الأحد 22 / جمادى الأولى / 1446 - 24 / نوفمبر 2024
(028) قوله تعالى: {فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ...} الآية
تاريخ النشر: ١٤ / ذو القعدة / ١٤٣٧
التحميل: 867
مرات الإستماع: 1227

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.

لما قال الله -تبارك وتعالى-: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ [آل عمران:19] قال بعد ذلك: فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ [آل عمران:20].

فَإِنْ حَاجُّوكَ فإن جادلوك -يعني أهل الكتاب- في الإسلام والتوحيد والإخلاص لله -تبارك وتعالى- بعبادته وحده، دون ما سواه، بعد إقامة الحجة عليهم، فقل لهم: بأنني قد أخلصت لله وحده، أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ كما ذكرنا أن من معاني الإسلام -كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: الإخلاص للمعبود [1]، فهنا إسلام الوجه بمعنى: الإخلاص لله -تبارك وتعالى- في العبادة، وهكذا أيضًا من اتبعني من أهل الإيمان أخلصوا لله -تبارك وتعالى-، وانقادوا له.

وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ أي: اليهود والنصارى وَالأُمِّيِّينَ وهم أهل الإشراك من العرب أَأَسْلَمْتُمْ يعني: هل قبلتم التوحيد والإخلاص، ودخلتم فيه بعد هذا البيان، وإقامة الحجة؟  فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوا يعني فهم على جادة، وطريق مستقيم، وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ فحسابهم على الله -تبارك وتعالى-، وإنما أنت مُبلغ عن الله ، وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ لا يخفى عليه من أمرهم شيء، فبصره نافذ فيهم.

ويُؤخذ من هذه الآية الكريمة: فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ من الهدايات أنه بعد بيان الحجة وإقامتها واتضاح الحق بالبراهين الواضحة، لا مجال للجدال، فإن ذلك يكون جدالًا لا يُفضي إلى نتيجة، فهو جدال لإبطال الحق ورده، وإقرار الباطل، وطريقة القرآن في مثل هذا النوع من المُجادلة هي قطعها، فهنا إذا جادلوا بعد وضوح الحق وبيانه، فهؤلاء لا مجال لمُحاجتهم ومُجادلتهم، وإنما مُباشرة أعلن الحق أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ.

وقد ذكرنا نظائر لهذا من كتاب الله -تبارك وتعالى- في بعض المناسبات، كما في سورة البقرة، حينما قال أهل الإشراك: إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا [البقرة:275] جاء الرد عليهم بقوله: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا [البقرة:275] لأنهم قالوا هذه المقولة من أجل المجادلة بالباطل، فجاء هذا الرد الحاسم من غير سلوك طرق إقناعيه في الرد عليهم، وهكذا هنا قرر الله -تبارك وتعالى- ذلك، وأمر نبيه ﷺ بأن يقول: أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وأضاف الإسلام إلى الوجه، باعتبار أن الوجه هو أشرف الأعضاء، ويُعبر به عن الذات، فأشرف عضو في الإنسان يكون مُنقادًا لله -تبارك وتعالى-، فهو الذي تكون به الوِجهة والاتجاه، فإذا وجّه إلى الله وحده دون ما سواه، فذلك يعني الانقياد الكامل والاستسلام لله -تبارك وتعالى-، والإخلاص له دون التفات إلى غيره، فإن من عبد غير الله، أو اشتغل قلبه بغير الله -تبارك وتعالى-، مُراعيًا له في عمله، مُلاحظًا له في عبادته، من رياء وسمعة، ونحو ذلك، فهذا يكون مُتلفتًا غير مسلم وجهه لربه وباريه -تبارك وتعالى-؛ ولهذا كان أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد[2]، حيث يضع أشرف الأعضاء على الأرض، التي هي موضع وطأ الأقدام، ولا شك أن ذلك يكون عزة ورفعة للعبد، حينما يتواضع لربه وخالقه ، وتقدست أسماؤه.

وفي قوله -تبارك وتعالى-: أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ يدل على أن إسلام الوجه يكون لله، وهذا هو حقيقة الإخلاص لله رب العالمين، أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ فلا يجوز لأحد كائنًا من كان أن يُسلم وجهه لغير الله، ومن هنا كان الانقياد والإذعان كله لله ، فلا يكون العبد مُسلمًا وجهه لأحد من الخلق، مهما كانت منزلته، وعلت مرتبته، وإنما يكون ذلك مختصًا بالرب المالك المعبود .

وهكذا يُؤخذ منه: أن الحجة إنما تكون بقول الله -تبارك وتعالى- وحكمه، والرسول ﷺ مُبلغ عنه، فإسلام الوجه والاتباع إنما يكون للوحي.

وَمَنِ اتَّبَعَنِ فهم متبعون للنبي ﷺ، لا يتبعون أحدًا سواه، يعني: في التشريع، والطاعة والعبادة، وما إلى ذلك، فقدوتهم رسول الله ﷺ، ولا يجوز لأحد أن يضع أحدًا من الخلق بينه وبين الله -تبارك وتعالى-، يأخذ كل ما يقول، وكل ما يُفتي به، وكل ما يُقرره، فيخصه بالاتباع والطاعة سوى النبي ﷺ المُبلغ عن الله .

