الجمعة 19 / رمضان / 1445 - 29 / مارس 2024
[21] من قوله تعالى "واستعينوا بالصبر والصلاة" الآية 45 إلى قوله تعالى "الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم" الآية 45.
تاريخ النشر: ٢٣ / شوّال / ١٤٢٥
التحميل: 5714
مرات الإستماع: 4061

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:

قال المؤلف -رحمه الله تعالى: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ [سورة البقرة:47]، يذكرهم تعالى بسَالفَ نعمه على آبائهم وأسلافهم، وما كان فَضَّلهم به من إرسال الرسل إليهم، وإنزال الكتب عليهم على سائر الأمم من أهل زمانهم، كما قال تعالى: وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ [سورة الدخان:32]، وقال تعالى: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاء وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا وَآتَاكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِّن الْعَالَمِينَ [سورة المائدة:20].

قال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية، في قوله تعالى: وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ [سورة البقرة:47] قال: بما أعطوا من الملك والرسل والكتب على عالم من كان في ذلك الزمان؛ فإن لكل زمان عالَماً، ورُوي عن مجاهد، والربيع بن أنس، وقتادة، وإسماعيل بن أبي خالد نحوُ ذلك.

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فيقول الله في تعداده لنعمه على بني إسرائيل: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ [سورة البقرة:47]، اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَأي: استحضروها في قلوبكم والهجوا بها في ألسنتكم، واذكروها بأعمالكم وجوارحكم؛ شكراً لله ، وعرفنا أن قوله: نِعْمَتِيَ مفرد مضاف يفيد العموم، بمعنى اذكروا نعمي التي أنعمت عليكم.

ومن هذه النعم أنه فضلهم على العالمين: وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ [سورة البقرة:47]، والعالمين أحسن ما يفسر به هو قوله تعالى: قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ [سورة الشعراء:23]، فأجابه موسى قائلاً: رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا [سورة الدخان:7]، فهذا هو الذي يفسر به، ولمراد به هنا يفهم مع غيره من نصوص الآيات والأحاديث.

من أهل العلم من قال: فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ أي: على الجم الغفير من الناس، فإن الجم الغفير من الناس يقال لهم: عالَم، تقول: رأيت عالماً عند فلان، وتقول: يوجد في مكة عالَم من الناس، أو عوالم من الناس، يعني أناس كثير، وتقول: رأيت في السوق عالماً من الناس، فهذا لا إشكال فيه، وسواءً قيدته بالناس أو لم تقيده. 

ولكن يمكن أن يقال هنا ما ذكره الحافظ ابن كثير -رحمه الله- ونقله أيضاً عن غيره وهو الذي عليه كثيراً من أهل العلم، وهو اختيار كبير المفسرين ابن جرير الطبري -رحمه الله- بأن المقصود بقوله:  عَلَى الْعَالَمِينَ أي في زمانهم؛ لأنه لم يكن لبني إسرائيل انفراد في ذلك الزمان في الوجود، أي: لم يكن هؤلاء هم الذين يمثلون الناس فقط، كان يوجد القبط وغير القبط من الأمم من الرومان وغيرهم، ففضل الله بني إسرائيل، وهم أقلية في ذلك الزمان بالنسبة للأمم الأخرى، ويكفيك قولهم عن العماليق حينما قيل لهم: ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ [سورة المائدة:21]، فقالوا:إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ [سورة المائدة:22]، فهم يرون أن هؤلاء أقوى منهم وأعظم خلقة وبأساً. 

فالتفضيل هنا على العالمين أي على عالم زمانهم فقط، حيث اختارهم الله على الناس في ذلك الوقت، وليس ذلك على جميع العالم إلى قيام الساعة؛ لأن هذه الأمة أفضل منهم، بدلالة النصوص الصريحة على ذلك، كقوله تعالى: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا [سورة فاطر:32]، والاصطفاء والاجتباء لا يمكن إلا أن يكون لمن فضلوا على غيرهم.

وكذلك قوله -تبارك وتعالى: كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [سورة آل عمران:110]، يقول أبو هريرة  كما جاء في الأثر: "خير الناس للناس تأتون بهم في السلاسل في أعناقهم حتى يدخلوا في الإسلام"[1].

