والتحليل والتحريم من دون الله  كان منهم عبادة، فهؤلاء الشركاء بهذا الاعتبار، وعلى تفسير الشركاء بالأصنام باعتبار أنها سبب القتل إذا كان يفعل ذلك تقربًا إليها، يعني إذا قلنا: بأن الشركاء هم الأصنام، والأصنام لا تنطق ولا تتكلم ولا تأمر ولا تنهى فباعتبار أنهم يفعلون ذلك تقربا إليها، لكن كأن هذا القائل نظر إلى العموم وهؤلاء الشركاء هم من يعبد من دون الله ومن جملة ذلك الأصنام فحمله على هذا المعنى أنهم كانوا يفعلون ذلك تقربا إليها، لكن إضافة التزيين إلى الأصنام لا يخلو من إشكال.

ويحتمل أن يراد بذلك غُواة هؤلاء الضلال من المشركين، وهذا يرجع إلى قول من قال: بأنهم القائمون على الأصنام، فهم غواتهم بلا شك كعمرو بن لحي وغيره، فهؤلاء كانوا يشرعون لهم وهم الذين كانوا ينسأون الأشهر الحرم كما هو معروف إذا جاء الموسم، وفي منى فيقف الواحد منهم وينسأ الشهر الحرام، يعني يجعل الشهر الحرام بدلاً من المحرم في صفر، ويطيعهم الناس في هذا، وهكذا، وهؤلاء الشركاء على قراءة الرفع التي نقرأ بها هؤلاء هذا يصدق -والله أعلم- على من زين لهم ذلك من شياطين الإنس وشياطين الجن فأطاعوهم في هذا فكانوا شركاء بهذا الاعتبار، شركاء لله جعلوهم شركاء باعتبار الطاعة والتشريع، فشرعوا لهم هذه الشرائع الجاهلية، وجعلوا لهم ما ذكر من هذه الضلالات في الحرث والأنعام، -والله تعالى أعلم-.

وقرأ الجمهور بفتح الزاي من زين على البناء للفاعل، ونصب قتل على أنه مفعول، وخفض أولادهم بالإضافة، ورفع شركاؤهم على أنه فاعل بزين، والشركاء على هذه القراءة هم الذين زينوا القتل.

هذه القراءة واضحة يكون الشركاء فاعل هم الذين زينوا، هم من قام بالتزيين، وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ فالمزين هو القتل فهو مفعول به، والفاعل مؤخر وهم الشركاء.

يقول: "وخفض أولادهم بالإضافة" يعني إضافة قتل إليه، قتل مصدر مضاف، وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ فهو من إضافة المصدر إلى مفعوله تقول: قتل ولده هذا فعل، فإذا جردت الفعل من الزمان تقول: قتل أولادهم بالجر المفعول بالإضافة ومحله النصب؛ لأن المصدر يعمل عمل فعله إلا أنه جرد من الزمان، والمصدر هو أحد مدلولي الفعل بمعنى أن الفعل يتضمن الحدث والزمان، فإذا جردت من الحدث من الماضي أو المضارع أو المستقبل بقي إذا جرد من الزمان بقي الحدث لا يتعلق بوقت ماضي أو حاضر أو مستقبل لكنه يعمل عمل الفعل قتل.

وقرأ ابن عباس بضم الزاي على البناء للمفعول، ورفع قتل على أنه مفعول لم يسم فاعله، ونصب أولادهم على أنه مفعول بقتل، وخفض شركائهم على الإضافة إلى قتل إضافة المصدر إلى فاعله، وفصل بين المضاف والمضاف إليه بقوله: أولادهم، وذلك ضعيف في العربية، وقد سمع في الشعر، والشركاء على هذه القراءة هم القاتلون للأولاد.

هنا يقول: "وقرأ ابن عباس" وهذه قراءة متواترة سبعية لابن عامر بضم الزاي على البناء للمفعول، (وَكَذَلِكَ زُيَّنَ) فتكون زُين، ورفع قتل على أنه مفعول لم يسم فاعله، يعني نائب فاعل، (وَكَذَلِكَ زُيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلُ) فقتل مفعول به، أولادهم مضاف إليه، شركاؤهم فاعل، وعلى القراءة الأخرى زين لم يسم فاعله وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ، فالقتل هنا نائب فاعل وإلا فهو في الأصل مفعول به، ونصب أولادَهم التي كانت قتل أولادِهم كانت من قبيل المضاف إليه، وهنا قتل أولادهم على أنه مفعول بقتل، يعني المصدر، "وخفض شركائهم على الإضافة" يعني قتل مصدر الذي بعده مضاف إليه فما قيل قتل أولادهم كما هو المتبادر على هذا الإعراب والقراءة، قتلُ أولادهم فالذي بعده يكون مضافًا إليه، فقال: قتلُ أولادَهم فما أضاف إليه فهو مفعول به منصوب ظاهرًا ومحلاً على الإضافة إلى قتل.

