الجمعة 20 / جمادى الأولى / 1446 - 22 / نوفمبر 2024
(021) تتمة قوله تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ} الآية
تاريخ النشر: ٢٦ / شوّال / ١٤٣٧
التحميل: 871
مرات الإستماع: 1216

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.

لا زال الحديث متصلاً في الكلام على قوله -تبارك وتعالى-: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ [آل عمران:14] وذكرنا أنه قدم النساء لأن تعلق الشهوة بهن أعظم، وفسرت الشهوات في قوله: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ بالنساء والبنين والقناطير، وأن ذلك يدل على انحطاط مرتبتها، وأنها لا تستحق أن يبذل الإنسان حياته وأنفاسه، ويُعلق آماله على هذه المطالب بعيدًا عن الله وطاعته وعبادته، وأن لا يكون ذلك هو الهدف الأسمى بالنسبة إليه، وبهذا يُعرف خطأ من تكالب على هذه اللذات، واشتغل بها عن آخرته، فإذا حان الأجل عرف عندها أنه كان يعبث، وأنه كان مُضيعًا مفرطًا، وأنه قد صرف أيام العمر بأمر لم يُخلق له.

وفي قوله: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ ذكر البنين بعد النساء؛ لأنهم متولدون عنهن، هذا من جهة، ومن جهة أخرى: لأن البنين مع النساء كل ذلك مقصود لذاته، وما ذُكر بعد ذلك فهو من قبيل الوسائل، فالقناطير المقنطرة لماذا يجمعها؟ ليتفرج عليها؟! بل من أجل أن يصرف ذلك في لذاته، وأن يتوصل به إلى مطالبه وشهواته وحاجاته، وما إلى ذلك، وكذلك أيضًا الخيل والأنعام والحرث كل هذا من باب الوسائل، فهي من الأموال التي يستغلها في مصالحه، ويتصرف فيها ليتوصل إلى مطالبه، فهذا شأنها، أما النساء والبنون فهو يبذل المال من أجل التوصل إلى ذلك؛ ولهذا حين يُسأل الإنسان: هل يُعادل أحدًا من البنين فضلاً عن كلهم بشيء من المال ولو كثُر؟ فإنه لا شك يُقدم البنين، ومن لا يُرزق بالبنين فإنه يبذل الأموال في سبيل التوصل إلى دواء، أو علاج، أو نحو ذلك، مما يمكن أن يُنجب معه إن كان ممن لا يُنجب.

وذكر بعد هذه المقاصد وهي النساء والبنين: القناطير المقنطرة، والقنطار -على الأرجح- هو المال الكثير، الذي لا يُحد بحد، هكذا تقول العرب، والمُقنطرة المُضاعفة، فهي أموال كثيرة جدًا، وهذا لا شك أنه أعظم في اشتغال القلب والفرح والالتذاذ، فإن الإنسان قد لا تعظم فرحته وبهجته ولذته، ويشعر أنه في بحبوحة إذا كان يملك مالاً قليلاً، ولكن الغِبطة والفرح بالمال الكثير، هو الذي يجعل الإنسان ينتشي ويعيش في شيء من سكرة الغِنى التي قد تُطغيه كَلَّا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى ۝ أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى [العلق:6-7] فهذه طبيعته إلا من ارتاضت نفسه بالإيمان، وطاعة الله -تبارك وتعالى-، وإلا فلا شك أن المال يُطغي ويُلهي، كما قال الله تعالى: أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ [التكاثر:1] ومن أعظم التكاثر: التكاثر بهذه الأموال.

وحينما ذكر الله أن الحياة متاع زائل، وأنها عبث ولعب، قال: وَتَكَاثُرٌ [الحديد:20] تكاثر في ماذا؟ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ [الحديد:20] تفاخر وتكاثر، ولاحظ أنه ذكر هذين الأمرين: الأموال والأولاد، والأموال تشمل المذكورات في هذه الآية من القناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث، فذلك من جملة الأموال، فهذه التي يحصل التفاخر والتكاثر بين الناس فيها، وهي التي ألهتهم.

أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ [التكاثر:1] يتكاثر كل بحسبه، يتكاثرون بالأرصدة بصورة عجيبة، فوجد من يقترض وهو يملك المال الكثير، يعني: مثلاً يملك مائة مليون، ويقترض شيئًا يسيرًا، وليس بحاجة لاقتراضه؛ لماذا يقترض؟ لئلا ينقص الرقم، فيقترض لئلا ينخرم الرقم؛ لأنه بلغ إلى مائة مليون، أو عشرة ملايين، أو مليون، يقترض من الآخرين ألف ريال، أو ألفين، أو خمسة، أو عشرة، هذا حال كثير من أهل الثراء، فالواقع أن أكثرهم يُديرون أموالهم والتجارات عن طريق القروض، وليست أي قروض، وإنما القروض من البنوك بالربا، فتجد شركات واسعة كبيرة ضخمة ووكالات، فهو يملك ولديه أرصدة وعقارات، لكنه لا يصرف منها شيئًا، كل العمل على القروض، فتلك مخزونة، لا تُمس، ولكنه يقترض ليُدير هذه التجارة، أو الشركات، أو نحو ذلك، والله -تبارك وتعالى- يقول: وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا [الفجر:20] ويقول: وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ [العاديات:8] والخير المقصود به هنا المال قطعًا باتفاق المفسرين، وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ [العاديات:8] يعني: أن الإنسان يُحب الخير الذي هو المال محبة شديدة، هكذا جُبل، وصار ذلك غريزة فيه، وهي حب التملك، حتى عند الصغير، يريد أن يتملك، يريد أن يكون هذا الشيء له، ويختص به دون غيره، ولو قيل له: العب به، هو لا يريد هذا، إنما يريد أن يكون مُلكًا له، ويفرح بما يُعطى، ولو لم يكن له شأن.

وهكذا الإنسان يستريح ويطمئن لأموال كثيرة لا يأكل عُشر معشارها، ولو قيل على سبيل الفرض لأحد هؤلاء المُلاّك الذين يملكون الثروات الهائلة، والعقارات الطائلة: كل ما ترى من هذا الفضاء وفي هذه الأحياء هو لك، لكن لا تمس من ذلك شيء لفرح، والواقع أنه قد لا يمس من ذلك شيئًا، حتى يموت، لكنه مُطمئن أنه يملك هذه العقارات، وأحدهم ما زال يحسب حتى رفع صوته فجأة بين جُلسائه، فرحًا مستبشرًا مغتبطًا، فلما سألوه، قال: بلغت الألفين، يعني: هذه المحال التجارية فقط، هذا الكلام قبل نحو خمسين سنة، أما الآن فالله أعلم، لكن الإنسان يموت ويترك ذلك جميعًا خلف ظهره، قد يتركه لوارث، لا يُنفق منه درهمًا واحدًا صدقة، أو يرفع يديه يدعو له أو يستغفر؛ وذاك هو الذي يُحاسب عليه، من أين اكتسبه؟ وفيما أنفقه؟

فالحاصل: أنه ذكر بعد القناطير المقنطرة من الذهب والفضة: الخيل المسومة، فقيل: الخيل المسومة: هي الراعية، فهي مسومة في المرعى، وقيل: هي الخيل الحِسان، وقيل: المُعلمة بشيات وعلامات، ونحو ذلك، وقيل غير ذلك، فهي معانٍ وأقوال يمكن أن يلتئم كثير منها تحت معنى الآية، والله تعالى أعلم.

فالمقصود: أنها خيل لها شأن، وخيل تستهوي أعين الناظرين، حينما تكون في مسارحها ومرعاها، ويضع أصحابها عليها من السِمات والعلامات التي تتميز بها، كما هو معروف عند أصحاب الخيل، وها هم الناس اليوم يتكالبون على اقتناء الخيل الحِسان، ويشترونها بالأموال الطائلة، ولا شك أن الخيل مقدمة على غيرها، وقد ذكرنا في بعض المناسبات أن المِهن والمزاولات والأعمال تؤثر في أصحابها؛ وقد ذكر النبي ﷺ: ألا إن القسوة وغلظ القلوب في الفدادين، عند أصول أذناب الإبل[1]، فالإنسان الذي يُعاشر الإبل كثيرًا، ويأكل من لحومها كثيرًا، ونحو ذلك يورثه ذلك شدة وغِلظة وجفاء؛ ولهذا يقال: إن الوضوء شُرع -والله أعلم- من أكل لحوم الإبل؛ ليُخفف من أثر لحومها[2]، وكذلك أصحاب الغنم قال النبي ﷺ: والسكينة في أهل الغنم[3].

