الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
يقول الله -تبارك وتعالى- في سورة الإسراء: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا [الإسراء:31]، والمعروف في التاريخ أن المشركين كانوا يقتلون البنات، ولم يكن ذلك واقعاً من جميعهم، بل كان يقع من بعض قبائلهم، كانوا يقتلون البنت وهي حية بالوأد خشية العار، فقد يستشكل القارئ هذا الموضع من كتاب الله حيث قال الله -تبارك وتعالى: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ [الإسراء:31]، والإملاق هو الفقر، يقال: أملق الرجل إذا افتقر، ولم يبقَ له إلا الملقات وهي الحجارة الكِبار الملساء، كما يقال: لم يبقَ له إلا التراب.
فالشاهد أن هذه الآية تذكر علة قتلهم للأولاد وهي خشية الإملاق، خوف الفقر، وكلام الله -تبارك وتعالى- حق لا شك فيه، لا يتطرق إليه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، والمراد هنا -والله تعالى أعلم- أن العرب كانوا يقتلون البنت وهي حية خشية أن تفتقر فتُضطر إلى بيع عرضها، فيلحقهم العار بسبب ذلك، ولهذا قال الله في هذه السورة -سورة الإسراء- وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ [الإسراء:31]، يعني: من فقر متوقع إذا كثُر عيالكم، نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ الإسراء:31، قدم رزق الأولاد على رزق الآباء، نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ [الإسراء:31]، رزقهم من الله -تبارك وتعالى، وَإِيَّاكُمْ [الإسراء:31]، ونرزقكم معهم، وفي سورة الأنعام وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ [الأنعام:151]، من فقر موجود واقع، نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ [الأنعام:151]، قدم رزق الآباء؛ لأنهم فقراء، وَإِيَّاهُمْ [الأنعام:151].
المقصود أن العرب كانوا يقتلون البنت وهي حية خشية أن تفتقر ثم تُضطر إلى بيع عرضها؛ وذلك لفرط غيرتهم كما قال أحدهم وعنده بنت يقال لها: الجرباء خطبها رجل، فقال:
إني وإنْ سيق إليّ المهرُ | ألفٌ وعُبدانٌ وذَودٌ عَشرُ |
أحبُّ أصهاري إليّ القبرُ
وآخر عنده بنت يقال لها: مودة، يقول:
مودةُ تهوى عمْرَ شيخٍ يَسرُّه | لها الموتُ قبل الليل لو أنها تدري |
وآخر يقول:
إذا تذكرتُ بنتي وهي تندبني | فاضتْ لعبرة بنتي عبرتي بدمِ |
يقول: إذا كانت بنتي تبكي تسيل منها الدموع أنا أستعبر ويسيل مني الدم.
إذا تذكرتُ بنتي وهي تندبني | فاضتْ لعبرة بنتي عبرتي بدمِ |
أحاذر الدهر يوماً أن يُلمَّ بها | فيهتكَ الستر عن لحمٍ على وَضمِ |
يقول: أخشى عليها الفقر، أخشى أن تحتاج بعدي.
أحاذر الدهرَ يوماً أن يُلمَّ بها | فيهتكَ الستر عن لحمٍ على وَضمِ |
أخشى عليها فظاظة عمٍّ أو جفاء أخٍ | وكنت أخشى عليها من أذى الكلمِ |
يقول: أخشى عليها بعدي أن يجفوها أخوها أو عمها، وكنت أُحاذر عليها من الكلمة، من نسمات الريح.
تهوى حياتي وأهوى موتها شفقاً | والموت أكرم نزّال على الحُرمِ |
فالمقصود: أنهم كانوا يفعلون هذا لفرط غيرتهم وهم جاهلون، وهذا لا شك أنها غيرة في غير محلها، مبالغ فيها، والله يقول: وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ [التكوير:8-9]، تُسأل تبكيتاً للذي قتلها ووأدها.
وإذا نظر الإنسان إلى حال كثير من المسلمين اليوم حيث ذهبت غيرتهم، وأصبحت البنت تذهب حيث شاءت، وتفعل ما شاءت في كثير من بلاد المسلمين، تصاحب من شاءت، وتخالط من شاءت، وتلبس ما شاءت، ويتركونها سارحة بين الذئاب البشرية بحجة الثقة أو الحرية، ولربما خرجت شبه عارية في برك السباحة، وعلى شواطئ البحار وما إلى ذلك مما تعلمون، وأهلها ينتسبون إلى الإسلام، أين ذهبت غيرتهم؟ وأين هم من تلك الغيرة الجاهلية المبالغ فيها؟، فأين إسلامهم؟، وأين غيرة الرجولة التي جعلها الله فطرة في الآدميين؟، فهذا هو الموضع الأول.