يقول: "وخفض شركائهم على الإضافة إلى قتل إضافة المصدر إلى فاعله" شركائهم يقول: "وفصل بين المضاف والمضاف إليه بقوله أولادِهم" وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم جيد القراءة التي نقرأ بها وهذا هو المفعول به وعلى هذه القراءة الثانية يكون أولادهم بالنصب فهو مفعول به لقتل لكنه لم يجر لأن المضاف إليه على هذا هو الشركاء، فهنا فصل بين المضاف والمضاف إليه، ومعنى هذا أن مُزينا زُين زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ أن يقتل شركاؤهم أولادَهم (وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلُ أَوْلَادَهِمْ) فقتل هو نائب الفاعل من الذي يقتلهم شركاؤهم لكنه جاء هنا مجرورا شركائهم باعتبار أنه مضاف إليه، قتلُ أولادَهم شركائِهم، شركائهم هنا فاعل مرفوع محلا ومجرور لفظًا للإضافة، يعني زينوا لهم أن يقتل شركاؤهم أولادهم فالشركاء على الأول هو الفاعل.

وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شركاؤهم، وهنا أيضا الشركاء هم الذين أيضًا زينوا هذا، هم الذين زينوا هذا فيكون قتل أولادهم شركائهم، فقتل هنا مضاف وشركائهم مضاف إليه وهو الفاعل، فجر للإضافة وإلا الأصل مرفوع، يعني هم من أمر به ...، والأولاد مفعول به يقول: وذلك ضعيف في العربية.

يقول: "وقد سمع في الشعر والشركاء على هذه القراءة هم القاتلون للأولاد" وتضعيف القراءة بهذه الطريقة سبق تضعيفه يعني الاحتجاج بالعربية أو يقال ضعيف في العربية، وهل تؤخذ العربية إلا من القرآن والسنة وهما أفصح الكلام، فالقواعد قواعد اللغة كما هو معلوم بنيت على استقراء كلام العرب، وقد يصححون اللغة لقول شاعر مجهول، إلا أنهم يقولون في زمن الاحتجاج، ثم بعد ذلك يأتي في قراءة متواترة ما يقال عنه بأنه ضعيف بالعربية فهذا الكلام غير مقبول، ولا صحيح، لا يكون ضعيفًا بالعربية.

وابن عامر -رحمه الله- هو أعلى القرآن السبعة إسنادًا، وهو أيضًا في زمن الاحتجاج من كبار التابعين إمام كبير في القراءة، ولا يخفى عليه مثل هذا، وأخذ عن الصحابة مباشرة عثمان وجماعة كأبي الدرداء ومعاوية وفضالة بن عبيد، فكلامه في اللغة حجة فكيف بالقراءة، والقراءة سنة متبعة، وقراءته هذه أيضًا موافقة للرسم الشامي، وأيضًا لقواعد العربية، والزمخشري ربما وهن القراءة، وكذلك ابن عطية بمثل هذا، والمؤلف ينقل منهما كثيرًا في هذا الكتاب وهذا غير مقبول، ولا صحيح، وفي كلام العرب شعرًا ونثرًا من هذا القبيل ما يدل على خلاف قوله، يقولون: هو غلام إن شاء الله أخيك، ففصل بين المضاف والمضاف إليه غلام أخيك، غلام إن شاء الله أخيك، فهذا الفصل أكثر من الفصل بلفظة مفردة.

ونُقل عن الكسائي أنه سمع قول بعضهم: "إن الشاة لتجتر فتسمع صوت والله ربها"[5]، هي تسمع صوت ربها ففصل بين المضاف والمضاف إليه بالقسم، وهذا أكثر من مجرد الفصل بلفظة مفردة، وإلى آخر ذلك مما يذكر في هذا الموضع، ويمكن مراجعة ذلك في مظانه، وينبغي أن تنزه كتب العلم عن مثل هذا التوهين للقراءات الصحيحة المتواترة.

 يقول: "وذلك ضعيف في العربية وقد سمع في الشعر" كقول الشاعر:

فزججتها بمزجة زجَّ القلوصَ أبي مزادة

قال: زج القلوصَ أبي مزادة، فالقلوص لم يكن بهذا من قبيل المضاف إليه إنما قال: زج القلوصَ فهو مفعول به منصوب، وأبي مزادة مضاف إليه، يعني زج أبي مزادة القلوصَ فيكون زج هنا من قبيل إضافة المصدر إلى الفاعل، فأبو مزادة هو الذي قام بالزج، والقلوص ناقة، ففصل بين المضاف والمضاف إليه كما في هذه القراءة فالمؤلف يذكر أنه سمع في الشعر، وكلام الله أبلغ من ذلك كله.