والنصوص الدالة على تفضيل هذه الأمة  كثيرة، أضف إلى ذلك النصوص الأخرى التي تدل على طرد بني إسرائيل، ولعنهم وإقصائهم، كقوله تعالى: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ [سورة المائدة:78]، وكذلك ما ذمهم الله به وأوقع بهم من نقمته كقوله: وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَمًا [سورة الأعراف:168]، إلى غير ذلك مما حل بهم، وهذا لا يمكن أن ينزل إلا بأمة ملعونة مبعدة من رحمة الله فكيف يكون هؤلاء إلى ساعتنا هذه هم أهل الاصطفاء والاجتباء وقد أبعدهم الله -تبارك وتعالى؟.

إذن: وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ [سورة البقرة:47] أي: على عالم زمانكم فقط، فيكون بهذا الاعتبار من العام المراد به الخصوص، حيث أطلق العالمين ودخلت عليه أل، فظاهر ذلك أنه في جميع العالمين.

والعموم يندرج تحته أربعة أشياء: الأفراد، والأزمان، والأمكنة، والأحوال، فإذا أجريناه على ظاهره فمعنى ذلك أنه في كل زمان ومكان.. الخ، ولكن هذا ليس بمراد، فيكون من العام المراد به الخصوص، يعني أنك تطلق لفظاً عاماً وتريد به معنىً خاصاً هذا هو المراد.

والعموم يندرج تحته أربعة أشياء: الأفراد، والأزمان، والأمكنة، والأحوال، فإذا أجريناه على ظاهره فمعنى ذلك أنه في كل زمان ومكان.. الخ، ولكن هذا ليس بمراد، فيكون من العام المراد به الخصوص، يعني أنك تطلق لفظاً عاماً وتريد به معنىً خاصاً هذا هو المراد.

أمة محمد أفضل من بني إسرائيل، ويجب الحمل على هذا؛ لأن هذه الأمة أفضل منهم؛ لقوله تعالى خطاباً لهذه الأمة: كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم [سورة آل عمران:110].

وفي المسانيد والسنن عن معاوية بن حَيْدَة القُشَيري، قال: قال رسول الله ﷺ: أنتم تُوفُونَ سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله[2]، والأحاديث في هذا كثيرة تذكر عند قوله تعالى: كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ.

ومن أدلة تفضيل هذه الأمة على غيرها من الأمم قوله تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ [سورة البقرة:143]، وما جاء في الأحاديث مثل: نحن الآخرون السابقون يوم القيامة[3]، وحديث العمل في أول النهار، وفي وسط النهار، وفي آخر النهار[4]، فكل هذه النصوص تدل على أن هذه الأمة أفضل من بني إسرائيل.

وحتى من الناحية العملية الواقعية -كما سيأتي في هذه الآيات وفي غيرها- لا يصح أن يقال: إن تفضيل بني إسرائيل على جميع العالمين مطلقاً؛ ومما يبين ذلك من الناحية العملية أن الله تعالى قال عنهم أنهم قالوا: يَا مُوسَى إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُواْ فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ [سورة المائدة:24]، فهل يقول أحد مثل هذا الكلام؟

حتى أن الذين اصطفاهم موسى ﷺ لميعاده لربه في الطور الذين قال الله عنهم: وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِّمِيقَاتِنَا [سورة الأعراف:155]، لما سمعوا موسى يناجي ربه، قالوا:لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً [سورة البقرة:55]، طمعوا في الرؤية، فتأمل كيف يتصرفون وهم خيار بني إسرائيل وأفضلهم، حتى أنه قيل: إنهم لما أخذ عليهم العهد وسمعوا أمر الله قالوا: إن شئت فافعل، وإن شئت فذر، إنهم حتى في هذا المقام يقولون مثل هذا الكلام!!

ولما أمروا بالسجود كما قال الله :وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ [سورة النساء:154]، وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ [سورة البقرة:63]، فهؤلاء يتلكئون عن التلقي عن الله فرفع الله فوقهم الطور حتى كاد الطور-أي الجبل- أن يقع فوقهم، حتى إنه قيل: إن سجدة بني إسرائيل كانت على جانب الجبهة ويرفعون العين الأخرى، فهم كانوا في حالة السجود وهم تحت الجبل في غاية الخوف أن يسقط عليهم، ومع ذلك سجدوا هذا السجود الذي يكون بهذه الصفة بحيث ينظرون بالعين الأخرى إلى الجبل، فكان ذلك سنة متبعة لهم في سجودهم إلى غير ذلك.

