السبت 11 / شوّال / 1445 - 20 / أبريل 2024
الآية 16 من سورة الإسراء
تاريخ النشر: ٠٧ / رمضان / ١٤٢٨
التحميل: 1803
مرات الإستماع: 3107

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فمن الآيات التي قد تُفهم على غير مراد الله -تبارك وتعالى- قوله في سورة الإسراء: وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا [الإسراء:16]، قد يفهم بعض من يقرأ هذه الآية أن الله -تبارك وتعالى- يأمر هؤلاء بالفسق، مع أن الله لا يرضى لعباده الكفر، وقال -جل وعلا- ردًّا على المشركين الذين كانوا إذا فعلوا فاحشة قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا [الأعراف:28]، فقال: قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ۝ قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ [الأعراف:28-29]، الآية، فالمعصية والفسق لا يأمر الله بها؛ لأنها غير مرضية، فكيف قال الله : أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا؟ [الإسراء:16].

من السلف من قال: وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا [الإسراء:16]، أي: أمرناهم بالطاعة فعصوا، وأمرناهم بالإيمان فكفروا، فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا [الإسراء:16]، وقعت عليهم كلمة العذاب.

ومن أهل العلم من يقول: أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا، أي: أمرناهم كوناً وقدراً بالمعصية والكفر؛ لأن وقوع الكفر من الكافرين، والمعصية من العاصين، والطاعة من المطيعين كل ذلك بقضاء الله وقدره، وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [الإنسان:30]، فلا يقع في الكون تحريكة ولا تسكينة إلا مما قضاه الله وقدره كوناً، فالخلق خلقه، والمُلك ملكه، فيكون الأمر بهذا الاعتبار بمعنى الأمر الكوني، ولعل هذا هو الأقرب مع أن الآية تحتمل المعنى الذي قبله، والله تعالى أعلم.

والموضع الآخر من هذه السورة سورة الإسراء هو قوله : مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا ۝ وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا [الإسراء:18-19]، هذه الآية قد يُفهم من ظاهرها أن من كان له إرادة وتطلب للدنيا -أيّ إرادة- فإنه متوعد بهذه العقوبة، مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ، أي: الدنيا، قيل لها عاجلة؛ لأن ما فيها من الشهوات والملذات متقضية زائلة.

عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ [الإسراء:18]، فقيد هذه الآية بقيدين: عجلنا له فيها ما نشاء من العطاء، فما كل ما تمناه يحصل له، وقيدها أيضاً بالمُعطَين فما كل من تمنى أُعطي، "لمن نريد"، فهي مقيدة، وآية هود يقول الله فيها: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ [هود:15]، ولم يقيدها، أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [هود:16]، وقال في آية آل عمران: وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ [آل عمران:145]، ولم يقيدها، وفي آية الشورى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا [الشورى:20]، ولم يقيد ذلك، فالشاهد أن هذه أربع آيات في كتاب الله .

والمقصود هو ما ذكرته، هل كل من له إرادة ولو كانت قليلة ولو كانت جزئية للدنيا متوعَّد بهذه العقوبة النار وحبط ما صنع، تحبط أعماله لأنه له إرادة للدنيا؟ هل الدين يأمر أتباعه بأن يعرضوا عن الدنيا بالكلية، ولا يكون في قلوبهم تعلق بأدنى شيء منها؟.

الجواب: لا، لأن ذلك لا يمكن أن يتحقق، والله لا يأمر إلا بما يطاق، والله يقول: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ [آل عمران:14]، فهذا كله مزين في نفوس الناس، ولابد أن يوجد في نفس الإنسان تطلب للحياة الدنيا، إذن ما المراد بهذه الآية: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ [الإسراء:18]، وفي هود: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ ۝ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا؟  [هود:15-16]، حملها بعض السلف ومنهم معاوية بن أبي سفيان على أن المقصود بذلك أهل الرياء، وهذا المعنى صحيح، فإن الإنسان إذا كان مرائياً بالإيمان في أصل الإيمان فهذا جزاؤه، أو كانت جميع أعمال الإنسان رياء، لكن لو دخل الرياء في بعض الأعمال فلا يكون متوعَّداً بذلك، وأبو هريرة لما ذكر حديث الثلاثة الذين تُسعر بهم النار، أول من تُسعر بهم النار يوم القيامة، الرجل الذي قرأ القرآن ليقال: قارئ، والرجل المنفق ليقال: جواد، والرجل المجاهد ليقال: شجاع، وبكى أبو هريرة بكاءً شديداً، الشاهد أنه قال في آخره: "صدق رسول الله ﷺ ثم قرأ الآية: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا [الإسراء:18]"[1]، فحملها أبو هريرة  على أهل الرياء أيضاً، فهذا قال به طائفة من السلف، وهو صحيح بهذا التوجيه الذي ذكرته آنفاً، ومما يدخل فيها أيضاً هو أن تكون إرادة الإنسان في كل عمل يعمله هي الدنيا، فتكون الدنيا هي طِلبته من أجلها يقوم، ومن أجلها يقعد، ومن أجلها يعمل، ومن أجلها يعطي ومن أجلها يأخذ، لا يريد إلا الدنيا، حتى بالأعمال الصالحة، إذا صام فمن أجل أن يصح بدنه، وإذا زكى فمن أجل أن يزكو ماله، وإذا وصل الرحم فمن أجل أن يُنسأ له في أثره ويطال في عمره، وإذا مشى إلى المسجد فإنه يفعل ذلك طلباً للنشاط وعافية البدن مثلاً، وإذا صلى مع الجماعة فمن أجل إقامة عدالته، وقبول شهادته، وهكذا في كل عمل يعمله.

فإذا كانت هذه حال الإنسان لا يريد إلا الدنيا فيصدق عليه ذلك ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا [الإسراء:18]، وفي هذا بوّب الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- في كتاب التوحيد باب من الشرك إرادة الإنسان بعمله الدنيا، وذكر آية هود بهذا الاعتبار.

إذن الخلاصة: ليس المراد بذلك أن من وجد في قلبه إرادة للدنيا أنه متوعَّد بالنار، فهذا يقع لكل إنسان، وإنما المقصود أن تكون الدنيا هي همه وهمته وطليبته التي لا يفكر إلا بها فهو متوعد بالنار، نسأل الله لنا ولكم العافية.

هذا، وأسأل الله أن ينفعنا وإياكم بالقرآن العظيم، وأن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.

  1. أخرجه مسلم، كتاب الإمارة، باب من قاتل للرياء والسمعة استحق النار، برقم (1905)، والترمذي، أبواب الزهد عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء في الرياء والسمعة، برقم (2382).

مواد ذات صلة