لِيُرْدُوهُمْ أي: ليهلكوهم وهو من الردى بمعنى الهلاك.

"الردى بمعنى الهلاك" ليهلكوهم فإن كان التزيين من الشياطين فاللام للتعليل، يعني الشياطين زينت لهم ذلك؛ لإهلاكهم؛ لأجل إهلاكهم فتكون للتعليل لإهلاكهم، وإن كان من السدنة فعلى معنى الصيرورة، يعني أن السدنة ما فعلوا هذا ليهلكوا قومهم ولكن يكون عاقبة ذلك ومآله الهلاك وإن لم يقصدوا هذا، يعني مثل: عمرو بن لحي ومن شابهه حينما شرعوا لهم هذا هم لم يشرعوا لهم قصدا لإهلاكهم، ولكن ليردوهم لتكون العاقبة الهلاك ،كما قال الله : فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا [القصص:8] هم ما التقطوه من أجل أن يكون لهم عدوا، فهي ليست للتعليل، فهم رجوا أن ينفعهم، أو أن يتخذوه ولدا، ولكن كان عاقبة ذلك أنه سبب لحزن كثير دخل عليهم وكان عدوا لهم، فهو معنى الصيرورة والعاقبة.

وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ [الأنعام:138] أي: حرام، وهو فعل بمعنى مفعول، نحو ذِبح، فيستوى فيه المذكر والمؤنث والواحد والجمع.

الحِجر أصله المنع والإحاطة على الشيء، ومن ذلك الحجر الذي في الكعبة يمنع الطائف من دخوله يعني حال طوافه، وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ أي: حرام، والمقصود بذلك مثل ما حرموا من الوصيلة وتحريم ما حرموا لأصنامهم، كما جاء عن ابن عباس -ا- ومجاهد والضحاك والسدي وقتادة وابن زيد وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ الأشياء التي حرموها[6]، وقالوا هذه للأصنام، ونحو هذا، أي حرام وهو فعل يعني حجر على وزن فعل بمعنى مفعول يعني محجور فعل أو مصدر والمصدر يأتي بمعنى الفاعل ويأتي بمعنى المفعول، بمعنى مفعول نحو ذِبح يعني المذبوح، الذبيحة يقال لها: ذِبح، الأضحية يقال لها: ذِبح وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ [الصافات:107].

يقول: "فيستوي في الوصف به المذكر والمؤنث، وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ والواحد والجمع".

لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ [الأنعام:138] أي: لا يأكلها إلا من شاءوا وهم القائمون على الأصنام، والرجال دون النساء.

شرعوا لهم تشريعات فقالوا هذا للنساء، وهذا للرجال، وهذا مشترك بينهما.

وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها [الأنعام:138] أي: لا تركب، وهي السائبة وأخواتها.

وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا [الأنعام:138] قيل معناه لا يحج عليها فلا يذكر اسم الله بالتلبية، وقيل: لا يذكر اسم الله عليها إذا ذبحت.

قيل: معناه لا يحج عليها، لا يذكر اسم الله عليها يعني كأن هؤلاء فهموا من قوله: لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا أن على تفيد الظهور والعلو يعني إذا ركبوها لا يذكرون اسم الله عليها، وذلك أنه لا يحج عليها فلا يذكر اسمه بالتلبية، وهذا جاء عن أبي وائل -رحمه الله-[7].

"وقيل: لا يذكر عليها إذا ذبحت" وهكذا قول من قال: إذا ركبوها مطلقا لا يذكرون اسم الله عليها، أو حلبوها أو حملوا عليها، أو ولدوها، وعممه مجاهد[8] لا يذكرون اسم الله عليها مطلقا، وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها لا في ركوب ولا ذبح ولا حلب ولا غير هذا مثل هذه المعاني تحتمل، فهم لا يذكرونه على الإطلاق لأن ظاهر اللفظ العموم بهذا الاعتبار على قول مجاهد حمله على ظاهره على العموم، ولو أردنا أن نرجح أحد هذه المعاني فإن أولاها هو الذكر عند الذبح، لكن إذا كان اللفظ يحتمل معان ومن غير معارض يعني لا يمتنع الحمل عليها جميعًا فإنها يمكن أن تحمل على ذلك فيبقى اللفظ على عمومه، -والله أعلم-.

افْتِراءً عَلَيْهِ [الأنعام:138] كانوا قد قسموا أنعامهم على هذه الأقسام، ونسبوا ذلك إلى الله افتراء وكذبا، ونصب على الحال، أو مفعول من أجله، أو مصدر مؤكد.