وكذلك ورد بعض الآثار أن الذُل في أصحاب الحرث، وقد جاء عن بعض الصحابة لما رأى محراثًا قال: ما دخل هذا بيتًا إلا دخله الذُل، فأهل الحرث والزرع فيهم من الضعف والمذلة ما لا يوجد عند غيرهم، وأصحاب الخيل فيهم من القوة والفروسية والنجدة، وقوة البأس، ورباطة الجأش؛ ولذلك تجد بعض الذين عرفوا بالمهانة والضعف جِبلة وخِلقة يُقبلون الآن على الخيل، وركوب الخيل، وليسوا بأهل خيل، وليسوا بأهل فروسية، فهم أبعد الناس عن هذا، لكن ربما يكون ذلك من أجل تحصيل هذه المعاني، التي سمعوا، أو قرأوا عنها وهي: أن أصحاب الخيل أصحاب الفروسية فيهم من قوة القلب، والثبات، ورباطة الجأش، ما قد عُلم، فعلى كل حال فالخيل كانت هي قلاعهم وحصونهم، والنبي ﷺ قال: الخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة[4]، وورد فيها ما قد علمتم من النصوص، كقوله: الخيل لثلاثة: لرجل أجر، ولرجل ستر، وعلى رجل وزر، فأما الذي له أجر: فرجل ربطها في سبيل الله، فأطال في مرج أو روضة، فما أصابت في طيلها ذلك من المرج أو الروضة كانت له حسنات، ولو أنها قطعت طيلها فاستنت شرفًا، أو شرفين كانت أرواثها وآثارها حسنات له، ولو أنها مرت بنهر، فشربت منه ولم يرد أن يسقيها كان ذلك حسنات له، ورجل ربطها فخرًا ورئاء، ونواء لأهل الإسلام فهي وزر على ذلك[5].

ثم بعد ذلك ذكر الأنعام، وقدمها على الحرث، فلا شك أن الأنعام أكثر من ناحية التجمل والجمال والتكثر، فالناس ربما يتكثرون بها، ويطلبون المائة من الإبل فأكثر، فهذه عند العرب هي أموالهم؛ ولهذا كانت الديات مُقدرة بالإبل، والنبي ﷺ يقول: خير لك من حُمر النَعم[6]، وهي الإبل، فهذا وغيره يدل على أن هذه مما تتعلق به نفوس الناس، ويشتد تطلبهم له، فذكر الأنعام، ومن الأنعام البقر والغنم، ثم ذكر الحرث، وهو الزرع، فجعله في آخر هذه المراتب.

وذكر البنين بعد النساء فهو يتكثر بهم لَأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَدًا [مريم:77] وإذا كان البنين شهودًا في حضرته بين يديه، فذلك أعظم بالتعزز والفخر، وما إلى ذلك، وَبَنِينَ شُهُودًا [المدثر:13] وهنا ذكر البنين وهم الذكور، ولم يذكر الأولاد؛ ليشمل الإناث، فيمكن أن يكون ذلك باعتبار ما كان عليه العرب، فخاطبهم بما يعهدون، فكانوا يفتخرون ويعتزون ويتكثرون بالبنين، وكان الواحد منهم إذا بُشر بالأنثى كما قال الله : ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ ۝ يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ [النحل:58-59] يعني: يُبقيها عنده ذليلة أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ [النحل:59] يدفنها وهي حية موءودة، فكانوا يريدون الأبناء، ويؤثرونهم على البنات، فخاطبهم بما يعهدون، وقد يكون ذلك باعتبار التعزز بهم، فإن التعزز والتكثر والتمنع يكون بالبنين وليس بالبنات، وليس هذا مقام مفاضلة، فقد تكون البنت أفضل وأخير لأبويها من الابن، كما هو معلوم، ولكن الأبناء يلون الولايات، ويكونون من أهل الحرب والقتال والنجدة، وما إلى ذلك، بخلاف البنات، والأبناء هم الذين يعتلون المنابر، ويلون من الأعمال ما لا يليه البنات.

