الجمعة 20 / جمادى الأولى / 1446 - 22 / نوفمبر 2024
(017) تتمة قوله تعالى: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا...} الآية
تاريخ النشر: ٢٠ / شوّال / ١٤٣٧
التحميل: 800
مرات الإستماع: 1350

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فلا زال الحديث متصلاً فيما يُستخرج من الهدايات من قوله -تبارك وتعالى-: قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُوْلِي الأَبْصَارِ [آل عمران:13]، تقدم ذكر معنى هذه الآية الكريمة على سبيل الإجمال والإيجاز في المجلس السابق.

يؤخذ من هذه الآية من الهدايات والمعاني: قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا، يعني: أن ذلك فيه عبرة كما قال في آخر الآية: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُوْلِي الأَبْصَارِ فضرب لهم المثل بهاتين الفئتين، وما جرى في ذلك حيث يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ، وكيف حصل هذا الانتصار الكبير الساحق من قِبل هذه الفئة القليلة على الفئة الكثيرة، فهذا يدل على حقيّة ما هم عليه، وعلى تأييد الله لهم.

ويدل أيضًا على ما يكون للكفار من الهزيمة والغلبة والبوار، فالله يضرب لهم الأمثال؛ ليتعظوا ويعتبروا، والعاقل كما قيل من وعِظ بغيره، فيكون ذلك عِظة لهم، وعبرة بأمر قد وقع وكان وعرفوه وذاع وسار به الرُكبان، فليس ذلك بخاف على أحد.

قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ وهذا جواب قسم محذوف مُقدر حُذف منه فعل القسم، وحرف القسم، والمُقسَم به، وفعل القسم، كل ذلك قد حُذف، وهذا من قبيل القسم المُضمر، فالقسم على نوعين:

القسم الظاهر: هو الذي يُذكر معه فعل القسم وأداته والمُقسم به، وقد يُحذف بعض ذلك يعني قد يُحذف فعل القسم، ويبقى حرف القسم، ويكون من قبيل الظاهر، وحينما يُحذف ذلك جميعًا فهذا من قبيل القسم المُضمر، يعني: كأنه يقول: أُقسم والله، أُقسم بالله، فهذا محذوف من القسم.

قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فهذا أيضًا، وما فيه ما في ضمنه قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا، "كان لكم" فقدم ما يتعلق بهم مما حقه التأخير، وإذا قُدم ما حقه التأخير "لكم"، ما قال قد كان آية لكم في فئتين، لا، قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ، فهذا من أجل الاهتمام بالمقُدم، والمقصود تنبيه الأذهان وإيقاظ العقول بهذا المثل المضروب لهم بهاتين الفئتين، فذلك هو المطلوب، فقدم ما يتصل بهم، هذا قد مضى نظائر له، وقلنا: إنه يدل على الاعتناء والاهتمام بالمُقدم.

قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ والآية هي العلامة التي تدل على تأييد الله وصدق ما جاء به الرسول  ﷺ، وكذلك ما ينتظر هؤلاء الكفار من الهزيمة والغلبة، وتنكير الآية في هذا الموضع يدل على التعظيم، "آية عظيمة" قد كان لكم آية علامة ظاهرة لا خفاء فيها.

آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ، قدم الفئة الأولى باعتبار أنها الأشرف، وأنها المقصودة، وأن الدعاء إلى الإيمان إنما يكون بالسير في ركابها والكون معها، فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ويؤخذ من ذلك أيضًا أن الغاية والقصد من القتال المعتبر شرعًا هو ما كان في سبيل الله، وهذا ينتظم أصلين كبيرين لطالما مضى وتكرر التنبيه عليهما:

الأول: وهو الإخلاص للمعبود .

والثاني: موافقة الشرع، فإنه لا يكون جهادًا في سبيل الله إلا ما تحقق فيه هذان الوصفان، أن يكون خالصًا لله ، وصحة القصد في هذا أن تكون كلمة الله هي العليا: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله[1]، هذا هو الضابط الذي صرّح به النبي ﷺ، وما عداه فذلك جهد ضائع وعمل باطل كالذي يُقاتل حمية أو عصبية، ولما سُأل النبي ﷺ عن هؤلاء بيّن أن القتال المُعتبر شرعًا هو ما كان لإعلاء كلمة الله: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله، ومن ثَم فالذي يُقاتل رياءً، والذي يُقاتل سمعة، والذي يُقاتل لدنيا، كل هؤلاء قتالهم ليس جهادًا شرعيًا ولا عبرة به.

فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فلابد من القصد الصحيح.