"ونصب على الحال" افتراء عليه حال كونهم مفترين على الله -تبارك وتعالى- أو مفعول من أجله يعني لأجل الافتراء على الله، يعني فعلوا ذلك للافتراء على الله لأجل الافتراء على الله، أو مصدر مؤكد يعني شرعوا وحرموا إلى آخره افتراء للتأكيد أن هذا باطل هذا الذي حصل هو ضلال مبين.

وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ [الأنعام:139] الآية، كانوا يقولون في أجنّة البحيرة والسائبة: ما ولد منها حيا فهو للرجال خاصة ولا يأكل منها النساء، وما ولد منها ميتا اشترك فيه الرجال والنساء.

وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ يعني من لبن أو أجنة خالصة، يعني حلال، أو خاصة يعني حلال لأزواجنا مثلا أو حلال للرجال دون النساء، بمعنى إذا قيل: بأنه حلال أو خاصة فبين القولين ملازمة إذا خصوه بهؤلاء دون هؤلاء فهم أحلوه لهم دون غيرهم، وهذا القول بأنهم كانوا يقولون في أجنة البحيرة والسائبة وما ولد منها حيا إلى آخره هذا مروي عن جماعة من التابعين كالشعبي وعكرمة وقتادة وابن زيد[9]، ومثل هذه الأشياء لا يرجع فيها إلا مجرد اللغة؛ لأن هذه تشريعات كانت لأهل الجاهلية، فمثل هذا في التفسير يحتاج فيه إلى معرفة أوضاع الجاهلية، يعني زيادة على اللغة لكن معرفة ذلك على التفصيل بوجه من التحقيق والتدقيق قد لا يتوصل معه إلى مطلوب صحيح، بمعنى أن هذه الأشياء كما ذكرنا سابقًا مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ [المائدة:103] أن كلام المفسرين والمؤرخين في مثل هذا مضطرب ومختلف غير متفق، فهي أوضاع جاهلية على كل حال بصرف النظر عن تحقيق المراد بكل لفظة عندهم في تشريعاتهم، وقد يكون ذلك لكون تلك التشريعات مضطربة أصلاً، يعني أن بعضهم، يقول كذا.

وبعضهم يقول: كذا لأنها تشريعات جاهلية والجاهلية ترجع إلى الجهل فما ظنكم والله يقول: وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا [النساء:82].

وأنث خالصة للحمل على المعنى، وهي الأجنة وذكر محرم حملاً على لفظ ما، ويجوز أن تكون التاء للمبالغة.

وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ [الأنعام:139] "ما" هذه من جهة اللفظ مذكر، فما قال: وقالوا ما في بطون هذه الأنعام خالص و"ما" هذه مبهمة، يقول: "للحمل على المعنى" وأيضًا المبالغة خالصة في خلوص ذلك للذكور دون الإناث، يعني إما أن يكون ذلك باعتبار المعنى ما في بطون هذه الأنعام خالصة حملا على المعنى وليس على اللفظ، يعني الأجنة مثلا أو الألبان هذه الأجنة خالصة، أو يكون ذلك للمبالغة مثل نسابة خالصة أصلها خالص ويقال: علامة نسابة ونحو ذلك فيكون على هذا الاعتبار ليس لمراعاة المعنى، يعني التأنيث، وإنما لأجل المبالغة يعني لحقتها التاء للمبالغة خالص خالصة، نساب نسابة، وذكر ومحرم حملا على لفظ ما لاحظ لما راعى معناها أنث على القول بأن هذا التأنيث مراعاة لمعنى، أما إذا قيل: للمبالغة لا، والتذكير ومحرم يعني وما قال ومحرمة مراعاة للفظ ما هنا ذكر قال: ويجوز أن تكون للمبالغة في خالصة.

وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ [الأنعام:140] أي: البحيرة والسائبة وشبههما.

"البحيرة والسائبة وشبههما" جاء عن ابن عباس -ا-: "إذا سرك أن تعلم جهل العرب فاقرأ ما فوق الثلاثين ومائة من سورة الأنعام: قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ [الأنعام:140] إلى قوله: قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ [الأنعام:140]"[10]، وهو مخرج في صحيح البخاري، وهذا وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ كما قال الله -تبارك وتعالى-: قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالاً [يونس:59].

وهكذا في قوله: مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ [المائدة:103]، وفي الحديث القدسي: وإني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم[11].

جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ [الأنعام:141] مرفوعات على دعائم وشبهها، وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ [الأنعام:141] متروكات على وجه الأرض، وقيل: المعروشات ما غرسه الناس في العمران، وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ ما أنبته الله في الجبال والبراري.

يقول: "جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ مرفوعات على دعائم" هذه رواية عن ابن عباس -ا-[12]، مثل هذا معروشات العنب، والعرش معروف وهو ما يكون مسقفًا، فيوضع لها من العروش ما تكون عليه هذه الأعناب مثلاً، وغير معروشات يعني "متروكات على وجه الأرض" أو تقوم على ساق.