وقدم الذهب على الفضة في قوله: مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ لأنه أنفس وأثمن من الفضة، والافتتان واشتغال القلب به أعظم.

فذكر هذه الأمور مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ وما عداها من الشهوات تبع لها، وإذا حكم على هذه جميعًا بأن ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فسماها متاع، والمتاع هو الشيء الذي يتمتع به قليلاً، ولو سألت هذا الإنسان الذي قضى عمرًا مديدًا في لذة وبحبوحة من العيش، كيف ترى ما مضى؟ لقال: كأنه أحلام، فهكذا الحياة.

ولذلك قال الله: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ [الروم:55] وفي الحديث: يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة، فيصبغ في النار صبغة، ثم يقال: يا ابن آدم هل رأيت خيرا قط؟ هل مر بك نعيم قط؟ فيقول: لا والله يا رب[7] وهي غمسة واحدة في النار، هذا أنعم واحد، فماذا تتصور أن يكون هذا الأنعم منذ خلق الله  الناس إلى أن يرث الأرض ومن عليها، أنعم إنسان ماذا يأكل؟ وعلى أي شيء يجلس؟ وماذا يملك؟ وماذا يركب؟ ومع هذا غمسة واحدة، ويحلف ما رأيت خيرًا قط، تتلاشى ذلك جميعًا، إذًا من كان نعيمهم دون ذلك، والله يقول: ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ [التكاثر:8] وقد ذكر النعيم ﷺ من النعيم: الماء البارد فقال: ألم نصح لك جسمك، ونرويك من الماء البارد؟[8]، فيُسأل الإنسان عن هذا.

ولما خرج النبي ﷺ مع أبي بكر وعمر، واستضافهم رجل من الأنصار، أخرجهم الجوع، فأكلوا من البُسر، وشوى لهم شاة، فقال النبي ﷺ: والذي نفسي بيده، لتسألن عن هذا النعيم يوم القيامة، أخرجكم من بيوتكم الجوع، ثم لم ترجعوا حتى أصابكم هذا النعيم[9]، أفضل الخلق النبي  ﷺ، وأفضل أمته أبو بكر وعمر، أخرجهم الجوع، ويقول: لتسألن عن هذا النعيم يوم القيامة فماذا نقول نحن، ونحن نتقلب بأنواع اللذات مع قليل من الشكر؟

فالله ختم هذه الآية بقوله: ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فأشار إليها بالبعيد؛ لدنو مرتبتها وبُعدها، فالحياة الحقيقية هي الحياة الآخرة، فـذَلِكَ أي: المذكور، وذكر سبعة أشياء مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فالإنسان يبتهج به قليلاً، ثم ما يلبث أن يتلاشى، وإذا أردت أن تعرف حقيقة هذا فانظر إلى ما طعمته، والتذذت به، في ليلتك الفائتة، بل في يومك هذا، هل تجد منه شيئًا الآن؟ الجواب: لا، فهكذا كل اللذات تتلاشى وتذهب، مهما عظُمت.

ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فيكفي أنه أشار إليها بهذه الإشارة، وأضافها إلى الدنيا، وهي مشتقة من الدنو، فالحياة الدنيا غايتها الزوال والفناء، فإما أن تزول عنك، وإما أن تزول أنت عنها، فهي أحلام زائلة، مُتلاشية مُنقضية، فهذا يدعو الإنسان إلى الزُهد في هذه الحياة وحُطامها ومتاعها، وأن لا يتعلق قلبه بها، وحقيقة الزهد هي أن لا تدخل الدنيا قلبك، ولو كثُرت في يدك، ولكن بعض الناس ما عنده شيء من الدنيا، وليس بزاهد؛ لأن الدنيا، والتعلق بها، ومحبتها، تملأ قلبه، ولو كان الذي يملكه شيئًا يسيرًا، فهذا أبعد الناس عن الزهد، وقد يملك الإنسان المال الكثير، ولكنه لم يدخل قلبه، فهذا حقيقة الزهد.

