الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فلا زال الحديث متصلاً في الكلام على قوله -تبارك وتعالى-: لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ [آل عمران:28].
فقوله -تبارك وتعالى-: لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ يدل على أنه لا يجوز أن يولى الكافر على شيء من أمور المسلمين، وكذلك أيضًا أن موالاة المشركين محرمة بجميع أنواعها، كما يدل عليه هذا التركيب في هذه الآية: لا يَتَّخِذِ وذلك مُضمن معنى النهي والأصل أن النهي للتحريم، إضافة إلى قوله -تبارك وتعالى-: وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ، فهذا لا يكون إلا لأمر محرم، هذا إضافة إلى النصوص الأخرى من الكتاب والسنة فهي مُصرحة بذلك.
وقد قال الألوسي -رحمه الله- في ضابط ما يكون من قبيل الموالاة: بأن ما عده العُرف تعظيمًا وحسبه المسلمون موالاة فهو منهي عنه، يقول: "ولو مع أهل الذمة لاسيما إذا أوقع شيئًا في قلوب ضعفاء المؤمنين"[1]، يعني: ما كان في العُرف من قبيل التعظيم والتقديم لهم، والإيثار لهم على المسلمين ونحو ذلك، فهذا داخل فيه.
وهكذا فإن قوله -تبارك وتعالى-: لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ فهنا: لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ فأظهر في موضع يصح الإضمار، يعني: ما قال لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دونهم، وإنما قال: مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ فكل ذلك لإبراز هذا اللفظ "المؤمنين" يدل على أن مُتعلق الولاية هو الإيمان، وإذا كان ذلك هو متعلقها فهذا يقتضي أن يكون الموالاة بحسب الإيمان، يعني: حتى لأهل الإيمان، فإن الولاء عند أهل السنة والجماعة الموالاة تتفاوت زيادة ونقصًا، فإذا كان الإيمان أكمل كانت الموالاة أعظم وأتم، وإذا ضعُف الإيمان فإن ذلك يكون سببًا يوجب ضعف الموالاة، فالحب في الله والبُغض في الله كما قال النبي ﷺ أوثق عُرى الإيمان[2]؛ لأن الإيمان الحي النابض هو المُحرك والدافع الذي يدفع صاحبه من أجل أن يُقرب أو يُباعد، إيمانه هو الذي يحكمه وليس الذي يحكمه أهواءه وذوقه ومواجيده وما إلى ذلك ما قد يستحسنه من غيره.
الرابطة الإيمانية هي التي تجمع بين أبي بكر القُرشي وبلال الحبشي، وسلمان الفارسي، بل هي التي تربط بين أهل السماء والأرض، فالله أخبر عن الملائكة من حملة العرش: وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا [غافر:7]، فهذا الاستغفار للذين آمنوا باعتبار الإيمان: لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ [غافر:7]، فهذا دعاء الملائكة -عليهم السلام- لأهل الإيمان والتوبة والاستقامة واتباع سبيل الرب -تبارك وتعالى-، فهذه الوشيجة والرابطة الإيمانية هي التي تجتمع: إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا [آل عمران:103]، هذه نعمة الإيمان: وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا، فكل الذهب والفضة والمال، مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ [الأنفال:63]، ألف بينهم بالإيمان، فهو معقد الولاء، وإذا كان ذلك هو معقد الولاء فإن الإيمان يزيد وينقص، ومن ثَم فإن الموالاة تنقص وتزيد بحسب نقص الإيمان وزيادته، فإذا كان العبد مُكملاً للإيمان كان له من الولاء أكمله، وإذا كان ناقص الإيمان مجترئًا على حدود الله -تبارك وتعالى- فله من الولاء ما يليق بمثله، بخلاف الخوارج والمعتزلة فإن الولاء عندهم لا يتجزأ؛ لأنه إما أن يوالى موالاة كاملة، وإما أن يتبرأ منه براءة كاملة، وهذا مذهب أهل البدع، أهل السنة يقولون: يتفاوت فقد يكون المؤمن على حال من الصلاح والاستقامة، وقد يكون مقصرًا عاصيًا فلا ينتفي عنه الولاء لكن لا يكون كموالاة ذاك الذي قد كمل الإيمان.