وقيل: "المعروشات ما غرسه الناس في العمران، وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ ما أنبته الله في الجبال والبراري" وهذه الرواية الأخرى عن ابن عباس -ا-[13].

والمشهور الذي عليه عامة أهل العلم أن المعروشات ما وضع له من العرائش والسقوف ونحو ذلك فتكون عليه هذه الأعناب ونحو هذا، والقول: بأن "المعروشات ما غرسه الناس في العمران" هذا يحتمل، لكن الأول أشهر وهو المعروف، -والله تعالى أعلم-.

وبعضهم يقول: المعروشات ما انبسط على وجه الأرض مما يعرش، وغير المعروشات ما له ساق كالنخل غير معروشات وهذا يرجع أعني شقه الأول يرجع إلى الأول، يعني المعروشات الأعناب ما يكون على الأرض، يعني لو تركت فهي على الأرض ما انبسط على وجه الأرض مما يعرش، وغير المعروشات ما له ساق كالنخل.

وجاء في رواية عن ابن عباس، وكذلك قال السدي: "بأن ذلك جميعا في العنب في حالتيه معروشات حينما يوضع له العروش والسقوف، وغير المعروشات حينما يترك من غير أن يوضع له ذلك"[14].

وهذا كله في نوع واحد لكن ظاهر الآية أعم من هذا جنات معروشات، والجنات بمعنى البساتين فيدخل فيها أشجار العنب مما يحتاج إلى وضع سقوف ونحو ذلك، وما يقوم على ساق، أو لا يحتاج إلى مثل هذا فيشمل النوعين مما تحويه الجنات، -والله أعلم-.

مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ [الأنعام:141] في اللون والطعم والرائحة والحجم، وذلك دليل على أن الخالق مختار مريد.

مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ هنا عممه، يعني بكل ما يصدق عليه هذا حجما ولونا ورائحة وطعمًا، والأكل المقصود به الثمر وما يؤكل منه سمي بذلك؛ لأنه يؤكل، مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ أي: ثمره.

وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ [الأنعام:141] قيل: حقه هنا الزكاة وهو ضعيف لوجهين:

أحدهما: أن الآية مكية، وإنما فرضت الزكاة بالمدينة.

والآخر: أن الزكاة لا تعطى يوم الحصاد، وإنما تعطى يوم ضم الحبوب والثمار، وقيل: حقه ما يتصدق به على المساكين يوم الحصاد، وكان ذلك واجبا ثم نسخ بالعشر.

وقيل: هو ما يسقط من السنبل، والأمر على هذا للندب.

قال: وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ هنا ضعف القول بأنه الزكاة لهذين الوجهين: الأول: أن الزكاة بهذا على القول بأنها فرضت في المدينة والآية مكية، فبعضهم نظر إلى هذا المعنى فقال: هذه الآية مدنية؛ لأنها تذكر الزكاة، والزكاة إنما فرضت في المدينة، ومثل هذا لا يصح أن يحكم بسببه على الآية بأنها مكية أو مدنية، فسورة الأنعام معروف أنها نازلة في مكة جملة واحدة، فكيف يستثنى منها هذه الآية مثلا، بناء على هذا المعنى الذي فهمه المفسر هذا أمر.

الأمر الثاني: أن الأقرب أن الزكاة فرض أصلها بمكة لكن من غير تقدير، يعني لا في الأنصباء ولا في الأنواع والأجناس التي تجب فيها الزكاة، وإنما فرضت مطلقا وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ وليست هذه هي الآية الوحيدة الدالة على أن أصل الزكاة فرض في مكة، الأصل هذا الوجه الأول الذي ذكره يجاب عنه بمثل هذا.

الوجه الثاني يقول: "أن الزكاة لا تعطى يوم الحصاد، وإنما تعطى يوم ضم الحبوب والثمار" يعني إذا صار الرطب تمرًا والعنب زبيبًا، وهذا يكون بعد وقت، وذكر الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله-[15] جواب بعض أهل العلم على هذا، يعني يوم الحصاد عند الحصاد، يعني زمن الحصاد قالوا: وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ يعني زمن حصاده وهذا قد يطول ليس معناه في اللحظة التي يحصد فيها، وإنما زمن الحصاد، يعني قد يمتد هذا إلى أن ييبس قالوا: والعرب تقول: افعله عند كذا ويريدون به الاتساع في الوقت، تقول: لقيته سنة كذا وأنت إنما لقيته في أول تلك السنة مثلاً أو في آخرها، فتقول: لقيته سنة كذا، فذكرت السنة، وإنما لقيته في لحظة في أولها أو وسطها أو آخرها ولم تلقه سائر العام فيتسعون في مثل هذا، وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ يعني زمن الحصاد وهذا بحيث ييبس.