فهؤلاء ابتلاهم الله بخوف وطمع، وطمعهم يظهر في قصة الحيتان، قال تعالى: إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ [سورة الأعراف:163]، فاحتالوا الحيلة المعروفة فمسخوا، وابتلاهم بخوف كما في قصة الجبارين فلم يثبتوا.

وهذه الأمة ابتلاها الله بالخوف والطمع فأفلحوا، فلما قال النبي ﷺ وهو يستشير أصحابه في يوم بدر: أشيروا علي أيها الناس قالوا: لا نقول كما قالت بنو إسرائيل: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون، بل نقول: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون"[5].

وكذلك لما ابتلاهم الله بالطمع ثبتوا، وهذا له أمثلة كثيرة جداً، منها قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللّهُ بِشَيْءٍ مِّنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللّهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ [سورة المائدة:94] إلى غير ذلك، فكان الواحد منهم يمر بالضبي حاقفاً لا يثيره ولا يريبه أحد.

وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ [سورة البقرة:48]، لما ذكرهم الله تعالى بنعمه أولاً عطف على ذلك التحذير من طول نقمه بهم يوم القيامة فقال: وَاتَّقُواْ يَوْماً يعني: يوم القيامة.

وَاتَّقُواْ يَوْماً أي: اتقوا أهوال يوم وأوجال يوم؛ لأن اليوم ظرف زمان، ومثل هذا لا يتقى في الأصل، ولكنه جرت عادة العرب أن تحذر من ساعة أو من يوم أو من سنة أو من زمان من الأزمان والمراد بذلك ما يقع فيه من الأهوال والأوجال، فقوله: وَاتَّقُواْ يَوْماً أي: اتقوا أهوال يوم.

وقوله: لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً أي: لا تجزيه أو لا تجزي فيه -على القولين المشهورين عند المفسرين وأصحاب معاني القرآن- لا تجزي فيه نفس عن نفس شيئاً، أو لا تجزيه، والأوضح في المعنى لا تجزي نفس أي: لا تجزي فيه نفس عن نفس شيئا.

لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً أي: لا يغني أحد عن أحد، كما قال تعالى: وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [سورة الأنعام:164]، وقال: لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [سورة عبس:37]، وقال: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئًا [سورة لقمان:33]، فهذا أبلغ المقامات أن كلاً من الوالد وولده لا يغني أحدهما عن الآخر شيئاً.

هذا كما قال الله  يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ [سورة المعارج:11].

فالحاصل أن قوله: لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً [سورة البقرة:48] يعني لا تكفي وتقضي أو تغني نفس عن نفس شيئاً، يعني أنه إذا كان أحد من الناس محتاجاً إلى شيء من الحسنات لترجح كفته، ولو كان أقرب الناس كالوالد والولد، فإن أحداً من الناس لا يقضي عنه، قال تعالى: وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى [سورة فاطر:18]، فمعنى لا تجزي أي لا تقضي، أو لا تغني وهما متقاربان في المعنى، أو لا تكفي: من الكفاية، وما أشبه ذلك من الألفاظ التي يمكن أن يفسر بها ذلك، والمعنى لا ينفع أحد أحداً.

ويستثنى من ذلك ما ورد في النصوص فيما يتعلق بالشفاعة لأهل التوحيد من أهل الكبائر وغيرهم، أما أن يعطي أحد من الناس أحداً غيره من حسناته أو أنه يعيره شيئاً من ذلك فإن ذلك غير وارد ولو كان أقرب الناس إليه؛ بل هو يتمنى أن يفتدي بهؤلاء جميعاً.

وقوله تعالى: وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ [سورة البقرة:48] يعني من الكافرين، كما قال: فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ [سورة المدثر:48]، وكما قال عن أهل النار: فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ ۝ وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ [سورة الشعراء:100-101].

وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ يعني من الكافرين؛ لأنه يفهم من الأدلة الأخرى إثبات الشفاعة.

وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ لا في قليل ولا في كثير؛ لأن شروط الشفاعة الثلاثة المعروفة منها: أن يرضى الله عن المشفوع له، وأن يأذن بالشفاعة، والله لا يرضى عن الكافرين، فلا تنفعهم الشفاعة.