والأمر الثاني: وهو الموافقة للشرع، يعني: الله هو الذي شرع القتال وهذا القتال المشروع له ضوابط حددها الشارع، فمن كان قتاله على غير هذا الوجه، وفي غير هذا السبيل؛ فقتاله ليس في سبيل الله، يعني: قد تكون نيته صحيحة، ولكنه يخبط خبط عشواء؛ فيُفسد أكثر مما يُصلح، فلا يُراعي حدود الشرع في ذلك كله، فلابد من ضبط هذا القتال بالضوابط الشرعية: فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وهذه الفئة المتحققة بهذا الوصف هي التي تستحق النصر، ضرب الله بها المثل وحصل ما حصل: يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ فهي التي تستحق المدد والعون من الله والنصر، فإذا تخلف هذا الوصف تخلف عنها النصر بحسب ما يكون من تخلفه، تخلف هذا الوصف.

كذلك أيضًا ما يُطلب -وهو داخل في العمل المشروع- مع ذلك من إعداد العدة والقوة: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ [الأنفال:60]، وما يلتئم مع ذلك ويتبعه من كون هؤلاء على حال من التوكل على الله، والثقة به، والاستقامة على شرعه، التقوى فإن ذلك من أعظم أسباب النصر، فإن هذه الأمة لا تنتصر بعدد ولا عدة، فتقوى الله -تبارك وتعالى- عُدة عظيمة في القتال، إلى غير ذلك مما وجه الله إليه وأمر به.

كذلك أيضًا حينما ذكر الفئة الأخرى قال: وَأُخْرَى كَافِرَةٌ، الأولى "فئة" التقدير مؤمنة، تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، قال: وَأُخْرَى كَافِرَةٌ، يعني: تقاتل في سبيل الطاغوت، فحذف هذا الوصف، وذكر مقابله في الفئة الأولى، وَأُخْرَى كَافِرَةٌ فإذا قيل كافرة اسُتغني عن ما بعده فمعلوم أن الكافرة تُقاتل في سبيل الطاغوت، أما المؤمنة فإنها تُقاتل في سبيل الله، وَأُخْرَى كَافِرَةٌ وهذا يدل على افتراق الأحوال والأعمال والأهداف بين الفئتين، وأعظم ما يكون من البراءة من المشركين هو القتال كما ذكر ذلك أهل العلم، ويلي ذلك الهجرة في سبيل الله تعالى، هذه أبرز صور الولاء والبراء.

فهنا هذه تقاتل في سبيل الله مؤمنة، وهذه تقاتل في سبيل الطاغوت كافرة، وإذا كانت الأهداف مختلفة والأعمال متباينة والأحوال أيضًا في غاية الافتراق والاختلاف فلا يمكن أن يحصل الالتئام والاجتماع مع هؤلاء بحال من الأحوال، هؤلاء يختلفون في اهتماماتهم، وفي أهدافهم، وفي مقاصدهم، وفي أحوالهم، وفي أعمالهم؛ يختلفون عن أهل الإيمان، فمن أراد أن يجمع بين المؤمن والكافر، ولا يُفرق بين المؤمن والكافر؛ فهذا مُخالف لسنة الله في هذا الخلق ومُخالف لشرعه، لا يمكن.

ويؤخذ من هذه الآية: تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أضاف العمل إليها فهذا يدل على اعتقاد أهل السنة والجماعة فيما يتعلق بالقدر والأعمال بخلاف أهل الجبر الذين يقولون: بأن الإنسان مُجبر على فعله، الله يقول: تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ، فالإنسان له إرادة ومشيئة وعمل اختياري، لكنه لا يخرج عن إرادة الله ومشيئته: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [الإنسان:30]، فأثبت لهم مشيئة لكنها داخلة تحت مشيئته فلا يقع في كونه إلا ما يُريد.

يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ هذا توكيد بحيث لا يتوهم أنهم يرونهم مثليهم بحسب دراسات وتقديرات ونحو ذلك، وكم يشغلون من المساحة التي يقفون عليها إذن هم يبلغون العدد الفلاني، كم يأكلون من الإبل مثلاً في اليوم، كم ينحرون، ثم يُقدر العدد فيرونهم بهذا العدد بحسب اعتبارات معينة، لا، يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ إذًا هي رؤية بصرية، وهذا يدل على كمال قدرة الله ، ويدل على حكمته البالغة، وعلى أن نظام هذا الكون والسُنن الجارية فيه قد تتغير وتتحول من أجل أن يمضي ويجري مراده بنصر أولياءه، وكبت أعداءه.

وهنا قال: رَأْيَ الْعَيْنِ، والقاعدة أن التأكيد بالمصدر ينفي احتمال المجاز، وهذه قاعدة يوافق عليها أهل الكلام من المعتزلة والأشاعرة وغيرهم التوكيد بالمصدر ينفي احتمال المجاز، وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [النساء:164]، أكده بالمصدر إذن هو تكليم حقيقي، فهنا يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ، فهذا توكيد بالمصدر، يدل على أنها رؤية حقيقية وليست قلبية مثلاً بالعلم، ونحو ذلك.

أسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، ويجعلنا وإياكم هداة مهتدين -والله أعلم-.

وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.

  1. أخرجه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، برقم (2810)، ومسلم، كتاب الإمارة، باب من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله، برقم (1904).

مواد ذات صلة