يقول: وقيل: "حقه ما يتصدق به على المساكين يوم الحصاد وكان ذلك واجبا ثم نسخ بالعشر"، وممن قال بأنه كان واجبًا ثم نسخ بالعشر هذا ابن عباس -ا-، وأيضًا ابن الحنفية[16]، والنخعي والحسن البصري، والسدي، وعطية العوفي[17]، وهو اختيار أبي جعفر ابن جرير -رحمه الله- أن ذلك كان واجبًا في مكة من غير تقدير ثم بعد ذلك نسخ في المدينة بعد ذلك لما ذكرت المقادير[18]، ونحو ذلك يعني بالعشر ونصف العشر نصف العشر إذا كان يسقى بالنواضح ونحو هذا.

ونبه الحافظ ابن كثير -رحمه الله- إلى أن تسميته نسخًا فيه نظر؛ لأنه كان واجبًا ثم فصل وبين مقدار المخرج وكميته[19]، والسلف قد يطلقون النسخ على وجه من الاتساع يعني أعم من مجرد النسخ الذي هو بمعنى الرفع، فيقولون ذلك لما يعرض للنص من بيان للمجمل كهذا وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ مجمل فجاء بيانه بالتفاصيل التي ذكرت في المدينة بعد ذلك، فيمكن أن يكون مراد هؤلاء من السلف بالنسخ هذا المعنى أنه بين ذلك وفصل من غير قصد للرفع بين مقدار المخرج وكميته، وهذا المعنى الذي أشار إليه ابن كثير أيضا ذكره الطاهر بن عاشور[20].

والأصل أن النسخ لا يثبت بالاحتمال، فإذا أمكن الحمل على وجه يصح في المعنى من غير دعوى النسخ فهذا هو المتعين.

يقول: "وقيل: هو ما يسقط من السنبل" هذا جاء عن مجاهد -رحمه الله- قال: "إذا حضرك المساكين طرحت لهم منه"[21]، يعني هذا أخص مما يسقط من السنبل، هذا يكون في قدر غير معين غير محدد من المخرج.

وجاء عنه: "عند الزرع يعطي القبضة"[22]، وهذا أيضًا في نفس المعنى، "وعند الصرام يعطي القبضة"، لكن الشاهد في آخره الصرام معروف إنما يصرم الثمر كالنخيل ونحو ذلك يجذ يعني ويقول: "ويتركهم فيتبعون آثار الصرام"، هذا يعني ما يتساقط عند الصرم عندما يصرمون النخيل مثلا يجذونها يتساقط بعض التمر في الأرض وحينما يحصد الزرع، أو الحب يتساقط بعض الحبوب يسمونا "اللقاط".

وتعرفون في سيرة الإمام أحمد -رحمه الله- وما كان فيه من الحاجة والفقر أنه خرج يومًا
في رأيت شيئًا كرهته فرجعت ثم رجع ولم يرجع بشيء، كانوا الفقراء يأتون وقت الحصاد ويتتبعون ما يسقط على الأرض من الحبوب ونحو هذا، فرجع ولم يأت بشيء وسئل قال: "رأيت شيئًا كرهته فرجعت"[23]، رأى الناس يمشون على أربع في الحقول؛ لأن هنا حبة، وهنا حبة، وهنا حبة، وهنا حبة، لا يستطيع يقوم ويجلس، ويقوم ويجلس، فماذا يفعل الناس؟

يحبون حتى يلتقط هذه، وهذه، وهذه، ويكون قريبًا من الأرض لجمع هذه الحبات، ولا تستغربون هذه أنتم في نعمة، وما احتجتم قط إلى مثل هذا، وهذا إمام أهل السنة خرج يلتقط مع الناس فاستحيا وأبت نفسه أن يكون معهم بهذه الصورة والصفة على أربع كأنهم بهائم في الحقل، فرجع -رحمه الله- كما أكرى نفسه من الجمال في رحلته إلى الإمام عبد الرزاق في اليمن؛ لحاجته وفقره ليس عنده نفقة فأكرى نفسه يعني يضع الأحمال على الجمال ويحملها ويضعها إلى آخره، عامل يعني أجير عند الجمال، والجمال يعمل عنده الإمام أحمد -رحمه الله- فلما سئل عن هذا قيل له: أكريت نفسك من الجمل؟ استحيا وسكت.

وهذا المعنى الذي ذكره هنا يدل عليه قول مجاهد هذا، يتركون فيتبعون آثار الصرام، وجاء عن الثوري: "يعطي مثل الضغث"[24]، والضغث المقصود به مثل: الحزمة الصغيرة التي تقبض باليد، وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا [ص:44] يعني مجموعة مثلاً أخذت مجموعة من النباتات الجرجير أو البرسيم أو الذرة أو نحو ذلك جمعته بيدك هذا ضغث.

