الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فنواصل الحديث فيما تبقى من الوقت فيما كنا نتحدث عنه من قوله -تبارك وتعالى-: لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ [آل عمران:28]، هذه الصيغة: لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ هذه الصيغة صيغة خبرية، فهذا نفي لكنه مضمن معنى الإنشاء النهي، وهذه الصيغة تدل على التحريم.
وقد ذكر الحافظ ابن القيم -رحمه الله- في كتابه "بدائع الفوائد" جملة من الألفاظ الدالة على الوجوب، والألفاظ الدالة على التحريم، فمن الألفاظ الدالة على التحريم هذا: لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ لاسيما أنه قال بعده: وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ، وهكذا كما في قوله -تبارك وتعالى- في صيغ أخرى: مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى [التوبة:113]، فهذا يدل على التحريم، مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ [التوبة:120]، فهذا يدل على التحريم.
وهنا: لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ هذا التركيب الفعل مع (لا) هذه النافية يدل على العموم لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ يعني: في أي حال من الأحوال، الموالاة لا تجوز أبدًا، وكذلك في أي زمان من الأزمنة، وكذلك في أي مكان، وكذلك يعم جميع الأفراد، إذ العموم يتوجه إلى هذه الأربع، فهذا لا يجوز في أي حال وفي أي زمان وفي أي مكان ولكل فرد من أهل الإيمان، وهنا قيد في قوله: إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً فهذا القيد المراد به المداراة والمصانعة بالقول وليس الموالاة، وعليه فهذا الاستثناء من قبيل المُنقطع وليس المتصل؛ لأن المقصود بقوله: إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً هذا ليس من جنس الموالاة لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ فهذا ليس من الموالاة وإنما هو شيء آخر، يعني بمعنى لكن، لكن حينما تتقون شرهم وأذاهم بالمصانعة بالقول والملاطفة والكلام الجميل فهذا لا إشكال فيه.
ثم أيضًا في قوله -تبارك وتعالى-: لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ التعبير بلفظ الإيمان، ولفظ الكفر، يدل على أن هذه القضية لا يمكن أن تجتمع مع الإيمان، فهؤلاء كفروا بالله وكفروا بالنبي ﷺ، ويرون أنكم لستم على شيء، كفروا بالإسلام.
وكذلك أيضًا يصدر منهم أنواع الأذى لأهل الإيمان، وانظر إلى الأمور المنفرة منهم التي ذكرها الله -تبارك وتعالى- في صدر سورة الممتحنة، ذكر جملة من الأمور من تأملها عرف مقصود الشارع بالمُباعدة، مباعدة المؤمنين من الكافرين، وهذه تُمثل سياجًا على الإيمان بحيث لا يقع من المؤمن شيء من التنازلات، والتراجع، والذوبان مع هؤلاء الكفار؛ وإنما يبقى محفوظ الإيمان، فهو يُجافي أعداء الله -تبارك وتعالى-.
لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ والموالاة تعني: النصرة وإيثار هؤلاء على غيرهم، تقريب هؤلاء، إطلاع هؤلاء على أسرار المسلمين، إلى غير ذلك من الصور.
فالموالاة لها صور كثيرة جدًا، الموالاة كلها بجميع صورها محرمة بنصوص القرآن الواضحة والأحاديث الصريحة، لكنها تتفاوت، فمنها ما يكون معصية، منها ما يكون كبيرة، منها ما يكون كفرًا مُخرجًا من الملة، ولهذا تجدون في كلام الفقهاء -رحمهم الله- حينما يتحدثون عن هذه الصور يذكرون أشياء دقيقة أحيانًا يعدونها من الموالاة، كَبري القلم للكافر، وتعبئة الدواة له بالحبر، أشياء يسيرة يدعونها من قبيل الموالاة، فالموالاة قد تكون بأشياء من هذا القبيل، وقد تكون بما هو أكبر وأعظم من ذلك، فهي لا تأخذ حكمًا واحدًا، ومن ثَم فإن الحكم المرتب عليها يختلف باختلاف الأنواع والصور، وكذلك أيضًا لابد فيه من النظر في الفاعلين، وذلك أن الشروط والموانع مُعتبرة في هذا كله.
انظر إلى ما وقع من حاطب ، وهي موالاة بنص القرآن، أفشى سر رسول الله ﷺ إلى المشركين، ونزلت فيه صدر صورة الممتحنة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ [الممتحنة:1]، لاحظ صريحة بأنها موالاة، لكن لم يكفر حاطب حينما وقع منه ذلك، مع أن هذه في المقاييس المعتبرة إلى يومنا هذا عند المسلمين وغير المسلمين تعتبر خيانة عظمى، فكيف إذا كان هذا بإفشاء سر رسول الله ﷺ والكتابة للمشركين يُخبرهم أن النبي ﷺ قد جهز لهم جيشًا كالليل يسير كالسيل، والنبي ﷺ كان قد عمى عليهم الأخبار ومع ذلك، ثم يؤخذ بهذا العمل فيبعث النبي ﷺ عليًّا والمقداد والزبير إلى روضة خاخ أخبرهم عن ظعينة -امرأة- معها كتاب لحاطب، فذهبوا فوجدوا المرأة متجهة إلى مكة في هذا المكان، وصلت إلى هذا المكان وجدوا معها الكتاب، قالوا: أخرجي الكتاب، فلما أنكرت وقالت: ما عندي كتاب، فقال علي -رضي الله عنه-: والله ما كذبنا ولا كُذبنا، يعني: النبي ﷺ أخبرنا، "لتخرجن الكتاب أو لنجردنكِ من الثياب"، هذا خبر مؤكد، فأمرتهم أن يتنحوا فأخرجتها من عقاصها -ضفائر الشعر- من شدة الإخفاء، فأخرجت هذا الكتاب فأتوا به النبي ﷺ وإذا به من حاطب إلى فلان وفلان، يعني: من زعماء المشركين يخُبرهم بما عزم عليه النبي ﷺ وكان ذلك سرًا قد أسر به النبي ﷺ إلى نفر من أصحابه منهم حاطب ، فعمر رضي الله عنه مُباشرة استئذن النبي ﷺ في أن يضرب عنقه، فنهاه عن النبي ﷺ ووجه السؤال إلى حاطب ما حملك على ذلك؟ فاعتذر إلى النبي ﷺ أنه لم يشك بعد إسلامه، وأن أصحاب النبي ﷺ لهم قرابة في مكة، يعني لهم عشيرة يحمون ذويهم وهو رجل مُلحق بقريش، لم يكن منها كان من أهل اليمن له حِلف في بعض بطون قريش اعتذر بهذا، وأن قرابته بمكة لا يوجد من يحميهم فأراد أن يتخذ يدًا عند المشركين، فالنبي ﷺ لم يحكم عليه بالكفر وقال لعمر : أما علمت أن الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم قد غفرت لكم[1].