والشفاعة معروفة وهي من الشفع، ومعناها الشرعي معروف، فالمقصود أن ذلك مخصوص بالشفاعة بأهل التوحيد.

وقوله: وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ [سورة البقرة:48] أي: لا يقبل منها فداء، كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الأرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ [سورة آل عمران:91]، وقال: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُواْ بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [سورة المائدة:36]، وقال تعالى: وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَا [سورة الأنعام:70]، وقال: فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ الآية [سورة الحديد:15]

يفسَّر قوله -تبارك وتعالى: وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ [سورة البقرة:123]، وقوله في الآية الأخرى: وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ [سورة البقرة:48] بأن ذلك بمعنى الفداء، كما قال الله لَا يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ [سورة الحديد:15]، وكذلك في قوله: وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَا [سورة الأنعام:70]، أي مهما قدمت من الفداء الذي تريد الخلاص به، فإن ذلك لا ينفعها ولا يغني عنها عند الله شيئاً.

والعدل كما في قول الله في الآية الأخرى، لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا [سورة المائدة:36] وكذلك:مِّلْءُ الأرْضِ ذَهَبًا [سورة آل عمران:91]، فالذهب وما في الأرض جميعاً ليس من جنس الإنسان، فالإنسان يريد أن يفتدي بأموال الدنيا من الذهب وغيره، وذلك ليس من جنس الإنسان، فإذا افتدى بغير جنسه فذلك يقال له: العدل، فقوله: وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ أي فداء، يفتدي بالمال وما إلى ذلك.

والعِدل –بالكسر- ما كان الفداء فيه من جنس المفتدي، فإذا افتدى بإنسان فإن ذلك يكون من قبيل العِدل، ومنه ما يوضع على البعير من الحمل بحيث يستوي يكون أحد الطرفين في الجهة اليمنى، والطرف الآخر في الجهة اليسرى فيقال: هذا عِدل لهذا، وما كان المعاوضة فيه من غير الجنس يقال له: عَدل، فهنا لا يقبل منها عَدل، أي فداء بالمال وما أشبه ذلك، وهذا هو الغالب في لغة العرب، أي: التفريق بهذا الاعتبار، وإن كان يرد هذا أحياناً في مكان الآخر، فيستعمل أحياناً بالكسر وبالفتح مراداً به الفداء مطلقاً، لكنه لكن الغالب ما ذكرت، والله أعلم.

فأخبر تعالى أنهم إن لم يؤمنوا برسوله ويتابعوه على ما بعثه به، ووافوا الله يوم القيامة على ما هم عليه فإنه لا ينفعهم قرابة قريب ولا شفاعة ذي جاه، ولا يقبل منهم فداء، ولو بملء الأرض ذهباً، كما قال تعالى: مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ [سورة البقرة:254]، وقال: لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خِلاَلٌ [سورة إبراهيم:31].

وقوله تعالى: وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ [سورة البقرة:48] أي: ولا أحد يغضب لهم فينصرهم وينقذهم من عذاب الله، كما تقدم من أنه لا يعطف عليهم ذو قرابة ولا ذو جاه ولا يقبل منهم فداء، هذا كله من جانب التلطف.

قوله:"من جانب التلطف" يعني كما يقال: بالطرق الدبلوماسية بأن يأتي أحد يتوسط ويشفع، أو يدفع المقابل –المعاوضة- هذه طرق الخلاص، إما أن يأتي أحد يتوسط فيطلق هذا الإنسان الأسير، أو أنه بالمعاوضة بالفداء وبالتفاهم، يدفع مقابل ذلك مال، ويطلق وتنتهي المشكلة، أو بالقوة بحيث يأتي أناس يخلصونهم بالقوة، أما في ذلك اليوم فقد قطع الله عليهم طرق الخلاص، لا فداء ولا شفاعة ولا بالقوة لوجود الناصر.

ولا لهم ناصر من أنفسهم ولا من غيرهم كما قال: فَمَا لَهُ مِن قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ [سورة الطارق:10] أي: إنه تعالى لا يقبل فيمن كفر به فِدْيَة ولا شفاعة، ولا ينقذ أحداً من عذابه منقذ، ولا يخلص منه أحد، ولا يجير منه أحد، كما قال تعالى: وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ [سورة المؤمنون:88]، وقال: فَيَوْمَئِذٍ لَّا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ ۝ وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ [سورة الفجر:25-26]، وقال: مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ ۝ بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ [سورة الصافات:25-26]، وقال: فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ الآية [سورة الأحقاف:28].