وعن سعيد بن جبير: "كان هذا قبل الزكاة للمساكين القبضة والضغث لعلف دابته"[25]، قبضة من برسيم أو نحو ذلك يعني يعطي شيئا غير مقدر ولا يختص بالأموال أو الأنواع الأصناف الزكوية، وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ ما يحصد فالبرسيم يحصد ويعطيه لدابته دابة الفقر وما يؤكل يعطي له ليأكل.

فالقول بأن الآية هذه أو هذا الموضع منسوخ كان ذلك واجبا ثم نسخ بمقادير الزكاة هذا منسوب إلى الجمهور، ولكن النسخ لا يثبت بالاحتمال، فكان ذلك في أول الأمر في مكة، ثم بعد ذلك جاءت التفاصيل في المدينة.

حَمُولَةً وَفَرْشًا [الأنعام:142] عطف على جنات، والحمولة الكبار، والفرش الصغار، كالعجاجيل والفصلان.

وقيل: الحمولة الإبل؛ لأنها يحمل عليها، والفرش: الغنم؛ لأنها تفرش للذبح، ويفرش ما ينسج من صوفها.

وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً [الأنعام:142] بمعنى فاعلة، هنا حمولة يعني حاملة، حمولة وفرشا هنا منصوبة، يقول: "وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا عطف على جنات وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ [الأنعام:141]" جنات هنا مفعول به أنشأ جنات فهذا معطوف عليه، وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا فجنات مفعول أنشأ، يعني أنشأ جنات وأنشأ من الأنعام حمولة وفرشًا.

يقول: "والحمولة الكبار" يعني الإبل، "والفرش الصغار كالعجاجيل والفصلان" العجاجيل جمع عجل، وهذا التفسير أن الحمولة هي الكبار والفرش هو الصغار هذا مروي عن ابن مسعود -ا-[26]، واختاره أبو جعفر ابن جرير[27].

وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا ويقول: "وقيل: الحمولة الإبل؛ لأنها يحمل عليها، والفرش الغنم؛ لأنها تفرش للذبح ويفرش ما ينسج من صوفها" يعني قيل لها الفرش لهذه الاعتبارات عند الذبح على جنبها تفرش، وكذلك الجلد يفرش، وإلى عهد قريب مجالس الناس فيها هذه الجلود يجلسون عليها قبل هذه النعم التي يتقلبون بها وكل ذلك من النعم.

وهذا القول بأن الحمولة الإبل لأنه يحمل عليها مروي عن ابن زيد لكن بزيادة أن الفرش قال: "ما تأكلون وتحلبون"[28]، وهذا المعنى استحسنه ابن كثير -رحمه الله-[29]، وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً يعني الإبل يحمل عليها وفرشا ما تأكلون وتحلبون وهذا يحتمل، وكأن القول بأن الحمولة هي الكبار التي يحمل عليها وأن الفرش هي الصغار.

وبعضهم علل هذه التسمية الفرش أو هذا الوصف باعتبار أنها قريبة من الأرض، وحينما تنظر من بعيد إلى الأنعام ترى الإبل مرتفعة، وترى الغنم كأنها ملتصقة بالأرض على هذا المعنى.

فالمقصود -والله أعلم- أن الحمولة الكبار يحمل عليها، والفرش هي الصغار من أولادها والغنم كذلك؛ لأنه قابله بالحمولة، لكن الذين قالوا: بأن الفرش باعتبار الجلود التي توضع إلى آخره كأنهم نظروا إلى المنافع، بأن هذه يحمل عليها، وهذه الجلود تفترش، لكن لا يكون ذلك مختصًا بالإبل دون الغنم مثلاً والبقر، أو العكس؛ لأن الجلود تؤخذ من جميعها، يعني تنتفعون بهذا وهذا، ومن جعله وصفا لها فقال: الحمولة هي الإبل التي يحمل عليها.

وأشار بعض أهل العلم إلى كون البقر بهذا الاعتبار في بعض البلاد يحمل عليها، وأظنهم يقصدون بهذا مثل الجواميس يحملون عليها، وقد ذكر الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله-[30] أنه في بعض البلاد يحمل على الأبقار، وأنها قوية، وتتحمل، لكن تعرفون في الحديث الذي في الرجل الذي ركب البقرة فاشتكت وقالت: إني لم أخلق لهذا، فقال: سبحان الله بقرة تتكلم[31]، فهذا يدل على أن البقر لا يحمل عليه، وهو الواقع، لكن الشيخ محمد الأمين ذكر أنه في بعض البلاد توجد أبقار قوية يحملون عليها لكن لا عبرة بذلك، فالأصل أن البقر لا يحمل عليه.

ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ [الأنعام:143] بدل من حمولة وفرشا، وسماها أزواجا؛ لأن الذكر زوج للأنثى والأنثى زوج للذكر.