فحاطب كان من أهل بدر لو كان فعله هذا مُخرجًا من الملة فإن جهاده في بدر يحبط، الله يقول عن الرسل الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- الذين ذكرهم في سورة الأنعام: وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام:88]، لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر:65]، فلو كان فعله مُخرجًا من الملة لحبط عمله في بدر، فدل على أن فعله هذا لم يخرج به من الإسلام، إذًا ما كل موالاة تُخرج من الإسلام، وهذا العمل بلا شك هو من الموالاة كما سبق بنص القرآن، وإذا كان الأمر كذلك فإن مثل هذه المسألة لا يصح الحكم فيها بحكم واحد، فهي تختلف ولها صور وأحوال، ولابد من تحقق شروط وانتفاء موانع فطريقة القرآن والسنة والنصوص وطريقة السلف هي التحذير مما حذر الله منه أن لا يقع المُسلم فيه، أما مُلاحقة الناس فعل زيد أو عمرو هل هو موالاة أو ليس بموالاة، خرج من الملة أو لم يخرج من الملة، وأكثر من هذا، أن يحمل الإنسان على عاتقه تنفيذ الأحكام وهو لم يوكل ذلك إليه، ليس من شأنه أن يُنفذ في هؤلاء بزعمه حكم الله فيقتل، ويصدر عنه من الأعمال والمزاولات ما قد يذهب بآخرته، فهذا خطير، الطريقة الشرعية أن يُحذر الناس مما حذر الله منه، يُقال لهم موالاة الكفار لا تجوز.
ينبغي على الإنسان أن يحذر، وتُذكر النصوص في هذا، أما أن يشتغل الناس بما وراء ذلك بالتنقير عن ما في قلوب الناس؛ من أجل الحكم عليهم بالكفر والردة ونحو ذلك فهذا منهج منحرف، يؤدي في النهاية ونحن نعلم ذلك جيدًا، وقد وقع يؤدي في النهاية إلى قتل الأم والأب بالسواطير والسكاكين، وهذا من أوضح مفاسد هذه المسالك المنحرفة، وإذا دخل في هذا الأغمار والجهال ومن لا بصر له ولم ترسخ قدمه في العلم كانت النتائج هكذا؛ لأنها تتسلسل إلى أن يصل إلى أبيه وأمه، وسيصل إلى مستويات فمن لم يُكفر الكافر فهو كافر عنده، وأي كافر الذي لم يُكفر؟! هو يُكفر الآخرين ويُكفر من لم يُكفرهم، طيب هؤلاء كفار في نظرك أنت، فكيف تحكم على من لم يُكفرهم بعد أن حكمت عليهم بالكفر؟! فيصل إلى أقرب الناس إليه الأب والأم، أن هؤلاء كفار ومن ثَم فهو يرى أنه يقوم بأفضل الجهاد فلا يأخذه في الله لومة لائم، فلو كان أقرب قريب فهو يُبادر إلى قتله بأسوأ الطُرق وبأشرف الأوقات في العشر الأواخر، وقل مثل ذلك في أشرف البقاع ولو كان ذلك في المساجد، ولو كان في مسجد رسول الله ﷺ.
هذا طريق نهايته تعاسة، وهو من أعظم الشقاء -نسأل الله العافية- والخسران والضلال الذي يصير الإنسان فيه إلى غربة منتهى الغربة، الغربة المذمومة، وهنا نهي: لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ.
وأسأل الله أن يُبصرنا وإياكم بالدين، ويجعلنا وإياكم هداة مهتدين، وأن يُرينا الحقّ حقًّا ويرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، وأن لا يجعله مُلتبسًا علينا فنضل، اللهم ارحم موتانا، واشف مرضانا، وعاف مبتلانا، واجعل آخرتنا خيرًا من دنيانا، ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم، واغفر لنا إنك أنت الغفور الرحيم، اللهم كما بلغتنا هذه العشر فأعنا فيها على ذكرك وشكرك وحُسن عبادتك، وتقبل منا إنك أنت السميع العليم، -والله أعلم-.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.
- أخرجه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب الجاسوس، برقم (3007)، ومسلم، كتاب فضائل الصحابة ، باب من فضائل أهل بدر وقصة حاطب بن أبي بلتعة، برقم (2494).