والموضع الثاني: وهو في سورة الكهف وهو قوله -تبارك وتعالى: وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ [الكهف:23-24]، فإن الكثيرين من المسلمين يفهمون الآية على غير مراد الله ، فيظن الواحد منهم أنه إن نسي شيئاً وأراد أن يتذكره قال: لا إله إلا الله، وليس هذا هو المقصود من هذه الآية: وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا [الكهف:23].
والروايات التي وردت في سبب النزول -وهي لا تخلو من ضعف- مُحصلها وخلاصتها: أن المشركين في مكة بعثوا إلى اليهود في المدينة أنتم أهل كتاب أعطونا سؤالات نسأل هذا الرجل، نختبره فيها هل هو نبي أو لا، فقالوا: اسألوه عن ثلاثة أشياء: اسألوه عن الروح، واسألوه عن رجل طواف في الأرض، وهو ذو القرنين الذي قص الله خبره في سورة الكهف، واسألوه عن فتية في غابر الدهر، وهم أصحاب الكهف، فجاء النضر بن الحارث وسأل النبي ﷺ، أو سألوا النبي ﷺ عن هذه الأمور[1].
وابن القيم -رحمه الله- ذكر بأن ذلك من قبيل المجمع عليه، يعني: أن هذا سبب النزول بالإجماع[2]، مع أن الروايات لا تخلو من ضعف، فهم سألوا النبي ﷺ فقال: أُخبركم غداً، ولم يقل: إن شاء الله، فتأخر الوحي عنه خمس عشرة ليلة، واشتد ذلك على النبي ﷺ، ثم نزل عليه الوحي في خبر هؤلاء وأدّبه الله بهذا الأدب[3]، وهو: وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [الكهف:23-24]، وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ [الكهف:24]، ليس معناه إذا نسيت شيئاً من الأشياء قل: لا إله إلا الله، لا، وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ [الكهف:24]، أي: في الاستثناء قل: إن شاء الله، تحقيقاً لهذه السنة، وهذا الأدب الذي أدبنا الله به، بمعنى إذا قلت لأحد: سأفعل لك كذا في الغد، ونسيت أن تقول: إن شاء الله، فتذكرت بعد ذلك فقل: إن شاء الله، ونُقل عن ابن عباس -ا- كما هو مشهور عنه أنه يصح الاستثناء بعد سنة في اليمين[4]، وجاء عن بعض السلف في شهر وفي شهرين، ولكن ما فُهم مرادهم، فابن عباس لا يقصد أن الإنسان إذا قال: والله لأفعلن كذا، ثم بعد سنة أو بعد ستة أشهر أو أقل أو أكثر يقول: إن شاء الله أنه لا يحنث إذا فعل أو ما فعل، لا، وإنما قصد أن ذلك من الأدب اللائق أن يقول: إن شاء الله، لكن ذلك لا يمنع من أن يكون عليه الكفارة، كفارة اليمين إذا حنث في يمينه، هذا مراد ابن عباس -ا.
والمقصود أن قول الله : وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [الكهف:23-24]، أن الإنسان إذا أراد أن يعد عدة في المستقبل، أو أن يتكلم ليخبر عن فعل يريد أن يفعله في المستقبل فإن عليه أن يقول: إن شاء الله، فإذا نسي ذلك فإنه غير مؤاخذ بسبب هذا النسيان فعليه أن يقول ذلك تأدباً ولو بعد حين، وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ [الكهف:24]، إذا نسيت أن تقول: إن شاء الله، فقلها إذا تذكرتها، هذا هو المعنى، والله تعالى أعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- جامع البيان عن تأويل آي القرآن لابن جرير الطبري (15/ 143)، وتفسير ابن كثير (5/ 136).
- انظر: مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (2/ 403)، حيث قال -رحمه الله: "والذي أجمع عليه المفسرون: أن أهل مكة سألوا النبي عن الروح وعن أصحاب الكهف وعن ذي القرنين، فقال: أخبركم غدًا، ولم يقل: إن شاء الله، فتلبث الوحي أيامًا ثم نزلت هذه الآية".
- جامع البيان عن تأويل آي القرآن لابن جرير الطبري (15/ 143)، وتفسير ابن كثير (5/ 136).
- أخرجه الطبراني في الكبير، برقم (11069)، والأوسط، برقم (119).