الزوج هنا خلاف الفرد ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ أي: أفراد لأن كل منهما زوج بالنسبة للآخر ثمانية؛ لأنه لو نظرنا إلى اعتبار معنى الزوجية فهي أربعة: الإبل والبقر والغنم بنوعيه، فإذا نظرنا إلى الأفراد فهي ثمانية، فالزوج خلاف الفرد، المقصود ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ أي: أفراد فكل واحد هو زوج بالنسبة لصاحبه فقيل لها ذلك بهذا الاعتبار.

ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يقول: بدل من حمولة وفرشا، وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا" يعني قلنا: بأن معطوف على جنات أنشأ جنات، وأنشأ من الأنعام حمولة وفرشا، ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ بدل من حمولة وفرشا، أو بإضمار فعل مقدر أيضا أنشأ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يقول: "وسماها أزواجا؛ لأن الذكر زوج للأنثى والأنثى زوج للذكر".

مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ يريد الذكر والأنثى، وكذلك فيما بعده.

الضأن جمع ضائن، فهو جمع الضأن الواحد ضائن وكذلك فيما بعده.

قُلْ آلذَّكَرَيْنِ [الأنعام:143] يعني الذكر من الضأن والذكر من المعز، ويعني بالأنثيين الأنثى من الضأن، والأنثى من المعز، وكذلك فيما بعده من الإبل والبقر والهمزة للإنكار.

وهذا تجدون في كتب الجدل وأساليب الجدل ونحو ذلك يتكلمون على مثل هذا في كتاب الله بأنه من ضروب الاحتجاج على المخالف، قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ فهم لا يقولون بهذا وإنما يفصلون، أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ [الأنعام:143] يعني يقول: هذا القول غير مطرد أنتم لا تقولون حرم الذكرين مطلقا ولا تقولون حرم الأنثيين مطلقا، ولا تقولون حرم ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين مطلقا، فعلى أي شيء تبنون؟ ولماذا تفرقون بين النظير ونظيره من غير موجب؟ وإنما هي تخرصات وأباطيل ووحي الشياطين الذي اتبعتموه.

نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ تعجيز وتوبيخ  افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا يعني في تحريم ما لم يحرم الله، وذلك إشارة إلى العرب في تحريمهم أشياء كالبحيرة وغيرها.
  1. السلسلة على الرابط:  https://khaledalsabt.com/cnt/slasel/tid/478
  2. تفسير ابن كثير (3/344-345).
  3.  تفسير ابن كثير (3/ 345).
  4. أخرجه البخاري، أبواب العمل في الصلاة، باب إذا انفلتت الدابة في الصلاة، برقم (1212)، وبرقم (4623)، في كتاب تفسير القرآن، باب {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلاَ سَائِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ} [المائدة:103]، ومسلم، في أوائل باب صلاة الكسوف، برقم (901).
  5. انظر: همع الهوامع في شرح جمع الجوامع (2/ 526)، والإنصاف في مسائل الخلاف بين النحويين البصريين والكوفيين (2/ 352).
  6. تفسير ابن كثير (3/ 345).
  7. تفسير الطبري (9/ 582)، وتفسير ابن كثير (3/ 346).
  8. تفسير ابن كثير (3/ 346).
  9. انظر: تفسير القرطبي (10/ 289).
  10. أخرجه البخاري، كتاب المناقب، باب جهل العرب، برقم (3524).
  11. أخرجه مسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب الصفات التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنة وأهل النار، برقم (2865).
  12. تفسير الطبري (9/ 594)، تفسير ابن كثير (3/ 347).
  13. تفسير ابن كثير (3/ 347).
  14. انظر: تفسير ابن كثير (3/ 347).
  15. انظر: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (1/ 518).
  16. انظر: تفسير القرطبي (7/ 99).
  17. انظر: تفسير ابن كثير (2/ 221).
  18. تفسير الطبري (9/ 611).
  19. تفسير ابن كثير (3/ 349).
  20. التحرير والتنوير (8-أ /122).
  21. تفسير الطبري (9/ 602)، وتفسير ابن كثير (3/ 348).
  22. تفسير ابن كثير (3/ 348).
  23. انظر: مناقب الإمام أحمد (ص: 308).
  24. تفسير ابن كثير (3/ 348).
  25. تفسير ابن كثير (3/ 348).
  26. تفسير الطبري (9/ 619)، وتفسير ابن كثير (3/ 350).
  27. تفسير الطبري (9/ 619)، وتفسير ابن كثير (3/ 350).
  28. تفسير ابن كثير (3/ 350).
  29. تفسير ابن كثير (3/ 350).
  30. العذب النمير من مجالس الشنقيطي في التفسير (2/ 334).
  31. أخرجه البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب حديث الغار، برقم (3471).

مواد ذات صلة