وقال الضحاك عن ابن عباس في قوله تعالى: مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ [سورة الصافات:25] ما لكم اليوم لا تمانعون منا؟ هيهات ليس ذلك لكم اليوم.

قال ابن جرير: وتأويل قوله: وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ [سورة البقرة:48] يعني: أنهم يومئذ لا ينصرهم ناصر، كما لا يشفع لهم شافع، ولا يقبل منهم عدل ولا فدية، بَطَلت هنالك المحاباة، واضمحلت الرِّشى والشفاعات، وارتفع من القوم التناصر والتعاون وصار الحكم إلى الجبار العدل الذي لا ينفع لديه الشفعاء والنصراء، فيجزي بالسيئة مثلها وبالحسنة أضعافها، وذلك نظير قوله تعالى: وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ ۝ مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ ۝ بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ [سورة الصافات:24-26].

وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوَءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ وَفِي ذَلِكُم بَلاء مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ ۝ وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ [سورة البقرة:49-50].

يقول تعالى: واذكروا يا بني إسرائيل نعمتي عليكم، وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوَءَ الْعَذَابِ أي: خلصتكم منهم وأنقذتكم من أيديهم صحبة موسى -، وقد كانوا يسومونكم، أي: يوردونكم ويذيقونكم ويولونكم سوء العذاب.

قوله تعالى: وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم أي: واذكروا إذ نجيناكم، أي: خلصناكم وفككناكم؛ والإنجاء معروف وهو التخليص، وأصله مأخوذ من النجوة، أي: الشيء المرتفع من الأرض البائن منها.

قوله: وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ الله –جل وعلا- خلصهم من آل فرعون، يعني من فرعون وقومه، فإن آل تأتي بمعنى أهل، فيقال: آل فلان، وقد يطلق مراداً به ذات الشخص، كما قال تعالى: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ [سورة غافر:46]، فليس المقصود هنا أنهم فقط آل فرعون أو أتباع فرعون، لا بل هو على رأسهم، بل إن بعض المفسرين يقول: أدخلوا آل فرعون، يعني أدخلوا فرعون، ومثل هذا قوله تعالى: وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ [سورة البقرة:248]، يعني وبقية مما ترك موسى وهارون.

فـ(آل) تأتي أحياناً مراد بها نفس الشخص، وأحياناً يراد بها نفس الشخص مع قومه وأتباعه، أو أهله وما أشبه ذلك.

هنا قوله تعالى: وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يعني من فرعون وقومه؛ لأن الذي كان يلي تعذيبهم هم قوم فرعون بأمر فرعون، ففرعون هو المتحكم فيهم، وإنما أولئك الذين يسومونهم سوء العذاب إنما يصدرون عن أمر فرعون.

وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ وفرعون معروف، كل من ملك مصر فهو فرعون، أي أنه لقب يعني وليس اسماً لشخص معين، فكل من ملك مصر من هؤلاء الكفرة فإنه يقال له: فرعون، وبعضهم يقول: هو لفظ أعجمي، وبعضهم يقول: هو عربي من تفرعن.

يَسُومُونَكُمْ سُوَءَ الْعَذَابِ: قال: يسومونكم هنا بمعنى يذيقونكم ويوردونكم ويولونكم، تقول: سامه خطة خسف، بمعنى أذاقه وألبسه، وتقول: سامه الخسف والذل، وسامه العذاب، بمعنى أذاقه وأولاه العذاب.

يَسُومُونَكُمْ سُوَءَ الْعَذَابِ: فهذه يمكن أن تكون حالاً، بمعنى يكون الكلام هكذا، وإذ نجيناكم من آل فرعون سائمين لكم سوء العذاب، يعني في حال كونهم سائمين، ويمكن أن يكون وإذ نجيناكم من آل فرعون وكانوا يسومونكم سوء العذاب، فتكون الجملة خبر لكان، فالمقصود أن الله ذكرهم بهذه النعمة حيث خلصهم من فرعون وقومه.

قال سبحانه:  يَسُومُونَكُمْ سُوَءَ الْعَذَابِ، ثم قال مفسراً لهذا العذاب: يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءكُمْ [سورة البقرة:49].