وفي قوله: ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ تسلية للفقراء والمحرومين، أنه ما فاتهم شيء، الفوت الحقيقي والخسارة الحقيقية هي خسارة الآخرة، أما الدنيا فليست بشيء، ولا يؤسف على ما فات منها، فهذا فيه تعزية للإنسان فيما يفوت من هذه المذكورات جميعًا من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة... إلى آخره، ماتت فرسه، أو ماتت ناقته، التي تساوي الملايين، أو خسر في أمواله وتجارته، أو نحو ذلك، فكل هذا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فهذا تعزية وتسلية لمن فقد، أو لمن حُرم أصلاً فلم يجد من ذلك شيئًا، فلا يبتأس.

وفيه قوله: وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ هذا في ضمنه حض على العمل للآخرة، وعدم الاشتغال باللذات المُتقضية في هذه الحياة الدنيا، فالمرجع والمصير وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ أضافه إليه تعظيمًا وتفخيمًا لشأنه، فهذا يُرغب بالآخرة، والعمل لها.

فهذا كله -أيها الأحبة- وغيره يدعو الإنسان إلى الجد والاجتهاد، وطلب ما عند الله -تبارك وتعالى-، فإن ما عنده من الجنة والنعيم المُقيم لا يوصل إليه إلا بتوقي الشهوات، وعدم الانغماس في اللذات، وترك الحرام، فقد حُفت الجنة بالمكاره، وحُفت النار بالشهوات[10]، فيحتاج العبد إلى حذر.

نعم حُب المذكورات قد جُبلت النفوس عليه، وأنه لا يُذم من حيث هو، لكن حينما يُجعل هو الغاية والهدف، ويتعلق به القلب، ويشغله عن الله، فهذا هو المذموم، وإلا وجود المحبة لهذه الأشياء هذا أمر جِبّلي، وقد ذكرت لكم أن النبي ﷺ كان يخطب؛ إذ جاء الحسن والحسين عليهما قميصان أحمران يمشيان ويعثران، فنزل رسول الله ﷺ من المنبر، فحملهما، ووضعهما بين يديه، ثم قال: صدق الله: إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ [التغابن:15] نظرت إلى هذين الصبيين يمشيان ويعثران فلم أصبر حتى قطعت حديثي ورفعتهما[11]، والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.

  1. أخرجه البخاري في كتاب بدء الخلق، باب خير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال برقم (3302) ومسلم في الإيمان، باب تفاضل أهل الإيمان فيه ورجحان أهل اليمن فيه برقم (51).
  2. القواعد النورانية (ص:27).
  3. أخرجه البخاري في كتاب المناقب رقم (3499) ومسلم في كتاب الإيمان، باب تفاضل أهل الإيمان فيه، ورجحان أهل اليمن فيه (52).
  4. أخرجه مسلم في كتاب الإمارة، باب الخيل في نواصيها الخير إلى يوم القيامة رقم (1872).
  5. أخرجه البخاري في كتاب الجهاد والسير، باب الخيل لثلاثة برقم (2860) ومسلم في كتاب الزكاة، باب إثم مانع الزكاة برقم (987).
  6. أخرجه البخاري في كتاب الجهاد والسير، باب دعاء النبي ﷺ الناس إلى الإسلام والنبوة، وأن لا يتخذ بعضهم بعضا أرباباً من دون الله برقم (2942).
  7. أخرجه مسلم في كتاب صفة القيامة والجنة والنار، باب صبغ أنعم أهل الدنيا في النار وصبغ أشدهم بؤساً في الجنة برقم (2807).
  8. أخرجه الترمذي في أبواب تفسير القرآن، باب ومن سورة ألهاكم التكاثر برقم (3358) وصححه الألباني.
  9. أخرجه مسلم في كتاب الأشربة باب جواز استتباعه غيره إلى دار من يثق برضاه بذلك، وبتحققه تحققا تاما، واستحباب الاجتماع على الطعام برقم (2038).
  10. أخرجه مسلم في كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها برقم (2822).
  11. أخرجه الترمذي في أبواب المناقب برقم (3774) وصححه الألباني.

مواد ذات صلة