ومن هنا قال العلماء: بأنه لا يجوز لأحد أن يُقلد أحدًا من العلماء على سبيل الخصوص تقليدًا مُطلقًا في كل شيء، وإنما العامي يسأل أهل العلم ومن يثق بعلمه ودينه، فإذا أفتاه فهذا هو الواجب عليه، فيكون قد فعل ما أُمر به، في قوله: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:43].

أما أن يتخذ أحدًا من الناس فيأخذ كل ما يقول، ولو خالف الأدلة، ولو كان ذلك القول مُخالفًا لنصوص الكتاب والسنة، فهذا لا يجوز بحال من الأحوال، والله -تبارك وتعالى- قد ذم أهل الكتاب بقوله: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ [التوبة:31] وذلك أنهم ربما أحلوا لهم الحرام، وحرموا عليهم الحلال، ومع الفارق، لكن لا يجوز لهذه الأمة أن تُشابههم بحال من الأحوال، بأن تأخذ من غير الرسول ﷺ ما يكون مُخالفًا لقوله ﷺ.

وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ والأميون هم العرب الذين بُعث فيهم النبي ﷺ، أَأَسْلَمْتُمْ فهذا على سبيل التقرير بعد اتضاح الحجة وظهورها، وبيان دلائل التوحيد والحق، فاللائق بكم أن تدخلوا في هذا الإسلام الذي لا يقبل الله دينًا سواه، إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ [آل عمران:19] فهنا أَأَسْلَمْتُمْ على سبيل التقرير.

وقد يكون هذا الاستفهام مُضمنًا معنى الأمر أَأَسْلَمْتُمْ أي: أسلموا، فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوا يعني أن الهدى ليس له إلا صورة متحدة، وهي الإسلام، وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [الأنعام:153] فهنا وحد الصراط، وجمع السُبل؛ لأن الطريق الموصل إلى الله -تبارك وتعالى- واحد، وهو الطريق التي شرعها لعباده من أجل سلوكها، وهو الإسلام، وما عداه فهو باطل.

فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ فلاحظ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوا فدخلت (قد) على الفعل الماضي، وإذا دخلت على الفعل الماضي، فهي للتحقيق، فَقَدِ اهْتَدَوا يعني: تحقق لهم الهدى على أكمل الوجوه، وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ يعني: إن أعرضوا، وعُبر بهذه الصيغة (تولوا) كما قال بعض أهل العلم: بأن ذلك مُشعر بأن النفوس فيها ميل إلى الضلال، فعبر بهذه الصيغة (تولوا) افتعلوا لما في النفوس من ميل إلى الأهواء، ونحو ذلك، فهنا لا تكترث بهم.

فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ هذا الحصر الذي يسمونه بالحصر الإضافي، فالنبي ﷺ إنما هو مُبلغ عن الله، وهو يحكم بين الناس أيضًا، وهو يقوم بوظائف العبودية، لكنه قال: فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وحصر وظيفته بالبلاغ في هذا السياق باعتبار أن ذلك يتضمن الوعيد والتهديد لهؤلاء المُعرضين، فالله -تبارك وتعالى- هو الذي يتولى جزاءهم وحسابهم، ويُعاقبهم على أعمالهم، فإنما أنت مُبلغ عن الله -تبارك وتعالى-.

وقوله: وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ يعني: أن بصره نافذ فيهم، وهذا فيه إثبات صفة البصر لله -تبارك وتعالى-، وهذه الصيغة (بصير) هي صيغة مُبالغة، على وزن (فعيل) أي: أن بصره نافذ فيهم، فلا يخفى عليه من أحوالهم خافية، ومثل هذا يحمل على المراقبة لله فيُراقب العبد ربه في كل حالاته، وفي حركاته وسكناته، وفي كل ما يأتي ويذر؛ لأن الله -تبارك وتعالى- يراه، وهنا يرتقي إلى مرتبة الإحسان: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، فإذا استشعر العبد مثل هذا، فإن ذلك يحمله على المراقبة، ومن ثَم إحسان العمل، فيستوي عنده في حال السر والعلانية.

وهكذا أيضًا فإن (أل) في قوله: بِالْعِبَادِ تُفيد العموم، فالعباد على اختلاف أقطارهم، وعلى كثرتهم، ونحو ذلك، فالله بصره نافذ فيهم، لا يخفى عليه من أمورهم خافية.

وأيضًا فهذه الأفعال التي أُسندت إلى الفاعلين هنا في قوله: وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ، وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ، بَغْيًا بَيْنَهُمْ هي أفعال صادرة عنهم، فهذا يدل على أن العبد له فعل واختيار وإرادة خلافًا للجبرية، والله تعالى أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.

  1. الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لابن تيمية (ص:56).
  2. أخرجه مسلم كتاب الصلاة، باب ما يقال في الركوع والسجود برقم: (482).

مواد ذات صلة