وذلك أن فرعون -لعنه الله- كان قد رأى رؤيا هالته، رأى ناراً خرجت من بيت المقدس.

هذا جواب لسؤال هو: لماذا كان فرعون يقتل الأبناء ويبقي البنات؟ وقد ذُكرت في هذا آثاراً وردت عن بعض السلف وهي مبنية على إسرائيليات، فالحاصل أن مما ذكر أن الكهنة أخبروه لما رأى رؤيا ففسرت له، أو أن الكهنة أخبروه ابتداءً بأنه سيولد من الإسرائيليين ولد، وأنه سيكون زوال ملكه على يد هذا الولد، فصار يقتلهم سنة ويتركهم سنة. 

وسبب تركهم سنة إما أن هؤلاء المنجمين أو هؤلاء الكهنة كما جاء في بعض الإسرائيليات أخبروه عن شيء من ذلك فصار بمقتضاه يفعل هذا سنة وسنة، وإما أن يكون هذا الإبقاء -كما قال بعضهم- من أجل أن يبقى من يقوم على الأعمال المهينة الوضيعة، فكان الفراعنة يترفعون عنها ويكلونها إلى الإسرائيليين، فكانوا يبقون بعضهم من أجل هذا، ويقولون فكان هارون ﷺ في العام الذي لا يقتل فيه الأولاد، هكذا قال بعضهم، والعلم عند الله .

رأى ناراً خرجت من بيت المقدس فدخلت دور القبط ببلاد مصر إلا بيوت بني إسرائيل، مضمونها أن زوال ملكه يكون على يدي رجل من بني إسرائيل، ويقال: بل تحدث سماره عنده بأن بني إسرائيل يتوقعون خروج رجل منهم، يكون لهم به دولة ورفعة، فعند ذلك أمر فرعون -لعنه الله- بقتل كل ذَكر يولد بعد ذلك من بني إسرائيل، وأن تترك البنات، وأمر باستعمال بني إسرائيل في مشاق الأعمال وأرذلها.

يعني كأن بني إسرائيل عندهم نبوءة أنه سيخرج فيهم رجل يخلصهم، فبطبيعة الحال هذه القضايا تتنامى وتصل إلى كثير من الناس حتى من أعدائهم وخصومهم، وهؤلاء السمار عند السلطان كأنهم في سوق كما هو معروف، ينفق فيه هؤلاء السمار بحسب حال هذا السلطان، وهؤلاء السمار يعرفون فرعون، ويعرفون حاله، فيوردون له من الحكايات والقصص والأخبار ما يصلح له ويطرب له، فهذا أمر طبيعي؛ إذ لن يتحدثوا معه عن قيام الليل وصيام النهار وأخبار العبَّاد، وإنما سيحدثونه عن أمور يطرب لها، ولهذا قالوا: أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ [سورة الأعراف:127]؟

هؤلاء هم سماره وجلساؤه وخاصته، فما الظن بمثل فرعون أن يقرب منه إلا مثل هؤلاء، فهو لا يقرب إلا من كان على شاكلته، والطيور على أشكالها تقع، والله المستعان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. 

وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وسلم تسليماً كثيراً.. والحمد لله رب العالمين.

  1. أخرجه البخاري في كتاب: التفسير – باب: قوله تعالى: كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [سورة آل عمران:110](4281) (ج 4/ص 1660).
  2. أخرجه الترمذي في كتاب: تفسير القرآن – باب: سورة آل عمران (3001) (ج 5/ص 226)، وابن ماجه في كتاب: الزهد – باب: صفة أمة محمد ﷺ (4288) (ج 2/ص 1433) وأحمد (ج 5/ص 3)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع برقم (2301).
  3. أخرجه البخاري في كتاب: الجمعة - باب:فرض الجمعة (836) (ج 1/ص 299) ومسلم في كتاب: الجمعة - باب: هداية هذه الأمة ليوم الجمعة (855) (ج 2/ص 585).
  4. أخرجه البخاري في كتاب: الإجارة – باب: باب الإجارة إلى نصف النهار (2148) (ج 2/ص 791).
  5. البداية وانهاية (ج 1/ص 279) وتاريخ الطبري (ج 2/ص 27)، وأصله في البخاري في كتاب: المغازي - باب قوله تعالى: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ [سورة الأنفال:9] (3736) (ج 4/ص 1456).

مواد ذات صلة