ومن هنا فإن ما قد يقع من الأخطاء في هذا الباب وذلك أننا قد نُحب من نُحب فنعطيه المحبة والموالاة الكاملة، وإذا أبغضنا أحدًا من أهل الإيمان لخطأ توهمناه أو لغير ذلك مخالفة في اجتهاد جعلناه شيطانًا رجيمًا، ولا يكون له شيء من الولاء ولا حقوق المسلمين، هذا مذهب أهل البدع، أهل السنة يُحبون الإنسان بقدر ما فيه من الإيمان ولو كان بينهم وبينه خصومة، أو خلاف، أو نحو ذلك، طالما أنه لم يخرج من دائرة الإيمان، ويتبين بذلك أيضًا خطأ آخر، وهو أننا لربما نُحب من نُحب لا لأمر إيماني وإنما لتعلق عاطفي أحيانًا يظن صاحبه أن ذلك من قبيل المحبة في الله، فيُحبه محبة شديدة لربما تُزاحم محبة الله في قلبه، ويظن أنها محبة شرعية.
المحبة الشرعية أولاً لا تُزاحم محبة الله، ثانيًا: المحبة الشرعية تكون بحسب حال المحبوب من الطاعة والإيمان والاستقامة، فإذا حصل له تراجع كان ذلك نقصًا في محبته بحسب ما وقع له من الضعف، أما هذه المحبة والتعلق الذي لا يتأثر بطاعة المحبوب ولا بمعصيته فتلك ليست المحبة الشرعية.
كذلك يؤخذ من هذه الآية الكريمة: لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ، وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ فشيء هنا جاءت نكرة في سياق النفي، فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ فهذا يدل على مُباعدته، وعلى أنه في حال من الانحراف والضلال والبُعد عن صراط الله المستقيم، فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ وذلك أنه جمع بين ما يدعيه من محبة الله وولايته ومحبة أعداء الله -تبارك وتعالى-، وهذان لا يجتمعان.
وقوله -تبارك وتعالى-: إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً، المقصود بذلك المُداراة والمُلاطفة والمُلاينة بالقول من غير أن يهدم حقًّا أو يبني باطلاً، فهذا لا إشكال فيه مع القريب والبعيد والموافق والمُخالف، وقد نُقل ذلك عن الحسن -رحمه الله- بأن المُداراة نصف العقل[3]، فهذا من حُسن الخُلق، بخلاف إطلاق اللسان؛ يشتم هذا، وينخس هذا، ويطعن هذا، ويضرب ذاك، فهذا يُتقى مثله، إن من شر الناس من تركه الناس، أو ودعه الناس اتقاء فحشه[4]، فيحتاج العبد إلى أن يضبط ما يصدر عنه أن لا تكون كلمات جارحة مؤذية، وأن لا يواجه الناس بما يكرهون، وإنما يتلطف بالقول ويوصل ما يريد إيصاله إليهم بأحسن عبارة من أجل أن تقبلها القلوب، حتى في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ليكن أمرك بالمعروف بالمعروف، ونهيك عن المنكر بغير منكر، فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّنًا [طه:44]، حتى مع فرعون يدعي الإلهية والربوبية وليس بعد هذا شيء، والقول اللين مطلوب معه.
وهكذا أيضًا تأمل قوله -تبارك وتعالى-: إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً فهذا على سبيل الخطاب، والكلام الذي قبله وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ هذا للغيبة، فالذي واجه به أهل الإيمان الخطاب بالسائغ والجائز وهو المُداراة، وأما ذاك من الموالاة فجاء به على سبيل الغيبة إما تكريمًا لهم، وإما لأن ذلك لا يستحق أن يوجه الخطاب إليه تكريمًا، وإنما كأنه أعرض عنهم فجاء بأسلوب الغيبة: وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ.
وهكذا أيضًا في قوله -تبارك وتعالى-: إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً هذا من رحمة الله حيث لم يُضيق على عباده فوسع عليهم، لم يأمرهم بمجابهة الكفار حتى في أوقات الضعف بالغليظ من الكلام والموحش من الخطاب، وإنما جعل لهم مندوحة لا يحصل معها الموالاة المحرمة، ولا يحصل معها أيضًا الاستفزاز الموجب للأذى لأهل الإيمان، وذلك بالمُصانعة بالقول الطيب والكلام الحسن المعروف، فرحمة الله واسعة بعباده.
وهكذا أيضًا فإن قوله -تبارك وتعالى-: وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ بعد هذا الخطاب والنهي من أجل التأكيد على هذا المعنى، ومن أجل المُباعدة من موالاة أعداء الله -تبارك وتعالى-، فهذا الوعيد صادر منه: وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ فهو قادر على إنفاذه متى شاء، وذلك أبلغ في التحذير حيث أضافه إلى النفس، والنفس هنا صفة ثابتة لله وهي مفسرة بالذات كما قال ذلك أهل السنة، وإن كان قليلٌ منهم جعلوا ذلك بمعنى مُغاير، يعني: للذات، فلم يقل الله -تبارك وتعالى- ويُحذركم الله سخطه أو عذابه أو غضبه أو نحو ذلك وإنما علق ذلك بالذات فهو أبلغ وأشد، وهذا يدل على شدة قُبح هذا المنهي عنه وهو موالاة أعداء الله .
وكذلك أيضًا يؤخذ من هذه الآية الكريمة بختمها بقوله: وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ، فهذا لا شك أنه مؤكد للتحذير والوعيد، فهو خبر مُضمن معنى التهديد: وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ يعني: إذا كان إلى الله المصير فإنه سيُحاسب عباده ويُجازي المُحسن بإحسانه والمُسيء بإساءته، فيُحسب العبد نفسه قبل أن يصير إلى ذلك المصير ثم يندم ولا ينفعه الندم، وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وهنا استعمال لفظ التحذير من أجل المُباعدة عن هذا الفعل فلا يقترب منه.
وقوله: وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ يدل على الحصر بتقديم الجار والمجرور: وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ ولم يقل: المصير إلى الله، وحينما يُقدم ما حقه التأخير فهذا يدل على الحصر والقصر، يعني أن المصير إلى الله وحده دون من سواه، فالناس يصيرون إلى الله جميعًا لا يصيرون إلى غيره، وهذا مُناسب لقوله قبله: وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ، فهو الذي قد توعد وتهدد، وهو الذي يتولى الحساب بنفسه والعباد صائرون إليه لا محالة دون ما سواه.
هذا ما يتصل بهذه الآية مع مؤكدات أخرى في ختمها لا تخفى كاستعمال الجملة الاسمية في قوله: الْمَصِيرُ فهذا يدل على الثبات، وكذلك ما يدل عليه "إلى" مع ذكر الْمَصِيرُ فهذا ينتهي إليه ، وهكذا في إظهار لفظ الجلال: وَإِلَى اللَّهِ ما قال: ويُحذركم الله نفسه وإليه المصير، ولذا قال وَإِلَى اللَّهِ فأظهر في مقام يصح فيه الإضمار فذلك أدعى لتربية المهابة، وهذا مقام تخويف وتحذير؛ فاسُتعمل معه ذلك كله، وهكذا من تأمل رأى في هذه الآية من وجوه البلاغة والدلالات الدقيقة الدالة على معانٍ في هذه الآية وهدايات.
أسأل الله أن ينفعنا وإياكم بالقرآن العظيم، وأن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين، -والله أعلم-.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.
- تفسير الألوسي (روح المعاني) (2/ 116).
- أخرجه أحمد في المسند، برقم (18524)، وقال محققوه: "حديث حسن بشواهده، وهذا إسناد ضعيف لضعف ليث، وهو ابن أبي سليم، وبقية رجاله ثقات رجال الشيخين"، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (2539).
- انظر: الآداب الشرعية، لابن مفلح (3/ 468).
- أخرجه أبو داود، كتاب الأدب، باب في حسن العشرة، برقم (4791)، والترمذي، أبواب البر والصلة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، باب ما جاء في المداراة، برقم (1996)، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (2095).